فيما كنت أبحث في مكتبتي عن كتب لم أرها في المكتبة من زمن بعيد، وكنت أظنني قد فقدتها، وجدت كتيبا وملفا. الكتيب كان نص مسرحية الفنان اللبناني الكبير منصور رحباني “آخر أيام سقراط” التي قدمها مع فرقته على مسرح دار الأوبرا المصرية في رمضان سنة 1999. ولما تصفحت الكتيب وجدته مليئا بملاحظاتي الشخصية الكاملة عن المسرحية التي دونتها عليه في أثناء حضوري المسرحية ما يجعلها أهلاً لأن تتحول إلى دراسة كبيرة عن المسرحية سوف أكتبها قريبا إن شاء الله. أما المجلد فهذه قصته:
في آخر رحلة لي مع الفرقة القومية العربية للموسيقى إلى الكويت في التسعينات من القرن المنصرم، هذه الفرقة التي أسستها في دار الأوبرا المصرية وترأستها سنة 1989 وتركتها للقادة الشباب من الفرقة سنة 2014 بعد 25 سنة من قيادتي لها، في هذه الرحلة اتصل بي أحد المواطنين الكويتيين ويدعى عبدالله صايغ ودعاني لزيارته في منزله ليريني أشياء مهمة موجودة عنده. بصراحة، ومع اعتذاري للسيد عبدالله، لم أنو القيام بهذه الزيارة لضيق الوقت أولا، ثم لشكي في أن السيد عبدالله سيريني شيئا مهما فكيف بالأشياء كما وعد. لكن الفضول غلبني أخيرا وقررت أن أقتطع من الوقت المتبقي لي لأزور هذا الرجل احتراما لرغبته بعد إصراره العجيب.
وما أن دخلت منزله حتى شعرت بأني في محراب لفن سيدة الغناء العربي أم كلثوم، وكأن المكان لم يكن مكان سكن الرجل مع عائلته، بل شقة خاصة للسماع، سماع أم كلثوم فقط. الجدران مليئة بصورها: قديما وحديثا، مع آلات موسيقية: أعواد وغيرها. دخلنا المحراب الأساسي: غرفة السماع وإذا بها مليئة بأنظمة الصوت وآلات السمع: آلات تسجيل كاسيت، وآلات تسجيل بكر، ومسجلات سلك ماركوني وبسترشيكاجو والتي يصل وزنها لعشرات الكيلوجرامات، وآلات سماع الأسطوانات المدمجة المضغوطة(C.D). كانت المفاجأة الأولى أن الرجل قال لي إنه ينقل كل تراث أم كلثوم الموجود عنده في أشرطة الكاسيت والبكر والسلك إلى الأسطوانات المدمجة وأراني آلة تسجيل الأسطوانات هذه. ثم أسمعني أسطوانة منها سجل عليها أغنية لأم كلثوم قديمة أعترف بأنى لم أسمعها في حياتي لغاية ذلك الوقت إلاّ عنده للمرة الأولى مع صفاء مذهل في الصوت. الأغنية كانت “أتعجل العمر” التي أصبحت شبه معروفة الآن.
وفي أثناء الجلسة هذه أراني هذا الرجل مجلد حاويات من النايلون في كل حاوية ورقة طبع على صفحة واحدة منها أسماء أغنيات لأم كلثوم ووعدني بأن يهديني نسخة منه. وانتهت زيارتي له وعدت إلى الفندق ونسيت الموضوع. وإذ في يوم سفري بل بالتحديد ساعة مغادرة الفندق، إذ بي أرى الرجل حاملا المجلد الذي وعدني به، فأخذته معي ومرت الأيام..
وأخذتني طاحونة العمل في القاهرة نسيت معه المجلد وما يحتويه، إلى أن وجدته في خضم بيتي في مكتبتي مع كتب قديمة هامة. فقررت أن آخذه معي إلى لبنان لدراسته في أثناء أسبوع إجازة قضيته. وفى لبنان أعطيته لأخي الأصغر فيكتور وهو دكتور في التاريخ الإسلامي ومولع بالموسيقى(كجميع أعضاء أسرتنا) لدرجة أنه حوَل نفسه إلى مؤرخ للموسيقى العربية وله فيها لغاية الآن أكثر من عشرة كتب. غير موسوعة أم كلثوم التي ألفها أخونا الأكبر إلياس الذي له هو الآخر باع كبير في الكتابة الموسيقية بالرغم من كونه محللا وكاتبا سياسيا. وإذا بنا نكتشف في هذا المجلد ثروة معلوماتية بكل أبعادها وتفاصيلها التوثيقية لتاريخ تراث سيدة الغناء العربي أم كلثوم.
فما كان من أخي أمام هذا الاكتشاف إلاّ أنّه نسخ هذه الأوراق وحولها إلى مجلد سماه: أم كلثوم يوميات الغناء (1925-1973) –عبدالله الصايغ- الكويت. وصنع منه عدة نسخ أعطاني منها واحدة.
أم كلثوم – يوميات الغناء
ينقسم المجلد إلى مواسم غناء أم كلثوم ابتداء من موسم1925 -1926 لغاية آخر موسم قبل وفاتها 1973 كما يدل اسمه. ويبدأ بتوثيق أغنياتها التي سجلت على الأسطوانات دون البكر بما في ذلك أغاني الأفلام. ويمضي التوثيق التاريخي في وقته في هذا المجلد إلى أن يذكر مثلا أنه في موسم 1935 – 1936 عرض فيلم “وداد” وفيه ثماني أغنيات سجلت كلها على أسطوانات ما عدا واحدة وهي “حيّوا الربيع”، ويذكر حتى اسم الشركة المسجلة وهي “أوديون”.
هذه الدقة في التأريخ والتوثيق نجدها في كل صفحة من المجلد حيث سجل سنة الموسم الغنائي مع اسم الأغنية مع سنة التسجيل مع اسم شركة الأسطوانات المسجلة. إلى أن نصل إلى موسم 1937-1938 وهي بداية مواسمها التي بدأت تسجلها على السلك لنصل إلى دقة متناهية في التوثيق لكل تفصيل له علاقة بتاريخ الأغنية المقدمة (ما عدا اسم المؤلف والملحن ومقام الأغنية وسنأتي لاحقا على هذا الموضوع) ابتداء من تاريخ الحفلة، مكان إقامتها والمرة التي تغني فيه الأغنية ومدتها بالدقيقة، فمثلا الحلقة الأولى المسجلة على أسطوانات أقامتها أم كلثوم يوم 7 أكتوبر تشرين أول 1937 في قاعة إيوارث التذكارية (في الجامعة الأمريكية بالقاهرة) وغنت فيها: النوم يداعب عيون حبيبي(للمرة الأولى) ومدتها 42 دقيقة، فاكر لما كنت جنبي(للمرة الأولى) 48 دقيقة، سلوا كؤوس الطلا (للمرة الأولى)51 دقيقة.
وتلاحق دقة هذا الرجل الأغنيات التي غنتها “الست” خارج حفلاتها وذلك برصد جميع أعداد مجلة “الإذاعة المصرية” في ذلك الوقت (وقد أراني مجموعات مجلة الإذاعة عنده واسمها “الراديو المصري” التي بدأت تصدر في شهر مارس/آذار سنة 1935) كأن يقول إن في فترة موسم 1938- 1939 وفي 18 نوفمبر/ تشرين ثاني 1938 أذاعت إذاعة القاهرة قصيدة “يا أغاني السماء” وذلك في يوم ولادة الأميرة فريال، أو مثلا في 20 يناير/كانون ثاني 1939 أذاعت إذاعة القاهرة قصيدة “ارفعي يا مصر أعلام السرور” بمناسبة مرور عام على زواج الملك فاروق من الملكة فريدة.
ويلاحق هذا الرجل في دقته المعلوماتية حتى الأغنيات التي سُجّلت خارج الحفلات على أسطوانات وذلك موسما موسما كأن يرصد مثلاً .. وقد تمّ خلال هذا الموسم(38-39) تسجيل أغنية “حرمت أقول بتحبيني “على أسطوانات “أوديون” ولهذه الأغنية نسختان مختلفتان”.
ومن يتابع تصفّح هذا المجلد الفريد يكتشف أغنيات غنتها أم كلثوم ولها تسجيلات عديدة نسمع باسمها للمرة الأولى، أو في أحسن الأحوال نسمع اسمها فقط ولكنها مختفية من إذاعاتنا نهائيا. من هذه الأغنيات ثلاث غنتها أم كلثوم في حفلة أول فبراير/شباط 1940 في قاعة إيورات: “هايم في بحر الحياة” (للمرة الثالثة) 43 دقيقة، “إيه أسمي الحب” (للمرة الثانية)49 دقيقة، “ناسية ودادي وجافياني (للمرة الثانية) 40 دقيقة.
ومن المؤشرات الهامة التي يلفت المجلد انتباهنا لها بدقة معلوماته: طول الحفلة بالنسبة لطول الأغنية على الأسطوانة. فمثلا قدمت أم كلثوم في 2مايو/آيار 1940 في قاعة إيورات التذكارية حفلة غنت فيها من ضمن ثلاث أغنيات نشيد الجامعة بمدة 38 دقيقة. ومن يعلم أن هذا النشيد سجل على وجه واحد في أسطوانة (سجل على وجهها الآخر أغنية على بلد المحبوب) ومن يعلم أن صفحة الأسطوانة الصغيرة ذات 78 لفة في الدقيقة مدتها ثلاث دقائق (زائد أو ناقص عشر ثوانٍ) يدرك مدى مقدرة أم كلثوم على الارتجال الغنائي وقد استطاعت بهذه المقدرة الهائلة أن تغني أغنية قصيرة جدا (ثلاث دقائق) بمدة 38 دقيقة. وهذا يذكرنا بعبقري آخر وهو محمد عبدالوهاب. فقد روى لي صديقي الملحن اللبناني المرحوم خالد أبو النصر اليافي أنه في الثلاثينيات من القرن المنصرم حضر حفلة لمحمد عبدالوهاب في مدينة حلب السورية غنى فيها من ضمن ما غنى مونولوج “كثير يا قلبي الذل عليك” وطوله لا يتعدى التسع دقائق ما غناه على مدى ساعتين ونصف. وقال لي إن المسرح تحول إلى بحر أحمر من الطرابيش التي حذفت عليه. وروى لي أيضا الإذاعي والإعلامي الكبير الصديق المرحوم جلال معوض أن أكثر شيء ندم عليه يوم أن سلمه محمد عبدالوهاب تسجيل حفلة أغنية “كل ده كان ليه” وقد غناها بحضور الزعيم جمال عبدالناصر وكانت مدتها ساعة وأربعين دقيقة. وجعله يقسم ألا يسمعها لأحد. وفى اليوم التالي أخذ محمد عبدالوهاب منه الشريط وقام مع مهندس الصوت بعملية مونتاج أزال منه مدة ساعة كاملة. والتسجيل المعروف للأغنية الآن مدته بعد المونتاج: أربعون دقيقة فقط أما الساعة فيه عبارة عن ارتجالات لم تعجب(!؟!؟) المطرب. تخيلوا هذه الخسارة الفنية في سبيل الكمال الفني.
تساؤلات بلا أجوبة
لكن هذا المجلد يضعنا أحيانا أمام تساؤلات بلا أجوبة. فمثلا يذكر أن من أغنيات فيلم “دنانير” الثماني (1939-1940) لم يسجل منها على أسطوانات سوى ثلاث فقط: الزهر في الروض تبسَّم (رامي القصبجي) بكرا السفر لزكريا أحمد وأحمد رامي وطاب النسيم العليل لرامي والقصبجي على أسطوانات الشركة العربية. كما تم تسجيل أغنية يا ليلة العيد (رامي/السنباطي) لحساب شركة كايروفون. تساؤل يطرح نفسه: لماذا لم تسجل أم كلثوم باقي أغنيات الفيلم على أسطوانات ومنها قصائد رائجة: رحلت عنك ساجعات الطيور(أو القصر المهجور لرامي والقصبجي) و “قولي لطيفك ينثني عن مضجعي” وهي تحفة شعرية تنسب إلى الشريف الرضي ويقال إنها لديك الجن الحمصي، ومن المرات النادرة جدا التي لحن فيها زكريا أحمد قصيدة، وقد تكون هي وقصيدة “أيها الرائح المجِدّ” التي تنسب أيضا للشريف الرضي القصائد المتوسطة الطول الوحيدة التي لحنها زكريا أحمد، إذا استثنينا أبياتا شعرية قصيرة لحن عليها موشحين وهما “يا بعيد الدار” (عباس بن الأحنف) و “بنت كرم يتموها أمها” وأغنية “زهر الربيع ونشيد “عرب الشرق” (صالح جودت) موشح “حامل الهوى تعب” (أبو نواس).
ونتابع رحلتنا في هذا الكنز العجيب لنكتشف أن أم كلثوم غنت في حفلات أغنيات عرفناها فقط من تسجيلات الأستوديو على أسطوانات كأغنيتها “ما دام تحب بتنكر ليه” تحفة محمد القصبجي ورامي (1941) مع رائعته “رق الحبيب” 1944، قبل أن تنقطع نهائيا عن أخذ ألحان من هذا العبقري فتقتل فيه الرغبة بالعطاء وهو الذي كان يرى في صوتها المنفذ العظيم لأعماله العظيمة، فيتحول شيئا فشيئا إلى عازف عود يجلس وراءها ليعزف ألحانا لم تكن في الكثير من الأحيان في مستوى عبقريته التلحينية وتفكيره الموسيقي الفذ. نعود إلى “ما دام تحب” لنقول إنها قُدّمت لأول مرة في حفلة مسرح حديقة الأزبكية يوم6 فبراير – شباط 1941، واستمرت “الست” في غناء هذه الأغنية 49 دقيقة بينما مدة تسجيلها المعروف على الأسطوانة ست دقائق فقط. ويكشف لنا المجلد عن أن أم كلثوم لم تكن تغني في الحفلات الأغنيات الملحنة خصيصا لها وحسب بل إنها كانت تغني أغاني من التراث القديم كقصيدة “أراك عصي الدمع” (ألحان عبده الحامولي القرن التاسع عشر) وقدمتها في 6 مارس/آذار 1941 في مسرح الأزبكية بمدة 43 دقيقة بينما مدة تسجيلها المعروف على الأسطوانة ست دقائق فقط. وكان من المعروف خطئا أن ملحن هذه القصيدة هو أبو العلا محمد وقد سجلتها أم كلثوم سنة 1928 أي سنة واحدة بعد وفاة معلمها أبي العلا محمد سنة 1927 وقد حفظتها منه.(ولعل هذا هو سبب اعتقادها بأنها من تلحينه. ولعل هذا أيضا هو سبب غنائها أغنية لم تكن ملحنة خصيصا لها. لكن المؤرخ محمود كامل أثبت لها (كما روى لي شخصيا رحمه الله أن الملحن هو عبده الحامولي بواسطة أسطوانة دائرية(أسطوانة بمعنى الكلمة) بشكل كوب مسجلة في القرن التاسع عشر (عرفت مصر الأسطوانات المسطحة سنة 1903) وفي هذه الأسطوانة “مطيباتي” يصرخ في أثناء العزف والغناء “هالله هالله يا سي عبده”. وكان من المعروف أن الوحيد الذي كان معروفا بلقب “سي عبده” هو عبده الحامولي.
ونصل إلى موسم 1942-1943 لنفاجأ بأنه لم تسجل أية أغنية من فيلم عايده على أسطوانات. والجدير بالذكر أننا لم نعرف هذه الأغاني إلاّ عندما ظهرت الأغاني المسجلة على الكاسيت في الستينات من القرن المنصرم، فبدأت تظهر الشركات التي تسجل هذه الأغاني على كاسيتات إشباعا لرغبة ملايين الهواة. تجدر الإشارة هنا أنه إلى جانب الأغنيات القصيرة فإن الفيلم يحتوي على مسمع من “أوبرا عايدة” تَشارك فيه مع أم كلثوم في الغناء كل من إبراهيم حمّوده (المطرب الوحيد الذي غنى مع أم كلثوم ديالوجات) وعبدالغني السيد وفتحية أحمد وأنطون سليم. ويعتبر هذا المسمع من أهم ما لحّن السنباطي في حياته ويكشف عن خيال تلحيني درامي عملاق حدّه كثيرا تلحين الأغنيات الفردية. تجدر الإشارة أيضا أنه ولأسباب تجارية بحتة اقتطع من الفيلم المسمع الذي لحنه محمد القصبجي بحجة أنه كان ثقيلاً على أسماع مشاهدي الفيلم. وهكذا فُقد هذا المسمع إلى الأبد (وأرجو أن أكون مخطئا في حكمي هذا). حتى أنه لم يُترك ولو نسخة واحدة من الفيلم كاملة للتاريخ كي نعرف هل سبب الاقتطاع هو فعلا فشل القصبجي في تلحين المسمع أم أنه كان سابقا لعصره لدرجة عدم فهم جمهور تلك الفترة لعبقرية هذا الملحن. لقد فقدنا للأبد قدرتنا على تحديد السبب وفقد القصبجي حكم التاريخ العادل والحاسم.
ونكتشف أيضا من هذا المجلد أن أم كلثوم لم تغن فقط في أول خميس من كل شهر بل إن هناك مواسم كثيرة غنت فيها أكثر من حفلة في الشهر(غير الحفلات الرسمية الخاصة)، كموسم 1944 حين غنت حفلتين في مسرح الأزبكية في الثالث والسابع عشر من فبراير/شباط. وفي نفس السنة 1944 غنت حفلتين في شهر مايو/أيار وحفلة يونيه/حزيران. والجدير بالذكر أنها غنت “الأولة في الغرام” في حفلتي مايو/أيار كما غنتها في حفلة يونيه/حزيران (ثلاث مرات في أسبوعين) كما أنها غنت في حفلتي يونيه/حزيران أهل الهوى مرتين.
تفاصيل تاريخية
ويسجل المجلد تفاصيل تاريخية مهمة في حياة أم كلثوم كأن يذكر أن حفلة 24 سبتمبر/أيلول 1944 التي أقيمت في النادي الأهلي “حضرها الملك فاروق وأنعم على الآنسة أم كلثوم بنيشان الكمال المصري”.
وغنت في هذه الحفلة ” أنا في انتظارك” للمرة السادسة (31 دقيقة). “يا ليلة العيد آنستينا” للمرة الأولى (35 دقيقة). والكوبليه الأخير من أغنية “حبيبي يسعد أوقاته” وأظن أن هذا هو التسجيل الذي يُقاطع عدة مرات بهتاف أم كلثوم بعبارة “لك يا مليكي” بدلاً من “وانت حبيبي”.
وتصل إلى موسم 1944- 1945 وإلى فيلم سلامة الذي لم تسجل على أسطوانات من أغانيه التسع سوى أربع. ومن أغنيات هذا الفيلم العظيمة التي لم تسجل على أسطوانات الموال الرائع “برضاك يا خالقي” (بيرم التونسي –زكريا أحمد) والموشح الرائع يا بعيد الدار (عباس ابن الأحنف –زكريا أحمد). وقد تكون هذه المرة الوحيدة التي سجلت فيها أم كلثوم موشحا. وفى الموسم 1945-1946 نكتشف أنه من أغنيات محمد القصبجي التي كانت تغنيها بكثرة في مواسمها السابقة لم تُبقِ أم كلثوم إلاّ على “رق الحبيب” التي غنتها في حفلة مسرح حديقة الأزبكية في 6 ديسمبر/كانون أول 1945 للمرة الأولى في 18 سبتمبر/أيلول 1941 في نفس المسرح مع أغنيتي “هلّت ليالي القمر” و “الأمل”.
ويخبئ لنا موسم 1946 مفاجأة غريبة. ففي 12 يناير/كانون ثاني 1946 “أذاعت إذاعة القاهرة قصيدة سلوا قلبي بمناسبة زيارة عاهل المملكة العربية السعودية الملك عبدالعزيز آل سعود لمصر وفيها أضافت الآنسة أم كلثوم خمسة أبيات من شعر الشاعر محمد الأسمر تنوه فيها بجلالة الملك عبدالعزيز وبجلالة الملك فاروق”. وتجدر الإشارة هنا أن محمد الأسمر هو ناظم قصيدة ” زهر الربيع يُرى أم سادة نجب” التي لحنها زكريا أحمد وشدت بها أم كلثوم في حفلة خاصة أقيمت في الثاني والعشرين من مارس/آذار 1945 ابتهاجا بمناسبة توقيع ميثاق جامعة الدول العربية. وقد تمّ في هذا الموسم تسجيل قصيدة السودان لحساب كايروفون.
وتأتي سنة 1947 لنعرف أن أم كلثوم غنت في أثنائه “وفي قصر القبة العامر أغنية الزفة (مبروك على سموِك وسموّه) حيث زفت بهذه الأغنية صاحبة السمو الأميرة فوزية في ليلة زواجها من الأمير محمد شاهبور”. وفي هذه السنة نزل إلى الأسواق فيلم فاطمة الذي تضمن تسع أغانٍ تم تسجيل ست منها فقط على أسطوانات، ومن بينها أغنية “ظلموني الناس”. ولهذا التسجيل قصة روتها لي الصديقة العزيزة والمطربة اللبنانية العظيمة وزميلتي في إذاعة لبنان حيث كنت أعمل، قبل استقراري النهائي في مصر، لغاية 1988، المرحومة زكية حمدان. ففي يوم تسجيل الأغنية كانت لزكية حمدان مساء هذا اليوم حفلة غنائية على أحد مسارح القاهرة. وكان من ضمن العازفين في فرقتها عازف الناي سيد سالم وهو أيضا العازف في الفرقة المصاحبة لأم كلثوم. ولما ذكرته زكية حمدان بخصوص حضوره مساءً أكد لها بأنه آتٍ لا محالة: فالتسجيل سيبدأ في العاشرة صباحا وسينتهي بالتأكيد قبل الحفلة. وجاء وقت بدء الحفلة وسيد سالم غائب فبدأت زكية حمدان بالعزف على العود(وهي ماهرة في العزف) وغناء الليالي. ومرّ الوقت وسيد سالم لم يحضر فقررت زكية البدء من دونه. وفى منتصف الوصلة الأولى وصل سيد وتسلل من بين الكواليس إلى مقعده وباشر بالعزف مع الفرقة. ولما بدأت زكية تكلمه عن تأخره عند انتهاء الوصلة الأولى أقسم لها أنه وصل مباشرة من الاستوديو. فقد ظلت أم كلثوم تعيد التسجيل لغاية ما بدأت في البكاء من شدة التأثر وهي تغني. وكان هذا هو التسجيل الذي طُبع على الأسطوانة التي نعرفها. ويأتي 4 ديسمبر/كانون أول لتغني فيه أم كلثوم والمرة الوحيدة أغنيتها العظيمة حلم( حبيب قلبي وافاني في ميعاده- بيرم التونسي- زكريا أحمد). وحلم ليست الأغنية الوحيدة التي ليس لها سوى تسجيل واحد فقط فهناك لائحة في هذا المجلد العجيب تعرض هذه الأغاني سوف نأتي على ذكرها لاحقا.
وتتوالى المواسم الغنائية مرورا بأغنيات أذاعتها إذاعة القاهرة ولم تسجل على أسطوانات. إلى أن نصل إلى موسم 1949 فنلاحظ أن أم كلثوم بدأت تقلل من تقديم أغنية “رق الحبيب” لمرة واحدة في السنة إلى أن جاءت سنة 1956 حين قدمتها لأخر مرة في حفلة 3 مايو/أيار بعد انقطاع سنتين. هنا نطرح سؤالاً كبيرا حول علاقة أم كلثوم بهذا الملحن العبقري والمفكّر الموسيقي الفذ محمد القصبجي. هل كانت أم كلثوم تقدم مونولوج “رق الحبيب” إيمانا منها بعبقرية هذا الملحن ولحنه أم ترضية منها له ( من باب رفع العتب). وتسبب الكسر النفسي الصاعق الذي أحدثته أم كلثوم عند هذا العبقري بتوقفه عن التلحين، بعد أن رفضت ما قدمه من ألحان تلت “ما دام تحب” و “رق الحبيب”. فلم يعد لهذا العبقري الكبير وجود موسيقي إلاّ كملحن لبعض أغاني الأفلام وكعازف عود لآخر يوم في حياته وراء التي أحبها لدرجة العبادة والتي نفذت بصوتها أعماله وأفكاره وتجديداته الموسيقية العبقرية.
أم كلثوم وثورة يوليو
وتتوالى المواسم لنصل إلى ثورة يوليو/تموز1952 فيبدأ نوع جديد من الأغنيات يدخل إلى حفلات “الست”، وهي الأغاني الوطنية. ولابد من التنويه إلى اجتماعات مجلس قيادة الثورة (بعد فترة من توقف الإذاعة المصرية عن إذاعة أغاني أم كلثوم لسبب أغانيها للملك السابق وبناء على أمر من أحد المسؤولين الجدد). فقد اقترح أحد الضباط الشباب بالاستمرار في منع أغاني أم كلثوم من الإذاعة المصرية بسبب أغانيها للعهد السابق وبمناسبات عائلية تخص هذا العهد، فما كان من الزعيم جمال عبدالناصر إلاّ أن أجاب: الشمس كانت تشرق في عهد الملك فاروق فهل نلغيها؟ وكانت هذه الكلمات كفيلة لإنهاء الموضوع إلى الأبد.
أول أغنية وطنية قدمتها أم كلثوم في حفلة عامة بعد الثورة كانت “مصر تتحدث عن نفسها” (وقف الخلق – حافظ إبراهيم –رياض السنباطي) في حفلة دار سينما ريفولي في بداية موسم 1952-1953 يوم 2 أكتوبر/تشرين أول وكانت قد غنتها للمرة الأولى في 7 ديسمبر/كانون أول 1950 وهي أول أغنية وطنية تغنيها في حفلة 2أكتوبر/ تشرين أول 1952 كان تحية منها للثورة. والدليل القاطع على ذلك هو الأغنية الثانية في نفس الحفلة “صوت الوطن” مصر التي في خاطري وفى فمي (أحمد رامي –رياض السنباطي) التي غنتها للمرة الأولى. وكانت ثالثة الأغاني في هذه الحفلة أغنيتها العاطفية الوجدانية الرثائية التأملية التعبيرية “سهران لوحدي” (أحمد رامي – رياض السنباطي) التي غنتها للمرة الحادية والعشرين.
وتجدر الإشارة هنا أن بعد موسم 1952 لم تعد أم كلثوم تقدم أغنيات وطنية إلاّ في حفلات المناسبات الوطنية التي كانت تشارك فيها في نادى الضباط.
ويذكر هذا المجلد العجيب أن أم كلثوم ألغت ثلاث حفلات وهي : 2 إبريل/نيسان و7 مايو/أيار و4 يونيه/حزيران 1953 بسبب سفرها للعلاج. ولرحلة العلاج هذه قصة لابد من ذكرها للتاريخ وقد رواها لي الدكتور الصديق حسن محمد الحفناوي ابن الدكتور الحفناوي رفيق عمر أم كلثوم. فبعد وصول أم كلثوم وزوجها الدكتور إلى مستشفى ماي كلينك التابعة للبحرية الأمريكية، وهي أهم مستشفى في أمريكا، جاء الطبيب المتخصص في الحنجرة ليكشف عليها. وما أن نظر داخل فمها حتى صرخ oh, my Gad (يا إلهي) وانطلق راكضا. ويروي لي الصديق الدكتور حسن الحفناوي بأن أباه ارتعب وظن أن الدكتور اكتشف شيئا سيئا. وما هي إلاّ ثوان حتى رجع ومعه طابور من الأطباء الشباب وقال لهم: “انظروا إلى هذه الحبال الصوتية فإنكم لن تروا مثلها في حياتكم”.
وبرز بعد الثورة أسلوب جديد في تقديم أغنيات أم كلثوم الوطنية من خلال الإذاعة دون تسجيلها على أسطوانات. من هذه الأغنيات قصيدة الجلاء “بأبي وروحي” التي أذاعتها إذاعة القاهرة يوم 12 إبريل/نيسان 1954، (أحمد شوقي- رياض السنباطي) في أعقاب توقيع اتفاقية الجلاء ولم تسجل على أسطوانات، ونشيد الجلاء “يا مصر إن الحق جاء” بمناسبة عيد الجلاء ولم يسجل على أسطوانات. ويأتي موسم 1955 وتأتي أم كلثوم إلى لبنان لتقديم حفلتين: الأولى في قصر الاونيسكو الذي دمره الطيران الإسرائيلي في أثناء اجتياح لبنان سنة 1982. الحفلة أقيمت يوم 25أغسطس/آب 1955. الحفلة الثانية أقيمت في بيسين عاليه يوم 29 أغسطس/آب ومن ضمن ما غنت في هذه الحفلة “يا ظالمني” للمرة السابعة عشرة. ومن سمع هذا التسجيل يدرك أنه من أعظم تسجيلات هذه الأغنية إن لم يكن أعظمها. وكان من حظي أني سمعت نقل هذه الحفلة المباشر من إذاعة بيروت. وكنت آنذاك مراهقا. فكانت هذه الأغنية بداية اهتمامي بأم كلثوم وأغانيها.
وفي موسم 1955-1956 يظهر البرنامج الإذاعي العظيم تأليفا وتمثيلاً وإخراجا وتلحينا وغناءً: “رابعة العدويّة” ليُظهر عبقرية ملحنين شابين: محمد الموجي وكمال الطويل، ويضعهما جنبا إلى جنب مع إحدى أعظم الشخصيات الموسيقية في تاريخ الموسيقى العربية: رياض السنباطي ويكفي أن نذكر “انقروا الدفوف” و”وحانة الأقدار” التي أبدع فيها طاهر أبو فاشا (مؤلف البرنامج وناظم كل أغانيه) وتجلّت فيها الصوفية الرومانسية العميقة عند محمد الموجي، كما ظهر في ” لغيرك ما مددت يدا” تأثر كمال الطويل الخلاق بصوفية رياض السنباطي. ونواصل رحلتنا على صفحات هذا المجلد لنصل إلى أكتوبر/تشرين أول 1956 حين أذاعت إذاعة القاهرة نشيد “والله زمان يا سلاحي” (صلاح جاهين-كمال الطويل) في أعتاب العدوان الثلاثي على مصر والذي برأيي لا يقل إطلاقا عظمة لحنية وطاقة تاريخية عن نشيد المارسيّاز الفرنسي. كما أصدرت “صوت القاهرة” أسطوانة له. وهذا النشيد كان أوفر حظا من أغنية “صوت السلام”(بيرم التونسي – رياض السنباطي) التي “أذاعتها إذاعة القاهرة يوم 4 ديسمبر/كانون أول 1956 في ذكرى عيد النصر بعد العدوان الثلاثي على مصر ولم تُسجل على أسطوانة”.
وتتوالى المواسم الغنائية فتذيع إذاعة القاهرة يوم 26 فبراير/شباط 1958 قصيدة “يا رُبى الفيحاء” بمناسبة إعلان الوحدة بين مصر وسورية ولم تُسجل على أسطوانة وتأتي التحية لثورة العراق في أغنيتين، فتذاع يوم 23 يوليو/تموز1958 أغنية منصورة يا ثورة أحرار (عبدالفتاح مصطفى- رياض السنباطي) ولم تُسجَّل على أسطوانة. وبعدها بأسبوع(30 يوليو/تموز) تطلق إذاعة القاهرة قصيدة “بغداد يا قلعة الأسود”(محمود حسن إسماعيل –رياض السنباطي) التي صدرت على أسطوانة “صوت القاهرة”.
ويأتي موسم 1962-1963، وتأتي أم كلثوم إلى لبنان حيث أقامت حفلتين في بسين عاليه. الأولى في 5 سبتمبر/أيلول وغنت فيها “هسيبك للزمن” –”أنساك” – و “أنا وأنت ظلمنا الحب”. والحفلة الثانية في 8 سبتمبر/أيلول حيث غنت “حيرت قلبي معاك” – “ليلي ونهاري” – و “حب إيه”. وهذه الحفلة الوحيدة التي سمعت فيها أم كلثوم شخصيا. وكنت أتابع بمنظار مكبّر أصابع “العظمة” (عباس فؤاد) على الكونترباص، وأصبع إبراهيم العفيفي المذهلة على الرق والعمالقة محمد عبده صالح على القانون ومحمد القصبجي على العود. وقد اكتشفت في هذه الحفلة “كاريزما” أم كلثوم التاريخية وتأثيرها المغناطيسي على جمهورها، هذا التأثير الذي لم أكن أفهمه إطلاقا قبل حضوري لحفلتها شخصيا. فقد كنت أقف على مقعدي صارخا مطالبا مع الآخرين بالإعادة. وكان من المفروض أن أحضرها شخصيا للمرة الثانية في حفلاتها التي كان من المقرر إقامتها في موسكو ( في أثناء وجودي هناك للدراسة) في أواخر سبتمبر/ أيلول 1970، لولا إلغاء هذه الحفلات وعودة أم كلثوم وفرقتها لمصر بعد إعلان وفاة الزعيم جمال عبدالناصر.
أم كلثوم بعد نكسة 1967
ونصل إلى نكسة 1967 فتحصل تغييرات أساسية في هيكلية وطابع حفلات أم كلثوم. التغيير الأول هو أنه ابتداء من مارس /أذار 1968 اختصرت أم كلثوم عدد أغنياتها في الحفلة الواحدة إلى اثنتين بعد أن كانت لغاية آخر حفلة من سنة 1967 تغني ثلاث أغنيات في الحفلة الواحدة. التغيير الثاني معنوي يخص أم كلثوم بشكل شخصي. فقد بدأت تتبرع بمدخول حفلاتها بعد النكسة للمجهود الحربي معطية بذلك مثالاً مبهرا للالتزام المعنوي والمادي للغناء بقضايا وطنه وشعبه. التغيير الثالث طرأ على أغنيات أم كلثوم نفسها هو اتجاهها إلى قصائد لشعراء عرب وكانت نيتها غناء قصيدة من كل بلد عربي معلنة بذلك الوحدة العربية من خلال الفن. فبدأت بقصيدة “هذه ليلتي” لجورج جرداق (من لبنان) غنتها للمرة الأولى يوم 5 سبتمبر/أيلول 1968 في دار سينما قصر النيل. وأذكر الحديث مع الشاعر، عقب انتهاء الأغنية، في إذاعة القاهرة. فعند سؤال المذيع له: “نفسك في إيه بعد ما غنت لك أم كلثوم قصيدة من ألحان محمد عبدالوهاب، فجاء رد الشاعر مقتضبا جدا: “نفسي أموت”.
بعد هذه ليلتي غنت أم كلثوم “طريق واحد” لنزار قباني(سوريا) ومن ألحان محمد عبدالوهاب والتي أذيعت من إذاعة القاهرة لأول مرة يوم سبتمبر/أيلول 1969. وتبع “طريق واحد” قصيدة ” أغدا ألقاك؟” لهادي آدم(السودان) (محمد عبدالوهاب) في حفلة 6 مايو/أيار 1971 في سينما قصر النيل، و “من أجل عينيك” لعبدالله الفيصل آل سعود6/1/1972 في سينما قصر النيل (وقد سبق أن غنت للشاعر نفسه “ثورة الشك” 4/12/1958 و الأغنيتان من تلحين رياض السنباطي.
ولأغنية “طريق واحد” قصة طريفة، فنحن ندين لتعنّت أم كلثوم بوجود تسجيل للأغنية بصوت محمد عبدالوهاب فعندما جاء وقت التسجيل فوجئت “الست” بعدم وجود الأوركسترا وبطلب من مهندس الصوت منها بوضع السماعة على رأسها. ولما أفهمها الملحن بأن اللحن قد سبق تسجيله على سكك (تراكات) ولم يبق سوى تسجيل صوتها، وأن هذه هي أحدث طريقة للتسجيل، رفضت رفضا قاطعا معللة رفضها بأن هذه الطريقة تلغي الانسجام المفروض وجوده بين المغني والعازفين عند التسجيل. ولم تقتنع بالفكرة إلاّ بعدما قام محمد عبدالوهاب بتسجيل الأغنية بصوته وإسماعها لها. شكرا لأم كلثوم. ولديّ أيضا تسجيل بصوت أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب معا وأظنه من صُنع أحد مهندسي الصوت العاشق للصوتين معا.
ونتابع رحلتنا مع المجلد العجيب لغاية آخر حفلة علنية قدمتها أم كلثوم في 4 يناير/كانون الثاني 1973 في دار سينما قصر النيل حيث غنت “ليلة حب” (أحمد شفيق كامل – محمد عبدالوهاب) و “القلب يعشق كل جميل” (التحفة الصوفية الروحانية لبيرم التونسي ورياض السنباطي). بعد هذه الحفلة ألغت أم كلثوم ثلاث حفلات كان من المفروض أن تقدمها في 3 فبراير/شباط و 1مارس/آذار و5 إبريل/نيسان 1973.
بعد ذلك تسجل أم كلثوم أغنية ” حكم علينا الهوى (عبدالوهاب محمد – بليغ حمدي) لشركة “صوت القاهرة” ولم تغنّها في حفلة عامة. وتكون هذه آخر أغنية تقدمها أم كلثوم لعشاق فنها وصوتها,
بعد هذا التوثيق الدقيق لكل حفلات أم كلثوم ينتقل المجلد إلى تفاصيل مهمة جدا في تاريخ هذه الفنانة التاريخية، فيسرد المؤلف أنه منذ افتتاح إذاعة القاهرة في 31 مايو/أيار 1934 بدأت الإذاعة تغري أم كلثوم بطريقتين: الأولى عبر وصلتين في الشهر وكانت هذه الوصلات تُسمّى “مغنى وآلات” ومدة كل وصلة نصف ساعة تقريبا، وقد ابتدأت أم كلثوم في هذه الوصلات وعددها ثماني أغنيات. والطريقة الثانية كانت بإذاعة حفلاتها الشهرية (أول خميس من كل شهر). ويعترف مؤلف المجلد بتواضع بأنه لم يستطع إعداد كشف كامل بما غنته أم كلثوم في حفلاتها من شهر أكتوبر/تشرين أول 1934 لغاية يونيه/حزيران 1937 ولكنه يؤكد بأنه يعلم “أن الآنسة أم كلثوم قد أنشدت الأغاني التالية في حفلاتها بين أكتوبر/تشرين أول ويونيه/حزيران 1937” ويلي ذلك لائحة تتضمن 45 أغنية.
ويتضمن المجلد صفحة في غاية الأهمية وهي عبارة عن صورة من صفحة من مجلة “الإذاعة المصرية” وفيها حديث مع د. مصطفى المدرّس رئيس مركز تراث أم كلثوم في لندن الذي يضم 1400 تسجيل لأم كلثوم مع العلم(كما يؤكد) أنها غنّت 350 أغنية فقط طوال خمسين سنة. وتأتي المفاجأة الكبرى على لسان الدكتور المدرّس: “لقد أعددنا قائمة بالأغاني التي سوف نزوّد بها مكتبة الإذاعة المصرية، والتي لم تكن موجودة بها وهي” …. ويلي ذلك لائحة بثلاثين أغنية مع اسم الشاعر والملحن وسنة تسجيلها على أسطوانة أو من حفلة عامة.
بعد ذلك 16 صفحة بأسماء أغانٍ مع أسماء ناظميها وملحنيها وهي عبارة عن مراسلة بين مؤلف المجلد وإذاعة القاهرة يطلب فيها تصحيح أسماء المؤلفين والملحنين في حال وجود خطأ عنده. وبنهاية هذه المراسلة نجد بخط المؤلف لائحة تضم خمس أغنيات لأم كلثوم لا يوجد منها إلاّ تسجيل واحد فقط هو تسجيل إذاعة القاهرة وهي: هلت ليالي القمر(أحمد رامي –رياض السنباطي) –اذكريني (أحمد رامي – رياض السنباطي) –يا طول عذابي(أحمد رامي – رياض السنباطي) – حلم(بيرم التونسي – زكريا أحمد) وغنيّ الربيع(أحمد رامي – رياض السنباطي). بعد ذلك أربع صفحات تتضمن حفلات السيدة أم كلثوم في مصر وبها 65 أغنية مع عدد المرات التي غنتها بها وعدد التسجيلات الموجودة لكل أغنية مع عدد التسجيلات السيئة كل منها.
وينتهي المجلد لنسجل على السيد عبدالله النقطة الوحيدة التي فاتته في عمله الرائع الحضاري الكبير هذا وهي عدم ذكر اسم مؤلف وملحن كل أغنية مع مقامها فيكون بذلك قد قدم عملا كاملاً للتاريخ تستطيع أن تتباهى به أية مؤسسة تعنى بجمع التراث العربي مهما كبرت وعلا شأنها.
ويطرح علينا المجلد ليس أسئلة وحسب بل مشاكل طرق للمحافظة على تراثنا الموسيقي.
أولاً نوجه تحية 200 مليون عربي من المحيط إلى الخليج للسيد عبدالله الصايغ الذي دفعه عشقه لفن كوكب الشرق أن يقوم بهذا العمل الوثائقي العلمي الراقي التاريخي لما بُذل في جمعه من جهد وطول نفس ووقت وحب حقيقي بل عشق وأموال طائلة. ويأتي بأهميته مع موسوعة أم كلثوم للأخوين إلياس وفكتور سحاب (لبنان) كأهم عملين موسوعيين تناولا هذه الشخصية التاريخية في تاريخ الثقافة العربية المعاصرة.
السؤال الأول الكبير الذي يطرحه هذا المجلد وأنا أوجهه إلى جامعة الدول العربية من خلال مجلتها هذه: أين مؤسساتنا التي تعنى بجمع التراث من هذا العمل الفريد وهل لها اتصال مع مؤلفه الأستاذ عبدالله الصايغ(الكويت) من خلال ممثل دولة الكويت فيها؟ أو حتى سفير الكويت في القاهرة وهل استفادت من هذه المعلومات الفريدة في جمع وتأريخ وتصنيف تراث سيدة الغناء العربي؟
السؤال الثاني الكبير: أين الإذاعات المصرية وعلى رأسها إذاعة القاهرة وأين الإذاعات العربية من الكلام الذي ورد على لسان رئيس “مركز تراث أم كلثوم في لندن” الدكتور مصطفى المدرّس والذي يؤكد فيه أنه سوف يزود إذاعة القاهرة بثلاثين أغنية لأم كلثوم غير موجودة ولائحتها موجودة عندنا في المجلد. هل أصبحت هذه الأغنيات في إذاعة القاهرة أم أن د. مصطفى لم يفِ بوعده بعد؟ وفي حالة عدم الوفاء بالوعد هل قام المسؤولون في الإذاعة بالاتصال بالدكتور مصطفى المدرس للحصول على هذه التسجيلات وفى حال عدم حصول كل هذا أتوجه إلى الجامعة العربية من خلال مجلتها بالاهتمام الكلي بالموضوع و الاتصال بـ “مركز تراث أم كلثوم في لندن” الذي يضم 1400تسجيل لكل أغنيات أم كلثوم.
إن هذه الثروة القومية الكبيرة لا يجوز أن تبقى هكذا في مهب الريح أو خارج الوطن العربي في مركز لا نعرف عنه شيئا. إنه تراث أم كلثوم!!!