لمحة تاريخية
ظاهرة غريبة وكبيرة نلاحظها عن تأريخ الموسيقى المصرية. فهذا التأريخ يرجع إلى القرن التاسع عشر ويقف عنده. وإذا أردنا الغوص في أعماق التاريخ لشرح هذه الظاهرة لا نجد إلا بعض الأدبيات التي تصف الغناء والمغنيين وبعض الكتب التي تحتوي على نصوص أغاني تلك الفترة لعدم وجود رسائل التدوين والتسجيل في تلك الحقبة. لذلك سنبدأ بإلقاء ضوء على هذه الحقبة الغائرة في القدم كي نتعرف على بعض من تاريخ الموسيقى والغناء في مصر قبل القرن التاسع عشر.
لا شك أن زلزالا مدمرا عصف الحضارة العربية نتيجة ثلاث ضربات تلقتها في قلبها. أولى هذه الضربات سقوط بغداد وتدمير مكتبتها العظيمة وذلك على يد هولاكو سنة 1258 والتي كانت أعظم مكتبة في تاريخ البشرية. وقد أمر هولاكو برمي مخطوطاتها في نهر دجلة لتتحول مياهه إلى اللون الأزرق لمدة أشهر طويلة من لون الحبر الذي حطت بها. وكانت هذه المكتبة تضم، إلى جانب آلاف المخطوطات العربية المجتمعة، ترجمات كل نصوص الحضارة اليونانية الإغريقية القديمة التي كان الخلفاء يدفعون المترجمين وزنها ذهبا.
الضربة الثانية كانت سقوط غرناطة آخر معاقل العرب في الأندلس سنة 1492، نفس السنة التي اكتشف فيها كريستوفر كولومبوس أمريكا.
أما الضربة الثالثة التي قضت على آخر ما تبقى من الحضارة العربية فهو الاحتلال العثماني في البلاد العربية سنة 1501. وكانت لهذا الاحتلال عواقب مدمرة أذكر منها فقط منع طبع الكتب في السلطنة مدة ثلاثمائة عام مما جمد التقدم الحضاري في البلاد العربية في هذه الفترة. ولم ينج من هذه المذبحة الحضارية سوى لبنان وذلك لارتباط الأديرة المسيحية فيه مباشرة مع أوروبا.
وقصة هؤلاء المسيحيين الذين حافظوا على اللغة العربية طويلة. كانوا في الطائفة السريانية الكاثوليكية في سوريا وهربوا من الحكم العثماني ولجؤوا إلى لبنان واستوطنوا الجبال العالية العاصية على العثمانيين وسموا بالمردة. جاؤوا إلى لبنان بقيادة زعيمهم مارون فسموا بالموارنة. أسس الموارنة مطابعهم المستوردة من أوروبا في أديرتهم وبذلك لم تنقطع طباعة الكتب في لبنان كما حدث ذلك في باقي البلاد العربية، بما فيها مصر. هذه الضربات الثلاث القاصمة أدت كما يقول المؤرخ الكبير كمال النجمي، إلى تكوين مستنقع ألحان البدائية التي غرقت فيها الموسيقى العربية لمدة طويلة من الزمن. ويأتي التأكيد على ذلك في موسوعة “وصف مصر” التي وضعها العلماء الفرنسيون برئاسة العالم “فيوتو” في أثناء الحملة الفرنسية على مصر التي بدأت سنة 1798 والتي نقلها إلى العربية زمير الشايب. وقد ورد في الأجزاء المخصصة منها للموسيقى في مصر الجزأين الثامن والتاسع تقرير هام عن حالة الغناء المصري المتدهورة في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر.
إلى أن نصل إلى اسمين يقول التاريخ إنهما كوّنا سدا منيعا دون استمرار حال التدهور الموسيقي الغنائي في مصر، وهما الشيخ شهاب الدين محمد إسماعيل والشيخ محمد عبد الرحيم المسلوب، اللذان بفضلهما أخذ الغناء المصري ينهض منذ الربع الأول من القرن التاسع عشر. ويقول المؤرخ الكبير كمال النجمي في كتابه القيّم “تراث الغناء العربي” إن الشيخ شهاب الدين ” هو الذي رسم لمعاصريه صورة من التواشيح الأندلسية بتأليفه كتابا عظيم الأهمية اشتُهر باسم (سفينة شهاب) جمع فيه مئات التواشيح الأندلسية التي كادت أن تندثر، ولم يكن المغنّون والملحنون في أيامه يعرفون عنها شيئا .
أما الشيخ محمد عبد الرحيم المسلوب فقد سلك طريق صناعة وغناء الدور الذي وصل في نهاية القرن التاسع عشر إلى ذروة تطوره وكماله الفني مع محمد عثمان وعبده الحامولي كما أنه كان بارعا جدا في تلحين الموشحات.
نضيف إلى كل ذلك التراث المتوازن الذي حفظ المقامات والإيقاعات في مصر من الاندثار هذا التراث الذي يشمل الأغاني الشعبية ولاسيما في الأفراح والمآتم والعمل والأناشيد الجماعية.
كان تأثير الشيخين الأزهريين شهاب الدين والمسلوب هائلاً على مسيرة الموسيقى والغناء في القرن التاسع عشر. ولكن ما حكاية الشيوخ هذه. وما علاقتهم بالفنون في القرن التاسع عشر في مصر؟
جامعة الأزهر
من المعروف أن الأزهر هو أول جامعة عرفتها البشرية بمعناها الحالي، وقد تأسس في القرن العاشر الميلادي (سنة 972) ويسبق بذلك أول جامعة في الغرب وهي جامعة السوربون الفرنسية في باريس والتي أسسها سنة 1253 القسيس روبردي سوربون Robert de Sorbonne بمساعدة الملك الفرنسي. ويذكر التاريخ أن علماء الأندلس العرب المنتدبين من قبل الجامعة أسسوا في السوربون أول كليات العلوم الطبيعية والهندسة والفلك وكانوا يلقون فيها محاضراتهم باللغة العربية(!!؟!)
من أهم المواد التي كانت تدرس في الأزهر تجويد القرآن الكريم. وعلى مدى هذه القرون العشرة تبلورت هذه المدرسة وأصبح لها قوانينها الصارمة تذكرنا بقوانين مدرسة البوليفونيا الصارمة في بداية عصرها في الموسيقى الغربية الأوروبية في العصور الوسطى عندما كانت الموسيقى والتلحين والغناء (إلى جانب كل الفنون) حكرا على الكنيسة وتحت سيطرتها وتخضع لقوانينها الفنية المرتبطة بالقوانين الكنسية.
ومن أهم قوانين مدرسة التجويد القرآني:
- النفس الطويل: الذي يمنع المجود من التوقف كما يحلو له لمجرد احتياجه إلى تجديد نفسه. فالنفس أصبح مشروطا بطول الآية المجودة ولا يجوز التوقف في وسطها إلا في المحطات المسموح بها. هنا تأتى التقنية التي ابتدعها زرياب في الأندلس وهي استعمال الحجاب الحاجز لتطويل النفس والسيطرة على طوله واستعماله بتمكن وبحساب دقيق، هذه التقنية التي هي في أساس الغناء الأوبرالي الغربي لغاية الآن، تحت اسم بيل كانتوا الغناء الجميل.
- النطق السليم: حيث لا يجوز للمقرئ أن يتلو القرآن وهو يجهل الطريقة الصحيحة لنطق الحروف ومعرفته لمخارج الحروف الصحيحة فيخلط بين الحروف القريبة المخارج كالقاف والكاف مثلا وتستوي عنده الحروف المفخمة والحروف المرققة كالضاد والدال والصاد والسين.
- قوة الصوت: كما يستطيع المقرئ أن يوصل صوته إلى أكبر عدد من الناس، وذلك لغياب أجهزة تقوية الصوت الكهربائية في تلك العصور. هنا يأتي دور الحجاب الحاجز للتحكم بهذه القوة ومده بكمية الهواء الضرورية وبالمقدار المطلوب.
- معرفة المقامات: التي من دونها يصبح التجويد قراءه عادية، وإجادة تنغيمها إجادة تامة من غير نشاز.
- إجادة التحويلات المقامية إجادة تامة فالتلاوة: لا تجوز على مقام واحد بل يجب أن تنتقل بين مقامات عدة. ومع الوقت أصبح هذا التنقل مقننا لا يجوز العبث به فبداية التلاوة يجب أن تكون على مقام البياتي، يبدأ بعدها التنقل بين المقامات المختلفة. إن تقنين الانتقالات المقامية هذه حمل اسم “السكك المقامية ” وأصبح له قواعده الصارمة، فمن مقام معيّن لا يجوز الانتقال إلاّ إلى مقام آخر حسب سكة مقامية محددة مرتبطة بالمقام الأساسي.
- التمكن من العودة إلى مقام البياتي: الأساسي في آخر التلاوة مهما بعدت التحويلات والتلوينات المقامية عنه وتأتي العودة إلى المقام الأساسي(البياتي) في آخر التلاوة وذلك تمهيدا لتسليم عبارة “صدق الله العظيم”.
- الارتجال في التلاوة: نأتي هنا إلى أهم قاعدة من قواعد التلاوة. فالدين حرّم تلحين القرآن الكريم. ومعروفة قصة الأزهر مع الملحن العظيم زكريا أحمد عندما منعه من تلحينه. ما هو البديل؟ هنا تأتي قاعدة الارتجال النغمي واللحني في التلاوة أي التنغيم الآني عفو الخاطر دون الالتزام بلحن موضوع مسبقا.
ولكن ما صلة قواعد تلاوة القرآن الكريم بالغناء والتلحين؟ هنا يأتي الدور العظيم للأزهر في نشر العلم والمعرفة والتوعية والنهوض بالثقافة العامة. فقد كان الأزهر المكان الوحيد لتلقي العلم في هذه الحقبة الزمنية بعد الكُتاب وبذلك أصبح كل خريجي الأزهر يحملون لقب شيخ حتى الذين لم يتفرغوا للدين بعد تخرجهم. كذلك نرى أن كل طبقة المتعلمين والمثقفين في تلك الحقبة هم خريجو الأزهر ويحملون لقب شيخ ويذكر التاريخ أن من أهم من نظم كلام أغاني عبده الحامولي أعظم مطربي القرن التاسع عشر عدد من المشايخ الكبار نذكر منهم علي الليثي وعلي أبو النصر وعبدالرحمن قزاعة مفتي الديار المصرية في ذلك الوقت.
ولم يقتصر دور الشيوخ في تلك الحقبة على نظم كلام الأغاني بل تعداها إلى التلحين. فمعظم الموشحات التي نعرفها وتنتسب إلى القرن التاسع عشر غير المعروفة الملحن هي من تأليف وتلحين شيوخ رفضوا وضع أسمائهم على موشحات يأتي في أشعارها ذكر الخمر والحب والحبيب والعشق والحرمان وما إلى ذلك.
ومع الوقت انفصل الشيوخ خريجو الأزهر عنه وبدأوا يشكلون طائفة من المغنين وهم العارفون بكل أسرار الغناء التي تعلموها من خلال دروس تلاوة القرآن الكريم في جامعة الأزهر وممارستها لسنين طويلة.
هنا يأتي سؤال مهم: كيف ظهر المطرب المحترف وصناعة الغناء؟ ومن ظهر قبل من؟ المطرب أم الملحن؟ والكلام هنا عن الموسيقى المحترفة Professional، طبعا وعن الغناء أيضا.
إن دور الارتجال في تلاوة القرآن الكريم في تحديد العلاقة الوثقى والفروق بين المغني والملحن هو الفيصل في هذه المسألة. فإذا كان الارتجال هو السبيل الوحيد لتلاوة القرآن الكريم على مقامات معينة فقد تحول بذلك إلى القاعدة الكبرى والمدرسة الكبرى التي خرّجت جميع مطربي القرون الماضية بما فيها القرن التاسع عشر. وهكذا بدأت الأمور تختلط بين التلحين والغناء، فأصبح الصوت الجميل يكتفي بجملة لحنية صغيرة يبني عليها أغنية كاملة وذلك بالارتجالات التي أصبحت تشكل القسم الأكبر من الغناء ومن الشكل الغنائي الموسيقي. وهكذا تحول المطرب إلى ملحن. وتحول الغناء وبالذات الارتجال الغنائي إلى رحم تكون فيه جنين التأليف الموسيقي المستقبلي المصري لأعظم قالب موسيقي غنائي في القرن التاسع عشر والذي يعتبر أهم القوالب الموسيقية الكلاسيكية في تاريخ الموسيقى العربية قاطبة: الدور الوليد إلى جانب الموشح المتوارث أهم قوالب التأليف الموسيقي الغنائي في القرن التاسع عشر وإذا كان قالب الموشح وصل إلى القرن التاسع عشر كاملا بأقسامه الأربع: دو – دور -خانة -غطاء وأنا أسميها: أ- أ-ب-أ وذلك لكون الأقسام الأول والثاني والرابع تأتى عادة لنفس اللحن كما في قالب السوناتا في الموسيقى الكلاسيكية الغربية. والقسم الثالث ب يحمل التطويرات كلها: المقامية والإيقاعية والارتجالية واللحنية. أقول إذا كان قالب الموشح وصل إلى القرن التاسع عشر كاملا فإن الدور أول ما عرفناه من شيخ ملحني القرن التاسع عشر عبد الرحيم المسلوب(1798-1928) مر بمراحل تطوير كثيرة قبل أن يستقر على شكله النهائي مع محمد عثمان(1855-1900). وبهذا يكون الدور مع الموشح الأساسي التي قامت عليه مدرسة التلحين العربية في مصر في القرن التاسع عشر. وقد بقي تأثير هذين القالبين لغاية آخر الربع الأول من القرن العشرين. وإلى جانب الموشح والدور في تلك الحقبة كان هناك قوالب أخرى كان لها أهميتها الكبرى في مسيرة التلحين: الطقطوقة التي انتشرت انتشارا هائلا في عشرينات القرن العشرين على يد محمد علي لعبة الموال والليالي الذي كان جزءا مهما من الوصلة الغنائية.
كان تطور المدرسة الغنائية المصرية في القرن التاسع عشر طويلا فكانت مدرسة الصهبجية أولى المدارس الغنائية التي ظهرت وفرضت نفسها بالرغم من بدائيتها من الناحية الشعرية والموسيقية وكان مغنوها أميون من عامة الشعب وكان على رأس هذه المدرسة سعد دبل ومحمد الحصري. وكان المستوى الثقافي والفني لهذه المدرسة متدنيا لكن مع تطور هذه المدرسة وصل بها الحال مع وجود الشيخ الشلموني والمسلوب إلى أعلى درجات الفن الراقي مع عثمان (1855-1900) وعبده الحامولي (1840-1901) اللذين أوصلا الموشح والدور إلى أعلى درجات تطورهما خاصة في تراث محمد عثمان وأدواره الخالدة: كاد في الهوى، عشنا وشفنا، ياما أنت واحشني، أصل الغرام نظرة وغيرهم وموشحاته العظيمة : ملا الكاسات وأتاني زماني وغيرهما. وتلك الفترة (نهاية القرن الثامن عشر) ظهر قالب كان له أشد الأثر في تطوير الموسيقى العربية وهو القصيدة. ومن أوائل القصائد التي تعرفها من الأسطوانات التي بدأ طبعها في مصر سنة 1903 قصيدة أراك عصي الدمع شعر أبي فراس الحمداني وقد سجلتها أم كلثوم سنة 1928 بعد وفاة معلمها أبي العلا محمد سنة 1927. إن أهمية هذه القصيدة تأتي من أنها أول قصيدة معروفة في تاريخ الموسيقى العربية حيث يصاحب العزف والغناء إيقاع الوحدة الكبيرة. وأكبر برهان على أن الإيقاع كان في أساس تلحين القصيدة ولم يدخل إليها في تسجيل أم كلثوم هو أن كلام القصيدة مقطع حسب إيقاع الوحدة الكبيرة. إلى جانب القصيدة الموقعة كانت هنا القصيدة المرسلة أي التي تغنى من غير آلة إيقاع والآتية مباشرة من رحم التجويد القرآني، والذي أبدع فيها المغني المسرحي الكبير الشيخ سلامة حجازي.
إن ما وصلت إليه الموسيقى العربية في بداية القرن العشرين والتي سلمها زعماء القرن التاسع عشر عثمان والحامولي إلى جيل الجديد من الملحنين الشباب كان نتيجة التزام هذين العظيمين بما سبقهما من تراث الملحنين السابقين لهما منذ بداية النهضة الموسيقية الغنائية في الربع الأول من القرن التاسع عشر على يد محمد عبد الرحيم المسلوب والشيخ شهاب الدين محمد إسماعيل.
الشيخ سيد درويش
ولد سيد درويش سنة 1892 (نفس سنة ميلاد محمد القصبجي). وإن كان الشيخ سيد درويش لم يلحن القصائد فإن معرفته بالأدوار والموشحات السابقة كانت كبيرة لدرجة سمحت له بتطوير هذه الأشكال وتركها للجيل الذي جاء من بعده وتعتبر هذه الأدوار والموشحات إلى جانب الأغنية المسرحية (التي سيأتي الكلام عنها) أهم ما ترك سيد درويش للجيل اللاحق وأهم ما أخذه من الجيل السابق. فقد طور سيد درويش من قالب الدور وقالب الموشح وقننهما بشكل نهائي بعد التطويرات الأخيرة التي أدخلها عليهما محمد عثمان. فأصبح قالب الموشح في معظم موشحات سيد درويش يتبع صيغة أ-أ-ب-أ وقد شرحت سابقا هذه الصيغة. كذلك نفس الصيغة أثبتها نهائيا على قالب الدور. ويجب أن يقال إن كل تطويرات سيد درويش لهذين القالبين أحدثها محافظا على الشكل والمتوارث لها. أذكر هنا أهم أدواره المعروفة: أنا هويت – أنا عشقت- ضيعت مستقبل حياتي – الحبيب للهجر مايل – وقد وصل عددها إلى عشرة أدوار. أما أهم موشحاته فهي: منيتي عز اصطباري – يا بهجة الروح – صمت وجدا- سل فينا اللحظ. وقد ركّز وبلور سيد درويش قالب الموشح إلى أقصى الحدود وتمتاز كلها بالقالب الكامل للموشح أ-أ-ب-أ حتى في أقصرها موشح سل فينا اللحظ الذي لا يتعدى وقته الخمسين ثانية. إلى جانب القوالب الكلاسيكية التقليدية أبدع سيد درويش في تطوير الطقطوقة، وسكب كل عبقريته في الأغنية المسرحية التي كانت أساسا للأغنية السينمائية فيما بعد.
إن سيد درويش هو القاعدة الصلبة التي قامت عليها المدرسة الموسيقية العربية الحديثة عموما والمصرية بشكل خاص. ولعل أهم إنجاز قام به سيد درويش إلى جانب ما ذكرنا هو تخليص الموسيقى المصرية من اللكنة التركية للمغنيين المسترزقين وذلك بواسطة خطه الشعبي الخالص. ولئن كانت هذه نتيجة الضخمة جدا من حيث ارتباطها بشخص واحد خاصة أن مدة عطائه الفني كانت ست سنوات فقط، إلا أن سيد درويش استطاع إنجازها بطريقة بسيطة جدا وعبقرية في نفس الوقت: فقد تبع الناس في الشوارع وسمع غناءهم الشعبي الخالص(فالشعب يحافظ دائما على نقاء تراثه) واستعمله في موسيقاه في أغنيات سيد درويش سقط بشكل عفوي من ضميره ووجدانه كل ما هو من تراثه بما فيه الخط التركي الدخيل على الموسيقى المصرية بكلمة واحدة: أعاد سيد درويش للشعب ما أخذه منه.
محمد القصبجي
ولد القصبجي كما ذكرنا في نفس سنة ميلاد سيد درويش بل وللدقة بعده بتسعة وعشرين يوما فقط : 15 نيسان/أبريل 1892، ولم يبدأ عطاءه الفني الكبير إلا بعد وفاة الشيخ سيد سنة 1923.
كان لارتياد القصبجي المتواصل مع سيد درويش ومحمد عبدالوهاب دار الأوبرا القديمة (1869-1971) واطلاعه معهم على الموسيقى الكلاسيكية الأوروبية وبالذات الغنائية منها وأقصد استماعه لأمهات الأوبرات الأوروبية من أعمال فيردي وروسينى وليونكافالو بوتشيني وغيرهم، كان لارتياده أكبر الأثر على تطور وتغير المبادئ الجمالية عن القصبجي وابتعاده نسبيا عن المبادئ الموسيقية للقرن التاسع عشر(الموشح والدور) واعتناقه مبادئ جديدة أكثر تطورا قائمة على التأثير بإنجازات الموسيقى الأوروبية الكبيرة وأقصد الكتابة الأوركسترالية الكبيرة والقوالب الموسيقية الجديدة ولم يشذ عن هذه القاعدة محمد عبد الوهاب و سيد درويش قالبا جديدا غنائيا في أغنية “والله تستاهل يا قلبي” المتأثر جدا بقالب الآريا Aria الأوبرالية وهي قالب من الغناء الفردي يعرض الملحن من خلاله علاقة البطل بالأحداث الدرامية للأوبرا وبالأبطال الآخرين. فكانت هذه الأغنية (والله تستاهل يا قلبي) الأغنية التي انطلق منها محمد القصبجي ليبدع أهم إنجاز في حياته الموسيقية وهو قالب المونولوج وهو عبارة عن عمل موسيقي غنائي أهم عناصره هو السرد الموسيقي حيث لا تستعاد فيه الجمل الموسيقية التي وردت. إنجاز آخر أبدعه القصبجي موازٍ لقالب المونولوج الوليد هو إدخال التوزيع الهارموني على هذه المونولوجات واضعا بذلك القاعدة الذهبية للتوزيع الذي يخدم ويعمق الجماليات اللحنية ولا يشده مطلقا اللحن نفسه. وبرزت جماليات هذا العنصر الجديد وأقصد التوزيع الموسيقي في أغنياته لأم كلثوم وغيرها وما لنا إلا أن نذكر أغنياته لليلى مراد: ادفع طلع، اضحك كركر، أنا قلبي دليلي، مش ممكن أقدر أصالحك، بتبصلي كده ليه وأغنيته الخالدة لأسمهان يا طيور. لكن التزامه بالخط التراثي نجده، بالرغم من التطور الكبير الذي طرأ على أسلوبه اللحني، نجده في أغنياته أنا اللي استاهل واسقنيها وليت للبراق عينا بصوت أسمهان.
زكريا أحمد
بقي زكريا أحمد المتأثر الأكبر من الجيل الجديد بمدرسة القرن التاسع عشر وأهم صفات هذا الاتجاه التقليدي لأسلوبه اللحني هو عدم اهتمامه بالكتابة الموسيقية الأوركسترالية فالموسيقى والفرقة الموسيقية هما عبارة عن خلفية لا غير للصوت البشري والمغني الذي هو محور العمل الموسيقي في مدرسة القرن التاسع عشر. وكان يرد على منتقديه بعدم وجود لوازم موسيقية كبيرة في أعماله بقول لا يخلو من التهكم: “أنا ما بحبش اللازمة اللي ملهاش لازمة” وهذا ما جعل محمد عبدالوهاب زعيم الخط التطوري الكبير في الموسيقى العربية يقول عن الشيخ زكريا مدحا في باب الذم: “الشيخ زكريا هو متحف الموسيقى العربية”. فإذا كان القصبجي قد ابتعد عن تلحين الأدوار والموشحات، فقد كان زكريا أحمد أهم ملحن أدوار في هذه المدرسة الجديدة ومالنا ألا نذكر الأدوار الآتية: هو ده يخلص من الله، يا قلبي مالك، ياللي تشكر من الهوى، مين اللي قال، ابتسام الزهر، امتى الهوى يجي سوا، عادت ليالي الهنا غيرهم بصوت أم كلثوم غير الأدوار التي لم تغنها أم كلثوم: إن كان فؤادي بصوت ليلى مراد الذي يحتوي على تجديدات كبيرة في المضمون الموسيقي بالرغم من محافظته على الشكل الخارجي للدور، ودورين سجلهما بصوته المطرب: الفؤاد ليله ونهاره ودور وإنت فاهم. وبالرغم من اهتمامه بالقوالب المتوارثة: الدور والموشح فقد تابع زكريا أحمد أحد أهم روافد الموسيقى العربية الحديثة : المسرح الغنائي مكملا بذلك خط سير درويش في ذلك المجال الذي أخذه بدوره عن أحمد أبو خليل القباني الدمشقي الذي أسس في سنة 1860 أول مسرح غنائي عربي في الإسكندرية وقد لحن زكريا أحمد 54 مسرحية غنائية . إن كل هذه الصفات إذا جمعناها في واحدة تجعل الصفة الأساسية لزكريا أحمد: صاحب الخط التراثي الكلاسيكي التقليدي” وقد أطلقت عليه لقب: امتداد القرن التاسع عشر في القرن العشرين. وللتوضيح النهائي لهذه الصفة مالنا إلاَ أن تقارن أغنية محمد عبد الوهاب الصبا والجمال(1938) بآخر لحن لزكريا أحمد: هو صحيح الهوى غلاب(1961).
رياض السنباطي
إن ميلاد رياض السنباطي في سنة 1906 يجعله أصغر زملائه في هذه الفترة الموسيقية العربية الجديدة: سيد درويش ومحمد القصبجي (1892) محمد عبد الوهاب(1898) وبالتالي فإن انتماءه الموسيقي والوجداني لا يقتصر على ارتباطه بمدرسة القرن التاسع عشر الموسيقية بل أيضا بزملائه العمالقة الذين سبقوه في الحياة وفى الإبداع لذلك يمكننا أن نطلق عليه صفة صاحب الخط التراثي المتطور.
إن تأثر السنباطي بمدرسة القرن التاسع عشر كان من منطلق عام وليس تأثرا ضيقا بالقوالب الموسيقية لهذه المدرسة لذلك لم نعرف أدوارا ولا موشحات من ألحانه. لكن تأثره الكبير بهذه المدرسة واضح وجلي في أسلوبه اللحني وفى مقاماته المستعملة وفى السكك المقامية المستعملة في التطوير اللحني بأعماله قاطبه. أما تأثره بزملائه العمالقة فيبدو واضحا باتجاهه بتلحين المونولوج وقد أبدع في أول مونولوج لحنه لأم كلثوم “النوم يداعب عيون حبيبي” الذي نستطيع أن ننسبه بكل بساطة لمبدع هذا القالب محمد القصبجي. أما في القصائد وهو المبدع الكبير فيها فإن تأثره الكبير واضح بالخط التطويري الكبير الذي أبدعه محمد عبد الوهاب ابتداء من 1927 سنة وفاة مبدع القصيدة الحديثة أبو العلا محمد منطلقا من تراثه، ومكملا التطوير لغاية 1935 عندما أحدثت قصيدته “أعجبت بي” انقلابا في تلحين القصيدة حيث دخل الغناء المرسل إلى جانب الغناء الموقع مع الوحدة الكبيرة الذي ابتدعه عبده الحامولي (قصيدة أراك عصي الدمع – صوت أم كلثوم) وأكمله أبو العلا محمد لغاية 1927 حين استلم محمد عبد الوهاب منه الراية وأكمل مسيرة تلحين القصيدة. هنا لابد أن نذكر القارئ أن الغناء المرسل في القصيدة نعرفه من قصائد الملحن والممثل المسرحي الكبير سلامه حجازي التي غناها في مسرحياته الغنائية. هذا من ناحية الخط التراثي. أما من ناحية الخط التطوري فقد أخذه السنباطي من خلال تأثره بمحمد القصبجي ومحمد عبدالوهاب ومالنا إلاّ ذكر أغنيات السنباطي لليلى مراد: إحنا الاثنين وتانجو الحبيب(غناء ليلى مراد) ونقارنها بأغنيات القصبجي ليلى مراد: مش ممكن أقدر اصالحك، بتبص لي كده ليه، أنا قلبي دليلي، اضحك كركر وكلها بصوت ليلى مراد. أما تأثر السنباطي بمحمد عبدالوهاب فيبدو واضحا في أسلوبه بتلحين القصائد وخاصة قصيدة الرباعيات التي جاء فيها بشكل واضح تأثره بقصيده يا حبيبي أقبل الليل(علي محمود طه – نادرة) من ألحان محمد عبدالوهاب وتأثره الكبير بقصيدة محمد عبدالوهاب(أحمد رامي) أيها الراقدون تحت التراب في قصيدته العظيمة أيها النائم(أحمد رامي-أسمهان) وتأثره الكبير أيضا بنشيد أيها الخفاق لمحمد عبدالوهاب الذي نراه واضحا في نشيد الجامعة(يا شباب النيل). أخيرا وفيما يختص بتراث رياض السنباطي التراثي المتطور. يجب فرز تراثه إلى خطين كي تتضح أبعاد هذه التسمية. الخط الأول “التراثي” الذي يرتبط بصوت أم كلثوم من أول لآخر أغنية لحنها لها “رياض السنباطي الكلثومي” والتي استطاعت فيها بشخصيتها الفنية الإنسانية القوية وبصوتها الأسطوري استطاعت أن “تكلثم” هذا العملاق.
أما الخط “المتطور” فيظهر بوضوح في ” رياض السنباطي غير الكلثومي” في أغانيه لأسمهان: أيها النائم ونشيد الأسرة العلوية العبقري الذي اقتُطع من فيلم غرام وانتقام بعد قيام ثورة يوليو1952 وليلى مراد في أغانيها: إحنا الاثنين، اللي في قلبه حاجه يسألني، الحبيب، مين يشتري الورد مني، يا حبيب الروح وغيرها وأغانيه لسعاد محمد: أنا وحدي، فتح الهوى شباك، القدس، يا مجاهد في سبيل الله وغيرها من الأغنيات لصباح وفايزة أحمد وشهر زاد وفتحية أحمد ونجاه الصغيرة ونور الهدى وهدى سلطان وعبدالمطلب وعبدالغني السيد وغيرهم وغيرهم، فقد استطاع السنباطي في هذه الأغاني أن “يُسنبط” أصوات من غناها. ولابد أخيرا من ذكر ركن هام من تراث السنباطي تلك الأغاني التي غناها بصوته وعلى رأس هذه المجموعة تأتي تحفة فنية: قصيدة الفجر، قصيدة أشواق وعلى وعودي وقصيدة من سحر عنيك الأمان الرائعة(غنتها أيضا نجاح سلام) وإله الكون وربي سبحانك دوما . وما دمنا قد ذكرنا نجاح سلام فلابد أن نذكر النشيد العظيم أنا النيل مقبرة للغزاة.
محمد عبد الوهاب
إن ارتباط محمد عبدالوهاب بالتراث الموسيقي المصري لم يقتصر فقط على التأثر الوجداني وانتمائه القومي لهذه المدرسة بل تخطى ذلك بتسجيله بصوته دررا من هذا التراث موجودة عند كل هواة جمع التسجيلات الغنائية وبالذات محبي عبدالوهاب: قصيدة ويلاه ما حيلتي وقصيدة أتيت فألفيتها ساهرة لسلامة حجازي سجلها سنة 1921(كان في الثالثة والعشرين من عمره) وموشح ملا الكاسات لمحمد عثمان سجله سنة 1923. والدليل الأكبر على ارتباط محمد عبدالوهاب بالتراث أنه لحن خمسة أدوار: أحب أشوفك(1928) – عشق روحك (1930) – القلب ياما انتظر(1931) – حبيب القلب(1932) يا ليلة الوصل اشني(1926) سجل نصفه فقط.
وبالرغم من طبيعية محمد عبد الوهاب التواقة للتجديد فقد لحن هذه الأدوار دون أن يغير في قالبها شكليا أي شيء كان التطوير فقط من ناحية المضمون كما فعل برامز في الموسيقى الكلاسيكية الأوروبية بتجديده لمضمون السمفونية دون المساس بقالبها. إلى جانب هذه الأدوار هناك دور سادس “لو كان فؤادك يصفالي” غناه على الهواء عدة مرات ولم يسجله ونعرفه بصوت جلال حرب في مصر وبصوت نور الهدى في لبنان وقد علمها الدور المطرب والحافظ الكبير للتراث إلياس القطريب ابن عائلة القطريب اللبنانية الشهيرة. وقد أكد لي الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب بأن تسجيل نور الهدى أقرب إلى الأصل من تسجيل جلال حرب. ولم يلحن محمد عبد الوهاب أو يغني غير هذه الأدوار لإحساسه بأن انتمائه لمدرسة القرن العشرين وعلى رأسها سيد درويش أقوى من انتمائه لمدرسة القرن التاسع عشر. لذلك أيضا لم يلحن الموشحات المعقدة. ولكن عدم تلحين محمد عبد الوهاب للموشحات لا يعني إطلاقا عدم معرفته بها وبإيقاعاتها وهو الذي تربى أساسا على كل من سبقوه بما في ذلك من أدوار و موشحات ولقد ذكرنا تسجيله بصوته لموشح “ملا الكاسات” لمحمد عثمان على إيقاع السماعي الثقيل 8/10 مع بداية يغنيها على طريقة الليالي (يا ليل يا عين) بينما الفرقة تعزف على إيقاع الأقصاف 8/9 ليدخل بعدها مغنيا الموشح على إيقاع السماعي الثقيل. وإذا كان محمد عبد الوهاب لم يلحن الموشح بسبب التطور الذي ساهم فيه مساهمة كبيرة واستمدت فيه قوالب وأشكال غنائية موسيقية جديدة وأبعد أخرى عن الممارسة الغنائية والتلحينية ومنها الموشح، فإن أعماله مليئة بالإيقاعات الكبيرة المعقدة، إيقاعات الموشحات ولكن في الأشكال والقوالب الغنائية الجديدة التي جاءت مع التطور الطبيعي للتلحين والغناء.
أغنية “عندما يأتي المساء” وبعد الجملة المرسلة “كلما وجهت عيني نحو لام المحيا تأتى جملة ” لم أجد في الأفق نجما واحدا يرنو إلي، على إيقاع دور هندي 8/7 نفس إيقاع وموشح “صحت وجدا لسيد درويش وقد جاء واضحا جدا وإن لن تعرفه آلة إيقاع بشكل ظاهر وشكلي.
نفس الإيقاع دور هندي 8/7، كذلك جملة ليلى مراد “انت قاسيت من بعادي” وفى أغنيته “كثير يا قلبي الذل عليك” نجد أن الإيقاع المسيطر على النصف الأول من الأغنية هو إيقاع الإقصاف 8/9 ونرى إيقاعا آخر في أغنيته الشهيرة “امتى الزمان ” فالمقطع الأخير كله” يا هل ترى يا زماني” مبني على إيقاع السماعي الثقافي 8/10 نفس إيقاع موشح ” ملا الكاسات”، كما أننا نرى إيقاعا نادر الاستعمال في حواريته المتطورة “حكيم عيون” فعند عبارة ” قاسيت كثير منهم” يأتي اللحن مسكوبا على إيقاع الزرافات 16/10 ويحمل نفس ضغوط، إيقاع السماعي الثقيل ولكنه أسرع ونرى مرة أخرى إيقاع الأقصاف 8/9 في الأغنية المونولوج “اللي يحب الجمال” عند جمله ” ياللي ما دقت الغرام” وفى دور حبيب القلب وعند جملة ” واسيني يوم فرح قلبي” نسمع بوضوح إيقاع دور هندي 8/7 . ولم يترك محمد عبد الوهاب إيقاعات الموشحات حتى في المرحلة المتقدمة من نشاطه التلحيني: ففي أغنيته لأم كلثوم انت الحب(1965) وعند جملة “كله يهون في حبك كله يهون” يستعمل محمد عبد الوهاب إيقاع دور هندي 8/7.
هذا عن ارتباط محمد عبد الوهاب بتراث القرن التاسع عشر. أما ارتباطه بتراث سيد درويش فحدث ولا حرج وهو القائل: أنا درويشي حتى العظام.
فقد فهم محمد عبد الوهاب بعبقرتيه أن أعظم ما فعله سيد درويش والانقلاب العظيم الذي نفذه في الموسيقى العربية هي أغانيه المسرحية التي ضمنها كل تجديداته في الموسيقى العربية وقد لخص هذه الثورة بجملة قصيرة: إذا أردت أن تعرف ماذا فعل سيد درويش اسمع كيف كانوا يلحنون على أيامه. ومن أهم إنجازات سيد درويش في التلحين ونتيجة لسماعه الدائم للأوبرات الغربية في دار الأوبرا القديمة كانت اقتباس الدويتو من الأشكال الغنائية الأوبرالية واعتماده في مسرحياته مثل ثنائية على قد الليل ما يطول وأهمية هذا النوع من التلحين أنه يتناول حوارا بين رجل وامرأة فتختلف أو يجب أن تختلف رؤية الملحن بين اللحن “الرجالي” واللحن “النسائي”. بدأ محمد عبد الوهاب رحلته الغنائية بأربع أغنيات مع نعيمة المصرية من ألحان محمود رحمي وهي الأغنيات الوحيدة غير المذكورة سابقا التي غناها من ألحان غيره. وغنى هذه الأغنيات الأربع سنة1923 سنة وفاة سيد درويش: نوبه على كبري قصر النيل – والله زمان يا خفافي- الله يجازيك يا ودانية- يا مين يحكم بيني وبينك بعد ذلك انتظر محمد عبدالوهاب دخوله عالم السينما كي يلحن ويغني دويتات وحواريات مع أبطال أفلامه من المطربات: حواريتي طال انتظاري ويادي النعيم مع ليلي مراد من فيلم لست ملاكا(1946) دويتو آن الأوان مع رجاء من فيلم ممنوع الحب(1942) دويتو “حكيم عيون” وحقولك ايه عن أحوالي مع راقيه إبراهيم من فيلم رصاصة في القلب(1944) وأخيرا أعظم هذه الحواريات المسمع الأوبرالي قيس وليلي مع أسمهان من فيلم يوم سعيد(1939). وكان أكثر من أثر على محمد عبد الوهاب من سابقيه هو من دون أي شك سيد درويش في دراسة أعدها، مقارنة بين الثمانية عشرة نقطة التي طور من خلالها سيد درويش الموسيقى العربية وبين الأعمال التي تأثر فيها محمد عبد الوهاب بتطويرات سيد درويش هذه لنعلم أنه أهم وأعمق من فهم كل التطويرات التي أدخلها سيد درويش على الموسيقى العربية ناقلا إياها من القرن التاسع عشر إلى القرن العشرين ليصبح التأليف الموسيقي هو الرائد بعدما كان الصوت والغناء هما عصب مدرسة القرن التاسع عشر الموسيقية. هنا لابد أن نذكر لمحة ذكاء من محمد عبد الوهاب عندما شارك في تلحين ” اسأل دموع عيني” لوردة في فيلم ألمظ وعبده ولتقريب الأغنية من الفترة الزمنية لعبده الحامولي استعمل محمد عبدالوهاب في مقدمة الأغنية جملة من دور كاد في الهو لمحمد عثمان زميل الحامولي في نفس الفترة وهو أحد الأدوار لمحمد عثمان التي كان الحامولي يغنيه في حفلاته.
محمود الشريف ومحمد الموجي وكمال الطويل وبليغ حمدي
ولد هؤلاء الكبار في فترات من القرن العشرين تبعد عن بداية القرن وبذلك كان تأثير مدرسة القرن التاسع عشر عليهم أقل من تأثير عمالقة القرن العشرين خاصة القصبجي ومحمد عبدالوهاب والسنباطي وسيد درويش ولكن هذا لا يمنع من إيجاد تأثيرات المدرسة القديمة(القرن التاسع عشر) في أعماله بل في لحنه لعبد الحليم حافظ “يا سيدي أمرك” يفاجئنا محمود الشريف بمعرفته العميقة بالتراث القديم وبالذات بالموشحات والأدوار وبطريقة ربطه للألحان القديمة التي وردت فيها من دون أي تغيير في قالبه العصري الذي جمع كل هذه الأغنيات: موشح بالذي اسكر من عرف اللمى، أنا قلبي عليك، حبك يا سيدي، وحقك أنت المنى والطلب فقد جمع في بوتقة واحدة موشحا وقصيدة ودورين وربطهما ربطة عارف بكل خفايا المدرسة القديمة والحديثة. وإذا جئنا إلى كمال الطويل نجده مرتبطا بشدة بمدرسة القرن التاسع عشر ونجده مرتبطا بشدة بسيد درويش ومالنا إلا مقارنة عبارة “هي الكلمة” من أغنيته لعبد الحليم حافظ “قلنا جبني” بعبارة “يا محلا نورها” من “طلعت يا محلا نورها” لسيد درويش لنري مدى القربى بين هذه الجمل الموسيقية.
أما عن الموجي فحدث ولا حرج، حيث نرى الخطين التراثي والمتطور قريبين بشكل متوازٍ فبينهما نجد الخط التراثي في أغاني مثل: “محلاك يا مصري وانت على الدفة”، “للصبر حدود”، “اسأل روحك” نجد الخط المتطور في أغاني مثل “ظالم- بتقولي بكرة- ياموعداني بكره- رسالة من تحت الماء- قارئة الفنجان.
ونجد عنده أعمالا تجتمع فيها المدرستان التراثية والمتطورة: موشح “كامل الأوصاف وموشح” يا مالكا قلبي حيث يستعمل طريقة تلحينه للموشح مذكرا بذلك بالطريقة القديمة لغناء الموشحات المعتمدة على الارتجالات الغنائية بشكل أساسي.
أما بليغ حمدي فقد يكون الملحن المصري الأكثر مصرية وأكثرهم بعدا عن الكلاسيكية العربية ونجد هذا الطابع المصري الصرف في كل ألحانه بالذات التي يعتمد فيها على الفلكلور المصري المتمثل بكلام عبد الرحمن الأبنودي خاصة التي يتناول فيها الأغنيات الشعبية المصرية مثل التوبة “وأنا كل ما أقول التوبة يا بوي” فكانت هذه الأغاني المعتمدة على الفلكلور المصري أنجح أغنيات عبد الحليم حافظ في حفلاته الغنائية ومازالت لغاية الآن تلاقي حماسا جماهيريا في الحفلات التي تقدم فيها، هي وأغنياته لأم كلثوم.
أين نحن الآن؟ إذا رجعنا إلى ما بدأناه الأجيال المتعاقبة منذ الشيخ شهاب الدين محمد إسماعيل والشيخ محمد عبد الرحيم المسلوب منذ بداية الربع الثاني من القرن التاسع عشر قد سلم الراية للجيل الذي بعده لغاية ما وصلت الأمانة إلى كمال الطويل ومحمد الموجي وبليغ حمدي الذين سلموا أمانتهم للجيل الجديد الحالي ماذا سيسلم هذا الجيل إلى الجيل القادم؟ الإجابة قاتمة. بل قاتمة جدا.