انقضى حتى الآن أكثر من عقد من الزمن على القضية السورية، وما زالت مستعصية على التسوية، ويعود السبب الرئيس إلى تعدد الأدوار في الأزمة السورية وتزاحمها وتضاربها وانعكاس ذلك على فرص الحل. ففي الساحة السورية “185.180 كم2” تتزاحم جيوش تركية وروسية وإيرانية وأمريكية (محدودة العدد نسبيًّا) وغيرها، بالإضافة إلى الأطراف الأخرى من غير الدول، تتمثل بالجماعات التكفيرية والإرهابية، التي سمحت تركيا لهم بعبور حدودها المترامية مع تركيا (900 كم).
وتتباين أهداف ودوافع كل هذه الأطراف المتصارعة على الساحة السورية، التي استغلتها لتصفية حسابات ذاتية لا علاقة لها بالأزمة في سوريا، بل إن بعض الأطراف استغلها كميدان رماية لتجربة أسلحة جديدة كروسيا، وبقى السوريون أسرى لهذه الأزمة داخل كل منطقة من مناطق سوريا الأربعة (غرب الفرات، وشرقه، والجنوب، ومناطق سيطرة النظام السوري)؛ لتصبح هدف المهمة الراهنة والأساسية هي جعل الحياة ممكنة للسوريين المدنيين حيثما كانوا، وتحريرهم من عبودية بلطجة أمراء حربهم.
ووسط هذه المعمعة نجد أن تركيا لعبت أخطر الأدوار وأكثرها تأثيرًا على مسار الأزمة السورية للأسباب التالية:-
- بوجودها بقواتها العسكرية واحتلالها لمساحة ميدانية كبيرة من الأراضي السورية، وأنشأت فيها عدة قواعد عسكرية.
- أن الحركة الاحتجاجية السورية بدأت سلمية ومدنية لم ترفع شعارات إسلامية، وطغت عليها النزعة العفوية على قياداتها بالإضافة إلى انقسامها وتنافسها.
- وتمكنت الجماعات الإرهابية من عسكرة الحركة الاحتجاجية، بامتلاكها لأسلحة متطورة من إزاحة العناصر السورية النشطة وتولي قياداتها عناصر موالية لتركيا، وتمكنت من السيطرة على عدد من المواقع العسكرية وإزاحة قوات الجيش السوري منها، وتولت أدوارًا هامة في الصراع الداخلي السوري.
- شكلت تركيا رأس الحربة في التنسيق بين مختلف أجهزة المخابرات، التي كانت تعقد اجتماعات في المدن التركية بأكملها احتضنت تجمعات المعارضة السورية على أراضيها، وفي مقدمتها مدينة هاتاي التي كانت بثمابة المركز الرئيس للدعم اللوجستي للجماعات الإرهابية، ووجهت تركيا وسائل إعلامها ضد النظام السوري، وسعت تركيا لتتريك المناطق التي احتلتها وتغيير تركيبتها الديمغرافية باستبعاد الأكراد منها.
- وهددت تركيا خلال الأشهر الماضية القيام بشن عمليات عسكرية تستهدف (منيح، وتل رفعت، وعين العرب، وكوباني الكردية)، وتصاعدت تلك التهديدات عقب تفجير إرهابي في شارع تقسيم في إسطنبول، وخلف 5 قتلى و81 مصابًا، وأعلنت السلطات التركية أن شابه سورية تلقت تدريبات ضمن صفوف “الوحدات الكردية” في عين العرب، هي من قامت بتنفيذه، ثم أوقفت التصريحات التركية العملية؛ بسبب رفض أمريكي وروسي، وتدخل موسكو لإقناع أنقره بالتغاضي عن العملية، فلماذا استهدفت سوريا؟
- أهم أسباب استهداف سوريا.
إن استهداف سوريا وتشريد شعبها تم في إطار يهدف إلى إسقاط سلطوي سلطوي والرغبة في إحلال نظام ديموقراطي محله، وهذه الدعوة التي انطلقت من فوهات الدبابات وقتل آلاف المدنيين وتشريد شعب بأكمله، بحجة الرغبة في إحلال الديمقراطية!!.
- موقف سوريا المعارض للاحتلال الأمريكي للعراق.
إن سيناريو الضغط المفتوح الذي مارسته واشنطن ضد سوريا، كان يندرج ضمن إستراتيجيَّات الجبر والإكراه، وأنها كانت تسعى منذ فترة وبكل السبل إلى خلق ذرائع للتصعيد مع سوريا في مرحلة بشار الأسد وتضييق الخناق عليه، وأصبح تهديد سوريا واضحًا حين وقف كولن باول (وزير الخارجية الأمريكي حينها)، أمام مجلس الشيوخ الأمريكي مصرحًا “إننا نريد إعادة تشكيل المنطقة وفق مصالحها”. وكان يستهدف سوريا وموقفها من المقاومة العراقية، وبدا ذلك واضحًا من خلال الرسالة التحذيرية والمباشرة التي حملها وزير الخارجية الأمريكي إلى الرئيس بشار الأسد في 3 ماير 2003.
- موقف سوريا من السلام مع إسرائيل واستهداف مقومات القوة السورية.
وقد عبر أحد مراكز الأبحاث الإسرائيلية بوضوح عن ارتياحه لما لحق بالجيش السوري قائلًا: “إن الجيش السوري هو آخر جيش على الحدود مع إسرائيل يملك فرقًا مدرعة وفرق مشاة ومدفعية، وقوات جوية”، معتبرًا تفكيكه أمرًا جيدًا لـ “إسرائيل”، وبدوره عبر دختر (رئيس جهاز الشاباك السابق)، مؤشرًا على استهداف إسرائيل لسوريا، وعبر عن عدة خيارات من بينها خيار استخدام القوة العسكرية مشددًا على “أن هذا الخيار يظل مطروحًا ومقبولًا وضروريًّا([1])“
- استمرار تمسك سوريا بالفكر القومي العربي.
كانت سوريا تاريخيًّا حاضنة للفكر القومي العربي، وكانت ترى في نفسها أنها “قلب العروبة النابض”، وفي الواقع كان الهجوم الشديد على العروبة والقومية العربية يهدف إلى استئصال الأصالة، وتمييع جوهر الانتماء العربي المشترك، وتغييب الاحتضان العربي حول مختلف القضايا القومية. وباختصار كانت الولايات المتحدة تريد من سوريا أن تصبح دولة عربية عادية تكتفي بنشر جيشها داخل حدودها لا في لبنان، وألا تكون صاحبة موقف سلبي مؤثر على طريقة تسوية الصراع العربي الإسرائيلي، وأن تتوقف عن بث الدعوى القومية لوأد الحلم العربي ولو ظل مجرد حلم. وأصبحت دمشق في الوجدان العربي المعاصر “قلب العروبة” الذي يدق، والوطن الأكثر تسيسًا من غيره، والموقع الأكثر صمودًا؛ لأنه مكن الوعي بل أصبح بؤرة الصراع. وبقيام ثورة عام 2011، الذي شهد تحالف إسرائيلي مع تركيا يستهدف “دولة الجوار”، التي تفصلهما حدود تمد لـ 900 كم، فأحكم الحصار على سوريا، وظلت ترفض توقيع سلام مع إسرائيل بالشروط الإسرائيلية.
وشهدت التسعينيات نمو علاقات التعاون العسكري الإستراتيجي بين (تركيا، وإسرائيل)، لاسيما بعد توقيع اتفاق التعاون العسكري التركي الإسرائيلي في 23/2/1966، وكانت سوريا أكثر البلدان العربية استهدافًا بهذا الاتفاق نتيجة اعتبارات عدة من بينها: غلبة “النمط الصراعي” على علاقاتها بطرفيه. فبالنسبة للعلاقات مع تركيا وما شابها من توتر مع سوريا، بادعاء ارتباطاتها بحزبPKK، ذلك بصفة خاصة في فترة حكم رئيس وزرائها “يلماز”، ووزير الخارجية “تشيللر”([2]). وظلت سوريا مستهدفة في الفترات التالية.
- محركات تركيا في الاتجاه للتصالح مع سوريا:
طرأ تطور جديد على سياسة تركيا تجاه سوريا، وإذا قُدِّر له النجاح، فقد يبشر بحل للقضية السورية، ولذا نتساءل عن أهم الدوافع لهذا الاتجاه التصالحي:
- اقتراب موعد الانتخابات النيابية والرئاسية التركية، وإذا نجحت مساعي تركيا للتصالح مع نظام الأسد، فإنه سيؤدي إلى رفع مستوى شعبية حكومة أردوغان قبل الانتخابات المقبلة (مايو – يونيو2023)، ربما يؤدي حدوث الزلزال إلى تأجيلها.
وأغلب الأحزاب التركية المعارضة تطالب بعودة اللاجئين السوريين لأسباب واعتبارات (أمنية، ومالية، وإنسانية، … إلخ)، كما بدأت هذه الأحزاب تفكر في طرح مرشح واحد مشترك في السباق الرئاسي-ومازال هناك جدل قانوني حول أحقية أردوغان في الترشح فيه- وتزمع طرح مشروع تعديلات دستورية تتضمن نصوصًا للحد من صلاحيات الرئيس، والنظر للمشكلة الكردية كمشكلة داخلية يجب حلها بشكلٍ عادل لا يميز بين مواطني الدولة وكلها أمور تقلق حكومة أردوغان؛ لأنها نهاية نقل ملف الصراع والاستقطاب السياسي إلى الملف الإنساني.
- حاجة تركيا للتفاهم مع النظام السوري حول خيار المنطقة الآمنة بما يحول دون تدافع مزيد من اللاجئين، حيث تأثرت تركيا بتزايد أعداد اللاجئين السوريين، التي بلغت نحو 3062000 لاجئ حتى 30 سبتمبر 2017، الأمر الذي لم يؤثر على القدرات المالية لتركيا فحسب، بل أثر أيضًا سلبًا على أمنها، وأحدث وضعًا اجتماعيًّا صعبًا في المناطق الجنوبية الشرقية، حيث وقعت حوادث عنف متقطعة، كما تحتاج القيادة التركية لتخفيف انخراطها عسكريًّا في الصراع السوري طويل الأمد بسبب تشابكه وتداخله مع العديد من القوى الإقليمية والدولية وتكاليفه الباهظة، فمزيد من الانخراط التركي في القضية السورية يعني مزيدًا من الأعباء واستنزافًا للموارد الاقتصادية والبشرية التركية، وذلك تزامنًا مع أوضاع اقتصادية داخلية غير مستقرة، في ظل تدهور قيمة الليرة التركية أمام الدولار الأمريكي، وعجز الميزان التجاري، وارتفاع التضخم، وتراكم القروض المتعثرة، وتفاقم المديونيات التركية؛ لذلك تحتاج تركيا للبحث عن بدائل تخفف من تكاليف انخراطها عسكريًّا في سوريا وفي الوقت ذاته تحافظ على أمنها القومي، وذلك يمكن تحقيقه بتفاهمات ومقايضات مع النظام السوري لتلبية مصالح الطرفين([3]).
- في خلفيات الانفتاح التركي على سوريا، يوجد بندان رئيسان هما: موضوع قوات سوريا الديمقراطية “قسد”، وعودة اللاجئين “الطوعية” إلى سوريا. وإذا كانت تركيا ماضية في موضوع إعادة اللاجئين بصورة منفردة، فإن الموضوع الثاني يتطلب جهدًا مختلفًا وتشارك أطراف بمستويات متعددة، حيث تعتبر تركيا أن قوات سوريا الديمقراطية “قسد”، التي يشكل أكراد حزب الاتحاد الديمقراطي نواتها الصلبة _”جماعة إرهابية”، كما تصفهم تركيا باعتبارهم امتداد لحزب العمال الكردستاني، وتتخوف من وجودهم في المنطقة، وتتطلع إلى طردهم من حدودها مع سوريا أو انتقالهم إلى مكان أبعد. ولا يملك نظام الأسد قدرة على التأثير في الموضوع ليس بسبب انعدام الإمكانات فقط، بل لعجزه وحلفائه (الروس، والإيرانيين) عن التأثير على الدعم الأمريكي لـ “قسد”، والامتعاض التركي من دعم الولايات المتحدة لقوات “قسد”، التي يغلب على تكوينها “وحدات حماية الشعب” الكردية، التي تعدها أنقرة امتدادًا سوريًّا لـ”حزب العمال الكردستاني” المدرج على قوائم الإرهاب في تركيا، بالولايات المتحدة وأوروبا، والنظر إليها أي “قسد” كحليف وثيق لواشنطن في الحرب على تنظيم داعش الإرهابي، واستخدامه في تأجيج حالة الاستقطاب السياسي ونقله من المربع الإنساني إلى دائرة الصراع السياسي. وظهر توافق واسع بين أحزاب المعارضة على فكرة إعادة العلاقات مع نظام الأسد من أجل النجاح في تسوية ملف اللاجئين، الذي بات إحراز تقدم فيه مطلبًا شعبيًّا في تركيا. وهو ما دفع أردوغان إلى التحرك السريع لنزع هذه الورقة المؤثرة من أيدي المعارضة، ومحاولة أحراز تقدم فيها حتى لا يفقد السلطة التي احتفظ بها على مدى 20 عامًا([4]).
- حدوث متغيرات دولية وإقليمية كثيرة دفعت تركيا إلى تغيير حساباتها السياسية بعد أن بنت حساباتها على سقوط الأسد ونظامه بسرعة وهذا لم يحدث.
اكتشفت تركيا أن عليها أن تعيد النظر في السياسات التي تبنتها منذ ما عرف “بالربيع العربي”، وأن عليها أن تراجع علاقاتها المتدهورة في محيطها الإقليمي، فبدأت بالتحرك لتحسين علاقتها إقليميًّا بعدما اختفت من الصورة الأنظمة التي أتت بعد الربيع ودعمتها تركيا بكل قوة، فضلًا عن ازدياد الضغوط الاقتصادية عليها، ومحاولتها استعادة الاستثمارات الخليجية والأسواق العربية والطرق التي كانت متاحة للوصول السريع لبضائعها إلى الخليج وإفريقيا، والتي تشكل سوريا أحد نقاطها الجغرافية المهمة([5]).
لاشك أن السياسة التركية الحالية تحاول حاليًّا العودة إلى مبدأ “صفر مشاكل” فأعادة العلاقات مع إسرائيل ومع دول الخليج، ومن الطبيعي أن نرى تغييرًا في المواقف من سوريا لارتباطه بالدور الإقليمي لتركيا، ويعتقد البعض أن هذا التبدل نابع من قناعة تركيا وباتباع سياسة هدفها تعظيم المكاسب في منطقة ملتهبة على الأمن التركي، وهذا تطلب من تركيا القيام بمصالحات غير متوقعه، وتراجعها عن شراكات أيدلوجية دينية كانت تعد ركيزة لسياستها الخارجية (البعد الإسلامي)، ولإدراكها أن تحريك الملف السوري المجمد -لاسيما الصراع الأمريكي الروسي- بسبب أزمة اوكرانيا سيعقد الموقف الدولي أكثر مستقبلًا، على أساس تنامي قوة الأكراد سواء في شمال العراق أو سوريا سيشكل خطرًا إستراتيجيًّا على الأمن القومي التركي، ولذا ترى تركيا أن تحريك الملف السوري الآن سيكون غير مفيد لها.
ويعتقد أردوغان بوجود رغبة عربية لإبعاد الأسد عن إيران، وهذه الرغبة لم تتبلور بعد في مشروع يقنع دولًا وازنة في المنطقة، لذلك يرى أن الحوار مع دمشق وبلا مشاركة إيرانية وبرعاية روسيا التي لها علاقة جيدة مع دول الخليج_ سيعزز دور تركيا لدى هذه الدول؛ لأنها ستكون عرابة اتفاق يحظى برضاها، كما أن أردوغان يؤمن بأن اتفاقًا مع دمشق بغطاء عربي سيضمن أمن حدوده وينعش اقتصاده، ويسهل حل ملفات أخرى متعلقة بأمن تركيا القومي مثل: الأزمة الليبية وتبعاتها على العلاقات مع اليونان. ووفق هذا المسار يمكن تفسير غياب إيران على أنه رغبة تركية لعدم استفزاز دول عربية تعاني من تدخلات إيران، ومن خطرها على الأمن القومي العربي وعلى نسيج هذه الدول الداخلي([6]).
وإضافة إلى ذلك نجد أن بعض القادة الأتراك يرون أن تركيا تتعرض لمخطط يهدف لإحداث تحول إستراتيجي خطر داخل العالم الإسلامي يتمثل في قطع الفضاء الحضاري التركي عن الفضاء الحضاري الجغرافي العربي، بخلق فضاء جديد كردي فاصل وعازل، وأن ذلك يمهد لمرحلة تقسيم تركيا عبر أكراد الداخل.
وهذه النظرية ليست مجرد فقاعات إعلامية، بل أنها خطاب رسمي يتكرر على أعلى مستوى، ولذا تبرر القيادة التركية تدخلها المباشر في سوريا على أنها حرب استباقية لمنع وصول هذه التهديدات إلى الداخل التركي.
وهي نظرية فيها – في تقديرنا- من المبالغة أكثر من الحقائق، وصحيح أن هناك تعاطف إنساني غربي وفرنسي بصفة خاصة مع الأكراد واستنكارًا لأسلوب تعامل السلطات التركية معهم من زاوية حقوق الإنسان، وكان الاتحاد الأوروبي يضغط في هذا الاتجاه، وتروج بعض الأوساط التركية لهذه النظرية كغطاء لمخططات الأطماع التوسعية في الأراضي السورية.
- الشروط التركية للتصالح مع سوريا:
تطلب تركيا عودة اللاجئين السوريين بتركيا، عودة آمنة وطوعية إلى ديارهم والذين يقدر عددهم بأكثر من ثلاثة ملايين، وتصور آخر يتطلب توفير المأوى والتعويضات المادية لهم وأسرهم وإعادة بناء منازلهم التي هُدمت بسبب الحرب، وتوفير الاحتياجات الأساسية من طعام ومياه شرب.
وهذا يتطلب التنسيق المسبق مع الحكومة السورية من عدة نواحي يأتي في مقدمتها تهيئة المناطق لاستقطاب العائدين، وهذا يتطلب مسبقًا إعادة الأعمار، وتوفير الخدمات الأساسية، واتخاذ بعض الخطوات في العملية السياسية؛ لأن إعادة اللاجئين لا يمكن أن تبدأ إلا على أرض مستقرة سياسيًّا.
وفي الواقع أن مشكلة اللاجئين السوريين بدأت بالضغط على الحكومة التركية -خصوصًا بعد وقوع الزلزال الأخير وما تفرع منها بعد الإشكاليات من بينها المشاكل التي نشبت بين هؤلاء اللاجئين وبعض المواطنين الأتراك، مما جعل مشكلتهم تمثل مشكلة “داخلية” في الأساس وتستغلها بعض أحزاب المعارضة وتطالب بعودتهم إلى ديارهم في أقرب فرصة ممكنة.
2- وبالنسبة إلى موضوع السيطرة السورية، لأن هناك شك في أن قدرة إقدام النظام السوري على محاربة قوات سوريا الديمقراطية محدودة، فعدو عدوي صديقي، كما يقال أن هذه الجماعة مدعومة من الولايات المتحدة، وساعدت في هزيمة “داعش” بسوريا، بينما كانت تركيا تكثف قصفها وضرباتها الجوية شمال سوريا، والتصدي لأي توغل تركي جديد سيحول الموارد بعيدًا عن حماية سجن يضم بعض مقاتليه أو استهداف خلايا هذا التنظيم.
وفي الوقت نفسه الذي تقوم فيه تركيا بتزويد الجماعات الإسلامية والتكفيرية بالأسلحة في إدلب “هيئة تحرير الشام”، وتتنصل من التزاماتها مع روسيا في هذا الموضوع وفقًا للاتفاق الذي أبرم معها بخصوص محافظة إدلب، مما جعل تركيا تقع فريسة التناقض في موقفها.
وقد أتاح التدخل العسكري التركي المباشر في سوريا ونتائجه ضمان موطئ قدم ميدانية، ونفوذ مستدام لتركيا في المناطق التي سيطرت عليها، فضلًا عن كونه مرتكزًا في إطار حل نهائي للقضية السورية. وعليه تستغل تركيا سيطرتها على أجزاء من الشمال السوري- ومن بينها إدلب- من أجل التحكم في مستقبل سوريا وامتلاك أوراق ضغط تفاوضية، بما يمنع قيام دولة كردية على حدودها مع سوريا، وقد أتضح ذلك منذ الحرب التي شنتها تركيا على قوات سوريا الديمقراطية في عفرين؛ حيث أصبحت عفرين هي التطور النوعي الجديد في تعامل أنقره مع القضية السورية ميدانيًّا خلال عام 2018، واعتبرت تفاعلاتها مع تلك الحرب هي النقطة التي ستحدد على أساسها طبيعة العلاقات التركية مع غيرها من القوى الإقليمية والدولية المنخرطة في الصراع، ومع مسارات التسوية السياسية المحتملة للقضية السورية.
- موقف دمشق من مقترحات أنقرة:
لأسباب سياسية واقتصادية لم يرحب الرئيس الأسد باقتراح أنقرة عودة اللاجئين الآن؛ لعدم توافر البنية التحتية المعدة لاستقبال اللاجئين وعودتهم في ظل الظروف والمحيطات الحالية، معناه حدوث مشاكل معهم هو في غنى عنها؛ لأنهم سيكونون بمثابة حصان طروادة إذا سمح بعودتهم في ظل هذه الظروف، لاسيما أن تركيا لم تحدد موعدًا مسبقًا لانسحابها من الأراضي المحتلة من سوريا، وهو الشرط الهام الذي تطالب به دمشق. ولأن الخروج من الاستعصاء الحالي للحل يتطلب تغييرًا جذريًّا في المنهج والممارسة، والخروج عن أوهام إسقاط النظام بكافة رموزه وأركانه، وهو ما عبر عنه الرئيس الأسد في أثناء استقباله “عبدالله اللهيان” وزير خارجية إيران بقوله: “الدولة السورية لن تسير إلى الأمام في الحوار مع تركيا إلا إذا كان هدفها إنهاء الاحتلال ووقف دعم التنظيمات الإرهابية”.
وهو ما يفسر أن دمشق مازالت مترددة في إعطاء ردها بالموافقة بشأن اللقاء الرئاسي المقترح من الجانب التركي؛ لانعدام الثقة في المواقف التركية -لاسيما وأنها تنصلت من التزاماتها مع روسيا في اتفاقهما بشأن وجود المتطرفين في إدلب، وعدم الثقة في الرجل (إردوغان).
الذي اكتسب شهرة “الرجل الزئبقي”، وهو يرى أن “تركيا قادرة الآن على دخول البازار التفاوضي وتحصيل أقصى المكاسب”.
وقد أدى ذلك إلى شعور القيادة التركية بحالة العزلة الإقليمية الدولية المتزايدة، ودفع أردوغان إلى إعلان”البحث عن أصدقاء” خلال كلمة ألقاها أمام مؤتمر حزبه في شهر أبريل 2021. وفي تصريح لصالح مسلم (كردي)- رئيس الاتحاد الديموقراطي سوريا- في التعبير عن رأيه في اللقاءات بين (تركيا، وسوريا) بقوله: “دعني أشبه اللقاءات التي تمت بين النظام السوري وتركيا بالزواج القسري، فالأطراف التي تسعى لإتمام هذا الزواج سواء أكانت روسيا أو إيران، تعلم وتدرك أنه لن يدوم، ومصيره الحتمي الطلاق فالتناقضات كبيرة بين دمشق وأنقره، وإذا كان هذا التقارب يحقق الحل السياسي، فهو مُرحب به، وإذا وضع حدًّا لهذه الحرب فهو مرحب به لكن لا اعتقد أن هذا التطبيع سيتطور ويأخذ شكل العلاقات الودية، كسابق عهدها قبل 2011؛ لوجود تناقضات وخلافات كبيرة بين الدولة السورية وتركيا، وهي أعمق بكثير من أن تقفز فوق كل شيء لمحاربة الإدارة الذاتية وجزء من الشعب السوري”.([7])
بعد الزلزال وضح مدى التعاطف مع المحنة السورية، وتنبأت بعض المصادر أن ذلك قد يؤدي إلى تعويم النظام وكسر سوريا لعزلتها الدولية والعربية. في الواقع الزلزال الذي ضرب سوريا، وأودى بحياة عشرات الآلاف من الضحايا، ودمر الكثير من البنية التحتية في سوريا وتركيا_ طرح أسئلة وتحديات أساسية، وحرك “أوراق التطبيع” العربي والغربي مع دمشق، وانطلقت سلسلة من الاتصالات والزيارات العربية والغربية، وفي مقدمتها زيارة كل من وزير الخارجية الأردني “أيمن الصفدي” لدمشق، ووزير الخارجية المصري “سامح شكري” لأول مرة منذ سنوات. الزلزال حرك الجمود؛ دول عربية كانت مطبعة أو تريد التطبيع وجدت في الكارثة منصة لتسريع خطواتها عبر اتصالات هاتفية وزيارات ستتضمن قيام الأسد في الساعات المقبلة بزيارة إلى عمان وعاصمتها مسقط ثم إلى الإمارات. في المقابل لا تزال دول عربية متمسكة بموقفها الذي يزاوج بين تقديم المساعدة الإنسانية والعمل على توفير شروط عودة اللاجئين وحل الأزمة السورية، مع ملاحظة تذكير إيران بأهمية استمرار “الحلف”، كما تمثلت بزيارة قائد فيلق القدس في الحرس الإيراني “إسماعيل قاني” إلى حلب بعد الزلزال قبل أي مسؤول سوري. وينطبق الأمر ذاته على الدول الأوروبية ووحدة موقف الاتحاد الأوروبي، ذلك أن الدول التي كانت تنادي بـ”قبول الأمر الواقع” في السنوات الماضية مثل (إيطاليا، واليونان، وقبرص، والنمسا)، تعتقد أنها باتت في موقف أقوى في مطالبها، وهي تدعو إلى مراجعة “اللاءات الأوروبية” الثلاثة: لا للتطبيع لا للإعمار لا لرفع العقوبات قبل تحقيق تقدم بالعملية السياسية. عوامل كثيرة سترجح فريقًا عربيًّا على آخر وفريقًا غربيًّا على آخر تخص توازنات داخلية وتحالفات، لكن أحدهما سيكون سلوك دمشق والعواصم الأخرى في المرحلة المقبلة إزاء التعاطي مع المساعدات، والإغاثة، وأموالها، وكيفية إيصالها إلى المناطق المنكوبة الأخرى، ومدى التزام الوعود التي قيلت في غرف مغلقة، خصوصًا أن الأسابيع والأشهر المقبلة ستكشف حجم الكارثة الفعلية من الزلزال.
ومن جانبه أكد الأمير “فيصل بن فرحان آل سعود” وزير الخارجية السعودي، أن إجماعًا بدأ يتشكل في العالم العربي على أنه لا جدوى من عزل سوريا، وأن الحوار مع دمشق مطلوب في وقت ما، حتى تتسنى على الأقل معالجة المسائل الإنسانية بما في ذلك عودة اللاجئين. وتمثل التصريحات التي أدلى بها وزير الخارجية السعودي في منتدى ميونخ للأمن أمس الأول _تغيرًا في السياسية السعودية بالمقارنة مع السنوات الأولى للحرب السورية المستمرة منذ ما يقرب من 12 عامًا.
وقال: “سترون أن إجماعًا يتزايد ليس فقط بين دول مجلس التعاون الخليجي، بل في العالم العربي على أن الوضع الراهن غير قابل للاستمرار”. بحسب وكالة رويتر للأنباء.
وأوضح أنه:” في ظل غياب سبل لتحقيق الأهداف القصوى من أجل حلِّ سياسي فإن نهجًا آخر بدأ يتشكل؛ لمعالجة مسألة اللاجئين السوريين في دول الجوار ومعاناة المدنيين خاصة بعد الزلزال المدمر في سوريا وتركيا”، مضيفًا: ” لذلك ينبغي أن يمر ذلك عبر حوار مع حكومة دمشق في وقت ما بما يسمح على الأقل بتحقيق الأهداف الأكثر أهمية خاصة فيما يتعلق بالزاوية الإنسانية، وعودة اللاجئين”.([8])
وختامًا: لقد تعرضت سوريا لحرب شرسة من حروب الجيل الرابع من بث للشائعات وعدم إظهار الحقائق وترويج الأكاذيب، ودمروها وعاثوا فيها خرابًا، وشردوا الملايين بالحرب. ولقد حان الوقت لعودة سوريا إلى الحضن العربي؛ لتعزيز موقفها التفاوضي مع تركيا، وحان الوقت لاستعادة مقعدها في الجامعة العربية.
([1]) تداعيات الحرب الأهلية في سوريا “حلقة نقاشية” مركز بيغن – السادات للأبحاث الإستراتيجية “كانون الثاني / يناير 2013
([2]) انظر مزيد من التفاصيل مقال “جلال عبد الله معوض” المعنون “التعاون العسكري التركي الإسرائيلي” مجلة المستقبل العربي، وتمثل هذه الدراسة جزءًا مختصرًا من كتاب للمؤلف أصدره “مركز دراسات الوحدة العربية بعنوان صناعة القرار في تركيا” الصراعات التركية العربية المشتركة”.
([3]) انظر في هذا المجال رسالة الماجستير المقدمة من آية محمد طارق أحمد دسوقي وعنوانها “أثر القضية السورية على العلاقات السورية التركية”، والمقدمة لقسم العلوم السياسية بكلية الإقتصاد والعلوم السياسية سنة 2019 ص 304 وما بعدها
([4]) فايز ساره، “في خلفيات انفتاح أنقرة على دمشق، 4/10/2022.
([5]) سعيد عبد الرازق ، تقرير إخباري ، الشرق الأوسط
([6]) هذا الرأي عبر عنه أحمد محمود عجاج، جريدة الشرق الأوسط بتاريخ 6/1/2023.