مع تفكك الاتحاد السوفيتي انكشفت تركيا على جيوبوليتيك شديد التعقيد، فمعظم الدول المجاورة لها كانت على خلافات بينية فيما بينها ومع أنقرة، وتفاقمت تعقيدات الدور التركي مع انفجار”الربيع العربي”؛ حيث وجدت سلطة حزب العدالة والتنمية نفسها معنية بما يجري حتى في دول بعيدة نتيجة عامل الإخوان المسلمين الذي لعب دورًا واضحًا في توسيع الجيوبوليتيك التركي وصولًا إلى الخليج العربي والمغرب.
وما كان للتعقيد التركي هذا أن يكتمل إلا مع ظهور توتر بنيوي بين (تركيا والحليفة الغربية الأولى لها) أي الولايات المتحدة.
وبعد مرحلة ما يُسمى “صفر مشكلات”، التي طبعت السنوات الأولى من حكم حزب العدالة والتنمية _تحولت هذه السياسة إلى “صرف مشكلات” تدريجيًّا بدءًا من العام 2011، وهكذا نجد سياسة تركيا الخارجية تواجه مشكلات أساسية مع الإدارة الأمريكية؛ بسبب الموقف من المسألة الكردية في سوريا، ومن ثم بسبب التعاون التركي مع روسيا بدءًا من العام 2016، وانسحب هذا التوتر نسبيًّا على العلاقات التركية الأوروبية؛ بسبب قضايا الحريات والديموقراطية واللاجئين السوريين، وكانت ذروة التوتر التركي في شرق المتوسط مع (اليونان وقبرص الجنوبية وفرنسا)؛ بسبب الصراع على النفط وتحديد مساحات المناطق الاقتصادية الخالصة في البحر لكل دولة.
واستمر التوتر مع إسرائيل رغم محاولات التطبيع مع انخراط تل أبيب في سياسة محاور الطاقة ضد تركيا وفي ظل انتقادات من وقتٍ لآخر من جانب الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” لإسرائيل بشأن القضية الفلسطينية، وانفجرت العلاقات بين تركيا وكل من (مصر والسعودية والإمارات العربية المتحدة ودول خليجية أخرى) في إثر الإطاحة بحكم الرئيس الإخواني “محمد مرسي”، ومجيء الرئيس عبدالفتاح السيسي بدلًا منه وأضيف إلى الخلاف مع هذه الدول التدخل التركي في الأزمة الليبية وإرسال قوات لها ومرتزقة إلى هناك، واستمرت تركيا طرفًا مباشرًا في الأزمة في القوقاز بين أذربيجان وأرمينيا كما في انحيازها النسبي إلى أوكرانيا في خلافها مع روسيا ما سبب بانتقادات موسكو لأنقرة، وبدا المشهد الخارجي لسياسة تصفير العلاقات على أوضح ما يكون عليه في سوريا التي عملت تركيا على احتلال أجزاء واسعة منها منذ العام 2016، وترفض الاعتراف لا بالنظام ولا حتى بالدولة السورية، وفي العراق تتمركز قوات تركيا بصورة غير شرعية في أكثر من 20 مركزًا بريًّا مع توغلات منتظمة للجيش التركي وقصف على مناطق تقول أنقرة إنها قواعد لحزب العمال الكردستاني.
في ظل هذا المشهد بدت تركيا معزولة عن العالم باستثناء العلاقات مع دولة أو اثنتين.
تواكب انتشار التوتر التركي مع معظم الدول إلى انقلاب داخلي على النظام السياسي الذي انتقل من برلماني إلى رئاسي مع حصر الصلاحيات المطلقة في النظام الجديد بيد رئيس الجمهورية في ما سُمي بـ”نظام الحكومة الرئاسية” على حساب تهميش كبير لدور البرلمان في الحياة السياسية.
وبموازاة ذلك لم يكن ممكنًا ألا تتأثر المؤشرات الاقتصادية كما السياسية في الداخل بالعزلة التركية الخارجية، وما كان نموًا وتنمية ونهضة مع سياسة صفر مشكلات لم يبقَ كذلك في ظل سياسة صفر علاقات.
فقد بدأت قيمة الليرة التركية مع مرور الزمن بالانهيار، وبدأ النمو أيضًا يتراجع وازداد الدين الخارجي إلى 450 مليار دولار من أصل ناتج قومي يقارب ال 750 مليار دولار، وتراجع الدخل الفردي ووصل الانهيار إلى ذروته في خريف 2021، عندما وصل سعر الليرة إلى 18 مقابل الدولار الأمريكي قبل أن يتحسن قليلًا ويصل سعر الصرف إلى حوالي 14 ليرة.
وعلى الصعيد السياسي كانت استطلاعات الرأي المؤيدة لحزب العدالة والتنمية كما المعارضة، تجمع على تراجع شعبية حزب العدالة والتنمية من )40-42( نقطة إلى 32 نقطة كذلك كانت تتراجع شعبية شريكه السياسي حزب الحركة القومية من (11-13) في المئة إلى 8 في المئة وأحيانًا أقل من ذلك؛ بحيث أن تحالف الحزبين بالكاد كان يصل إلى 40 نقطة، في المقابل كان تحالف المعارضة من حزب الشعب الجمهوري والحزب الجيد يجمع حوالي 40 نقطة، يبقى حزب الشعوب الكردي المعارض الذي ينال عشرة في المئة ومجموعة أحزاب معارضة لحزب العدالة والتنمية وعلى رأسها (علي باباجان وداود أوغلو)، وتحصل مجتمعة على حوالي عشرة في المئة؛ بحيث أن أردوغان لا يمكن له الفوز على المعارضة في الانتخابات الرئاسية المتوقعة في حزيران /يونيو 2023 في حال اتفقت المعارضة على مرشح مشترك لها.
في الموازاة كان حزب العدالة والتنمية يخسر ركائز إخوانية مهمة له في تونس والمغرب ويتراجع دوره في ليبيا.
في ظل هذه الظروف كان رجب طيب أردوغان يبحث عن مخارج لأزمته سواء بمبادرة منه أو بعدم رفض مبادرات من آخرين كانوا على عداء شرس معه.
وتبرز هنا إلى الواجهة حركة التواصل والتقارب مع أكثر جهة توحي أن مرحلة جديدة يمكن أن تكون بدأت في السياسة الخارجية التركية بمعزل عن النتائج غير المحسومة سلفًا التي قد تسفر عنها.
مصر: ظهرت مصر على أنها أولى الدول التي يرغب أردوغان في إعادة العلاقات معها بعدما كان السبب في تفجيرها باعتراضه على خلع مرسي وعدم اعترافه برئاسة عبد الفتاح السيسي، ولم يكن لمصر أن تعارض محاولة التقارب التركي معها إذا كان ذلك عودة عن الأخطاء في سياسة أنقرة الخارجية، وتلبية لشروط مصر لتطبيع العلاقات مع تركيا وفي رأسها تخلي تركيا عن دعمها لجماعة الإخوان المسلمين في مصر، وعلى الرغم من حصول أكثر من اجتماع بين الطرفين بدءًا من ربيع 2021 غير أن المحادثات لم تتوصل بعد إلى نتائج ملموسة وحاسمة.
الإمارات العربية المتحدة: كان مفاجئًا إلى حدٍ كبير الخطوة الإمارتية في الانفتاح على الإمارات بدءًا من صيف 2021 واجتماع الرئيس أردوغان مع رئيس جهاز المخابرات الإماراتي “طحنون بن زايد”، ومن ثم الزيارة المفصلية لولي عهد أبو ظبي والرجل القوي “محمد بن زايد” إلى أنقرة ولقائه بأردوغان والإعلان عن حزمة استثمارات بقيمة عشرة مليارات دولار في تركيا، ومن ثم الزيارة التي قام بها أردوغان إلى الإمارات يومي (14و15) فبراير 2022 ووقع خلالها 13 اتفاقية في المجالات الاقتصادية والعسكرية والثقافية، ولم يكن أردوغان ليرفض المبادرة الإماراتية في ظل الضغوط الاقتصادية التي تتعرض لها تركيا علمًا أن الانفتاح الإماراتي قد عزي إلى أن الإمارات تحاول أن تعيد صياغة دورها في المنطقة في ضوء إعلان واشنطن أنها ستقلص وجودها ودورها في الشرق الأوسط للتفرغ للصين شرقًا، وهذا كان يعني للإمارات البحث عن دور جديد قوامه “صفر مشكلات” مع الجميع من دمشق التي زارها وزير الخارجية الإماراتي “عبدالله بن زايد” إلى إسرائيل ومن طهران التي زارها طحنون بن زايد إلى أنقرة.
وإذا كان للسعودية أن تكون المحطة التالية للانفتاح على تركيا، فإن أمرًا حاسمًا لم يحصل بعد في ظل وجود العديد من العناوين التي تحتاج إلى تذليل وتصفية للنوايا، ومن ذلك تأثير مثل هذا التقارب على ازدياد نفوذ كل من البلدين في سياق الصراع على زعامة العالم الإسلامي.
ومع أن “التوتر الخشن” في منطقة شرق المتوسط قد تراجع بعض الشيء، لكن لم تسجل أي خطوة في سبيل إنهائه وهو من الملفات المعقدة التي تتطلب وقتًا طويلًا لحلها في حال كانت هناك مثل هذه الحلول.
ولعل التطورات في القوقاز تعطي دفعًا لتركيا لتعويم صورتها الدولية بعد الانتصار الذي حققته أذربيجان في مواجهة أرمينيا، وترى تركيا نفسها شريكًا فيه في مواجهة يريفان كما في مواجهة موسكو، ولا تزال تركيا تمسك بورقة احتلالها لسوريا للمساومة على الكثير من القضايا المتعلقة بالوضع السوري الداخلي وفي العلاقات مع روسيا التي تحاول أن تواصل الإمساك بورقة العلاقات الجيدة مع تركيا على حساب أي تغيير في التوازنات السورية حتى لا تخسر روسيا الورقة التركية في صراعها مع الغرب.
إسرائيل: كانت القاعدة السائدة في تركيا على امتداد العقود الماضية أن العلاقات التركية- الأمريكية مرتبة بطبيعة العلاقات بين تركيا وإسرائيل، وبقدر ما تكون العلاقات مع إسرائيل جيدة أو سيئة بمقدار ما تكون عليه العلاقات بين (واشنطن وأنقرة)؛ لذلك عندما تسوء العلاقات بين (تركيا والولايات المتحدة) تسعى تركيا لتوسيط طرفين أولًا: اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة، وثانيًا: إسرائيل نفسها، لكن الذي حصل خلال السنوات العشر الماضية أن العلاقات عرفت توترات متعددة بين تركيا وكل من (إسرائيل والولايات المتحدة) على حد سواء- خصوصًا بعدما اتهمت أنقرة واشنطن بالوقوف وراء المحاولة الانقلابية عام 2016؛ للإطاحة برجب طيب أردوغان.
لكن الضغوط الخارجية المتعددة الطرف على تركيا -نتيجة أكثر من سبب- بدأت تدفع بالسلطة في تركيا للتفكير في فتح نوافذ تتيح تخفيف الضغوط على تركيا والخروج من عزلتها، وبذلت لذلك جهود في أواخر العام 2020 في هذا الاتجاه بل تم تسريب اسم السفير التركي المقترح وهو “أفق أولوطاش”، غير أن شيئًا من ذلك لم يحصل حتى الآن. وفي الأيام الأخيرة من العام 2021 تحدث الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” عن اتصالات هاتفية مع رئيس إسرائيل “إسحق هرتسوغ”، ورئيس الوزراء الإسرائيلي “نفتالي بينيت” معتبرًا أردوغان أن العلاقات مع إسرائيل مصيرية لاستقرار وأمن المنطقة ما فُسّر على أنه دعوة لتحسين العلاقات مع إسرائيل وهو الأمر الذي قابلته إسرائيل بإيجابية بلغت ذروتها في زيارة الرئيس الإسرائيلي “هرتزوغ” إلى تركيا في مارس 2022.
ومما هو مثير ولافت في هذا السياق أن مدينة إسطنبول التركية شهدت بين 13 و 21 ديسمبر 2021 حدثًا غير مسبوق في دولة مسلمة وربما غير مسلمة، فبين هذين التاريخين اجتمع في فندق كونراد بإسطنبول حاخامات من دول إسلامية تحت اسم “تحالف حاخامات الدول الإسلامية” (ARIS) ، وناقشوا المسائل المختلفة المتعلقة بأوضاع اليهود في العالم الإسلامي.
لكن ما جرى يوم الأربعاء في 22 ديسمبر 2021، كان المحطة الأبرز لاجتماع تحالف الحاخامات، الذي تأسس عام 2019؛ حيث انتقلوا من إسطنبول إلى أنقرة بناءً على دعوة من الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان”، الذي التقى بهم وتحدث إليهم.
اعتبر أردوغان في كلمته أن اجتماع الحاخامات في إسطنبول له مغزى مهم لتركيا؛ فبعد فتح المدينة دعى السلطان محمد الفاتح الجاليات اليهودية المقيمة على ضفتي خليج القرن الذهبي إلى الإقامة في إسطنبول لزيادة ثراء المدينة، كما أشار إلى أن الدولة العثمانية كانت ملاذًا لليهود الهاربين من محاكم التفتيش الإسبانية في العام 1492، وقال: “إن الروح التي احتضنت اليهود حينها لا تزال حيّة حتى يومنا هذا”، كذلك قال أردوغان: “إن الجهود الخارقة للديبلوماسيين الأتراك خلال الحرب العالمية الثانية أنقذت أرواح الكثير من اليهود من بطش الحركة النازية”، وأضاف أنه “مثلما نرى في الإسلاموفوبيا جريمة ضد الإنسانية نرى أيضًا معاداة السامية جريمة ضد الإنسانية”، وقال: “إن تركيا كانت من بين الذين شاركوا في تقديم قرار إلى الأمم المتحدة عام 2005″، والذي قرر اعتبار إحياء ذكرى ضحايا الهولوكوست يومًا عالميًّا، كذلك كانت تركيا شريكة في اتخاذ القرار رقم 2007 في عدم إنكار حدوث الهولوكوست، بل أصبحت تركيا في العام 2008 عضوًا في تحالف استذكار الهولوكوست الدولي.
وتطرق أردوغان إلى الوضع في الشرق الأوسط فقال:” إن تركيا لا تريد أن تشهد هذه الجغرافيا القديمة، حيث الأماكن المقدسة توترات وصراعات أو اضطرابات”. وعن إسرائيل قال أردوغان: “إنه يولي أهمية كبيرة لتجديد الحوار مع الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتزوغ، ورئيس الوزراء فينالي بينيت”، وقال: “إنه رغم الاختلاف في الآراء فإن العلاقات مع إسرائيل في مجالات التجارة والاقتصاد والسياحة تسير في طريقها”، وقال: “إن موقفًا إسرائيليًّا صادقًا وبناء في جهود السلام سيسهم في عملية التطبيع”، وقال: “إن العلاقات التركية- الإسرائيلية حيوية لاستقرار وأمن منطقتنا”، ووجه دعوة للحاخامات لدعم هذه العلاقات مشيرًا إلى استعداد تركيا لتحسين هذه العلاقات.
وعلى خطٍ موازٍ وفي خطوة قد لا تكون منفصلة عن خطوات محاولات تقارب تركيا مع إسرائيل ما ذكرته صحيفة “شالوم” الناطقة باسم الجماعة اليهودية في تركيا في 23 ديسمبر 2021 من أن أذربيجان ستحتفل للمرة الأولى في تاريخها بذكرى حصول “الهولوكوست” اليهودي في 27 كانون الثاني /يناير 2022 وهو الذي حصل فعلًا.
وجاء القرار الأذربيجاني بعد لقاء رئيس الجمهورية “إلهام علييف” مع الحاخام “مارك شنور”، كما أن علييف أخبر شنور أن الدولة سوف تتولى تمويل إنشاء مدرسة شاباد أوهر أفنير اليهودية في باكو.
وذكر شنور أن علييف بهذا القرار يوجه رسالة تضامن وتعاضد لا مثيل لها إلى كل من الجماعة اليهودية في أذربيجان وإلى كل يهود العالم وإلى دولة إسرائيل-علمًا أن باكو تحتفظ بعلاقات متطورة عسكريًّا واقتصاديًّا واستخباراتيًّا مع إسرائيل كانت سببًا في توتر العلاقات مؤخرًا بين (إيران وأذربيجان).
الولايات المتحدة الأمريكية: على الرغم من مسار التذبذب فيها فإن العلاقات التركية الأمريكية منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية حافظت على ثباتٍ واضح في ما خص العلاقات بين الدولتين، وهذا لم يكن مرتبطًا بطبيعة الحزب الحاكم لا في الولايات المتحدة ولا في تركيا، فإذا كانت العلاقات القوية بدأت عام 1947 في عهد حزب الشعب الجمهوري العلماني فقد عرفت حقبة ذهبية في الخمسينيات في عهد الحزب الديموقراطي الإسلامي، وفي عهد طورغوت أوزال في الثمانينيات، ولم يشذ حزب العدالة والتنمية عن هذه القاعدة في السنوات الأولى من حكمه ومنها اعتبار أردوغان نفسه الرئيس الموازي في مشروع الشرق الأوسط الكبير وتبني الرئيس باراك أوباما النموذج التركي لتعميمه على العالم الإسلامي.
لكن العلاقات الجيدة بين (أنقرة وواشنطن)، كانت مرتبطة بدور تركيا في المنطقة وموقع هذا الدور من مخططات حلف شمال الأطلسي؛ لذلك فإن التحول الأمريكي من تركيا منذ العام 2013 مرتبط بتباين الموقف من الحركة الكردية في سوريا ومن مخططات أمريكا في المنطقة، ومن ثم منذ 2016 مرتبط بسياسات الانفتاح التركية على روسيا وشراء صواريخ أس 400 رغمًا عن الإدارة الأمريكية، وهو الأمر الذي اعتبرته الإدارات الأمريكية سواء في عهد أوباما أو دونالد ترامب أو في عهد جو بايدن يتانقض مع أهداف السياسات الغربية تجاه روسيا.
وعلى الرغم من محاولات عديدة جرت للتخفيف من التوتر ومنها اجتماعات أردوغان مع بايدن مرتين في بروكسل في يونيو 2021، وفي نوفمبر 2021 في روما_ فإن المحاولات لم تسفر عن نتيجة إيجابية وهو ما أثار غضب أردوغان ووصف الوضع بأنه “غير مطمئن”.
وفي ظل استمرار تركيا في العلاقات مع روسيا وعدم تخليها عن صفقة (أس 400 ) ، فإن واشنطن كثفت ضغوطها ولا سيما في المجال الاقتصادي التي وصلت ذروتها في النصف الثاني من ديسمبر 2021، حيث وصل سعر صرف الليرة إلى 18 ليرة تركية قبل أن يتراجع إلى 11 ليرة نتيجة وعد الحكومة تغطية خسائر المودعين بالليرة من خزينة الدولة وعدم الهلع لتحويل المدخرات إلى الدولار ليستقر في ما بعد مبدئيًّا على حوالي الـ 14 ليرة. في ظل المؤشرات هذه لا يبدو في الأفق القريب ما يعكس تحولًا جذريًّا في العلاقات الأمريكية تجاه تركيا خصوصًا أن بايدن كان توعد أردوغان أثناء حملته الانتخابية بالإطاحة به من السلطة ديموقراطيًّا، وهذا يعني في حال إصرار بايدن على مخططاته استمرار الجفاء في العلاقات بين (أنقرة وواشنطن)، حتى موعد الانتخابات النيابية والأهم الرئاسية في يونيو 2023.
مدى نجاح تركيا من فشلها في المرحلة المقبلة:-
يكاد يجمع المحللون في الداخل التركي على أن خطوات الرئيس التركي في الداخل وفي الخارج يحكمها من الآن فصاعدًا معيار واحد وهو الانتخابات الرئاسية في يونيو 2023، وعلى الرغم من أن التطورات الجارية في فتح الأبواب المغلقة كليًّا أو جزئيًّا في علاقات تركيا مع (الإمارات والسعودية ومصر وإسرائيل) قد تؤشر إلى بداية مرحلة جديدة في سياسة تركيا الخارجية، فإن التساؤلات تبقى كثيرة ومشروعة حول مدى تأثير ذلك إيجابًا على حظوظ أردوغان للبقاء في السلطة وهو “كعب أخيل” بالنسبة لكل سلوكه في المرحلة المقبلة.
في ظل الظروف الحالية فإن حظوظ أردوغان ضعيفة للغاية في الفوز بالرئاسة، لذا فهو يحاول مراكمة الإيجابيات في السياسة الخارجية علها تخدمه في سباق الرئاسة المقبل حتى لو كانت على حساب “المبادىء”، التي كان يرفعها على امتداد السنوات الماضية وأكثر هذه الانتقادات اتصلت بطيب أردوغان صفحة الخلاف مع الإمارات مقابل “حفنة” من الدولارات، وهو الذي اتهمها بأنها رأس حربة محاولة الانقلاب الفاشل في 15 يوليو 2016 والممول له، كذلك يطرح تساؤلًا كبيرًا عما إذا كانت المدة المتبقية إلى الانتخابات الرئاسية كافية لإحداث تحول في مزاج الرأي العام التركي الذي يبدو أنه تموضع في استطلاعات الرأي بين أربعين في المئة مؤيدة لأردوغان، وستين في المئة ليست معه، ويبقى السؤال الأكبر حول موقف إدارة جو بايدن من أردوغان نفسه، وهل سيواصل ضغوطه الاقتصادية عليه أم لا ؟ وصولًا إلى إسقاطه في الانتخابات الرئاسية، وهو ما يفتح على التساؤل عن مدى جدية الدعم أو الانفتاح بين بعض الدول العربية وأردوغان في ظل التوتر القائم في العلاقات بين بايدن وأردوغان، وما إذا كان هذا الانفتاح مجرد “ربط نزاع” في انتظار مصير أردوغان في انتخابات 2023، وحينها يُبنى على الشيء مقتضاه.
لا شك أن السياسة الخارجية التركية تعرف بعض التحولات في اتجاه بعض الدول وهي خطوة متقدمة، لكنها لا تبدو كافية للجزم بحصول تحولات جذرية مختلفة عن السابق، فالسياسة الخارجية التركية لا تعرف المسار نفسه في العلاقات مع دول أخرى أساسية ولاسيما مع (سوريا واليونان وقبرص الجنوبية وجزئيًّا مع العراق)، كما أن علاقات أنقرة مع الولايات المتحدة لم تعرف أي تحول جدي منذ وصول بايدن إلى البيت الأبيض بل ازدادت توترًا، وهو الأمر الذي يشكل مصدر القلق الأساسي للرئيس التركي.