2025العدد 201ملف ثقافي

إسرائيل والغرب.. بين المسيحية التقليدية والحداثة المراوغة

انشغل عالم البحر المتوسط بجدل تاريخي ثقافي طويل بين الأديان الثلاث: اليهودية، المسيحية والإسلام. كانت اليهودية دينًا مغلقًا لا تبشيريًّا، لم يصنع أربابه تحت مظلته حضارة مائزة، ولم يستقروا في كيان كبير، بل فقط في دويلات صغيرة، زالت قبل بداية التاريخ الميلادي. على العكس، كان الدينان الآخران تبشيريين، انتشرا في شتى بقاع الأرض وصنعا حضارتين عُرفتا باسميهما، تبادلتا الهيمنة على جغرافيا العالم القديم، في لحظة صعودها. لم يكن أمام اليهود- والحال هذه- سوى العيش داخل الجغرافية السياسية للحضارتين، محض شتات من أقليات دينية تنتشر في مجتمعاتهما ودولهما.

وُلدت المسيحية من رحم اليهودية، لكن وبمجرد استقلالها عنها، بكنيستها وطقوسها، أخذت تنظر إليها كجماعة هرطوقية، وعندما قويت شوكة المسيحيين داخل الإمبراطورية الرومانية لم يتوقفوا عن اضطهاد اليهود، استنادًا إلى قوانين أصدرها الإمبراطور الروماني “ثيودسيوس” في القرن الرابع، وقد نسج على منوالها الملوك والأباطرة الألمان في القرنين الخامس والسادس، ثم البابا “هونوريوس الأول” في القرن السابع. ورغم أن اليهود قد تمتعوا بحماية الإمبراطور “شارلمان” وخلفائه لنحو القرن، فسرعان ما عاد الأمر إلى طبيعته السلبية. وفي قلب العصور الوسطى، تدعم اضطهاد المسيحيين لليهود بالخرافة؛ إذ جرى الحكم عليهم حكمًا شموليًّا كطغمة مشتغلين بالسحر يسخرهم الشيطان لتدمير العالم المسيحي روحيًّا وماديًّا، وهو اعتقاد ربما استمده المسيحيون من تفسيراتهم لبعض آيات العهد الجديد، حيث يقول المسيح لليهود: “لماذا لا تفهمون كلامي؟ لأنكم لا تقدرون أن تسمعوا قولي. أنتم من أب هو إبليس وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا”(يوحنا، 2: 43 – 44). وإبَّان الحروب الصليبية وقعت مذبحة القدس التي أراقت دماء آلاف اليهود والمسلمين معًا. وفي العصور الوسطى المتأخرة، وقع الاضطهاد الأبرز لليهود مواكبًا لخروج العرب من الأندلس، فاُضطر بعضهم إلى التحول قسرًا للمسيحية، لكن المسيحيين لم يقتنعوا بتحولهم فأطلقوا عليهم لفظ “المارانو” أي الخنازير، واستهدفوهم بأعمال شغب عاتية استمرت لربع القرن بين (1449 و1474) فجرى تدمير ممتلكاتهم ثم عرضهم على محكمة التفتيش التي حكمت بقتل ثلاثة عشر ألفًا منهم. وعندما وقع العاهلان (فرديناند، وإيزابيلا) في 1492 مرسوم طرد الجالية اليهودية الكبيرة في مدينة غرناطة- آخر المعاقل العربية- تحول 70 ألف يهودي إلى المسيحية خوفًا، واتجه 130 ألف إلى المنفى.

في المقابل، كانت الحضارة العربية هي الأكثر تسامحًا مع اليهود بالمطلق، خصوصًا في الأندلس، التي عاشوا في رحابها أفضل مراحل تاريخهم؛ حيث لمع أبرز فلاسفتهم ووصل بعضهم إلى قمة الصف الثاني من المناصب السياسية، ولم تبدأ معاناتهم إلا مع غروب شمس الحكم العربي، فكانوا يُذبحون ويُطردون مع المسلمين، وقد ذهب أغلبهم إلى جل البلدان العربية في شمال إفريقيا، وعاشوا فيها قرونًا عدة. وحتى الحرب العالمية الثانية كان المسلمون في بلغاريا وتركيا هم الأكثر تعاطفًا معهم في أوروبا ضد اضطهاد النازي إلى درجة المغامرة بالتستر عليهم أحيانًا في بيوتهم، بل إن الثقافة العربية الحديثة، وضمنها الفكر القومي العربي، احتفظت بتراث التسامح الإسلامي معهم، حتى أن ميلاد الحركة الصهيونية وقيام إسرائيل كدولة احتلال استيطاني لم يُثِر ضدهم اضطهادًا يذكر في بلدان كـ (مصر، العراق والمغرب) حتى حرب السويس على الأقل، حينما بدأ اليهود أنفسهم في إعادة تكييف هويتهم كصهاينة والهجرة إلى إسرائيل.

هنا تكمن المفارقة الكبرى في تعاطي الحضارتين مع اليهود، ففي مقابل الحضارة المسيحية الأوروبية التي اضطهدتهم طوال التاريخ الوسيط، وعزلتهم خلف جدران الجيتو مطلع العصر الحديث، وحاولت الخلاص منهم في قلب العشرين، إما بطردهم إلى خارج بلدانها بأشكال عديدة، أو حتى بإبادتهم جسديًّا عبر المحرقة النازية_ ثمة الحضارة العربية الإسلامية التي احتضنتهم، وأفسحت لهم مكانًا في شتى أرجائها، وعبر كل عصورها، حتى إن وجود المتدينين منهم لم ينقطع في فلسطين نفسها، خصوصًا في القدس، التي كانوا يمثلون نحو ثلاث بالمئة من سكانها مطلع القرن العشرين. تبلغ هذه المفارقة حد الخيانة الحضارية العظمى، عندما نجد اليهود يتحولون إلى صهاينة، يتوحدون نفسيًّا مع الحضارة الطاردة، قبل أن يعودوا ليغرسوا أنيابهم في أحشاء الحضارة الحاضنة، يتوسلون بالوحش الذي يتعقبهم لقتل صاحب البيت الذي يستضيفهم، فهل ثمة خيانة أكبر من تلك؟

أوروبا المسيحية والوجود اليهودي.

في سِفر الرؤيا من العهد القديم، يرى النبي دانيال أن عودة اليهود إلى أرض الميعاد وبناء الهيكل الثالث تمثل بشارة لعودة المسيح، وبداية المعركة الفاصلة (هرمجدون) مع الشر. إنها أيضًا بِشارة القديس يوحنا في العهد الجديد بعودة المسيح ليحكم البشرية ألف عام يسودها السعادة، وكأنها تولد ثانية بعودته، فيكون منها بمثابة آدم الجديد. كان ثمة اعتقاد استمر طيلة القرن الأول الميلادي بقرب تلك العودة التي ارتبطت بنهاية الزمان، ومن ثم مثلت تهديدًا لأمن الكنيسة، ولذا فقد حاربها القساوسة الأوائل الذين رفضوا التفسير الحرفي للكتاب المقدس، وفضلوا عليه التفسير المجازي. وعندما أصبحت المسيحية ديانة رسمية للدولة عام 380م أخذت الإمبراطورية الرومانية تحارب هذه العقيدة؛ كونها تثير الاضطراب وتهدد الأمن، حتى نجح القديس “أوغسطين” في وضع حد لها وذلك في كتابه “مدينة الله”، عندما فسر عودة المسيح مجازيًّا باعتبارها عودة روحية وليست زمنية. وعلى هذا، لم يكن الفكر الكاثوليكي يعتقد في ضرورة عودة اليهود إلى فلسطين، والمفترض أنها سوف تلي عودة المسيح، بل استمر الاعتقاد السائد لدى الكاثوليك بأن اليهود اقترفوا إثمًا عظيمًا طردهم الله بسببه من فلسطين إلى منفاهم في بابل. وعندما أنكروا أن عيسى هو المسيح المنتظر حكم عليهم بالشتات، وبذلك انتهى وجود ما يُسمى الأمة اليهودية إلى الأبد، وإن ظلوا كأفراد قادرين على تحقيق الخلاص الروحي من خلال اعتناق المسيحية.

في هذا السياق، جرى تأويل نبوءات عودة اليهود إلى فلسطين على أنها عودتهم الأولى من المنفي البابلي، والتي تحققت بالفعل في القرن السادس قبل الميلاد على يدي القائد الفارسي “قورش” الذي نظر إليه بعض اليهود على أنه المسيح. أما فقرات العهد القديم التي تتنبأ بمستقبل مشرق لإسرائيل، فكانت تُؤوَّل على أنها الكنيسة المسيحية التي باتت هي “إسرائيل الحقيقية” كوريث للديانة اليهودية. آنذاك، لم تكن القدس توصف بأنها صهيون اليهودية، بل مدينة العهد الجديد، ولم تتضاءل أهميتها كمدينة مقدسة “مسيحية” إلا بعد عام 590م، حينما جرى ترتيب التسلسل الكهنوتي واعتبار عرش البابا “جريجورى” العظيم في روما هو مركزًا للسلطة المسيحية، يليه أسقف القسطنطينية، ثم بطريرك الإسكندرية ثم أنطاكية، فيما أصبح أسقف القدس في المرتبة الخامسة من هيئة الكهنوت الكاثوليكي.

وبعد أن كانت الكنيسة الكاثوليكية تنظر إلى دراسة العبرية كبدعة يهودية، مجرد تسلية للهراطقة، اتخذت خطوات عنيفة لاجتثاثها طوال القرون الوسطى، فقد تغير الأمر بعد عصر النهضة، حينما أصبح طلاب العلم يتقنون العبرية مع اللاتينية واليونانية، وأصبحت معرفة العبرية جزءًا من الثقافة الأوروبية العامة. أما حركة الإصلاح الديني (البروتستانتية) فجعلت من الأدب العبري وتاريخ اليهودية جزءًا من منهج الدراسات اللاهوتية. وعندما تُرجم الكتاب المقدس بعهديه (القديم، والجديد) إلى اللغات القومية المختلفة، أعقاب قيام المصلح الشهير “مارتن لوثر” بترجمته إلى الألمانية، أصبح ما ورد في العهد القديم من تاريخ وشخصيات العهد القديم ومعتقدات العبرانيين، وضمنها فكرة أرض الميعاد_ أمورًا مألوفة في الفكر الأوروبي. كما عاد يسوع نفسه إلى مكانه في المخيلة المسيحية باعتباره نهاية سلسلة طويلة من الأنبياء العبرانيين كـ (إبراهيم وإسحاق ويعقوب) الذين صاروا محلًّا للتبجيل بديلًا عن القديسين الكاثوليك، وتطور الاهتمام بالتوراة باعتبارها كلمة الله، وأصبح العهد القديم هو المرجع الأعلى للسلوك والاعتقاد، باعتباره مصدر المسيحية النقية، والطريق إلى فهم النصوص بمعناها الواضح البسيط وليس اللاهوتي المعقد.

ولأن التعليم الذي كان الناس يتلقونه -آنذاك- بات يتكون من قراءة الأدب التوراتي، فقد أخذت الأجيال المسيحية اللاحقة تعتبر فلسطين بمثابة الوطن اليهودي، فلا هجرة سوى هجرة إبراهيم، ولا وجود لمملكة غير مملكة داوود التي سبقتها وتلتها ممالك كثيرة، ولا قيمة في المقابل للشعوب العربية التي عاشت في فلسطين قبل اليهود، خصوصًا الكنعانيين، أو حتى بعد اليهود سواء كانوا من المسيحيين أو المسلمين، رغم أن معظمها عاش فترات أطول من اليهود أنفسهم. ومن ثم أخذت فكرة الشعب المختار تحتل بؤرة وعي البيوريتانيين، والبيوريتانيون وهم البروتستانتيون الأتقياء، الداعون إلى التمسك الصارم بأهداب الدين والأخلاق الفاضلة، وقد نشأوا في بريطانيا أساسًا، ودعموا ثورة كرومويل، وبرحيله عانوا اضطهادًا دفعهم للهجرة أولًا إلى هولندا ثم إلى العالم الجديد. وقد انتقل الإحياء العبري من أوروبا إلى أمريكا عبر حركة الكشوف الجغرافية التي اقترنت بالتبشير؛ ففي رحلته إلى أمريكا كان كريستوفر كولومبس واثقًا في أن النبوءة المتعلقة بنشر الإنجيل في كل بقاع الأرض ستتحقق قبل نهاية العالم، بعد اعتناق الوثنيين للمسيحية والقضاء على المسيح الدجال، كما كان يعتقد أن اكتشافه سيقود في النهاية إلى تحرير القدس من أيدي العرب المسلمين وإعادة بناء المعبد، وأنه سوف يستخدم الذهب الذي يجده في العالم الجديد لإعادة بناء الهيكل كمركز للعالم وحلمة للكرة الأرضية.

وعندما جرى تأسيس الاتحاد الأمريكي باتت الفكرة البيوريتانية فكرة مركزية في تكوينه، مثلما صارت فكرة البعث اليهودي تجد قبولًا على نطاق واسع لدى الأمريكيين. وبعد أن كان هناك فصل واضح بين شعب العهد القديم/ العبري، الذي كان يعتبر مثاليًّا، وبين اليهود المعاصرين الذين يُنظر إليهم بازدراء، فقد تلاشى هذا الفصل ليصبح العبرانيون التوراتيون أسلافًا حقيقيين لأبناء دينهم المعاصرين، وساد الاعتقاد بين البروتستانت أن اليهود المشتتين حاليًّا سيُجمعون من جديد في فلسطين للإعداد لعودة المسيح. ومن ثم ولدت مسيحية صهيونية تتلاقى مع الصهيونية اليهودية في تأييد الوجود الاستيطاني لإسرائيل في فلسطين كمقدمة لصيرورة الخلاص ونقطة انطلاق خطة الرب لنهاية التاريخ. 

الغرب الحديث والكيان الإسرائيلي.

تدريجًا أخذ الغرب الحديث كله ينظر إلى اليهودية كجزء من تاريخه، وبات الجذر اليهو-مسيحي أحد جذرين أساسيين، مع الجذر اليوناني – الروماني، في تشكيل العقل الغربي. وفي المقابل، صار يُنظر إلى الإسلام، خصوصًا العربي، على أنه الآخر. ومن ثم ولد المسار الأوروبي الحديث الداعم للحركة الصهيونية، وتوالت مواقف السياسيين الغربيين، خصوصًا البريطانيين، المؤيدة للحلم الصهيوني، ربما كان أول هؤلاء هو اللورد “شافتسبري” الذي بنى صهيونيته على نبوءات توراتية بررها بالرجوع إلى الحقائق السياسية في إنجلترا الفيكتورية، وكان شافتسبري مثل الثائر الطهراني “أوليفر كرومويل” مهتمًا باليهود كشعب، ولكن تركيزه كان منصبًّا على إعادة هذا الشعب إلى فلسطين وليس على تحقيق الخلاص المدني أو السياسي لليهود في إنجلترا، محتجًا بأن السماح لهم بدخول البرلمان دون أداء القسم على الإيمان الصادق بالمسيحية يعتبر خرقًا للمبادئ الدينية. وحين أقر البرلمان قانون الخلاص عام 1861م، لم يكن المبشرون الكتابيون المعروفون بحبهم لشعب الله القديم هم الذين أيدوا إعطاء اليهود حق المواطنة الكامل، بل الليبراليون الذين كانوا أقل منهم تقوى بكثير.

كان اللورد “بالمرستون” (1784-1865م) أهم نصير سياسي لمشروع شافتسبري، وأول من اكتشف الفكرة السياسية في صلب الحلم الديني البروتستانتي. لم يكن بالمرستون بروتستانتيًّا مؤمنًا، ولم يكن بالرجل الذي تؤثر فيه الأفكار الدينية، ولم يكن عارفًا بالتاريخ العبري، ولكنه كان سياسيًّا محنكًا يفكر في كيفية توظيف الأفكار الصهيونية البروتستانتية.  ومثله، كان جوزيف تشامبرلين (1836-1914م)، يجسد النمط الجديد للصهاينة غير اليهود الذين ازداد عددهم بمطلع القرن العشرين، لم تكن النبوءة التوراتية تهمه، ولم يكن لديه التزام أدبي نحو اليهود بل كان اهتمامه الأكبر مُنصبًّا على الإمبراطورية البريطانية التي تسعى للهيمنة على الحضارة العالمية. ومع ذلك، رأى في الادعاءات الصهيونية فرصة حقيقية لتوسيع الإمبراطورية بواسطة مستعمرين ومستوطنين يجلبون الحضارة للأجناس الأقل شأنًا، والتي لا تخضع- من وجهة نظره- لحكم قانون.  ولهذا كان الدعم البريطاني، للحركة الصهيونية في السيطرة على المجتمع الفلسطيني تحت الانتداب، وهو ما تجلَّى أولًا في وعد السير “آرثر بلفور” الذي صدر في 1917، ثم في المساعدة في إجهاض الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936، وفتح الباب واسعًا أمام الهجرة الصهيونية.      

أعقاب الحرب العالمية الثانية، ومن رحم المحرقة النازية، تعضد اللاهوت الثقافي بلاهوت سياسي جوهره تعضيد إسرائيل كدولة استيطانية منذ لحظة إعلانها عام 1947م. وعندما وصلنا إلى ستينيات القرن العشرين، نال هذا المسار دفعة كبيرة  بفعل الحوار الناجح الذي أجرته الكنيسة الكاثوليكية مع اليهود في المجمع المسكوني الثاني (1982 – 1965) حيث صار محلًّا لإجماع العقل الغربي، وتحول إلى ما يشبه اعتقاد حضاري شامل وليس دينيًّا فقط، يزداد عمقًا كلما زاد الاحتقان الغربي، لا نقول المسيحي، مع الإسلام، حتى إن أبرز الكتابات التي تلح على عمق التناقض الغربي مع الإسلام، هي ذاتها التي تلح على وحدة الأصل اليهو- مسيحي للغرب.        

تغلغل هذا الاعتقاد الحضاري في بنية النظام السياسي الأمريكي بالذات، إلى درجة صارت معها العلاقات الأمريكية – الإسرائيلية تنسج على منوال الاستثنائية، لا تضاهيها العلاقة مع أية دولة أخرى حتى بريطانيا، دولة الرحم الأمريكي نفسها؛ إذ جرى النظر إلى إسرائيل كولاية أمريكية، واُعتبر أمنها جزءًا من الأمن القومي الأمريكي، وحمايتها بمثابة هدف أساسي لمجمل إستراتيجياتها في الإقليم. ومن ثم وجدت جميع السلوكيات العدوانية الإسرائيلية من حروب هجومية، وتوسعات استيطانية، واغتيالات دائمة_ تأييدًا لا يمكن تفسيره إلا على أساس تلك العاطفية الدينية من قبل الإنجيليين الأمريكيين، الذين ينظرون بإعجاب شديد إلى إسرائيل المعاصرة، كتجسيد لأمريكا الحديثة، أي كدولة مهاجرين وبوتقة صهر لنوع معقد من الشتات. وهكذا تورط الغرب في موقفين لا أخلاقيين من اليهود رغم تناقض اتجاههما:

الأول: يفتقد للتسامح والإنسانية، ويتمثل في الموقف العنصري الذي خلق المسألة اليهودية بالأساس، وشكل تراث الجيتو، ليجعل من اليهود بـ (السلب) تكوينًا استثنائيًّا يجوز اضطهاده وعزله، وقد وصل هذا الموقف إلى ذروته على أيدي النازي الذي حاول طردهم خارج الغرب الأوربي كله كما تقول بعض الروايات أو إبادتهم جسديًّا كما تقول رواية المحرقة، فما صنع خصوصية الاضطهاد النازي قياسًا إلى اضطهاد العصور الوسطى، هو أن الأخيرة تمثلت في حركات شعبية تأتي من أسفل، بينما جرى استلهام الأولى وتنظيمها من أعلى على يد موظفي الدولة النازيين.

أما الثاني: فيفتقد للعدالة والتوازن، وهو الموقف الليبرالي الذي جاء بمثابة اعتذار غليظ عن الموقف النازي، عندما جعل من اليهود بـ (الإيجاب) تكوينًا لا تاريخيًّا، وتبني حقهم ليس فقط في حياة إنسانية كريمة داخل تواريخهم الفرعية، المتناثرة في بلدان عديدة، بل وأيضًا بمساندة طموحاتهم الصهيونية إلى خلق وطن جديد وابتداع تاريخ متجانس يضم كل اليهود، يتعالى على كل تواريخ الفرعية، وذلك بالاستناد إلى أساطير توراتية عن ماضٍ تليد تم اعتمادها كحقائق وشواهد لتاريخ جديد مصطنع يستهدف إنهاء تاريخ آخر حي وواقعي للشعب العربي الفلسطيني الذي كان وعلى عكس المقولة الصهيونية موجودًا وليس غائبًا، مكافحًا غير مستسلم بقدر ما أتاحت له ظروفه من وسائل وأدوات.

في تفسير الوضع الراهن.

تبدو العلاقة بين العالمين (العربي الإسلامي، والغربي المسيحي) إشكالية إلى أبعد مدى؛ إذ يمكن مقاربتها من زاويتين نقيضين: الزاوية الأولى تمجد التشابه، والناظر منها يرى حضارتين شقيقتين، اعتمدت كلتاهما- ولو بنسب مختلفة- على الوحي التوحيدي والتراث الإبراهيمي، وتغذتا معًا على الفلسفة والعلوم اليونانيتين، وعلى تراث الشرق الأدنى الضارب في أعماق التاريخ، خصوصًا (المصري، البابلي والفارسي). وقد بلغ التشابه حدًّا صار معه الانقسام الثقافي الراهن داخل العالم العربي بين تيارات تقليدية وأخرى حديثة، وما يصاحبه من اتهام التيارات التقليدية للنخب الحديثة بموالاة الغرب والتفريط في أصالة الأمة، بمثابة تكرار للاتهامات التي كانت تدور على ألسنة الرجعيين الأوروبيين في العصور الوسطى، والذين كانوا يتهمون النخبة الأكثر ثقافة وتذوقًا للفنون والآداب العربية، خصوصًا في الأندلس، بالافتتان بالعرب والتفريط في الهُوية المسيحية، وكانت الكلمة الأكثر إفصاحًا عن هذا الاتهام هي “الاستعراب” والتي توازي كلمة “التغريب” في القاموس الراهن للتيار السلفي العربي.

أما الزاوية الثانية فتمجد التناقض، يرى الناظر منها حضارتين متصارعتين على الهيمنة العالمية طيلة التاريخ المكتوب، حتى من قبل نزول المسيحية والإسلام. فعلى الجانب الشرقي، كان ثمة حضارات وإمبراطوريات ودول كـ (مصر، بابل، قرطاجنة وفارس) ثم الخلافتين (الأموية، العباسية) وصولًا إلى المغولية والعثمانية. وعلى الجانب الغربي، ثمة الدولتان (المينوية، الأثينية)، ثم الإمبراطوريات (المقدونية، الرومانية المقدسة، البيزنطية، وحتى الإمبراطوريات الأوروبية الحديثة). وفي مقابل الهيمنة العربية على الجنوب الغربي الأوروبي، والتوسع العثماني في البلقان والشرق الأوروبي، نجد الهيمنة الرومانية ثم الصليبية على الشمال العربي، والاستعمار الأوروبي الحديث لمعظم أرجاء العالم الإسلامي.

الناظرون من الزاوية الأولى يرون أن الأديان لا تتصادم، والحضارات لا تتصارع، فمن يتصادم ويتصارع ليس إلا كهنة الدين وسدنة السياسة؛ استغلالًا لمخاوف الإنسان أو خضوعًا لجشعه. ويرى هؤلاء أن ابن رشد قد وقَّر أرسطو كما لم يوقره فيلسوف مسيحي، وأن أوروبا اللاتينية بادلته هذا التوقير بمثله، فاستدعته إلى نهضتها الحديثة. وكما قدم العرب لأوروبا القروسطية عبر الترجمة والتعليق والإضافة، كل الأعمال الكبرى في الفكر اليوناني، على نحو مكنها من اكتشاف جذورها_ فإن أوروبا الحديثة قدمت للعرب بعض مكونات جذورهم التي كادت تستغلق عليهم لو لم يكن هناك أمثال شامبليون، الذي منحهم أهم أبجدياتهم القديمة “الهيروغليفية” ليتعرَّفوا بها على أنفسهم، ويتعرف العالم عليهم. ويفسر هؤلاء جميعًا ما دار بين العالمين من حروب باعتبارها ظاهرة طبيعية لم تكن أبدًا غريبة على زمن تقليدي صاغته دومًا قوة السيف، والقدرة على الكر والفر، لا يمكن تمييزها جوهريًّا عن تلك الحروب والصراعات التي مورست داخل كل مجال حضاري على حدة، كالغزو النورماندي لبريطانيا السكسونية، والقوطي لإسبانيا الكلتية، والجرماني للإمبراطورية الرومانية المقدسة، أو حتى الحروب الدينية بين القرنين (السادس والسابع عشر) أو الغزو المغولي، ثم التركي للمشرق العربي، أو الصراع العثماني – الصفوي على هذا المشرق مطلع العصر الحديث.

أما الناظرون من الزاوية الثانية، فيحملون تصورات اختزالية متبادلة. فعلى الشاطئ العربي، نجد تيار سلفي يرفض الحداثة، ولد من رحمه تيار جهادي ينظر إلى الغرب المسيحي كدار حرب تواجه بالضرورة أرض الإسلام، ويراه متآمرًا أبديًّا على أصالتنا المتفردة، يلتبس بصورة (إبليس)، التي أنتجها الخيال الديني عن الشر المطلق، المحيط بقصة الخلق والوجود البشريين، والذي ينفق جل جهده ووقته في إغواء الإنسان وجره إلى الهاوية. وعلى الشاطئ الغربي، نجد تلك التصورات الأقنومية التي صاغها الشاعر الإنجليزي “رودياردكبلنج عن شرق أقنومي لا يتغير يواجه غربًا أقنوميًّا مكتملًا، حتى جعل من التناقض لاهوتًا ثقافيًّا يقول: “الشرق شرق والغرب غرب.. ولن يلتقيان”. ونجدها أيضًا لدى كريستوفر داوسون الذي تحدث عن انفصال كامل بين الخيال الثقافي اليوناني المتمحور حول الفلسفة وبين الخيال الثقافي الإسلامي المرتكز إلى الدين، معتبرًا أن محمدًا (صلى الله عليه وسلم) هو رد فعل الشرق الجذري على تحدي العقل اليوناني وفتوحات الإسكندر المقدوني. ونجدها كذلك عند مستشرقين أوروبيين صاغوا تنميطات استعلائية عن شرقنا المسلم باعتباره “أسطوريًّا” و”واستبداديًّا” و”غريزيًّا” في مواجهة غرب اعتبروه “عالمًا” و”عقلانيًّا” و”واقعيًّا”. وقد استنتجت تلك التنميطات وقوع صدام حضاري وشيك بين العالمين، نظَّر له صامويل هنتنجتون صراحة، وبرنارد لويس ضمنًا.

شخصيًّا، انحزت دومًا وتلقائيًّا إلى الزاوية الأولى، حتى جاءت حرب غزة بكل ما أحاط بها من ملابسات ومواقف تشي بأن الأمر ربما كان أكثر تعقيدًا مما اعتقدت، ليس أقلها ما أعلنه وزير الخارجية الأمريكي من أنه يهودي قبل أن يكون أمريكي، وإعلان الرئيس الأمريكي أنه صهيوني رغم أنه ليس يهوديًّا. والبادي لنا أن ثمة ضغائن تاريخية لا تزال كامنة في العقل الغربي الحديث/ العلماني وتوجه بعض سلوكياته الراهنة، وبالأخص إزاء الحضارة العربية الإسلامية، القطب الوحيد غير الغربي الذي تمكن، لأربعة قرون كاملة، من فرض هيمنته على عالم البحر المتوسط، والتحكم في طرق تجارته مع البحر الأحمر، وأن يحبس أوروبا في داخل جغرافيتها، ويجعلها تعيش نهارها وتبيت ليلتها على هواجس اقتحامه لها. ورغم التخلف العربي الراهن، تظل الذاكرة الحضارية لأوروبا تختزن تلك التجربة، بل تراها ركيزة صالحة لبعث حضاري جديد لابد وأن يصاحبه تشكيل هوية إستراتيجية عصية على الهيمنة الغربية، وإذ يخشى الغرب من ذلك الانبعاث فمن الطبيعي أن يحاربه ويحاول إعاقته، وهو ما يجري بالفعل منذ نحو القرن، بتوظيف نموذجي لنوعين من الجماعات الوظيفية:

النوع الأول: هو حركات الجهاد الإسلامي، فالملاحظة اللافتة أن تلك الجماعات، خصوصًا السنية، قد نأت بنفسها عن العدوان الإسرائيلي الهمجي على غزة ولبنان، وحتى الأكثر توحشًا منها كـ (القاعدة، داعش) لم يصدر عنها صوت واضح رغم كل ادعاءاتها وخطاباتها عن ضرورة الجهاد دفاعًا عن عزة الإسلام، رغم إنها كانت تتمركز في المنطقة الممتدة بين (سوريا، العراق)، ويسهل عليها الانتقال إلى غزة وجنوب لبنان. وحتى عندما أسقطت جبهة تحرير الشام نظام بشار الأسد وسيطرت على مقاليد الحكم في سوريا، لم تبدي انشغالًا بإسرائيل، أو عزمًا على الرد على هجماتها التي دمرت البنية التحتية للعسكرية السورية. كما لم تكشف عن أي اتجاهات مناوئة للغرب الذي لم تتوقف عن نقده سواء بصفته المسيحي الصليبي الذي يريد اجتثاث عقيدة الإسلام أو بصفته العلماني الملحد، الذي يتآمر لنشر الرزيلة والإلحاد في ديار الإسلام تحت مظلة الحداثة والاستنارة. فلماذا ضيعت تلك الجماعات على نفسها فرصة محاربة العدو البعيد وقد صار قريبًا، دفاعًا عن حركة مقاومة إسلامية، تعد شريكًا أيديولوجيًّا لهم، ولو من باب المزايدة على المسلمين الآخرين؟ أو حتى دفاعًا عن أنفسهم وأرضهم؟

فإذا ما أضفنا إلى ذلك التجربة الأفغانية بكل إرثها وتحولاتها، وبالأخص ظاهرة الأفغان العرب الذين جرى تجنيدهم من الولايات المتحدة للقتال ضد القوات السوفيتية، بمال سياسي عربي وموافقة رسمية ضمنية، وكذلك تجربة الخلافة الداعشية المزعومة في العراق وسوريا، لأدركنا إلى أي مدى باتت تلك الحركات الجهادية تدور في فلك المخططات الأمريكية، خصوصًا منذ الربع الأخير من القرن العشرين، أي في مواكبة الهيمنة الأمريكية المتزايدة على النظام العالمي، مثلما دارت جماعة الإخوان المسلمين، جذر الإسلام السياسي، في فلك بريطانيا، حينما كانت الأخيرة هي الأكثر هيمنة على النظام العالمي حتى منتصف القرن العشرين. بل يمكننا القول أيضًا، أن العقل السياسي الغربي يكاد يكره العرب المسلمين المتجذرين في ثقافتهم القومية ولو كانوا عقلانيين ومعاصرين، مواكبين للحداثة، مطالبين بالديمقراطية، اللهم إلا إذا كانوا مستعدين للعمل أبواقًا لخطاباته الفكرية وأطروحاته السياسية الملتبسة وعلى رأسها ديمقراطية الدبابات التي أطلقها البعض عام 2003م، حينما غزت الولايات المتحدة العراق بحجة دمقرطته واقتلاعه من قبضة المستبد العلماني “صدام حسين”، فانتهى الأمر بتفكيك جيشه وتهديم عمرانه وضمنه المكتبات والآثار التاريخية، وإثارة الفوضى في نسيجه الاجتماعي، فكانت المحصلة آلاف القتلى ومئات المليارات المنهوبة فضلًا عن حكم مستبدين دينيين موالين لإيران.

والنوع الثاني هو الحركة الصهيونية، كقومية علمانية لا علاقة لها بالديانة اليهودية، بل كمجرد دمية للإستراتيجيات الغربية. فأوروبا هي التي اضطهدت اليهود سواء طيلة العصور الوسطى المظلمة بذريعة الأفكار الخرافية عن الساحرات الشريرات، وبقوة الأفكار الدينية التي تحملهم المسؤولية عن صلب المسيح. أو في العصر الحديث، بقوة الوسائل التقنية التي صنعت المحرقة النازية. ومن ثم فهي التي شكَّلت ذاكرتهم الحانقة، المملوءة بالشك والقلق والخوف، وهي من قررت الخلاص منهم نهائيًّا عبر تجربة الهولوكست الساحقة. وعندما تبدت وحشية المهمة استسهلت الدفع بهم خارجها، مع استغلالهم في إحكام قبضتها علينا، فألقت بهم كقنابل ملغومة في أرضنا؛ حيث كان التعهد البريطاني برعاية الحلم الصهيوني في فلسطين مواكبًا للهيمنة البريطانية على المنطقة والعالم، كما كان الدور الأمريكي في تغذية الجسد الإسرائيلي مواكبًا للقطبية المنفردة في العالم. وهكذا يتبين بوضوح شاهق كيف كانت إسرائيل دومًا كيانًا وظيفيًّا في خدمة المشروع الاستعماري الغربي، تديره الدولة التي تقود الغرب إستراتيجيًّا في كل حقبة تاريخية. وفي هذا السياق، نجد أن الغرب قد حابى التيار الصهيوني على حساب شتى الأطياف اليهودية، سواء من أصحاب الفهم الإنساني للتاريخ اليهودي، الأوفياء لحركة الاستنارة اليهودية (الهاسكالا) على منوال حركة المؤرخين الجدد وتيار ما بعد الصهيونية من قبيل: أفي شلايم، إيلان بابيه، نورمان فنكلشتاين، …وغيرهم ممن تبنوا الحل الإنساني للصراع العربي – الإسرائيلي، أو كانوا من الحريديم الأتقياء، الذين لا يعترفون بدولة إسرائيل، كونها تلعب دور المخلص السياسي للشعب اليهودي من الشتات، وتتغول على إرادة الرب باستباق الخلاص الديني الذي يبقي في  يدي يهوه وحده، ويبدأ فقط مع عودة السيد المسيح.

وعلى هذا، يتأكد لدينا كيف يتلاعب الغرب الحضاري والإستراتيجي بالعرب المسلمين وباليهود الإسرائيليين معًا، سواء من خلال حركات الجهاد العبثي التي تمثل طابورًا خامسًا داخل مجتمعاتنا، أو من خلال الحركة الصهيونية التي جعلت من إسرائيل قلعة عسكرية متقدمة، تكاد تشبه إمارة بيت المقدس الصليبية، ومن ثم تدافع عنها نخب الحكم الغربية بكل شراسة ممكنة، ليس لأجل سكانها بل باعتبارها استثمارًا إستراتيجيًّا ناجحًا.

اظهر المزيد

صلاح سالم

كــاتب ومفــكر بجريدة الأهرام

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى