2023العدد 193ملف ثقافي

الجزء الأول “دَرْوِيشيّو”  بداية القرن العشرين محمد عبدالوهاب “الدرويشي حتى العظام” دراسة موسيقية من جزئين

مقدمة عامة:

في15  أيلول/سبتمبر 2023 تطل علينا الذكرى المئوية الأولى لوفاة مؤسس المدرسة الموسيقية العربية الكلاسيكية الحديثة في القرن العشرين سيد درويش (1923-2023)، وتعتبر سنة دخول سيد درويش مضمار التلحين المسرحي في سنة 1917 بداية تأريخ للموسيقى العربية الحديثة في القرن العشرين، وبداية هذه المدرسة الموسيقية، بعد وفاة ممثلي مدرسة القرن التاسع عشر الواحد تلو الآخر بشكلٍ درامي في بداية القرن العشرين، واضعين بذلك النهاية الشكلية والزمنية للقرن التاسع عشر: عبده الحامولي (توفي سنة 1900)، محمد عثمان (توفي سنة 1901)، وأحمد أبو خليل القباني الدمشقي مؤسس المسرح الغنائي العربي (توفي عام 1902) ، وبعد ظهور الإسطوانة في مصر وبداية تصنيعها في السنة التالية (1903)، التي حفظ ظهورها تراث القرن التاسع عشر بصوت المطربين، الذين كانوا يغنون في بطانات الملحنين والمغنين المذكورين والحافظين لتراثهم وتراث غيرهم.

وفي نفس هذه الحقبة، حقبة ميلاد سيد درويش سنة 1892، ظهرت كوكبة من عباقرة الموسيقى العربية في سنوات متقاربة: محمد القصبجي (ولد سنة 1892) أي نفس سنة ميلاد سيد درويش، زكريا أحمد (ولد سنة 1896) ، محمد عبدالوهاب أقرب الظن من مواليد سنة 1898 وأبعده 1902، وأخيرًا أصغرهم رياض السنباطي مواليد 1906. وكان لوجود الأوبرا المصرية القديمة (1869-1971) الأثر الأكبر في تكوين وتطوير وتثقيف موهبة ثلاثة من هؤلاء الملحنين الشباب: سيد درويش، ومحمد القصبجي، ومحمد عبدالوهاب. فقد كانت دار الأوبرا مدرستهم الموسيقية الكبرى والأقوى، التي كونت شخصيتهم وثقافتهم التاريخية الفذة كملحنين عصريين كبار، وكان أول وأكثر المتأثرين بوجود دار الأوبرا هذه هو سيد درويش، الذي استوعب بسرعة كبيرة كل عناصر التأليف في الموسيقى الأوروبية الكلاسيكية من خلال حضوره عروض دار الأوبرا بجميع أنواعها الموسيقية من غنائية الأوبرا والأوبريت، والسمفونية الأوركسترالية. وسرعان ما ملأت عناصر التأليف الموسيقي الأوروبي- خصوصًا الدرامية والتعبيرية والتصويرية- رأس هذا النابغة، واستفاد منها أكبر استفادة بتطوير الموسيقى العربية في أعماله المسرحية، التي بلغت الثلاثين مسرحية لحنها كاملة أو شارك في تلحينها، بعد أن كانت الموسيقى العربية في القرن التاسع عشر مركزة في (الدور، والموشح، والموال)، والتي تعتمد على صوت المغني ومقدرته على الارتجال التلحيني والتطريب المسيطر على الغناء آنذاك، كل هذا من تأثير مدرسة التجويد القرآني على مطربي تلك الحقبة المعروفة بتحريم تلحين القرآن والاعتماد على الارتجال. فجاء مسرح سيد درويش من 1917 إلى 1923(سنة وفاته) بجميع العناصر الموسيقية الجديدة التي استقاها واستوعبها مما سمعه واستفاد منه، فبدأ التخت الموسيقي يتحول معه تدريجيًّا إلى أوركسترا صغير بتدريب وتوزيع وقيادة الموسيقي الإيطالي عازف الكمان “كاسيو”، ومن دور مصاحبة المطرب كخلفية موسيقية للارتجالات الغنائية إلى كيان كبير ومستقل يشارك في عملية بناء الدارما الموسيقية التعبيرية، له دوره الأكبر في تشكيل البناء الدرامي الموسيقي التعبيري، كل ذلك قبل دخول زملائه الكبار مضمار التلحين الكبير. وسرعان ما انتقلت استفادات سيد درويش من الموسيقى الأوروبية إلى زملائه الملحنين المعاصرين له (خاصة محمد القصبجي، ومحمد عبدالوهاب، اللذين كانا مثابرين على حضور عروض دار الأوبرا)، فتأثر كلًا منهم بما سمحت له شخصيته الموسيقية حسب اقترابه من مدرسة القرن التاسع عشر أو المدرسة الجديدة.

زكريا أحمد:

زكريا أحمد المنتمي (فكريًّا، ووجدانيًّا، ومزاجيًّا، وأزهريًّا) إلى مدرسة القرن التاسع عشر تأثر بأعمال سيد درويش في القوالب التقليدية (الدور، والموشح، والطقطوقة)، هذه القوالب التي أبدع فيها سيد درويش. نرى هذا التأثير في تطوير زكريا أحمد لقالب الدور بإدخال عنصر التعبير الإنساني، وذلك بتعميق مضمونه الموسيقي وتغيير قالبه، فأضاف الآهات إلى بداية الدور لأول مرة، كما في بداية دوره العظيم لأم كلثوم “إمتى الهوى”، وأورد في دوره لليلي مراد “إن كان فؤادي” جملة الآهات الغنائية كمقدمة موسيقية في أول الدور، كما أدخل عليه لأول مرة الغناء المرسل التأملي واستبدال إيقاع الوحدة الكبيرة المعتمدة تقليديًّا في تلحين بداية الدور بإيقاع ثلاثي الأضلاع (فالس بطيء). أما ذروة تأثره بسيد درويش، فكانت في تجديده لقالب الطقطوقة التي كانت عند الشيخ سيد أحادية المقام واللحن في كل المقاطع (يا ناس أنا مت في حبي، أهو ده اللي صار، بطلوا ده واسمعوا ده، كيكي يا كيكيكو، حرج على بابا، وخفيف الروح،… وغيرها) لغاية ما طورها زكريا أحمد، بل أوصلها إلى ذروة تطورها بجعله مقاطع الطقطوقة مستقلة لحنيًّا ومقاميًّا بعضها عن بعض في طقطوقتيه لأم كلثوم ” اللي حبك، وجمالك ربنا يزيده” 1931، فأضفى بذلك الاستقلالية الداخلية إلى كل من المقاطع إلى أن تحولت الكوبليهات مع (محمد القصبجي، ومحمد عبدالوهاب، ورياض السنباطي) إلى مجموعة من المونولوجات المستقلة داخل الأغنية الواحدة يربطها المذهب الواحد. وأخيرًا لا ننسى غناء زكريا أحمد لدور سيد درويش( ضعيت مستقبل حياتي).

محمد القصبجي:

تأثير سيد درويش على محمد القصبجي كان كبيرًا جدًا لدرجة ” التهور” في تلحين مونولوجاته لأم كلثوم صاحبة الشخصية الفنية المحافظة والتقليدية جدًا، بإضافة الهارمونيا الغربية عليها، وتغيير وعصرنة البنية الأساسية للحن الشرقي الذي تربت عليه، مما جعل أم كلثوم المحافظة تجفل من أسلوبه الذي اعتبرته “خيانة” للمدرسة التي تخرجت منها وتربت عليها. فأوقفت التعامل معه نهائيًّا بعد مونولوج “رق الحبيب” 1944، آخر لحن غنته له خصوصًا بعد ما اعتبرته مسؤولًا عن فشل مسمعه الأوبرالي في فيلم عايدة 1942، الذي وضع فيه القصبجي كل طاقته التجديدية الجديدة، حتى أنها لم تترك ولو نسخة واحدة كاملة من الفيلم للتاريخ؛ كي نستطيع نحن المؤرخين الموسيقيين، معرفة وتحليل سبب الادعاء بفشل هذا المسمع، مع إبقائها على المسمع الرائع الذي لحنه رياض السنباطي جامعًا بين الدراما الدرويشية المتطورة والأصولية التقليدية في تلحينه. هل ادعاء فشل مسمع محمد القصبجي سببه المستوى السيء للألحان، وهذا ما نشك فيه جدًا، أم أن مبالغة الملحن في عصرنة الألحان والمبالغة في استعمال التوزيع الغربي، وزيادة جرعته في صوت أم كلثوم كان سابقًا لوقته جدًا أو غير مرغوب به إطلاقًا، فأرعبها هذا وقررت التوقف عن التعامل معه، مما اضطره إلى تحويل ألحانه المتطورة والمتأثرة بإنجازات سيد درويش إلى أصوات أخرى معانيًا من هذه المقاطعة لآخر يوم في حياته، ومُنهيًا حياته عازفًا على العود في فرقتها لغاية وفاته؟

ونرى أسلوبه الدرويشي المتطور المبهر في أغانيه (لأسمهان، وليلى مراد) التي وردت في أفلامها، وأذكر في البداية تحفته لأسمهان “إمتى حتعرف” فيلم “غرام وانتقام”، ولحنه لها في نفس الفيلم، الأغنية الدارمية المؤثرة “أنا اللي أستاهل”، وأغنياته المبهرة لليلى مراد، التي ركز فيها إلى أقصى حد أسلوبه الجديد الدرويشي في التلحين العصري واستعمال الأوركسترا كعنصر أساسي في عملية البناء الداخلي للحن كمحور أساسي وموازي للخط الغنائي. وأذكر من هذه الأغنيات المونولوج الرائع: يا من أنادي بلحني، بتبص لي كده ليه، من فيلم ليلى “غادة الكاميليا”، و”من قلبي دليلي” : ادفع طلَّع، اضحك كركر، أنا قلبي دليلي المبهرة، ومش ممكن أقدر أصالحك من” ليلى بنت الفقراء”، و يا أختي عليه، ونعيمًا يا حبيبي من”شاطئ الغرام”، حيث نرى تأثير سيد درويش الكبير عليه في استعماله اللوازم الأوركسترالية الكبيرة كعنصر بالغ الأهمية في صميم البناء الداخلي للحن، فتتحول هذه اللوازم إلى مذاهب أوركسترالية بين المقاطع، ولأول مرة في الموسيقى العربية ، إلى المحور الأساسي الذي تدور حوله كل الأغنية. لكن أهم إنجازات القصبجي تأثرًا بسيد درويش هو قالب المونولوج الذي وضع أسسه سيد درويش متأثرًا بقالب الآريا الأوبرالية، وذلك في أغنية “والله تستاهل يا قلبي” في مسرحية راحت عليك 1920. وقد اعترف محمد عبدالوهاب، الذي سبق القصبجي في هذا المضمار، أن هذا النوع من التلحين وصل ذروة تطوره وكماله الفني المطلق في مونولوج القصبجي ” إن كنت أسامح وانسى الأسية” 1928. فقد أضاف إلى جانب السرد الموسيقي الغنائي المركز والمطور مدات الصوت الأوبرالية مستعملًا حروف العلة (الألف، والواو، والياء) “ليمد” عليها الغناء على طريقة الفوكاليز(vocalise) الأوبرالي إلى جانب استعماله للأبعاد الكبيرة لأول مره في تاريخ الغناء العربي.

رياض السنباطي:

هو ثالث المتأثرين بسيد درويش، فبالرغم من قوله الشهير في إحدى مقابلاته الصحفية كلنا خرجنا من عباءة سيد درويش، إلا أن تأثره هذا كان محدودًا جدًا في أغنياته لأم كلثوم لدرجة قريبة من عدم الوجود؛ فقد كان فيها تقليديًّا مع بعض التطور أو متطورًا مع التحفظ الشديد حتى في مونولوجاته لها، لكننا نراه يتخلى عن وقاره التقليدي الكلثومي خارج أغانيها بأسلوب مختلف لغيرها من المطربين والمطربات، وفي الأغنيات والقصائد التي غناها بصوته والتي تكشف لنا مدى تأثره بأسلوب سيد درويش التلحيني المتطور (الدرامي، والتأملي، والتصويري العصري)، لغاية تحفته الدرامية لعبد الحليم حافظ ” لحن الوفاء مع شادية”، و” فاتوني التقى وعدى” منفردًا، بدءًا بألحانه لأسمهان وليلى مراد، ولابد من ذكر تحفتيه لأسمهان في فيلم غرام وانتقام ونشيد العلوية العظيم الذي اقتطع من كل نسخ الفيلم للأسف بعد ثورة 1952، وبقي تسجيله على أسطوانة، ورثائيته الدرامية مأسوية المذهلة “أيها النائم”، الذي وصل فيها إلى ذرى عالية من التعبير، وتصوير الحالة النفسية، والعمق الدرامي والإنساني المأسوي العميق منطلقًا من تأثره بسيد درويش مرورًا بمحمد عبدالوهاب في مونولوج”أيها الراقدون”.

أسلوبه الدرامي الدرويشي ظهر في أغانيه لليلى مراد بعد وفاة أسمهان، ونذكر منها رائعته “الحبيب”، فيلم ليلى”غادة الكاميليا”، الذي استعار فيها التفكير الجدلي الموسيقي من سيد درويش، وأغانيه لهدى سلطان بما فيها الديالوجات التي شاركها في غنائها في فيلم “حبيب قلبي”، مكملًا ما بدأه سيد درويش في ديالوج “على قد الليل ما يطول”، ولابد من ذكر لحنه التاريخي لنجاح سلام نشيد ” أنا الليل مقبرة للغزاة” الآتي مباشرة من نشيد “الجيش رجع من الحرب” لسيد درويش في رواية شهرزاد، ولحنه: المأساة، العظيم، يا قدس يا حبيبة السماء بصوت سعاد محمد التاريخي.

لكن أسلوب السنباطي المتطور الدرويشي الدرامي والتأملي الكبير، نجده بوضوح شديد في القصائد العملاقة الدرامية (التصويرية، والتأملية الرومانسية)، التي غناها بصوته الرائع، وأذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: قصيدة فجر، قصيدة أشواق، قصيدة من سحر عينيك الأمان، والقصيدة غير الفصحى على عودي،… وغيرها الكثير، حيث تتجلى أبعاده الفكرية الرومانسية التأميلية التصويرية الدرامية في أوج تألقها خارج أسلوبه التقليدي الكلثومي، مع صوته التاريخي الرائع. نراه هنا في خضم تأثره بتراث سيد درويش الدرامي والعصري وانتمائه للقرن العشرين، رغم أن سيد درويش لم يلحن القصائد. ولعل التوقيع على “وثيقة” اعترافه بفضل سيد درويش عليه هو إعادة تسجيل دورين كبيرين له بصوته: أنا هويت، وضيعت مستقبل حياتي، وكأن اختياره لهذين الدورين بالذات لم يأت صدفة، فالأول: ينتمي ببنائه اللحني ومضمونه الموسيقي الدرامي لمدرسة القرن العشرين، بينما الثاني: للمدرسة التطربيبية التقليدية. ونرى ذلك في تسجيل نفس الدور بصوت زكريا
أحمد، فجمع رياض السنباطي في غنائه لهذين الدورين أسلوبيه في التلحين، الأول: في أنا هويت الملائم لأسلوبه العصري، والثاني: في ضيعت مستقبل حياتي الملائم لأسلوبه التقليدي.

أنا درويشي حتى العظام:

نصل الآن إلى محمد عبدالوهاب وإلى مدخلنا في اعترافه شخصيًّا بتأثره الكبير بتراث سيد درويش حين قال حرفيًّا في إحدى مقابلاته التلفزيونية :”أنا درويشي حتى العظام”. وإن هذه العبارة البسيطة في ظاهرها عميقة كل العمق في الدلالة على العلاقة التاريخية الكبيرة بين هذين العملاقين.

مات سيد درويش يوم 15 أيلول/ سبتمبر 1923 في الإسكندرية في منزل شقيقته ليلة حضوره لتدريب الكورال والفرقة الموسيقية في احتفال استقبال الزعيم سعد زغلول في اليوم التالي بعد عودته من المنفى. كانت ردة فعل السلطات حازمة وسريعة لإخفاء معالم هذا الفنان بعد وفاته؛ لسبب مواقفه السياسية الواضحة وتأيده المطلق لثورة سعد زغلول ، حتى أنها رفضت طلب عائلته في تشريح جثته لمعرفة سبب الوفاة والمشكوك بأنها كانت بواسطة السم، وهذا ما أكده لي شخصيًّا ابن سيد درويش الصديق المرحوم حسن درويش. وامتد قرار المنع إلى المعاهد الموسيقية، فكان يعرَّض كل طالب في المعهد “يُقبض” عليه متلبسًا بغناء أغانيه للطرد من المعهد، وكان محمد عبدالوهاب آنذاك طالبًا فيه. وطال قرار المنع هذا حتى مؤتمر الموسيقى العربية الأول الذي أقيم سنة 1932، والذي منع حتى ذكر اسم هذا الفنان في أثناء انعقاده، وهذا خطأ تاريخي كبير وفادح من السلطات الدولة آنذاك، ولم يطلق سراح تراث هذا الفنان إلا بعد قيام ثورة يوليو 1952 . لكن محمد عبدالوهاب لم ينتظر سنة 1952 بل قام بفك الحصار عن تراث سيد درويش وإيصاله للشعب بطريقة يصعب على الرقابة الموسيقية اكتشافها وذلك باستعمال جمل موسيقية من أعماله في أغنياته الجديدة نذكر منها : جملة ” تعالى بين أحضاني ” في ديالوج ” طال انتظاري لوحدي” مع ليلى مراد، والتي تذكر بجملة ” شفتي بتاكلني أنا في عرضك ” من الحوارية الرائدة في هذا النوع “على قد الليل ما يطول ” لسيد درويش في مسرحية ” العشرة الطيبة “. كذلك مطلع أغنية “حب الوطن فرض عليّ” هو نفس لحن سيد درويش في مطلع أغنية ” يا أمي ليه تبكي علي”. ومن الواضح جدًا أن محمد عبدالوهاب طلب من شاعر أغنية “حب الوطن” أمين عزت الهجين كلامًا على نفس وزن وقافيه أغنية الشيخ سيد، ولنقارن بين البيتين: يا أمي ليه تبكي علي” و “حب الوطن فرض علي” ، نفس وزن الكلام ونفس القافية مع إعادة نفس الكلمة فيها، وفي أغنيته ” يا وابور قول لي” وفى جملة “عمال تجري قبلي وبحري” نسمع جملة سيد درويش “صفر يا وابور واربط عندك” من سالمة يا سلامة، الذي يدعو فيها وبشكلٍ سافر إلى “بلا أمريكا بلا أوروبا ما فيش أحسن من بلدي” ، وإن “المركب اللي بتجيب أحسن من اللي بتودي”. وهكذا جعل محمد عبدالوهاب المصريين يرددون ألحان سيد درويش بالرغم من الحظر الرسمي تمامًا، كما جعل سيد درويش المصريين يرددون اسم الزعيم المنفي سعد زغلول في أغنيته “يا بلح زغلول”، وعبارة “عباس حلمي خديوي مصر” في دوره “عواطفك دي أشهر من نار” بعد ما أجبر الإنجليز الخديوي على الاستقالة من منصبه.

أما فيما يخص موضوع تأثر محمد عبدالوهاب بسيد درويش، والذي لخصه في جملته الشهيرة ” أنا درويشي حتى العظام” ، فلقد جمعت كل عناصر تطوير سيد درويش للموسيقى العربية بالتفصيل في دراسة نشرتها على صفحات هذه المجلة تحت عنوان “الشيخ سيد درويش رائد التجديد في الموسيقى العربية”، وسوف نرى مدى تأثر محمد عبدالوهاب بها نقطة نقطة.

الدرويشي حتى العظام:

نقطة 1: الديالوج الغنائي

ينسب المؤرخ الموسيقي اللبناني “فكتور سحاب” دخول الديالوج الغنائي العربي للملحن “صفر علي”، لكن دخوله الكبير وانتشاره في التلحين العربي كقالب جديد في الغناء كان في حوارية “على قد الليل ما يطول ” من مسرحية سيد درويش العشرة الطيبة 1920. وطبعًا لم يفكر محمد عبدالوهاب في هذا الشكل الغنائي قبل دخوله مضمار الأفلام الغنائية سنة 1933 بفيلم “الوردة البيضاء”، الذي نجده خاليًا من هذا النوع من الغناء؛ لسبب منطقي وهو أن بطلة الفيلم لم تكن مغنية، فتأجل ظهور الديالوج لفيلمه الثاني دموع الحب 1935، لكن هذا لا يعني عدم وجود آثار كبيرة لسيد درويش في أغاني هذا الفيلم الأول، فقد استعان متأثرًا بالغناء الأوبرالي في أغنياته الفردية فيه: يالوعتي ياشقايا، وضحيت غرامي، حيث يمد الصوت على حروف العلة (الألف، والواو، والياء) (vocalizes). وحيث تدخل الدراما في صلب بناء اللحن لتصوير الحالات النفسية المختلفة التي يمر بها البطل، وهذا يدخلنا في صلب بناء الآريا الأوبرالية التي بدأت عند سيد درويش في “والله تستاهل يا قلبي”، والتي تعرض شخصية البطل وعلاقته مع أبطال الأوبرا الآخرين.

في فيلم دموع الحب ثاني فيلم لمحمد عبدالوهاب 1935، مثلت معه المطربة الشهيرة في ذلك الوقت نجاة علي، وغنى معها ما يعتبر بداية تاريخ الديالوج الغنائي في  السينما الغنائية العربية، بل وفي الغناء العربي إجمالًا:  ديالوج “ما أحلى الحبيب”، ويلاحظ في البناء الموسيقي لهذا الديالوج نفس البناء الغنائي في ديالوج سيد درويش “على قد الليل ما  يطول، فلا يبدأ الحوار الغنائي مع البطلة إلا بعد بداية طويلة للمطرب في الحالتين، وفي حال حوارية ” محلى الحبيب” عند كلمات” اسمع حفيف الغصون”. وفي الحالتين يلاحظ وفرة الانتقالات المقامية في “محلى الحبيب” بداية المطرب على مقام البياتي، الذي يتحول إلى الراست مع دخول المطربة “اسمع حفيف الغصون”، ونسمع تلوينًا من المقام السوزناك القريب من الراست عند عبارة  “كل الوجود”، ثم نسمع القفلة في العودة إلى الراست مع تغيير الإيقاع إلى الفالس، بدخول مقام العجم عند “يا هل ترى لما أحكيلك” ويستمر مقام العجم هذا لغاية نهاية الحوارية، تمامًا كما في حوارية سيد درويش التي تبدأ بالنهاوند مرورًا بالحجاز لتنتهي على مقام العجم متجاوزين بهذا قاعدة ذهبية في التلحين التقليدي وهي الانتهاء على نفس مقام البداية ونفس درجة ركوزه.

وفي “يحيا الحب” 1937، يغني محمد عبدالوهاب حواريتين مع ليلي مراد من أشهر الديالوجات الغنائية العربية وأجملها: ” طال انتظاري لوحدي”، و” يادي النعيم” مكملًا فيها التقليد الدرويشي بغناء المطرب مقطعًا طويلًا قبل دخوله في الحوار الغنائي مع المطربة مع زيادة الحركة في الجملة اللحنية والمضمون الدرامي داخل الحوار.

قد يكون مسمع ” قيس وليلي” الأوبرالي ذروة تأثر محمد عبدالوهاب بالدراما الدرويشية، وقد تكلمنا عنه مكان آخر بالتفصيل؛ لإظهار مواطن ومواقع التعبير الدرامي الكثيرة فيه. كذلك الحوارية في الدرامية الرائعة بين ليلي مراد مع نجيب الريحاني “عيني بترف” (غزل البنات 1948)، التي يطور فيها الفكر الجدلي الموسيقي عند سيد درويش، تكلمنا عنها بالتفصيل في مكان آخر.

نقطة 2: التصوير الموسيقي:

قد يكون التصوير الموسيقي الدرويشي أحد أهم العناصر التعبيرية الدرويشية التي تأثر بها محمد عبدالوهاب، ولم تترك إطلاقًا تفكيره الموسيقي لغاية آخر أعماله الموسيقية. ونرى هذا التصوير عند سيد درويش يصل إلى درجة التصوير الحسي المادي الملموس في دور”يا للي قوامك يعجبني”، حيث تتصاعد الجملة الواضحة لقوام الموصوف من أول درجة من السلم الموسيقي لجوابها، وقد تأكدت شخصيًّا من ابن سيد درويش الشيخ حسن في طول قامة السيدة الموصوفة في هذا الدور. مثال ثانٍ “عشان ما نعلا ونعلا”، حيث يصور الهدف وهو الاعتلاء والارتفاع بقفزات موسيقية لفوق على السلم الموسيقي بأبعاد موسيقية جديدة في التلحين العربي، أما الوسيلة لهذا فهو “لازم نطاطي” فيصورها بالقفز لتحت على نفس العلامات الموسيقية. وقد شرب محمد عبدالوهاب كل إمكانيات وطاقات هذه الوسيلة التعبيرية التصويرية الكبيرة واستخدمها طوال مشواره الفني منذ البداية، فنجدها في دور “بلبل حيران” 1930، في جملة “يبص فوقه ويبص تحته”، حيث ترتفع جملة (يبص فوقه) على السلم الموسيقي، بينما جملة (ويبص تحته) على نفس السلم الموسيقي، ويقوى استعمال وسيلة التعبير هذه كلما تقدم الملحن في الخبرة الموسيقية فنجدها في مونولوج ” في الليل لما خلي” 1932 في بيت “سكون ووحشة وظلمة وليل مالوش آخر”، فكلمة “سكون” تأتي على لحن ممدود على حرف الواو وهادئ، بينما تأتي كلمة “ووحشة” مقتضبة وقصيرة بشكلٍ واضح وصادم، وكلمة “وليل” ممدودة على حرف الياء مطولة؛ تصويرًا لليل الذي “مالوش آخر”. وتتطور طريقة التصوير هذه فنجدها في عبارة ” نسبًا يخفضني” من قصيدة “أعجبت بي” 1935، حيث تأتي كلمة “نسبًا” في أعلى السلم الموسيقي، ويقفز النصف الثاني من كلمة “يخفضني” سبع درجات كاملة لتحت لتستقر على قرار السلم. ويصل الفنان في قصيدة “الصبا والجمال” إلى إحدى ذرى تأثره بأسلوب سيد درويش التصويري، وذلك عند عجز آخر بيت في القصيدة: ” وانحنوا خشعًا على قدميك” فعند عبارة “وانحنوا خشعًا” ينحني اللحن على السلم الموسيقي ويصل مع اللازمة الموسيقية على البيانو إلى قرار المقام لتقفز كلمة ” على” عشر درجات لفوق وتبدأ بالانزلاق على السلم للوصول إلى قراره عند كلمة” قدميك” مصورًا بذلك بكل عبقرية الانحناء “خشعًا على قدميك” بكل هدوء وتأمل.

آخر مثال عن ملكة التصوير الموسيقي عند محمد عبدالوهاب أورده في أغنية “عاشق الروح” 1948، عند جملة “لقيتك في السماء عالي وأنا في الأرض مش طايلك” فعند النصف الأول من البيت ولغاية “وأنا في”، نرى اللحن يرتفع ثم “يقع” خمس درجات لتحت عند كلمة الأرض فتصيب هذه “الوقعة” المستمع بشعور السقوط المفاجئ الذي يخطف النفس.

نقطة 3: الجدلية الموسيقية:

جاءت واضحة في مسرح سيد درويش في أغنية الزفة ” اتمختري يا عروسة” بلحن حزين جدًا على كلام الزفة المفرح وإيقاعها المتوثب المعروف؛ هذا التناقض الواضح سببه زفاف البطلة لرجل لا تحبه ومأساتها هذه معكوسة ومصورة باللحن بالرغم من المناسبة السعيدة التي تسمعها في كلام الأغنية وإيقاعها، وهكذا تجمع هذه الأغنية التناقضات الدرامية جنبًا إلى جنب في صياغة العمل الفني الواحد. وقد أوصل محمد عبدالوهاب التفكير الجدلي(dialectic) إلى إحدى ذراه في الموسيقى العربية في ديالوج “عيني بترف”، أداء ليلي مراد ونجيب الريحاني في فيلم غزل البنات 1948، ونجد لهذه الأغنية تحليلًا مفصلًا في مكان آخر.

واستعمل محمد عبدالوهاب هذه الطريقة في التفكير الفلسفي (جمع بين التناقضات، بين الكلام واللحن) في قصيدته الرائعة “لست أدرى” التأملية الرائعة، التي جاء لحنها على مقام العجم الفرح والمشرق بطبعه من أول الأغنية لآخرها. لكن محمد عبدالوهاب يغير بكل مقدرة الطبيعية الأساسية للمقام فيحوله من مقام فرح مشرق إلى مقام يحمل الحزن الشفاف، ويوصل الملحن من خلاله الأغنية إلى ذروة درامية تاريخية عند صرخة لست أدرى مستعملًا آلة التمباني (الطبول السمفونية)، وجمل الكمنجات السمفونية الطابع دون تغيير المقام (العجم) من أول القصيدة لآخرها، ولابد من ذكر الدور الذي يقوم به القانون منفردًا في صلب بناء اللحن لتصوير حالة الوحدة عند البطل، جامعًا في لحنه العنصرين المتناقضين في اللحن: مقام العجم المشرق المفرح، واللحن ذي الحزن الشفاف، والعمق التأملي الحزين.

نقطة 4: إيقاع الزفة

لحن سيد درويش أغاني: ” يا عشاق النبي”، و”اتمختري يا عروسة”،… وغيرهما على إيقاع الزفة وطبعه بوظيفته التاريخية المستمرة لغاية الآن على أنه الإيقاع الوحيد لأغاني الزفة، فأصبح ولا يزال الإيقاع الوحيد المستعمل في مثل هذه الأغاني، ونذكر أشهرها: “دقوا المزاهر” لفريد الطرش، “زغروته حلوه” لمحمد الموجي، “مبروك عليك يا معجباني” لسيد مكاوي، و”اتمختري يا حلوه يا زينة”،… وغيرها الكثير. وقد استعمل محمد عبدالوهاب هذا الإيقاع ليس في وظيفته المعروفة تاريخيًّا بل كعنصر تصويري في سياق درامي معين، ففي مونولوجه التصويري الرائع” ساكن قصادي”، الذي غنته نجاه الصغيرة نسمع في سياق سرد البطلة لقصتها التي تصف فيها حبها للذي “ساكن قصادها وتحبه”، نسمع بداية لحن”اتمختري يا حلوة يا زينة” على إيقاع الزفة المعروف ليتضح بعد ذلك أنه يوم زفة “الذي تحبه”، استعمل الملحن إيقاع الزفة هنا للدلالة على الحدث في سياق الدراما.

إذن استعمل الملحن إيقاع الزفة هنا للدلالة على الحدث في سياق الدراما واستعمل الملحن نفس الإيقاع  في لحنه الكبير لوردة ” في يوم وليلة” في الكوبلية الثاني عند عبارة “يارب يتمم فرحكم” بشكلٍ بطيء يتناسب مع اللحن، نازعًا عند وظيفته التاريخية، للتعبير عن الكلام المرتبط بالفرح، وذلك بشكلٍ عابر في البناء العام للعمل الفني. أما فيما تبقى من إيقاعات فقد استعمل الملحن الكثير من إيقاعات موشحات سيد درويش ضمن الإيقاعات المستعملة في العمل الواحد، فنجد إيقاع الإقصاق: في مونولوج “كثير يا قلبي” من بدايته لغاية نصفه تقريبًا، وإيقاع “دور هندي”، من موشح سيد درويش “صحت وجدًا”، وفي ديالوج “يادي النعيم” مع ليلي مراد في لازمة التمهيد وغناء “صحيح تغيري علي”، ثم في جملة ليلي مراد “أنت قاسيت من بعادي” لغاية آخر هذه الجملة، كذلك إيقاع السماعي الثقيل، وهو من أهم إيقاعات الموشحات وذلك في مقطع “ياهل ترى يا زمان” في أغنية “إمتى الزمان يسمح يا جميل”، كل هذا على سبيل المثال لا الحصر. نورد هذه الأمثلة مع العلم أن محمد عبدالوهاب لم يلحن إطلاقًا على هذا القالب من الغناء لأسباب تاريخية، مع أن له تسجيل معروف لموشح محمد عثمان الأشهر”ملى الكاسات” على إيقاع السماعي الثقيل مع ارتجالات -ليالي للمطرب على إيقاع الإقصاق سجلة المطرب في بداية حياته الفنية 1923، علما بأنه اتهم بعدم تلحينه للموشحات لعدم تمكنه من إيقاعاتها الكبيرة.

نقطة 5 :المونولوج

والسرد الموسيقي مع استغلال حروف العلة في مد الغناء بين جنين المونولوج في أغنية سيد درويش “والله تستاهل يا قلبي” 1920، مسرحية “راحت عليك”، لغاية ظهور مونولوج محمد القصبجي لأم كلثوم “إن كنت أسامح” 1928، الذي اعتبره محمد عبدالوهاب تتويجًا لقالب المونولوج، فإن السنوات التي سبقت ” إن كنت أسامح)”، لم تكن خالية من مونولوجات  لمحمد عبدالوهاب لحنًا وغناء بالرغم من اعترافه المذكور، ومن أشهرها أذكر “اللي يحب الجمال” 1927، “كثير يا قلبي” 1927، “الليل يطوَّل علىَّ” 1927، أما سنة 1928 فقد ظهر فيها اثنان من أهم مونولوجات محمد عبدالوهاب ولا ندري هل سبقا ظهور “إن كنت أسامح” أم جاءا بعده : أهون عليك، وعلى غصون البان، مع الملاحظة أن سكة تطوير المونولوج في هذين العملين تختلف جذريًّا عن ” إن كنت أسامح”، وإن احتوت على بعض العناصر المشتركة، فقد استعمل فيها الملحن بشكلٍ كبير الجمل الغنائية الطويلة والممدودة على حروف العلة، مقتربًا من الغناء الأوبرالي. ويظهر تأثر محمد عبدالوهاب المباشر بسيد درويش في مونولوجات 1927، التي ذكرنا وخاصة في “الليل يطول علي”، وهو عبارة عن مفاجأة ليلية رومانسية وصفية، واضح فيها تأثر ملحنها ببداية محاورة “على قد الليل ما يطول”، وفيها مد الغناء على حروف العلة (الألف، والواو، والياء)، بادئًا المونولوج بأربع نقرات على مجموعة الوتريات مأخوذة من بداية أغنية سيد درويش”مصطفاكي بزياداكي”، مضيفًا عليه بُعدًا دراميًّا عميقًا. وأورد هنا بصفة أمثلة على الجمل المطولة الممدودة على حروف العلة لمد اللحن عليها دون الاضطرار لكسر إيقاع الكلمة : مونولوج “مريت على بيت الحبايب” 1932، وعند عبارة “وقفت لحظة” يمد المغني حرف الواو بجملة غنائية طويلة ليصف بها هذه اللحظة “اللحظة الهنية”، ويعيد الكرة على حرف الياء في كلمة “رقيب” من عبارة “من غير عزول أو رقيب”. ولابد من ذكر التطويل المدهش في عبارة “زي الطيور” من أغنية “أحب عيشة الحرية” مع زغردة حديثة تقلد الطيور. ومع تقدم السنين والخبرة التلحينية الكبيرة إلى جانب العبقرية اللحنية يحول محمد عبدالوهاب المونولوج إلى نوع من القصة الموسيقية يرويها المغني، كما في”ساكن قصادي” الوصفية  السردية الرائعة بصوت نجاة الصغيرة، بكل ما فيها من تنوع في المشاهد الدرامية حسب السرد الدرامي الموجود في نص الأغنية، محولًا بذلك السرد اللحني البسيط في “والله تستاهل يا قلبي” إلى سرد درامي مرتبط بالتطورات الدرامية الواردة في نص القصيدة الملحنة. في نفس هذا النوع من معالجة قالب المونولوج كسرد موسيقي نراه في شكله الجديد: السرد الدرامي بشكلٍ يفوق ما ورد في “ساكن قصادي” في مونولوج “فاتت جنبنا”، حيث يعالج الملحن التغيرات النفسية المتضاربة التي يمر بها الراوي المغني “عبدالحليم حافظ” حسب تغير المواقف الدرامية من بداية القصة، مرورًا بالتطورات المختلفة لغاية النهاية السعيدة: “وقالت لي أنا من الأول بضحك لك يا أسمراني”.

أما ذروة تأثر محمد عبدالوهاب بهذا القالب الجديد الذي ابتدعه سيد درويش وأقصد قالب المونولوج، فجاءت في مونولوجاته- اللوحات الدرامية التاريخية الملحمية، وعلى رأس هذا النوع من المونولوج -اللوحة الدرامية التاريخية نذكر أغنية “ملحمة” ذكريات “رجعتني الذكريات للي فات” بصوت عبدالحليم حافظ، الذي يصف فيها الحقبة التاريخية في حياة هذا الطفل المصري الذي يسرد هنا الأحداث التاريخية التي عاشها من طفولته ومعايشته للاحتلال البريطاني لغاية مرحلة الثورة “وصحيت على ثورة” ثم الجلاء، مرورًا بجنازه أخيه الذي استشهد في فلسطين، وحريق القاهرة وصولًا للعدوان الثلاثي الذي يرمز إليه الملحن بجملتين موسيقيتين إحداهما جملة نشيد “والله زمان يا سلاحي” لكمال الطويل، الذي تقتحمه صرخة “الله أكبر” لمحمود الشريف فنعرف بذلك المرحلة التاريخية التي وصلنا لها في السرد التاريخي.

الأغنية الثانية التي تشكل لوحة وصفية درامية تاريخية ملحمية هي أغنية عربية للمغني المنفرد والأوركسترا الكبير بمشاركة كبيرة لكورال الرجال الذي يمثل الشعب بمداخلات درامية مهمة في صلب العمل: “سل دم السوري والمصري”، و”ثم كانت صحوة”، و “عرف الشعب طريقة” في النهاية. ويصف الراوي -المطرب وهو هنا الملحن “محمد عبدالوهاب” حلم الشعب العربي قبل وحدة مصر وسوريا “كان وهمًا وأمانيًا وحلمًا” لغاية تحقيق حلمه القومي الكبير”عرف الشعب طريقه.. وحد الشعب بلاده” يلقيها الكورال الرجالى؛ ولزيادة القوة الانفعالية التأثيرية الدرامية الكبيرة يصاحب الغناء الأوركسترا الكبير على إيقاع المارش ولإيصال القوة التأثيرية الانفعالية إلى ذروتها تدخل وبكل وضوح عند بداية غناء الكورال الطبول الأوركسترالية السمفونية بإيقاع مارش حاد وصوت مرتفع، رافعة درجة التأثير الانفعالي إلى درجة الغليان ومنهيًا بها الأغنية – اللوحة ، ونرى نفس الشيء في “ذكريات”، حيث يلعب الأوركسترا الكبير والتوزيع الأوركسترالي الضخم مع مشاركة الكورال دورًا كبيرًا أساسيًّا في البناء الدرامي، محولًا في هذين العملين جنين مونولوج سيد درويش إلى عمل درامي غنائي كبير “كانتاتة عربية” مع جميع عناصر الدراما الأوبرالية الضخمة.

نقطة6 : الغناء الدرامي المرسل الأوبرالي (Recitativo)

في مرحلة العشرينيات من القرن العشرين و في أثناء بداية سيطرة الطقطوقة على الحياة الموسيقية، لم يخضع سيد درويش لطغيان هذه المرحلة، بالرغم من تلحينه الكثير من الطقاطيق الرائعة -ما زالت حية لغاية اليوم- والتي تختلف عما كان سائدًا والتي كان يسود الكثير منها المستوى الهابط كلامًا ولحنًا وأداءً، بل استلهم التراث الغنائي كوسيلة مقاومة للسائد الهابط في تلك الحقبة، وكسر أيضًا نمطية اللحن العربي المبني على الجملة اللحنية المتلاحقة الدرجات غير المحتوية على الأبعاد الكبيرة، والتي يجب تقليديًّا أن تنتهي على درجة ركوز المقام (الدرجة الأولى)، كسر نمطية قواعد التلحين في لحنه المسرحي العظيم (أنا المصري – مسرحية شهر زاد -أول عرض 30/6/1920) ، كذلك في نشيد العظيم (قوم يا مصري ). وللتعبير عن اعتزازه وفخره بانتمائه للحضارة المصرية القديمة الممتدة عبر التاريخ (وذلك في الجزء الأول من أغنية أنا المصري) يوقف الزمن وذلك باستعماله الغناء المرسل، وكأن مصر هي التي تتكلم عن تاريخها العظيم. إلى جانب ذلك يستعمل، ولأول مرة في الموسيقى العربية، وبشكل تعبيري تصويري مبهر، الأبعاد الموسيقية الكبيرة غير التقليدية المتلاصقة، ويضيف إلى هذا الإنجاز وقفات غير تقليدية إطلاقًا في الغناء العربي، خاصة عند “بنيت المجد بين الأهرامين”، حيث يوقف عند الكلمة الأخيرة اللحن على الدرجة السادسة من مقام العجم (مقام الأغنية الإلقائية) ، مكررًا ذلك عند كلمة “الخصيب” في عبارة “ومجرى النيل في الوادي الخصيب” عارضًا ذلك في أداء ملحمي إلقائي لأول مرة في تاريخ الموسيقى العربية، إلى جانب مد الغناء على حروف العلة (الألف، والواو، والياء) على طريقة الغناء الأوبرالي، وذلك على حرفي الياء في كلمتين (الأهرامين، والخصيب) ، وفي كلمة “الكون” على حرف الواو، حيث تأتي الذروة اللحنية الغنائية للعمل على الدرجة الخامسة صعودًا من المقام، وأخيرًا على حرف الألف في آخر كلمة من الأغنية “تاني”، وينهي بهذه الكلمة هذه (الآريا) بقفلة أوبرالية صرف (كادنزا cadenza). ولندع محمد عبدالوهاب نفسه يتكلم عن هذا اللحن عند ما سمعه لأول مرة : “هربت لما سمعت هذا اللحن، وظللت هائمًا على وجهي طوال الليل، أردت أن أهرب من جلدي” . ولنلاحظ أعماق معنى العبارة الأخيرة “أردت أن أهرب من جلدي”، وفيها دلالة واضحة إلى معنى مستقبلي أنه أراد تغيير طرق التلحين السائدة. ونرى بدايات تأثر محمد عبدالوهاب بجديد سيد درويش هذا في قصيدة(ردت الروح- 1928) عند بيت “وبعثت الشوق في ريح الصبا … مشكا الفرقة مما استودعك”. ففي صدر البيت يعرض محمد عبدالوهاب المقام الجديد (النهاوند) بلحن تقليدي رائع ثم يبدأ بتفصيله في عجز البيت مستعملًا قفزات صوتية نزولًا ابتداء من البعد الثاني ويُتبعه بالثالث لغاية ما يصل إلى البعد الثامن (أوكتاف) نزولًا، أي على قرار المقام وعلى درجة ركوزه السفلي، عائدًا في كل بعد جديد للأسفل، إلى جواب المقام ولا يكتفي بهذه القفزات الصوتية  لتحت، بل يتوج هذه الجملة عند كلمة “استودعك” بقفزة صوتية من قرار المقام إلى الدرجة الرابعة بعد الجواب أي إحدى عشرة درجة كاملة (أوكتاف ونصف)، أما في قصيدة “أعجبت بي” 1935، فيدخل الغناء المرسل لأول مرة في القصيدة (بعد قصيدة عبده الحامولي) الوطنية “أراك عصي الدمع”، وإيقاعها الذي يشكل عمودها الفقري (إيقاع الوحدة الكبيرة)، ويستعمل محمد عبدالوهاب في “أعجبت بي” نفس الأبعاد الموسيقية المتباعدة الواردة في جملة “بنيت المجد بين الأهرامين” مع وقفتها، وذلك في جملة ” بين نادي قومها”. وينتقل الغناء المرسل مع محمد عبدالوهاب من مرحلة التأثر المباشر إلى مرحلة التطوير والإبداع ليصل إلى ذرى التعبير الوصفي التأملي كما في قصيدة (الصبا والجمال، يوم سعيد 1939)، والتعبير الرومانسي كما في مسمع “قيس وليلي” في مقاطع الحوار مع أسمهان في نفس الفيلم لغاية التعبير الدرامي المأسوي الرثائي كما في مونولوج (أيها الراقدون، دموع الحب 1935)، والتعبير الدرامي الفلسفي كما في قصيدة لست أدري “رصاصة القلب” 1944، والخطايا “لست ملاكًا” 1946. ولابد من ذكر تصوير حالة التضرع لله في جملة “يارب يخليكي يا أمي” من أغنية الأم الخالدة “ست الحبايب” بصوت فايزة أحمد، حيث يقفز اللحن تسع درجات (أي درجة بعد الجواب) تصويرًا لليدين المرتفعتين للدعاء والتضرع ولا -عند كلمة يارب- ينسى عنصر توقيف الزمان تصويرًا لمعنى معين كما ورد في “أنا المصري” عند كلمة “زمان” في بداية أول كوبليه من ست الحبايب “زمان سهرتي”، حيث يقف الإيقاع والغناء ونفس المستمع، فتتحول هذه الكلمة “زمان” إلى ومضة من الغناء المرسل تعبيرًا عن لحظة تتذكر فيها المطربة الماضي.

ويمتد هذا العنصر (الغناء الإلقائي المرسل recitativo) على تراث محمد عبدالوهاب في حالات تصويره لمختلف الحالات النفسية الإنسانية : من الحزن العميق الشفاف التأملي كما في (لست أدرى، والخطايا) إلى التصوير الرومانسي كما في المسمع الأوبرالي “قيس وليلي” ، والتصوير الدرامي المأسوي الرثائي كما في “أيها الراقدون”، مستعملًا في بعض هذه الأعمال الأوركسترا السمفوني الكبير كما في “ذكريات”، و “أغنية عربية”،… وغيرها من الأعمال الكبيرة.

(يتبع)……

اظهر المزيد

سليم سحاب

قائد اوركسترا وناقد وباحث ومؤرخ موسيقي - لبنان

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى