2023العدد 194ملف عربي

العراق: هل يتجه لتجاوز تداعيات الغزو الأمريكي واستدعاء دوره العربي والإقليمي؟

واجه العراق بعد عام 2003 العديد من التحديات بما في ذلك تدمير بنيته التحتية بالكامل، وتداعي منظومته (السياسية، والأمنية، والاقتصادية)؛ حيث لم يكن هناك أمن أو تعليم أو اقتصاد أو حياة اجتماعية مستقرة، في الوقت الذي كانت الحكومة الجديدة تقاتل ضد الإرهاب، مرة ضد تنظيم (القاعدة) الإرهابي، ومرة أخرى ضد تنظيم (داعش) الإرهابي. وقد أثرت كل تلك المعارك على العراق حتى دمرت مجمل بُناه التحتية والاقتصادية وتسببت في موجة نزوح جماعي.

ومع دخولنا بالذكرى العشرين لحرب العراق، يمكن القول: إن العديد من القضايا التي واجهها العراق ومن ثم المنطقة بما في ذلك إحياء التطرف والإرهاب، وصعود تنظيم (داعش) الإرهابي، والهجرة الجماعية من المنطقة، كلها كانت تداعيات جلية لقرار غزو العراق ([1])؛ لذلك لم تقتصر تداعيات هذه الحرب على العراق وحده، وإنما امتدت آثارها على الجغرافية السياسية لمجمل المنطقة، مُؤسسِة لحالة تصاعدية من عدم الاستقرار. وهو ما تصفه أستاذة العلاقات الدولية في جامعة أوكسفورد لويز فوسيت بـ “الانعطافة الحرجة” لوصف تداعيات حرب العراق على المنطقة، فهي قد أدت إلى خلق فرص وفرض قيود على الحراك السياسي الخارجي، وجعلت من العودة إلى الوضع القائم السابق أمرًا مستحيلًا. علاوة على أن غزو العراق شكل إيذانًا بانتهاء اللحظة الأحادية القطبية في النظام الدولي، وبداية صعود نظام دولي أكثر تعددية للأقطاب، وهو حدث عندما تضاف إليه التداعيات الإقليمية في المنطقة التي بانت في أعقاب الغزو، فيمكن القول: أنه ساعد في وضع الشرق الأوسط في القرن الحادي والعشرين في سياق تاريخي جديد ومختلف تمامًا، مما جعل منطقة الشرق الأوسط ما بعد 2003، تختلف عما قبلها.

أولًا: تحولات السياسة الخارجية العراقية في ظل تعقيدات البيئة الإقليمية للشرق الأوسط:

قد لا نعدو الصواب إذا قلنا: إن العراق عقب الغزو الأمريكي أخذ يعيش في وسط بيئة إقليمية تتسم بالتعقيد والتأثير في آنٍ واحد، لاسيما وأن النظام الإقليمي الناشئ في منطقة الشرق الأوسط لم يكن مستقرًا أو متوازنًا، بل يسوده غياب التفاهم والتعاون، وتملؤه حالات التنافس والصراع، فضلًا عن الرغبة في تغيير المواقف بين القوى الفاعلة فيه، وهو المشهد الذي شكَّل سياسة العراق الخارجية وأثَّر فيها سلبًا وإيجابًا، لاسيما وأنه في هذه المرحلة كان منشغلًا داخليًّا في التحديات الأمنية التي يواجهها، وكان مجبرًا على الموازنة بين الرغبة في تحقيق الأمن القومي واستعادة السيادة وسط واقع التهديدات الإرهابية المستمرة في البلاد.

ويمكن للمتتبع أن يلاحظ مدى التعقيد الذي مرت به السياسة العراقية سواء على مستوى الداخل أو الخارج العراقي، ولكن بالرغم من تلك التحديات سعت البلاد إلى استعادة دورها الإقليمي بشكلٍ تدريجي. وبينما كان العراق في عهد صدام لديه علاقات عدائية مع جميع الدول المجاورة- العربية وغير العربية- أخذت سياسة العراق الخارجية تقوم على تغيير هذه المعادلة في محاولة لبناء علاقات جيدة مع جميع البلدان المجاورة، ولاسيما العربية منها انطلاقًا من فكرة أن مرتكز العراق الإقليمي في المنطقة هو عمقه العربي.

وهي حقيقة لا يمكن مغادرتها؛ فامتداد العراق العربي هو واقع تعامل معه بجدية كل من تسلَّم سدة السلطة في عراق ما بعد 2003، لهذا كانت هناك مساعٍ حقيقية في الانفتاح على الإقليم العربي والخليجي، ولكن ظل هناك هاجسًا سائدًا من العراق في البيئة الإقليمية، فقوبلت تلك المساعي بردود فعل نمطية، لم تكن حينها تقدر مصالح المنطقة والعراق، وهو ما أدى إلى “نبوءة تحقق ذاتها” في أي تحرك عراقي خارج المنظومة العربية الإقليمية.

ولكن ينبغي أن نعي إن علاقات العراق مع الدول الجوار هي أمر حاسم لفهم مواقفه ودوره في المنطقة العربية، فهو محكوم بخصوصية جغرافية معينة، ويشترك مع أكبر جارين غير عربيين بحدود ومصالح (جغرافية، ومائية، وأمنية) تحتم عليه المناورة من أجل البقاء، وهو ما يجعل السياسية الخارجية العراقية مرهونة بواقعية المحيط الجغرافي للدولة، ولكن بالرغم من ذلك، لم يدخر العراق جهدًا إلا وبذله على مدى العشرين عامًا الماضية في مجال تعزيز عمق العراق الخليجي والعربي؛ لموازنة ضلعي المثلث غير العربي الذي يجاورهم العراق.

وهو ما تمثل في استضافة العراق لقمة جامعة الدول العربية كانت تُعبر عن مسعى عراقي جاد لتجاوز تداعيات الغزو الأمريكي بعد جلاء القوات من البلاد واستعادة السيادة العراقية في العام 2011، وتمثل فرصة لتأكيد الحكومة العراقية على سيادة هوية العراق وانتمائه العربي، ورغبة منها لعودة قوية للمحيط العربي، وتمتين الجسور مع حكومات الدول العربية، والإظهار بأن البلاد يمكن أن تقف على المسرح الإقليمي بمفردها دون دعم الولايات المتحدة، فهذه القمة العربية كانت أهم حدث دبلوماسي في عراق ما بعد الغزو الأمريكي 2003، وعراق ما بعد الانسحاب الأمريكي 2011.

ولكن بالرغم من هذا الانفتاح الإقليمي، جاءت قمة بغداد كأول قمة بعد ما يعرف بـ “الربيع العربي”، أي جاءت في وقت كان يشهد فيه النظام الإقليمي العربي العديد من التحديات الداخلية والخارجية، علاوة على تصاعد حالة التطرف والإرهاب في المنطقة، وبروز تنظيم (داعش) الإرهابي في سوريا وانتقاله إلى العراق في العام 2014، الأمر الذي شكّل تحديًّا هائلًا على العراق، مما أثر بشكلٍ كبير على دوره الخارجي، فقد دافع العراق منذ بداية الأزمة السورية وقبل بروز تنظيم (داعش) الإرهابي على إيجاد تسوية سلمية للصراع في سوريا، والعمل على إشراك الحكومة السورية في مفاوضات التسوية؛ وذلك لخشيته من انتقال مخاطر الصراع إلى الأراضي العراقية، وقد تسبب ذلك التوجه في تصاعد التوتر مع بعض الدول الخليجية. بيد أن السردية العراقية في “المشاركة” بدلًا من “العزلة والإبعاد” هي التي أثبتت صدقيتها عقب الانفتاح العربي والدولي على سوريا بعد 12 عامًا من الصراع، لاسيما وأن الابتعاد العربي عن سوريا ساعد بشكلٍ كبير على تصاعد التدخلات التركية في سوريا، وزيادة النفوذ الإيراني في البلاد.

وعليه مع بزوغ تنظيم (داعش) الإرهابي في العراق وسيطرته على أجزاء واسعة من البلاد، وجدت بغداد نفسها في طليعة الكفاح ضد الإرهاب، مما جعل الدور الإقليمي للعراق ينصب على دبلوماسية مكافحة الإرهاب، وتحشيد الدعم (الدولي، والعربي، والإقليمي) لمحاربة التنظيمات الإرهابية وزيادة التعاون والتنسيق الأمني الإقليمي والدولي للوقوف بوجه الإرهاب.

 وفي ذروة تلك المواجهة، شهد العراق عدة تحولات في المنطقة كانت أبرزها: توصل دول مجموعة (5+1) للاتفاق النووي مع إيران في نيسان 2015، تلاه الانفتاح الخليجي على العراق وإعادة فتح السفارة السعودية في بغداد نهاية العام 2015- بعد مرور ربع قرن على إغلاقها- وهو ما أحيا مساعي تطوير السياق التعاوني المعزز للأمن الإقليمي في الشرق الأوسط والمُقرب بين إيران ودول مجلس التعاون الخليجي عبر العراق([2])، في الوقت الذي كانت البلاد تواجه تحديات الإرهاب، وتسعى نحو موقف إقليمي موحد يعزز الزخم العراقي في مكافحة التنظيمات الإرهابية.

وهو الموقف الذي تجسد في مساعي العراق الإقليمية للتهدئة بين (السعودية، وإيران) على إثر التوترات المتصاعدة التي شهدها الطرفان بعد الأعمال العدائية التي قامت بها جموع من المتظاهرين الإيرانيين ضد السفارة السعودية في طهران وقنصليتها بمدينة مشهد، وما استتبعها من إعلان المملكة لقطع علاقتها الدبلوماسية مع إيران في مطلع العام 2016([3]). فقد سعت الحكومة العراقية إلى تبني موقفًا وسطًا بين (السعودية، وإيران)؛ للإبقاء على زخم حملتها ضد تنظيم (داعش) الإرهابي، وسرعان ما سعى العراق إلى عرض الوساطة بين (السعودية، وإيران) لإنهاء الخلاف بينهما، وأوفد وزير خارجيته “إبراهيم الجعفري” إلى طهران لتهدئة حدة التوترات، إذ قال الجعفري في المؤتمر الصحفي مع نظيره الإيراني “محمد جواد ظريف”: “إن الخلاف بين البلدين قد يثير تداعيات واسعة”، مشيرًا: “لنا علاقة وطيدة مع إيران وكذلك مع أشقائنا العرب؛ لذلك لا يمكن للعراق أن يقف ساكتًا إزاء هذه الأزمة”([4]).

إن منطلق العراق من هذه الوساطة الإقليمية -والتي سوف تتوسع في السنوات اللاحقة- يتمثل في أن زيادة التوترات في المنطقة لا يفيد العراق بل إن تقليل التوترات والصراعات في المنطقة هي التي تصب في مصلحته وآمنه، يقول بهذا الصدد نائب رئيس الوزراء وزير الخارجية العراقي “فؤاد حسين”: “إن الأمن في الشرق الأوسط هو أمن جماعي.. فلا يمكن للعراق ضمان أمنه دون وجود أمن واستقرار مماثل في المنطقة، وبالعكس، عندما لا يكون العراق آمنًا، فإن أغلب دول المنطقة لن تكون آمنة، ذلك بأن وجود وضع غير مستقر داخل العراق يعني أن البلدان الأخرى ستكون أيضًا في وضع غير مستقر والعكس صحيح”([5]).

وعلى أي حال، فإن أسلوب التوازن والتقارب والنأي بالنفس عن الصراعات الخارجية- الذي يعتمده العراق في دوره الإقليمي- يعمل على عزل التنافسات الداخلية عن محيطها الإقليمي، ويحصرها في سياق التنافس داخل النظام الديمقراطي في العراق؛ إذ أن الانخراط في الصراعات الإقليمية يؤدي إلى اتصال التنافس السياسي الداخلي بالبيئة الإقليمية، مما يضعف هامش العراق في مجال المناورة السياسية في المنطقة([6])، لاسيما أن البيئة العراقية هي بيئة منفتحة للتأثيرات الخارجية؛ بسبب النظام السياسي المنفتح داخله.

وغني عن البيان، إذا أردنا أن نلخص تحولات الدور العراقي الإقليمي على مدى العشرين عامًا الماضية يمكن القول: إن العراق مر بثلاث مراحل جوهرية انتقل فيها الدور العراقي الخارجي من مرحلة المخل بالأمن: وهي المرحلة التي سادت في فترة ما قبل 2003، إلى مرحلة جلب الأمن والاستقرار وتعزيز الانفتاح الإقليمي، ومغادرة إرث النظام السابق، وتجاوز تداعيات الغزو والاحتلال الأمريكي: وهي المرحلة التي سادت بعد العام 2003، مع نشأة النظام الديمقراطي الجديد، واستعادة السيادة، وانفتاحه وتعزيز قبوله (العربي، والإقليمي، والدولي)، ومواجهته للهجمة الإرهابية الشرسة التي انتهت بالقضاء على تنظيم (داعش) الإرهابي في العام 2017؛ ليدخل العراق بعدها إلى مرحلة العراق الموفر للأمن عبر الحوار والدبلوماسية: وهو الأمر الذي باتت تضعه بغداد كمرتكز أساسي في سياسة العراق الخارجية. فبالرغم من التحديات السابقة التي مرت بها البلاد بعد العام 2003، إلا أنها اليوم هي دولة صاحبة سيادة ومشاركة بالكامل في النظام الدولي، وأصبحت تمثل صوت (الاعتدال، والديمقراطية، والتقريب) بين دول المنطقة.

ثانيًا: المسار العراقي في الحوار الإقليمي: تعزيز اتجاهات التوازن والتقريب في العلاقات الخارجية.

بعد مرور عشرين عامًا على التغيير، يتجه العراق نحو مغادرة تداعيات الغزو الأمريكي، وتأدية دورًا إقليميًّا متصاعدًا في المنطقة يتجسد في سعيه لجلب أصحاب المصالح المتصارعة والمتقاطعة وجمعهم حول طاولة الحوار في بغداد للتحدث مع بعضهم البعض؛ إذ تدرك بغداد أن استمرار الصراعات في جوارها الإقليمي سيؤثر بالسلب في أمن واستقرار المنطقة، في الوقت الذي تفتقر فيه إلى مسار دبلوماسي إقليمي للحوار والتقريب والتحرك المسؤول بشأن القضايا الإقليمية وبما يعزز التوافق بين الدول العربية وغير العربية.

ويمكن أن يُعزى ذلك إلى أن نموذج الاستقرار الإقليمي في الشرق الأوسط، لم يكن محصلة للانشغالات الداخلية والأمنية للمنطقة، وإنما هو محصلة للتنافس الدولي على منطقة الشرق الأوسط، ما أسفر عن نموذج هش في الاستقرار يقوم على مصالح القوى العظمى المتنافسة، وليس بالضرورة يخدم مصالح دول المنطقة، الأمر الذي قاد الشرق الأوسط إلى حالة مستمرة من التوتر وعدم الاستقرار، خاصة في ضوء تأثر الدول ذات المحاور الجيوسياسية بالقوى الكبرى الفاعلة والناشطة جيوإستراتيجيًّا عبر التحالفات والشراكات الإستراتيجية.

وفي ضوء هذه الحقيقة، فإن الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط أصبح يخضع لميكانزمات التفاعلات الإقليمية والدولية، وهو ما ولد نموذجين لبناء الاستقرار في المنطقة، ويمكن أن نسمي النموذج الأول بـ”النموذج الإقصائي” وهو النموذج الحاضر على مدى سنين في المنطقة، أما النموذج الثاني فيمكن أن نطلق عليه “النموذج التقريبي” وهو النموذج الغائب في المنطقة، الذي سعى العراق إلى تفعيله مؤخرًا، كمسار للحوار الإقليمي في الشرق الأوسط.

وبِناءً على هذه الرؤية، يصبح هناك نموذجان مفترضان لبناء الاستقرار في المنطقة وهما:

النموذج الإقصائي: يقوم هذا النموذج على شرط إزاحة بعض دول المنطقة لضمان الاستقرار في الشرق الأوسط، ويعمل على تعزيز التنافس بين الشركاء الإقليميين ضد إيران، بالاعتماد على الدعم العسكري الأمريكي ضد تهديدات إيران وتدخلاتها في المنطقة. ويعتبر هذا النموذج إشكاليًّا لبناء الاستقرار في الشرق الأوسط، فهو يعزز الصراع بين دول المنطقة ويمنع التعاون فيما بينهم؛ كونه يقسم المنطقة بين أمريكا وحلفائها ضد إيران وحلفائها، مما يحفز مخاطر اندلاع الحرب. وعلى ما يبدو أن انشغال الولايات المتحدة بالمنافسة مع القوى العظمى وابتعادها عن الانغماس في صراعات الشرق الأوسط، جعل هذا النموذج لا ينسجم مع أولويات إدارة بايدن والديمقراطيين في إنهاء الحروب الأبدية في الشرق الأوسط.

النموذج التقريبي: يقوم هذا النموذج على التقريب بدلًا من الإزاحة والاستبعاد، فهو يقرب الأطراف المتنازعة أو المختلفة، ويمد يد الوساطة والحوار لزرع التفاهم والتقريب فيما بينها. ويتمثل هذا النموذج بالعراق ومساعيه للتقريب بين عدد من دول المنطقة المتصارعة والمتقاطعة، وهو ما تمثل في الوساطات التي قادها العراق وتوجها بنموذج “حوار بغداد للتعاون والشراكة”، الذي سعى ولا يزال يمد مساعيه الحميدة لتحقيق استقرار وسلام أوسع من خلال حل النزاعات الإقليمية بدلًا من بناء التحالفات التي تهدف إلى استهداف الدول الأخرى وهزيمتها.

إن الشيء الجوهري الذي يختلف فيه هذا النموذج عن النموذج الإقصائي، هو أنه يسعى لتعزيز الاستقرار في الشرق الأوسط دون الاعتماد على موارد اللاعبين الجيوإستراتيجيين سواء كانت السياسية أو العسكرية، ويعبر عن الانشغالات الداخلية والبينية الأمنية لدول المنطقة، كما أنه يضع الأساس لجهود أوسع نحو حوار أمني إقليمي شامل عبر الابتعاد عن منطق اللعبة الصفرية، والاتجاه نحو تعظيم منطق اللعبة غير الصفرية في العلاقات العربية والإقليمية؛ إذ يرنو العراق نحو استقرار المنطقة، كونه المتضرر الوحيد من عدم الاستقرار، وبحاجة ماسة إلى الاستقرار لدعم ديمقراطيته الناشئة وازدهاره الاقتصادي في المنطقة.

ثالثًا: منصة حوار بغداد: خفض التصعيد والاستثمار في الاستقرار الإقليمي.

انطلاقًا من النموذج التقريبي، سعى العراق نحو فكرة “الأمن التكاملي” الذي يقوم على أساس ترسيخ التعاون العربي الإقليمي؛ كرافعة لإدامة الاستقرار في المنطقة، ومن هنا انطلق العراق نحو تأدية دوره كوسيط ومُيسر بين الأطراف المختلفة والمتصارعة في المنطقة دون أن يكون طرفًا في هذا المعسكر أو ذاك؛ وذلك لتعزيز أسس وأواصر التعاون والشراكة والعمل الجماعي من أجل الأمن والاستقرار والتنمية والازدهار المشترك.

وفي رحاب هذه السردية جاء مؤتمر “بغداد للتعاون والشراكة”، الذي تم إطلاقه في العام 2021؛ لمناقشة سبل التعاون الإقليمي في مواجهة التحديات الاقتصادية والأمنية والمناخية التي تمر بها المنطقة، وذلك بحضور مسؤولين من (العراق، ومصر، والأردن، والكويت، والمملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة، وقطر، وعُمان، والبحرين، وتركيا، وإيران)، فضلًا عن مشاركة الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” وممثلين عن الاتحاد الأوربي والأمم المتحدة. وهو المؤتمر الذي أدى فيه العراق دورًا كبيرًا للمضي قدمًا في الحوار بين القوى المختلفة في المنطقة، ولاسيما السعودية وإيران، فضلًا عن رعايته للقاءات ثنائية بين أمير قطر الشيخ “تميم بن حمد آل ثاني”، والرئيس المصري “عبد الفتاح السيسي” والشيخ “محمد بن راشد آل مكتوم” نائب الرئيس الإماراتي([7]).

وبالمجمل، شهد هذا المسار الإقليمي الصاعد عدة اجتماعات رفيعة المستوى في العراق، وفي الأردن بنسخته الثانية في العام 2022، كان هدفها الأساسي هو خفض التصعيد، والارتقاء بآليات التعاون والشراكة في مواجهة التحديات المشتركة، والتخفيف من حالة عدم الاستقرار في المنطقة، بالانتقال من المنافسة الصفرية إلى المنافسة غير الصفرية، حيث يحصد العراق وجيرانه أوجه التآزر التي تشتد الحاجة إليها.

علاوة على ذلك، مهد -ولايزال يمهد- مؤتمر بغداد الأرضية للتعاون البيني المستدام بين دول المنطقة عبر التعاون الاقتصادي والبيئي، بل أن هناك من يرى: أن هذا التجمع الدبلوماسي يعكس إعادة تقويم القوة الأمريكية في المنطقة، ويهيئ دول المنطقة نحو مشهد شرق أوسط مستقل عن أمريكا([8])، لاسيما مع مساعي الولايات المتحدة في ضبط اندفاعها نحو المنطقة، وتقليل حضورها وانخراطها في ظل تبدل أولوياتها الإستراتيجية في النظام الدولي([9]).

ومن اللافت للنظر، أن صيغة بغداد لها فرادة تداؤبية في المسار الإقليمي الناشئ في المنطقة من حيث أنها مفتوحة لمشاركة إيران، وتعمل كمبادرة للدبلوماسية العربية-الإيرانية وكأنها تتدارك هذه الفجوة القائمة في الدبلوماسية الإقليمية من خلال تقديم العراق نفسه على أنه مكان للتعايش العربي الإيراني. ومن ثم فإن العراق لا يمثل في الواقع جبهة للتنافس والخصومة المحتدمة بين إيران والدول العربية، وهو ما تستثمره بغداد لتظهر لإيران والدول العربية أن العراق يشعر بارتياح إزاء مصالح كلا الطرفين، وليس عالقًا في لعبة شد الحبل بينهما([10]).

وغني عن القول، إن تلك التطورات الدبلوماسية أظهرت أن العراق في موضع الفاعل المحايد الموثوق الذي يمكن الاستناد عليه للتوسط في حوار إقليمي شرق أوسطي عند الضرورة؛ لإمكانيته -بحسب المراقبين- في مراعاة التوازن وعدم الانحياز إلى أي طرف عندما يكون هناك تصاعد في التوترات الإقليمية، وهذا ما يجعل الوساطة العراقية أداة فعالة لخفض التصعيد لمعظم دول المنطقة، لاسيما أن طرفي أي تنافس معين يمكن أن يتفقا على خفض التصعيد المتبادل بوساطة بغداد بأسلوب يحفظ كرامة كل منهما([11]).

في مقابل كل ذلك، يستثمر جيران العراق العرب بشكلٍ كبير في هذه العملية الدبلوماسية الناتجة عن مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة بدءًا من الأردن، التي استضافت النسخة الثانية من مؤتمر بغداد، وصولًا إلى مصر، التي من المقرر أن تستضيف النسخة الثالثة من المؤتمر في نهاية العام 2023. فعلاوة على مشاركتهم الرئيسة في مؤتمر بغداد، تتجه هذه البلدان الثلاث (العراق، ومصر، والأردن) بخطوات ملموسة نحو توطيد “الآلية التعاونية الثلاثية” بينهما، كوسيلة لإدامة التنسيقات الدبلوماسية بين الدول الثلاث، وتعزيز التعاون في مجالات الأمن والدبلوماسية والعلاقات الاقتصادية. وهي الآلية الثلاثية التي تذكرنا بمبادرة مجلس التعاون العربي الذي انشأته البلدان الثلاث في العام 1989؛ لتعزيز التعاون الاقتصادي بينهما، ولكن هذه الآلية الثلاثية تبدو أوسع أفقًا، فهي منصة تعمل على تعزيز أدوار كل من (العراق، ومصر، والأردن) في المنطقة، وتهدف إلى تعزيز التعاون الاقتصادي، ومعالجة التحديات المتزايدة للتغير المناخي، وتوثيق التعاون الأمني في مجال مكافحة الإرهاب، فضلًا عن مبادرات ربط الشبكات الكهربائية بين البلدان الثلاث وبين العراق ودول مجلس التعاون الخليجي. وهي المشاريع التعاونية التي تهدف إلى تحقيق التكامل الاقتصادي بين (العراق، ومصر، والأردن)، و(العراق، ودول الخليج) والتي يجسدها مؤتمر بغداد، وتكملها الآلية التعاونية الثلاثية التي تؤسس هي الأخرى لمسار إقليمي صاعد في الشرق الأوسط يهدف إلى التعاون والتكامل والاستقرار في المنطقة، وهي الآلية التي وصفها الرئيس جو بايدن بأنها “مثال على التعاون الإقليمي الإيجابي”.([12])

رابعًا: مخرجات حوار بغداد: الاتفاق السعودي-الإيراني.

لقد شكلت منصة حوار بغداد نقطة تحول في الجهود الإقليمية الرامية لتخفيف حدة التوترات في الشرق الأوسط، فهي قد أسست لمسار تصالحي أدى فيه العراق دورًا كبيرًا لجمع المختلفين حول طاولة الحوار، ولاسيما رعايته ومأسسته للتواصل والحوار بين (السعودية، وإيران)، وهو ما مهد لست جولات حوار مشتركة بين الطرفين أُجريت في بغداد كانت أولاها في كانون الأول 2019، كأول حوار مباشر بين (الرياض، وطهران) منذ انقطاع العلاقات بينهما في العام 2016. ومن ثم استمر زخم التواصل بقوة بين الطرفين عقب انعقاد مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة في العاميّ (2021، و2022).

فعلى طول جولات الحوار التي كان يرعاها العراق، كانت المحادثات السعودية-الإيرانية تدور حول سبل تخفيف حدة التوتر بين البلدين، وعودة العلاقات الدبلوماسية بينهما، والرؤى المطروحة لتسوية القضايا الإشكالية في المنطقة، فيما أسفرت الجولتان الأخيرتان عن توقيع مذكرة تفاهم من عشرة نقاط تشمل: فتح قنصليتي البلدين في جدة ومشهد، والتفاهم لحل الأزمة اليمنية ومسألة الحجاج الإيرانيين، والتعاون في مجالات التجارة ومكافحة الجريمة والإرهاب، وتفاهمات حول الأوضاع في لبنان وسوريا، وتحقيق الأمن والاستقرار في الخليج([13]).

واستمرارًا لهذا الزخم، تطورت ديناميكية الحوار السعودي- الإيراني في مؤتمر بغداد بنسخته الثانية، الذي استضافه الأردن في نهاية العام 2022، بعد أن كان هذا الحوار ملفًا أساسيًّا على جدول أعمال رئيس الوزراء العراقي “محمد شياع السوداني” والمسؤولين الإيرانيين في أثناء زيارته إلى طهران في تشرين الثاني 2022، وكذلك في أثناء زيارته للرياض لحضور القمة العربية الصينية، ولقائه بولي العهد السعودي الأمير “محمد بن سلمان” في أوائل كانون الأول 2022. وفي ضوء تلك القاعدة، شهدت أروقة مؤتمر بغداد بنسخته الثانية لقاءً جمع بين وزير الخارجية السعودي “فيصل بن فرحان” ونظيره الإيراني “حسين أمير عبد اللهيان”، شهد فيه تأكيدًا مشتركًا على استمرار الحوار بين البلدين([14]).

وعلى إثر تلك المفاوضات التي قادها العراق خلال العامين (2021-2022)، وأدى فيها دورًا رئيسًا، توصلت السعودية وإيران إلى اتفاق تاريخي في 10 آذار 2023، وهو الاتفاق الذي تم توقيعه في الصين بوصفها الراعي الدولي للاتفاق، وذلك بعد أربعة أيام مكثفة من المفاوضات بين الطرفين، وتضمن الاتفاق العديد من البنود التي جاءت استكمالات لجولات الحوار التي جرت في بغداد، ومن بينها: استئناف العلاقات الدبلوماسية وإعادة فتح السفارات، والتعهد باحترام سيادة كل طرف، وكذلك الامتناع عن التدخل في الشؤون الداخلية([15]).

لا شك أن هذا الاتفاق التاريخي بين (السعودية، وإيران)، الذي تحقق بعد عدة سنوات من القطيعة، يمثل انتصارًا دبلوماسيًّا كبيرًا لمنصة حوار بغداد، وما رسخه العراق من قاعدة رصينة للحوارات بين الطرفين، وصولًا للحظة الاتفاق التي جرت في الصين. علاوة على ذلك، أعطى الاتفاق السعودي الإيراني دفعة نوعية وزخمًا كبيرًا للتعاون الإقليمي في الشرق الأوسط، وهو ما يمكن أن نلحظه في التفاهمات الأمنية بين إيران ودول الخليج، وتطور العلاقات بين الإمارات وإيران([16])، والتواصل بين البحرين وإيران على المستوى الثنائي من أجل استئناف العلاقات الدبلوماسية بين الطرفين، وسط الانفراج الحاصل في العلاقات السعودية الإيرانية([17]).

وغني عن البيان، إن هذه التطورات في علاقات دول الخليج بإيران يمكن إعادتها إلى مبادرة حوار بغداد للدبلوماسية العربية الإيرانية، التي تشهد بفضلها اليوم المنطقة انفراجًا وخفضًا للتصعيد، وشكلًا من أشكال التعاون الإقليمي، والتي من المرجح أن تستمر في ترتيب حوار إيراني مع (مصر، والأردن، والإمارات) أيضًا، في الوقت الذي يستعد فيه العراق إلى عقد النسخة الثالثة من مؤتمر بغداد للشراكة والتعاون، والذي ستضيفه مصر هذا العام.


([1]) راجع:James Bluemel and Renad Mansour, Once Upon a Time in Iraq: History of a modern Tragedy, (London: BBC Books, 2020)

([2]) بشأن هذه الرؤية راجع:

لؤي الخطيب، هل يمكن للعراق أن يقرّب بين إيران ومجلس التعاون الخليجي؟ مركز بروكنجز الدوحة،29 يوليو 2015

([3]) ينظر: محمد عادل، الأزمة السعودية الإيرانية: دعوات متزايدة للتهدئة بعد تصاعد التوترات، وكالة الأنباء الكويتية كونا، 6 كانون الثاني 2016.

([4]) ماهر شميطلي، العراق يعرض الوساطة بين (السعودية، وإيران)، ويخشى أثر خلافهما على المعركة ضد الدولة الإسلامية، رويترز، 6 كانون الثاني 2016.

([5])  Iraq And the United States: A Conversation with Iraq’s Deputy PM and Foreign Minister Fuad Hussain, Event, (Washington DC: Wilson Center, Feb. 13, 2023)

([6]) عن هذه الرؤية ينظر: حارث حسن، العراق ودول الخليج: علاقات قلقة ومدركات متصارعة، تقارير، (الدوحة، مركز الجزيرة للدراسات،31 أيار 2016) ص 3.

([7])  Najla M. Shahwan, Iraq’s focus on new path of solidarity, Daily Sabah, Turkey, JAN 09, 2023.

([8]) بشأن هذه الرؤية ينظر: Domènec Ruiz Devesa, Emiliano Alessandri, Iraq’s new geopolitics and the importance of regional engagement: A view from Brussels, Report (Washington DC: Middle East Institute, March 16, 2023).

([9]) حول هذه الرؤية راجع:Brian Katulis and Peter Juul, Strategic Reengagement in the Middle East, Report, (Washington DC: The Center for American Progress, DEC 16, 2021)  

([10])  Agha Hussain, Will Iraq’s regional diplomatic initiatives challenge the Abraham Accords?, (Washington DC: Quincy Institute for Responsible Statecraft, July 22, 2022)

([11])  Ibid.

([12])  Abdulaziz Kilani, The Egypt-Iraq-Jordan Alliance: Independent Actor or  xtension of GCC Regional Influence?, (Washington DC: Arab Gulf States Institute in Washington, Sep 9, 2022).

([13])  Mukhtar Shuaib Abdullah, What’s Next After the Five Rounds of Saudi-Iranian Dialogue?, STRATEGIECS Think Tank, Dec 26, 2022.

([14])  Ibid.

([15]) ينظر: نص البيان الثلاثي السعودي الإيراني الصيني، وكالة العربية نت، 10 مارس 2023. ينظر الرابط الآتي:https://ara.tv/5998n

([16]) عقب الاتفاق بين المملكة العربية السعودية وإيران، زار مستشار الأمن القومي الإيراني “علي شمخاني” دولة الإمارات العربية المتحدة في 16 آذار، حيث استقبله الرئيس الإماراتي الشيخ” محمد بن زايد”، ورئيس الوزراء الشيخ “محمد بن راشد”، فضلًا عن اجتماعه بنظيره الإماراتي الشيخ “طحنون بن زايد” في أبو ظبي، وهو ما يؤشر تمسك البلدين بالدفع نحو مسار إصلاح العلاقات التعاونية بينهما، وهو الاتجاه الذي تعزز عقب الاتفاق السعودي-الإيراني. ينظر: شمخاني يلتقي طحنون والبحرين تفاوض إيران: الخليج نحو تفاهمات أمنية أوسع، تقدير موقف – سياقات، مجلة أسباب، العدد 104، 17 مارس 2023. ص 1.

([17]) ينظر: Exclusive: Bahrain, Iran held ‘low-profile exchanges’ amid Iranian-Saudi détente, Amwaj media, Mar. 13, 2023.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى