ظهرت مؤخّرا فكرة إمكان قيام منظومة سياسية وأمنية إقليمية تضم بلدان من “الشرق الأوسط”، أو “ناتو” شرق أوسطي، بدفع أو بتحفيز عديد من الأسباب والعوامل، يكمن أهمها في:
أولًا: افتقاد تلك المنطقة لإطار أمن جماعي، سيما مع تراجع أو غياب العمل العربي المشترك، لصالح نشوء محاور بين دول عربية متنازعة، ومع الاهتزازات التي شهدتها بعض بلدان العالم العربي في العقد الماضي، وبواقع انكشافها إزاء مداخلات وتدخلات القوى الإقليمية الأخرى (إيران، وتركيا، وإسرائيل، وإثيوبيا).
ثانيًا: المخاوف، أو الأخطار الناشئة من تزايد نفوذ إيران في (العراق، وسوريا، ولبنان، واليمن)، وتصديعها وِحدةَ مجتمعات تلك الدول، ويأتي ضمن ذلك سعيُها حيازة قوة نووية، وترسانة صاروخية، ودعمها ميلشيات طائفية مسلحة كذراع إقليمية لها في أكثر من بلد.
ثالثا: السعي لإلزام الولايات المتحدة الأمريكية بما يعتقد، من قبل معظم الأنظمة العربية أنه مسؤولياتها في المنطقة، بالنظر إلى لامبالاتها بالأخطار التي تتعرض لها البلدان العربية، وعدم حساسيتها إزاء خصوصيات الواقع العربي، ويأتي ضمن ذلك محاولة الضغط على إدارة بايدن، التي تُبدي تراخيًا إزاء سياسات إيران في المنطقة، وأيضًا لدفعها لاتخاذ موقف حازم لمنع إيران من التحول إلى قوة نووية، وضمنه عدم إحياء الاتفاق النووي معها.
رابعًا: نشوء واقع جديد يتأسس على إقامة بعض الدول العربية علاقات سياسية وأمنية واقتصادية مع إسرائيل، انطلاقًا مما يُعرف باتفاقات “إبراهام”، التي رعتها إدارة ترامب والتي عُقدت بين إسرائيل وبعض الأنظمة العربية (سبتمبر 2020).
خامسًا: فاعلية حلف “الناتو” في دعم أوكرانيا في مواجهتها للغزو الروسي لأراضيها، إذ شهد العرب- حكومات ومجتمعات- الدعم الأمريكي (والغربي) اللامحدود لأوكرانيا، في مقابل خذلانها المصالحَ والحقوق العربية، في أكثر من موضوع، ما يؤكد سياسة المعايير المزدوجة في العلاقات الدولية.
الدوافع والإشكاليات:
بيد أن مجرد طرح تلك الفكرة، أي فكرة منظومة (أمنية، وسياسية إقليمية)، أو ناتو شرق أوسطي، لا يعني أنها سهلة التحقيق، أو أنها باتت موضوعة على رأس الأجندة من قبل الأطراف المعنيين، على قدر المساواة؛ إذ ثمة تعقيدات، ومشكلات، واختلافات كثيرة تقف في الطريق، وهذا ما يمكن ملاحظته بسهولة في طريقة تعاطي البلدان العربية مع طروحات الإدارة الأمريكية، وهو ما ظهر جليًّا في الفتور الذي رافق زيارة الرئيس بايدن لبعض دول الشرق الأوسط (يوليو 2022)، وضمنه موقف (المملكة العربية السعودية، وحتى مصر)، الرافض لإنشاء محور في المنطقة موجَّهًا ضد طرف معين، والمطالب بإيجاد حل للقضية الفلسطينية قبل التوجه نحو أي شكل من أشكال العلاقة مع إسرائيل.
في المقابل، فإن عدم ترجمة تلك الفكرة حاليًّا، واستبعادها من هذا الطرف أو ذاك، لهذا السبب أو ذاك، لا يعني أنه تم صرف النظر عنها، أو أنه لا يجري العمل على ترجمتها بشكلٍ تدريجي في أكثر من مجال، وأكثر من مستوى، على الأقل بين الأطراف المتحمسين لها، مع الأخذ في الاعتبار قيام علاقات أمنية، واتفاقات منظومات دفاعية بين دول عربية وإسرائيل. وأيضًا، مع ملاحظة العلاقات الوطيدة التي تربط البلدان العربية بالولايات المتحدة الأمريكية تاريخيًّا، ومن مختلف الجوانب، رغم ما يشوب ذلك من اختلاف في وجهات النظر، وفي الأولويات والسياسات بين مرحلة وأخرى، وقد ظهر ذلك واضحًا في طريقة مخاطبة القادة العرب للرئيس جو بايدن إبَّان لقائهم به في الزيارة المذكورة.
هكذا، فإن هذه المقالة ستحاول مناقشة هاتين الإمكانيتين من دون أن يعني ذلك أن ثمة يقين في التقرير، أو الحسم في شأن واحدة منهما، بإعتبار أن المنطقة تمر بمرحلة في غاية من السيولة السياسية، إذ اعتادت الأطراف الفاعلة فيها على إعادة تموضعها السياسي بحسب الظروف وتغير المعطيات والمصالح، على الصعيدين (الإقليمي، والدولي).
مشروعية الفكرة عربيًّا
ثمة عديد من المحفزات أو الدوافع، التي تفترض إقامة منظومة (أمنية، وسياسية إقليمية) من وجهة نظر عربية، كما قدمنا، نظرًا لحجم الأخطار والتحديات التي تواجه العالم العربي، سيما مع الأطراف الإقليمية الأكثر احتكاكًا معه (إسرائيل، إيران، تركيا، إثيوبيا)، وبواقع انكشافه إزاء المداخلات الخارجية الدولية، وحاجته إلى تطوير علاقات الاعتماد المتبادل لتطوير أحواله، مع ذلك فإن العالم العربي مازال يفتقر لمثل تلك المنظومة، ويفتقر للإدراكات اللازمة لضرورة قيامها، كما أنه يفتقر أصلًا لعوامل الاستقرار السياسي والاجتماعي داخليًّا.
على أية حال ففي نقاش تلك الفكرة يفترض عدم الخلط أو التمييز بين ضرورة إقامة منظومة (أمنية، وسياسية، واقتصادية) تضم الوحدات المشكلة للعالم العربي أو بعضًا منها، ومنظومة (أمنية، وسياسية، واقتصادية إقليمية) تضم دولًا عربية مع دول غير عربية من دول الجوار الإقليمي، مثلًا: (إيران، أو تركيا، أو إثيوبيا)، وأيضًا التمييز بين مثل هكذا منظومة وأخرى تضم إسرائيل، إذ لكل حالة أغراضها وإشكالاتها واستهدافاتها.
هكذا ومع التسليم من حيث المبدأ بضرورة إقامة منظومة عربية، فإن ذلك يحيلنا إلى واقع جامعة الدول العربية، وهيئاتها المختلفة، وإلى “معاهدة الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي”، بين الدول الأعضاء في الجامعة (كانت وقعت في القاهرة عام 1950)، ونشأ عنها مجلسان: “مجلس الدفاع المشترك”، و”المجلس الاقتصادي” (أُعيد تسميته إلى “المجلس الاقتصادي والاجتماعي” عام 1980).
لكن، وتبعًا للتجربة التاريخية، فثمة عوامل معروفة تعترض عمل هذه المنظومة، ولا تمكنها من الارتقاء بالعمل العربي المشترك إلى مستوى مواجهة التحديات والمخاطر التي تشهدها المنطقة، بل إن هذه التحديات والمخاطر لم تُحل دون نشوء محاور عربية مختلفة، أو دون نشوب نزاعات مسلحة داخلية وخارجية أحيانًا.
طبعًا لا تتحمل “جامعة الدول العربية”، كمنظمة إقليمية المسؤولية عن هذا القصور؛ لأن الوحدات المشكلة لتلك الجامعة هي التي قررت حدودها، أو طبيعة دورها، إذ المادة الثانية من ميثاقها تنص بأن “الغرض من الجامعة توثيق الصلات بين الدول المشتركة فيها، وتنسيق خططها السياسية، تحقيقًا للتعاون بينها وصيانة لاستقلالها وسيادتها، والنظر بصفة عامة في شؤون البلاد العربية ومصالحها…الآتية:(1) الشؤون الاقتصادية والمالية، ويدخل في ذلك التبادل التجاري والجمارك، والعملة، وأمور الزراعة والصناعة. (2) شؤون المواصلات، ويدخل في ذلك السكك الحديدية، والطرق، والطيران، والملاحة، والبرق، والبريد. (3) شؤون الثقافة. (4) شؤون الجنسية، والجوازات، والتأشيرات، وتنفيذ الأحكام وتسليم المجرمين. (5) الشؤون الاجتماعية. (6) الشؤون الصحية.”
هكذا، يمكن الاستنتاج من كل ما تقدم بأنه لا يوجد منظومة عمل جماعي فاعلة بمعنى الكلمة، ولا يوجد منظومة أمن إقليمي عربي، كحلف “الناتو”، مثلًا، بمعنى حلف له (هياكله، وإدارته، وتمويله، وقواته الخاصة)، وأنه إذا كان ثمة حاجة لهكذا منظومة (سياسية، وأمنية، واقتصادية)، فإن الأجدى هو تفعيل جامعة الدول العربية، والارتقاء بمؤسساتها، وبدورها، لكن ذلك لا يمكن توقعه للأسف، في ظل الظروف السياسية السائدة، أو في ظل واقع الأنظمة العربية في المدى المنظور؛ لأن هكذا تحول، أو تطور، يتطلب تنازلًا من الدول عن بعض من سيادتها لصالح المنظومة الأم أو الأكبر، أو تنازلًا عن جزء من مصلحة كل دولة لصالح المصالح العربية المشتركة، على نحو ما تشتغل منظومة حلف الناتو، أو منظومة الاتحاد الأوروبي.
من ناحية أخرى، فإن العالم العربي مع افتقاده الهياكل اللازمة لهكذا منظومة، وافتقاده للإرادة السيادية اللازمة للارتقاء بمنظومات التعاون العربي – العربي، فهو يفتقد أيضًا، لتعريف ماهية الأمن القومي، أو تعريف المخاطر العربية المشتركة، وهذه معضلة كبرى. ففي الحال الراهنة لا يبدو أنه من السهل إيجاد إجماع عربي على المخاطر المشتركة، فهل هي تأتي من إسرائيل مثلًا، أم من إيران أم من تركيا أم من إثيوبيا؟ من طرفين أو أكثر من تلك الأطراف؟ ثم ماذا بشأن المداخلات من الأطراف الدولية، كالولايات المتحدة، أو روسيا، في هذا البلد أو ذاك؟
دور الأطراف الإقليمية:
وإذا تجاوزنا مكانة إسرائيل، فإن الطرفين الإقليميين الآخرَين (إيران، وتركيا) كل واحدة منهما تطرح نفسها كطرف معنيٍّ بالمشاركة بمنظومة أمن إقليمي في الشرق الأوسط؛ لتأمين مصالحها، وتعزيز مكانتها فيها. وهذا ما تفعله إيران من مدخل نفوذها في منطقة (الخليج واليمن)، ومن مدخل هيمنتها عبر الأذرع الميلشياوية الموالية لها في (لبنان، وسوريا، والعراق). وبدورها فإن تركيا تحاول ذلك من خلال وجودها في الشمال السوري، وتواجدها في ليبيا وفي قطر، هذا دون أن ننسى إثيوبيا، سيما بتحكمها بمنابع نهر النيل.
مع ذلك يمكن تمييز (إسرائيل، وإيران) كالطرفين صاحبا التأثير الأكبر، والأخطر على النظام العربي، وعلى مفهوم الأمن القومي العربي، وعلى الاصطفافات في المنطقة العربية. ويصوِّر هذه الحال المحلل الإسرائيلي “ناحوم برنياع” على النحو الآتي: “دول مثل إيران وإسرائيل…هما المغناطيسان، مركزا القوة اللذان حُكِمَ على دول المنطقة المناورة بينهما، من لا يريد إيران سيكون عليه في نهاية الأمر التعاون مع إسرائيل، علنًا أو سرًا، دون إسرائيل فإنه سيكون مكشوفًا، بايدن يمكنه أن يعرض سلاحًا، أموالًا، دعمًا سياسيًّا، ودعمًا معنويًّا، ويمكنه التوسط والقيام بمصالحات، ما تبقى سيحسم هنا- في المنطقة- سواء مع أمريكا في المقدمة أو مع أمريكا في الخلف.” (“يديعوت أحرونوت”، 14/7/2022)
ويستنتج من كل ذلك أن ثمة سيولة كبيرة في مشهد التفاعلات العربية مع الأطراف الإقليمية والدولية، وثمة انكشاف عربي على الفاعلين الخارجيين، سواء بسبب المشكلات الداخلية العربية، أو بسبب الافتقاد إلى إجماع عربي بشأن مفهوم الأمن القومي، واختلاف الأولويات العربية، وضمن ذلك اضطراب التفاعل مع الأطراف الخارجية.
ميزات موجة التطبيع الجديدة:
مع ذلك فإن الحديث في شأن إقامة منظومة إقليمية، أمنية وسياسية واقتصادية، في الشرق الأوسط يخص تحديدًا إسرائيل، بخاصة مع توقيع “اتفاق إبراهيم” (سبتمبر 2020)، وتطبيع عديد من الدول العربية علاقاتها معها، ويأتي ضمن ذلك دولة الإمارات، والبحرين، والمغرب، (إضافة إلى مصر والأردن سابقًا). ولعل وما يميز الموجة الجديدة من التطبيع، أن الأمر لم يعُد يقتصر على مجرد علاقات طبيعية، إذ هو انتقل إلى الصعيد الأمني والاقتصادي (مع الإمارات، والبحرين، والمغرب).
بيد أن ذلك لا يغطي أن ثمة مشكلات تعوق إنجاز تلك المنظومة: المشكلة الأولى: تتمثل بموقف المملكة العربية السعودية، بخصوص عدم نضج الوضع العربي للتطبيع، ومعارضتها إقامة منظومة أمنية في المنطقة تضم إسرائيل. والمشكلة الثانية: تتعلق بإسرائيل التي ترفض أن تتقدم بأية خطوات في التسوية مع الفلسطينيين، كما حصل سابقًا في التسعينيات بخصوص مشروع “الشرق الأوسط الجديد”. والمشكلة الثالثة: تتمثل بموقف الولايات المتحدة الأمريكية إزاء أمن المنطقة، ولا سيما بما يتعلق بالتهديد الذي تمثله إيران، الأمر الذي يضعف الثقة بها من قبل عديد من الحكومات العربية (بخاصة المملكة العربية السعودية، ومصر)، وطبعًا يمكن أن يُفهم في خلفية ذلك إدراك تلك الحكومات بأن توجه الإدارة الأمريكية لها ما كان ليتم لولا حاجتها للنفط والغاز، في ظل التداعيات الناجمة عن الغزو الروسي لأوكرانيا.
وكما قدمت، فإن عدم الحماس لمنظومة إقليمية تتواجد ضمنها إسرائيل، لا يعني طي هذا الملف أمريكيًّا، ذلك أن العمل يجري بطريقة مباشرة وغير مباشرة في اتجاهين:الأول، هو إنشاء منظومة إقليمية من دول عربية مع الولايات المتحدة الأمريكية، مع تعزيز العلاقات الثنائية في هذا المجال. والثاني، يتمثل بإقامة علاقات تعاون (عسكري، وأمني، واقتصادي) بين إسرائيل وبعض الدول العربية، بشكلٍ ثنائي أو ثلاثي.
التحفظ على المنظومة الإقليمية:
هكذا، فقد تحفظت المملكة العربية السعودية على التطبيع مع إسرائيل، وعلى فكرة تشكيل منظومة إقليمية معها، الأمر الذي فاجأ بعض الأطراف التي راهنت على إمكان فتح هذا الباب بدفع من الرئيس جو بايدن (في زيارته للسعودية ولقائه عديد من القادة العرب)، وبضغط مواجهة الخطر الإيراني.
وكانت زيارة الرئيس الأمريكي “جو بايدن” للسعودية (يوليو 2022) مناسبة للإفصاح عن الموقف السعودي، الذي تجلى بشكلٍ خاص في مسألتين: أولهما، التركيز على التعاون العسكري الثنائي مع الولايات المتحدة، بإنشاء فرقة مشتركة في البحر الأحمر، وأخرى مشتركة في خليج عمان وشمال بحر العرب تقودها السعودية، واتفقا على عمل القوات السعودية مع الأسطول الخامس الأمريكي، مستخدمين التقنية الحديثة من السفن غير المأهولة والذكاء الصناعي في حماية المجال البحري…شمل التفاهم اتفاقيتين في مجال الأمن السيبراني…” (عبد الرحمن الراشد، “الشرق الأوسط”، 17/7/2022). ثانيهما: فرملة موجة التطبيع الثانية، وتحجيم فكرة إنشاء منظومة إقليمية مع إسرائيل.
وقد عبر “فيصل بن فرحان” وزير الخارجية السعودية عن موقف المملكة بشكلٍ صريح، قاطعًا كل المراهنات حول إمكان تغييرها لموقفها، بتأكيده أن لا علاقة لاجتماع جدة- الذي جمع عدد من قادة الدول العربية مع الرئيس الأمريكي- بالعلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل، وأنه “ليس في أي حال من الأحوال تمهيدًا لخطوات لاحقة”، وأنه “لا يوجد شيء اسمه ناتو عربي”، و” أن قمة جدة ركزت على الشراكة مع الولايات المتحدة”. و”أنه لا يوجد أي نقاش بخصوص “تحالف دفاعي” مع إسرائيل”. (موقع قناة “العربية”، 16 يوليو، 2022)
وفي الواقع فإن قمة جدة (17 يوليو 2022)، التي جمعت الرئيس الأمريكي بقادة تسع دول عربية (دول مجلس التعاون الخليجي، ومصر، والأردن، والعراق) كانت على غاية الأهمية، وتميزت بمكاشفة صريحة بين الأطراف العرب والرئيس الأمريكي، إضافة إلى أنها حجمت الطروحات المتعلقة بإمكان قيام ما يسمى ناتو عربي، بضغط الأحوال العربية الصعبة. أيضًا، فإن عديدًا من قادة الدول الحاضرين أكدوا للرئيس الأمريكي على أهمية دعم إقامة دولة فلسطينية مستقلة، وتمسكهم بمبادرة السلام العربية، وقد أكد “عادل الجبير” وزير الدولة السعودي للشؤون الخارجية في أحد تصريحاته “أنه لم يطرأ أي تغيير على موقف السعودية، وأن التطبيع مع إسرائيل لن يكون ممكنًا إلا بعد تطبيق حل الدولتين”. (“الأيام” الفلسطينية، 17/7/2022)
مسار التعاون مع إسرائيل:
كما قدمنا فإن التحفظ على إنشاء منظومة إقليمية مع إسرائيل لا يعني أن ذلك يقطع مع ذلك المشروع، الذي يبدو أنه يتحقق بطريقة تدريجية، وفي أكثر من مجال، وهو ما يتمثل بعقد اتفاقات إبراهيم، التي تحدثنا عنها، وشملت الدول في موجة التطبيع الجديدة (الإمارات، والبحرين، والمغرب)، وربما أن أهم حدث- بعد الإعلان عن الاتفاق في واشنطن 2020- تمثل في اجتماع النقب، الذي شارك فيه ستة وزراء خارجية، لكل من (الإمارات، والمغرب، ومصر، والبحرين، والولايات المتحدة، وإسرائيل)، (في آذار/مارس/2022)، ومع إن الأمر صُوِّر كأنه إعلان عن حلف، إلا أن مصر- على لسان وزير خارجيتها- أعلنت صراحة أن الأمر لا يتعلق بإنشاء حلف، ولا مواجهة أي طرف.
ومعلوم أن اجتماع النقب، جاء بعد قمة رباعية في العقبة (الأردن) جمعت قادة كل من (مصر، والأردن، والعراق، والإمارات)، وهي ذاتها عقدت بعد أيام من اجتماع ثلاثي جمع الرئيس المصري “عبد الفتاح السيسي”، وولي عهد أبو ظبي “محمد بن زايد”، ورئيس الوزراء الإسرائيلي “نفتالي بينيت” في شرم الشيخ، وكلها لقاءات عقدت في (آذار/مارس 2022)، وعلى خلفية زيارة وزير الخارجية الأمريكي إلى المنطقة، تمهيدًا لزيارة الرئيس جو بايدن.
المحاولة الجديدة من وجهة نظر سابقة:
لا يمكن النظر إلى المحاولة الحالية لإنشاء منظومة (إقليمية، سياسية، وأمنية ، واقتصادية)، من دون مراجعة التجربة التاريخية السابقة المتمثلة بمشروع: “الشرق الأوسط الجديد”، الذي حاول إنشاء منظومة إقليمية، تجمع الدول العربية مع إسرائيل، في مطلع التسعينيات، وعلى خلفية مؤتمر مدريد للسلام (1991)، وإطلاق المفاوضات متعددة الطرف في شأن التعاون الإقليمي في مجالات: المياه، والبيئة، والتنمية الاقتصادية، والأمن، ونزع السلاح، واللاجئين، وإدماج إسرائيل في المنطقة. وهي محاولة جرت في مناخات هيمنة الولايات المتحدة على النظام الدولي (إثر حرب الخليج الثانية وانهيار الاتحاد السوفييتي).
بيد إن تلك المحاولة باءت بالفشل بعد سنوات قليلة، رغم كل الجهود التي بُذلت، وعلى رغم إقامة عديد من الهياكل، وانعقاد عديد من المؤتمرات، أطلق عليها اسم مؤتمرات “القمة الاقتصادية في الشرق الأوسط وشمالي إفريقيا”، وهي عُقدت في الدار البيضاء (المغرب 1994)، وفي عمان (الأردن 1995)، وفي القاهرة (مصر 1996)، وفي الدوحة (قطر 1997)، والتي كان نظّر لها “شمعون بيريز” رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق في كتاب خصصه لهذا الغرض عنوانه: “الشرق الأوسط الجديد”. أما أسباب ذلك الفشل فقد نجمت عن تملص إسرائيل من الاستحقاقات المطلوبة منها في عملية التسوية مع الفلسطينيين، وضمنه اتفاقات أوسلو الموقعة في البيت الأبيض الأمريكي (1993)، وأيضًا بسبب سعي إسرائيل التميز في تلك المنظومة، أي اعتبار نفسها مركزًا على حساب الدول العربية، في كل ما يتعلق بعلاقات التعاون الإقليمي، وطبعًا بسبب عدم قبول الدول العربية للانصياع للرؤى الإسرائيلية في هذا الموضوع، في ذلك الحين.
على ذلك فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل أضحت الظروف الراهنة مواتية الآن أكثر من السابق لإقامة منظومة إقليمية تضم دولًا عربية وإسرائيل؟ أو هل حصلت تحولات دولية وإقليمية وعربية تسمح بذلك أكثر من السابق؟.
للإجابة على هذين السؤالين، يمكننا القول بأن الظروف (الدولية، والإقليمية، والإسرائيلية، والفلسطينية) كانت في السابق أفضل، أو مواتية أكثر، في حين تعترض هذا المشروع راهنًا صعوباتٌ كثيرة، ضمنها تحول السياسة الإسرائيلية نحو اليمين، انقسام الحركة الفلسطينية، وتزايد نفوذ إيران وتركيا في المشرق العربي، وحالة التمحور على الصعيد الدولي (بين الولايات المتحدة والقطبين الآخرَين روسيا والصين)، بمعنى أن التحول الوحيد الحاصل يتمثل بزيادة عدد الدول التي أقامت علاقات (سياسية، واقتصادية، وأمنية) مع إسرائيل، ما يفيد بأن ذلك لا يبدو كافيًا لإنشاء مثل تلك المنظومة، ودمج إسرائيل في المنطقة.
والمعنى، فإننا قد نشهد توسعًا، وأشكالًا جديدة من العلاقات بين بعض الدول العربية وإسرائيل، تحت ضغط الظروف الراهنة، لكن فكرة إنشاء منظومة إقليمية، للأمن والسياسة والاقتصاد، مازالت بعيدة سواء مع إسرائيل، أو من دونها؛ بسبب طبيعة الوحدات المشكلة للنظام العربي، واختلاف مشروعيتها وأولوياتها؛ وبسبب عدم اتفاقها على تحديد ماهية التحديات الداخلية والخارجية، وكيفية مواجهتها.