2019العدد 179ملف إعلامي

العمق يصارع الانتشار في مباراة غير متكافئة بين الإعلام التقليدي والجديد

ربما تكون تركيا الدولة المسلمة الوحيدة منذ نهايات السلطنة العثمانية وحتى اليوم، التي مرت بتحولات اجتماعية وفكرية وسياسية متناقضة الواحدة مع الأخرى إلى درجة التصادم العنيف في ما بينها في غالب الأحيان.

يظن البعض في العام ال19 من الألفية الثالثة الموافق العام  ال22 من عمر مواقع التواصل الاجتماعي والعام ال15 من عمر “فايسبوك” والعام 13 من عمر “تويتر” أن الإعلام التقليدي بمنصاته المتعددة ونوعية صحافته المفترض فيها العمق يقف على طرف نقيض من الإعلام الجديد بأجنحته المتطايرة والمتغيرة والمتجددة تجددًا ينال من العمق ويعمد إلى السرعة والسطحية والانتشار.

وبينما الكوكب غارق حتى أذنيه في محاولات مستميتة لإعادة ترتيب الأوراق وفتح خزانات الأفكار لإنقاذ وسائل إعلام تقليدية هنا وركوب موجة إعلام جديد هناك، تجد قيمة العمق الصحافي نفسها في مواجهة قد تودي بحياتها أمام الحاجة الماسة للانتشار.

مفهوم الانتشار

اختلاف في مفهوم الانتشار أفسد للعمق كل قضية طيلة هذه السنوات. فمن مئات الحلقات المخصصة للجان الذي يسكن أجساد الفتيات، إلى الاتجار بمرض الأطفال الفقراء والتسول الجارح على الهواء باستغلالهم وكشف وجوههم ونزع ستر أسرهم، إلى الشماتة والتعالي على السوريين الذين وزعت عليهم أطعمة في أحد المخيمات في لبنان، إلى سرقة صور شخصية لفتاة تعرضت للضرب في أحد المراكز التجارية من هاتفها المحمول وعرضها على الهواء، لاتهامها فتاة اغتصبت من قبل أربعة رجال بأنها سيئة السمعة وربما تستحق ما حدث لها، وأخيرًا السخرية من (المصابين بالبدانة)، تجد المذيعة نفسها ملكة “الترند” والأكثر انتشارًا.

العمق الصحافي يجد نفسه اليوم في مهب الرياح الصحافية والإعلامية العاتية. فمن جهة، يجد الإعلام التقليدي نفسه مهددًا محاصرًا مهمشًا مقزمًا من قبل قرينه الحديث، ومن جهة أخرى، تنتابه مشاعر قوية أن الطريق الوحيد المتاح للنجاح هو مقايضة قيم العمق والمصداقية والمعلوماتية والتنوير بمتطلبات الانتشار والترند وإرضاء الشهوات العامة عبر التسطيح والتهويل والدق على أوتار الفضائح والرقص على جثامين المشاهير.

سيمور هيرش

أبرز مشاهير العمق الصحافي على الإطلاق ورمز من رموزه في زمن يبدو أنه فات هو الأسطورة الأميركي سيمور هيرش. موضوعات هيرش الاستقصائية كشفت حقيقة الحرب في فيتنام، وشرحت أبعاد فضيحة “ووترغيت”، وسردت حقائق يندى لها الجبين عن عمل الاستخبارات الأميركية في دول مثل تشيلي وبنما وكوبا والعراق وسوريا وغيرها. وهيرش يعرف ما لا يعرفه كثيرون عن وزير الخارجية الأميركي السابق هنري كسينجر. وفي جعبته أسرار عن سجن “أبو غريب”، وحقائق عن حقيقة الحرب الأميركية على الإرهاب، ومقتل أسامة بن لادن، واستخدام الأسلحة الكيماوية في سوريا وغيرها.

لكن هيرش بكل عمقه وكامل استقصائه وتمام معلوماته يجد نفسه هذه الآونة في مواجهة قاسية ومنافسة حامية مع تدوينة فايسبوكية تعاد مشاركتها ملايين المرات، أو تغريدة تويترية تجد من معيدي التغريد ما يجعلها الترند رقم واحد، أو مقطع فيديو على “يوتيوب” يجري تداوله ملايين وربما بلايين المرات.

محتوى مواقع التواصل الاجتماعي، سواء من قبل مستخدمين عاديين أو مواطنين صحافيين أو حتى صحافيين وإعلاميين محترفين يدونون ويغردون، دخل في “علاقة عاطفية سامة” مع محتوى الإعلام التقليدي. وبحسب مقال عنوانه “علاقة حب سامة: تاريخ علاقة الإعلام المتقلقلة مع منصات التواصل الاجتماعي” في موقع “ستارت آبس” (29 أيار (مايو) 2017)، فإن 62 في المئة من الأميركيين يعتمدون على مواقع التواصل الاجتماعي للاطلاع على الأخبار. وأكثر من النصف يعيدون مشاركة ما يقرأون من “أخبار” على صفحاتهم.

وفرة عنكبوتية عربية

عربيًا، لا يختلف الأمر كثيرًا. فبحسب “التقرير العربي لمواقع التواصل الاجتماعي”  الصادر عن كلية دبي للإدارة الحكومية، فإن 250 مليونًا من ال677 مليون مستخدم للإنترنت في العالم هم من العرب. وتشهد منطقة الشرق الأوسط العدد الأكبر من مستخدمي فايسبوك الجدد في الكوكب. كما بلغ عدد المغردين العرب 200 مليون مغرد حتى نهاية آذار (مارس) الماضي يغردون نحو أربعة بلايين تغريدة في الشهر. وأشار التقرير ذاته إلى أن نحو 95 في المئة من المواطنين العرب اعتمدوا على مواقع التواصل الاجتماعي كمصدر رئيسي للأخبار في أوقات الحراك والاحتقان السياسي التي تشهدها العديد من البلدان العربية منذ عام 2011.

ويشار إلى أن نسبة كبيرة من العرب، ممن لا تملك حسابات على مواقع التواصل الاجتماعي أو حتى وسيلة اتصال بالشبكة العنكبوتية يستقون “الأخبار” من أصدقاء لهم يحكون لهم ما ورد على المنصات الاجتماعية العنكبوتية.

ما يرد على هذه المنصات لا يخضع لقواعد مهنية أو مواثيق عمل صحافي أو أكواد عمل إعلامي. فيه الكثير من الغث والكثير أيضًا من السمين. فيه المفيد وفيه الضار وفيه ما لا يضر أو ينفع لكن يهدر الوقت فقط. لكنه فيه ما يحقق الانتشار ويضمن “الترند” ويصنع النجوم في دقائق.

تسير علاقة الإعلام التقليدي بالجديد.

 في البداية، وتحديدًا بين عامي 2006 و2012 كانت مرحلة العشق والهيام. أطل “تويتر” بتغريدات مثيرة، وهل “فايسبوك” بتدوينات غريبة ومسلية دغدغت مشاعر وحواس وسائل الإعلام التقليدية. في البداية ظن التقليديون أن العلاقة مع الجدد ستكون تكاملية مع بقاء مقاليد الهيمنة والسيطرة في أياديهم المتمرسة ومؤسساتهم المتعمقة. ثم بدأت حقيقة العلاقة تتضح بين عامي 2012 و2014، وهي الأعوام التي رسخ فيها الإعلام الجديد ومواقع التواصل الاجتماعي أقدامه طارحًا فكرة المنافسة على الملأ. وبعد ما اعتنق الإعلام التقليدي عددًا من أدوات الإعلام الجديد من صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي وتواصل آني مع المستخدمين ومدونات منفصلة للصحافيين والكتاب باعتبارها وسائل مساعدة لصحافة العمق ومؤسساتها والعاملين فيها، بدأت هذه المنصات تكشف الستار عن قوتها الحقيقية وأنيابها المخيفة. وبدلاً من أن تكون استعانة الإعلام التقليدي بالجديد وسيلة لزيادة المتابعة – سواء قراءة أو مشاهدة أو استماعا أيقنت أنها لم تكن سوى أداة للترويج للإعلام الجديد ونيران صديقة أصابتها في مقتل من حيث نسب المتابعة التي انصرفت صوب الجديد.

ويشير مقال “علاقة حب سامة” إلى أن كابوس الإعلام التقليدي سرعان ما تحول إلى حقيقة. في الغرب، وبعد نجاح صحيفتي “واشنطن بوست” الأميركية و”غارديان” البريطانية في بناء قاعدة عريضة لمتابعي الصحيفتين على موقعيهما في فايسبوك والتطبيقات التي تمكن المتابعين من قراء المحتوى عبرها، غيرت “فايسبوك” التقنية المستخدمة ما أدى إلى اختفاء محتوى الصحيفتين تمامًا، وهو ما بررته “فايسبوك” في حينها بأنه كان إجراءً ضروريًا لحماية المستخدمين من الإعلانات غير المرغوب في وجودها. لكن ما عكسه هذا الإجراء هو أن اليد العليا والقدرة على اتخاذ قرار من يقرأ ماذا ومتى بات في يد المهيمنين على الإعلام الجديد.

التقليدي يترنح

وبينما الإعلام التقليدي بكل صوره يتخبط ويترنح ويحاول إيجاد الحلول ويجتهد ليحسم أمره في معركة غير متكافئة، إذ بالفراق يثبت أن فيه دواء للجديد وداء للتقليدي. ففي عام 2017، إذ بفايسبوك تعلن 51 في المئة زيادة في عوائدها، ومؤسسات الإعلام تحقق خسائر مدوية. في الوقت نفسه، أيقنت وسائل الإعلام التقليدية أنها لا تملك رفاهية الانسحاب من منصات الإعلام الجديد وفي الوقت نفسه لا يمكنها استمرار تواجدها بالقواعد ذاتها وبقاء مقاليد الأمور في أيادي ملوك المنصات الجديدة.

الإعلام التقليدي لم يحسم أمره بعد، أو بالأحرى هو غير قادر على أن يحسم أمره لأن أمره لم يعد بيده. وفي الوقت نفسه، فإن مفهوم العمق مازال عالقًا في الهواء، معرضًا للشد من قبل الجديد والجذب من قبل القديم.

دليل “يونسكو” للتحقيقات الصحافية يعرف صحافة العمق أو الصحافة الاستقصائية بأنها “العمل الصحافي الذي يتميز بالعمق والابتكار، ويوظف أساليب بحث منهجية، وغالبًا يستخدم السجلات العامة والبيانات بشكل مكثف. وصحافة العمق “تكشف النقاب عن مسائل وقضايا تهم عموم الناس، كانت تخفيها عن قصد جهة ذات سلطة، أو يحجبها دون قصد ركام فوضوي من المعلومات والظروف التي تؤدي إلى الالتباس، وذلك بالاعتماد على مصادر وسجلات قد تكون سرية أو علنية”.

فايسبوك وبحث محدود عن المهنية

علنية استعانة “فايسبوك” بصحافيين مهنيين بديلاً عن خوارزميات نقل الأخبار خطوة تقول الكثير عن مستقبل الصراع بين عمق الإعلام التقليدي من جهة والانتشار المرتبط ارتباطًا احتكاريًا بالإعلام الجديد من جهة أخرى. فقبل أيام، قالت “فايسبوك” إنها تنوي الاستعانة بصحافيين مهنيين من الإعلام التقليدي لاختيار الأخبار التي يجري تداولها على “فايسبوك” لضمان صحتها وجديتها! لكن “فايسبوك” أعلنت أن الفريق الذي تعتزم الاستعانة به “فريق صغير”، وهو ما يعني أن من كانوا يعلقون آمالاً على أن يعملوا صحافيين تقليديين تحت راية “فايسبوك” تبددت أحلامهم في هواء العنبكوت. ورغم نية “فايسبوك” المعلنة بأن يكون هناك شريط خبري راكض على الصفحة بشكل منفصل عن بقية التدوينات وتحديثات الأصدقاء على صفحات مستخدمي “فايسبوك”.

مهمة الفريق الصغير من الصحافيين التقليديين سيتقتصر على اختيار الأخبار والموضوعات الصحافية دون تعديل أو تغيير في المحتوى أو حتى العناوين. ويشير تقرير صادر عن مؤسسة “بيو” المتخصصة في أبحاث الرأي العام أن الإعلام الأميركي التقليدي يمر بأزمات طاحنة حيث فقدان وظائف وإغلاق صحف وقنوات تلفزيونية ومحاولات منهكة لتحقيق ربح في زمن الأخبار المجانية.

ورغم هذا التوجه العنكبوتي لإضفاء بعض العمق على المحتوى الذي يختلط فيه حابل الجدية بنابل الإشاعات والسطحية، إلا أن أخبار فايسبوك الجديدة الموثقة المعمقة لم تنعكس إيجابًا بالضرورة على اختيارات مستخدمي منصات التواصل الاجتماعي، إذ ستظل لديهم القدرة على نشر ما يحبون من “أخبار” بغض النظر عن محتواها.

من جهة أخرى، فإن تقرير “بيو” وجد أن إجمالي عدد الصحافيين في غرف الأخبار التقليدية انخفض بنسبة 25 في المئة بين عامي 2008 و2018، وهو ما يعني أن الاتجاه العام يمضي بعيدًا عن العمق ويسير بشكل متصاعد نحو “الترند”.

مناهج تقليدية في زمن غير تقليدي

القائمون على أمر المناهج والتدريس في كليات الإعلام التقليدية يجدون أنفسهم في موقف صعب. فمن جهة، مازالت الغالبية المطلقة من الكليات تعتمد بشكل رئيسي على كتب ومفاهيم الإعلام التقليدي حيث أصول التحرير، وكيفية التحقق، وأهمية التوثيق، وحتمية التدقيق وحماية المصادر ومتابعة القصص الخبرية وأخلاقيات العمل الصحافي ومصداقية العمل المهني وموضوعية التناول إلى آخر قائمة محتوى السنوات الأربع في الكليات. البعض بدأ يدمج – على استحياء- موادًا تتناول الإعلام الجديد والصحافة الرقمية، لكن الغالبية ممسكة بتلابيب التقليدي دون النظر بعين الاعتبار إلى حال السوق.

حال السوق تشير إلى تغيرات جذرية، حتى في الدول العربية التي ترتفع فيها نسب الأمية الأبجدية، وتتدنى فيها مستويات الدخول الاقتصادية تغير الشبكة العنكبوتية شكل الأخبار وتفرض نفسها على الجميع بأشكال ومستويات غير مسبوقة.

وبحسب “إحصاءات الإنترنت في العالم” Internet World Statistics https://www.internetworldstats.com/stats5.htm  فقد بلغ معدل استخدام الإنترنت في منطقة الشرق الأوسط في نهاية نيسان (أبريل) الماضي 67،2 في المئة، في الوقت الذي لا يزيد فيه متوسط المعدل عالميًا على 56،8 في المئة. ونصف الشباب العربي يقولون إنهم يعتمدون على “فايسبوك” وحده للاطلاع على الأخبار. وزاد عدد القنوات العربية على “يوتيوب” بنسبة 160 في المئة على مدار ثلاث سنوات فقط.

وبعيدًا عن الدراسات والأرقام، فإن العين المجردة والخبرة الشخصية تشير إلى أن النسبة الأكبر من المواطنين العرب العاديين تعتمد في إلمامهم بالأخبار والرؤى والتحليلات على ما يرد في مواقع التواصل الاجتماعي، حتى لو كانت تلك المادة التي أعيد تدويرها ونقلها شفهيًا من شخص إلى آخر.

إزاحة التقليدي

آخر ما كان إعلاميو الإعلام التقليدي يتوقعونه هو أن تتم إزاحتهم بعيدًا عن صدارة المشهد الإعلامي. لم يحدث هذا بين يوم وليلة، ولكن بين عقد وآخر، وإن تسارعت الوتيرة لتصبح أسرع من البرق في العامين الأخيرين.

واقع الحال يشير إلى أن هذه السرعة وتلك الإزاحة ألقيا بظلال وخيمة على درجة وقدرة الإعلام التقليدي على التمسك بتلابيب العمق. وبشكل متزايد، يبذل صحافيو الإعلام التقليدي جهدًا خارقًا أقرب ما يكون إلى الجهود المبذولة في السيرك لنيل جزء من كعكة الانتشار مع محاولة الحفاظ على قدر من العمق، وهو جهد لو تعلمون عظيم.

الواقع يقول إن الإعلام الجديد ومواقع التواصل الاجتماعي أثرت على الإعلام التقليدي بكل منصاته وعلى كل المستويات. أستاذ الإعلام في جامعة كولورادو بودر الدكتور باتريك فيروتشي أجرى دراسة عن أثر الإعلام الجديد على التقليدي، ورصد خمسة آثار رئيسية. الأول هو أن الصحافيين أنفسهم باتوا يتخذون قرارات العمل واختيارات الموضوعات الصحافية والتلفزيونية وهم متأثرون بما يرد على مواقع التواصل الاجتماعي، وهو ما يعني أن قادة الرأي العام في مواقع التواصل الاجتماعي أصبح لهم كلمة في مجال الإعلام التقليدي. والأثر الثاني هو أن الشبكة العنكبوتية ومواقع التواصل الاجتماعي باتا من مصادر الأخبار والأفكار الرئيسية لصحافيي الإعلام التقليدي، ولو باعتباره نقطة بداية.

والأثر الثالث هو أن مواقع التواصل الاجتماعي أصبحت تجبر الصحافيين على التطرق إلى موضوعات بعينها يتم تداولها على الشبكة العنكبوتية لأنها ببساطة محققة الانتشار والترند والجميع يتحدث عنها. والأثر الرابع هو أن الإعلام الجديد بمنصاته المختلفة أصبح مقبولاً ثقافيًا ومجتمعيًا، وهو ما جعل دمجه في الإعلام التقليدي أيضًا مقبولاً، وذلك بعد سنوات من إصرار صحافيي التقليدي على النأي بأنفسهم بعيدًا عنه والتعامل معه باعتباره “إعلام درجة ثانية أو ثالثة”.

أما الأثر الخامس والأخير والخطير، فهو أن الإعلام الجديد صاحب الانتشار والترند مستمر في تجريف قيم الصحافة التقليدية المتعارف عليها منذ عقود. هذا التجريف أدى إلى تضاؤل شعور صحافيي الإعلام التقليدي بأنهم مسيطرون على المشهد الإعلامي ومهيمنون على المتلقين.

الرؤيا الكابوس

تأكدت الرؤيا وفي أقوال أخرى الكابوس. لم تعد الشاشة الصغيرة تلهث بكل ما لديها من قوة لتلحق بالشاشة متناهية الصغر حيث الكمبيوتر والهاتف المحمول والآي باد وغيرها، فقد فازت الأخيرة وإن لم يكن بالضربة القاضية. ظلت الشاشة الصغيرة تنتحل شخصية الواثق القادر على تخطي المحنة المثابرة على التطوير والتغيير، لكن طول المقاومة أنهك قواها.

ورغم أن الشاشة الصغيرة ما زالت عربيًا تنعم بقدر غير قليل من نعمة السيطرة ومنحة الهيمنة، حيث نسب الأمية الرقمية ما زالت مرتفعة، بل مازالت نسب الأمية الأبجدية حية ترزق، إلا أنها تغرف غرفًا من مواقع التواصل الاجتماعي معيدة تدوير محتواه على شاشتها التقليدية هكذا، دون عمق أو تحقق.

 العالم العربي أنهى مرحلة استشعار الخطر الإعلامي العنكبوتي القادم سريعا صوب الصحيفة الورقية التي تجاهد من أجل البقاء، والشاشة التلفزيونية التي تكافح من أجل المنافسة ، وبدأ مرحلة التعامل مع هيمنة الجديد فيصيب تارة ويخيب تارات.

راية الجديد خفاقة

الزمن الحالي يرفع شعار تويتر وسناب شات وإنستغرام وفايسبوك بكل ما تحويه من فرقعات وهبدات وتسخين، وأيضًا بعد عن العمق والتحقق والقيمة الحقيقية للمحتوى. أما رايات البرنامج الحواري والصالون الثقافي ولقاء الجمعة فمنكسة. حتى الأخبار لم تعد تلك الجامدة المتحجرة التي يجري بثها كلما دقت الساعة العاشرة. كما لم تعد تلك الإشارة ذات اللون الأحمر المنذرة بقدوم خبر عاجل يحمل على الأرجح مأساة موت مئة، أو كارثة غرق ألف أو فاجعة نزوح مليون تستنفر المتلقي. فالمتلقي مستنفر في مكان آخر قوامه شاشة صغيرة ومحتوى خفيف.

ما وصل إليه الإعلام التقليدي من ضبابية الرؤية وفوضوية القواعد المتأرجحة بين التمسك بقيم العمق ومحاولة اللحاق بنعمة “الترند” ليس نهاية المطاف. كما أن هيمنة الإعلام الجديد ومنصاته الاجتماعية أيضًا ليست هيمنة بائنة لا رجعة فيها أو تغييرا يؤثر فيها. الجولات لم تنته وعمليات التطوير والتغيير والتحديث ودمج هذا في ذاك، والاستفادة من عمق هذا في انتشار ذاك لم تصل إلى الشكل النهائي بعد. والمؤكد أن المواكبة خير من اللهاث، والمشاركة أفضل من الاحتكار، والإعلام إلى تغيير أكيد لا ريب فيه.

اظهر المزيد

أمينة خيري

كاتبة صحفية في جريدة الحياة الدولية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى