متلازمة الحروب والأوبئة:
إنها الحرب:
منذ أن وُجدت البشرية فى عصورها الأولى،وُجدت معها كافة أشكال الاختلاف والصراع والقتال والتناحر،هذا الصراع الذى أنتج سلسلة من الحروب الجزئية والشاملة لا حصر لها،لتصل بعض هذه الحروب إلى صفة الإبادة والإفناء،للدرجة التى تصل بنا كباحثين أن نطلق مصطلحا نموذجيا وهو “غريزة الحروب”،ومما لا شك فيه أن كثيرا من تلك الحروب التى حدثت مرارا وتكرارا على مدى التاريخ،وفى شتى بقاع الأرض،أنتجت كثيرا من الأوبئة والمجاعات التى تنذر _دوما_ بفناء البشرية عن بكرة أبيها،ولكن العقل البشرى،وغريزة البقاء،التى تتحدى عوامل الفناء المتكررة تتغلب على تلك الأوبئة والمجاعات وحروب الإبادات الجماعية.
ومما لا شك فيه كذلك،أن متلازمة “الحروب_الأوبئة” أصبحت حقيقة لا مفرّ منها،طالما أن هناك تناحرات وصراعات تتحرك على وجه البسيطة،وذلك للنهب والسطو وانتزاع السلطة والنفوذ،وهيمنة بلاد على بلاد أخرى،تلك الهيمنة التى أفرزت على مدى التاريخ ظاهرة “الاستعمار”،وإن تغيرت صفات ذلك الاستعمار بتغيّر العصور والأهداف،وجدير بالذكر أن حروبا ضخمة نشأت واحتدمت لأسباب تكاد تكون هشّة وهامشية،مثل حرب طروادة،والتى سجلّها المنشد الضرير “هوميروس”،ذلك المنشد_ الشاعر الذى اختلفت حوله الأقوال،وتباينت أخبار نشأته،وموطنه الأصلى،كما اختلفت الأخبار عن الزمن الذى عاش فيه.
ولكن الخبر الأكيد،هو أن هوميرس استطاع أن يسجّل ويكتب أعظم الملاحم الشعرية على مدى التاريخ،وستظل الإلياذة _على وجه الخصوص_ إحدى الآثار الكبرى والعظيمة التى انبثقت من تلك الحرب العجيبة، وماتزال _وستظل أبد الدهر _ صرحا ضخما من صروح الأدب الانسانى،ومرجعا فريدا من مراجع المعرفة،وأساسا راسخا من أسس الأخلاق،وديوانا خالدا من دواوين الحماسة والبطولة،كان له على التربية والأدب والثقافة الإغريقية والعالمية أبلغ الآثار وأعظمها على مرّ الأجيال.
ومن نافل القول أن نعيد قصة الصراع أو الحرب التى دارت على أرض اسبرطة منذ قرون وقرون،ولكننا نذكّر فقط بأن هذه المعركة التى دارت رحاها عشر سنوات كاملات،من حصار الإغريق لطروادة،ومن المعروف أن أبطال تلك الملحمة خليط من البشر والآلهة،وكان من البشر: باريس وهكتور ابنا ملك طروادة،وعدوهما منيلاوس ملك اسبرطة،وشقيقه أجاممنون قائد الجيش،أما الآلهة منهم: زوس كبير الآلهة،وأطلق عليه الرومان قديما “جوبيتر”،وابنته “أثينا” إلهة الفكر،وأطلق عليها الرومان “منيرفا” وهكذا،واستخدمت فى هذه الحرب الطويلة كافة أشكال البطش والدهاء والحيلة والخديعة،للدرجة التى دفعت “زيوس” كبير الآلهة أن ينشر فى الجيش المعادى الوباء الوبيل،وهذا لشدة غضبه،وذلك من أجل هلاك الأعداء(2)،ويصف هوميروس المعركة وصفا شعريا هائلا: “…فلما التقى الجيشان الآن وأصبحا فى مكان واحد،التحما معا بالتروس والرماح،وكان المحاربون جميعا يرتدون دروعا من البرونز،فاصطكت التروس المطعنة بعضها مع بعض،وارتفع رنينها الصاخب،وبعد ذلك سمع صوت الأنين وصيحات النصر فى وقت واحد،من القاتلين والمقتولين،وفاضت الدماء”
والملحمة العظيمة التى انبثقت من أحداث المعارك الدامية،ولم تُبنَ فقط على سفك الدماء وتكسير العظام وتدبير الخطط الهجومية والدفاعية الماكرة التى كان يحيكها الطرفان،أصبحت أيقونة فنيّة للبشرية جمعاء فى كل عصورها،وقد استغرق الشاعر فى كتابتها سنوات طوال من حياته،وبذل فيها مجهودات_جبّارة فى صياغتها وبناء هيكلها_ ذات خبرة وفنية عظيمة،وربما لا يستطيع أن يقوم شاعر ما،أو أديب ما،بكتابة نص سردى أو شعرى يليق بالأحداث التى وقعت على الأرض،وكثيرا ما نقرأ نصوصا ركيكة على مدى التاريخ،لا تصلح _حتى_ لتكون مجرد نشرة إخبار عن ما حدث،وفى ذلك الصدد يكتب المخرج ك. ستانسلافيسكى فى مذكراته عن ماعايشه أثناء الحرب العالمية الثانية عندما بلغت الحياة فى موسكو درجة الغليان عام 1914،وراحت المسارح تعمل كما لم تكن تعمل من قبل،وذلك استغلالا للظرف،وجذب جمهور كبير للمشاهدة؛وبالتالى كانت عروضهم “مسلوقة” على حد تعبير ستانسلافسكى،حتى لو كانت الأعمال ممزوجة بتلك الروح الوطنية المتعجلة،ويكتب :”…ومن هنا برهن الفن على أن لا شأن له بأهواء الفترة الحاضرة ولا بالشئون السياسية ولا بما يقيم الناس ويقعدهم فى ذلك الزمن العابر والمجنون”
ويستشهد ستانسلافسكى بمقولة منسوبة للكاتب الروسى أنطون تشيخوف عندما طلب منه أحد الناشرين أن يكتب عن الحرب الروسية اليابانية،واعتبر الكاتب العظيم تشيخوف أن ذلك إهانة بالغة،وكان رده الحاسم للناشر: “…اسمع،من الضرورى أن تمضى عشرون سنة أولا،ومن المحال أن نتكلم عن هذه الحرب،إذ لا بد أن تكون نفس الكاتب فى طمأنينة وسكينة حين يكتب،وبغير هذا فلن يكون إلا كاتبا متحزبا وصادرا عن هوى”
وبالطبع لا نستطيع أن نأخذ بمقولة أنطون تشيخوف بشكل مطلق،خاصة أن البعض من الكتّاب والأدباء العرب والعالميين كتبوا سرديات كبرى فيما بعد الحرب بسنوات قليلة،أو أثناء حدوثها،ولا بد أن نستدعى روايات الكاتب الأميركى”أرنست هيمنجواى”عندما كان مراسلا صحفيا فى الحرب العالمية الثانية،وكتب أجمل كتاباته أثناء تلك الحرب،ولم ينتظر حتى تستقر الأمور وتنتهى لكى يستدعى الأحداث من جديد،ولكن الكاتب الذى يكتب تحت قصف المدافع لابد أن يكون ذا موهبة وخبرة فى الكتابة تتفوق على تلك العجلة التى تسلق الأعمال الإبداعية،لكى تنتج نصوصا ركيكة تشبه إعلانات السلع السيّارة،تلك النصوص التى يكتبها كاتبوها للأعمال الدرامية فحسب،ولكنها تخلو من البعد الأدبى الذى يكتب لها البقاء والخلود،وهذا الأمر يجعلنا نلقى نظرة طائر على أدب الحرب فى شكله العام.
فى عام 1946 وقف الزعيم السوفيتى جوزيف ستالين بعد الانتصار العظيم على الهتلرية فى الحرب العالمية الثانية،وبعد إبرام اتفاق إيقاف الحرب فى 9 مايو 1945بين المتحاربين،وكان الاتحاد السوفيتى يشعر بالزهو بعد ملحمة ستاليننجراد،ودحر جيوش أدولف هتلر النازية،قال الزعيم المنتصر ستالين فى خطبة بليغة: “…إن الكاتب إيليا اهرنبورغ أسهم إسهاما كبيرا فى ربح الحرب وسحق العدو”،ويُعلّق الكاتب اللبنانى خليل تقى الدين على تلك الجملة بقوله: ” اعرنبورج لم يحمل بندقية،ولا أطلق رصاصة،بل شرع قلمه،وعبّأ شعبه بشحنات هائلة من الكراهية والحقد على العدو والمغتصب،وقاتل بمقالاته وقصصه وأخبار المعارك بمثل الضراوة التى كان يقاتل بها جنود بلاده الغازى البغيض”
ومن الطبيعى أن يكون هناك أدباء وكتّاب مخضرمون وكبار وذوى مواهب عظمى كما أسلفنا،يقدرون على استيعاب اللحظات التاريخية،والقيام بمهمة التصدى للكتابة عن الأحداث الجارية،ويُعدّ الكاتب المصرى جمال الغيطانى من أبرز من فعلوا ذلك،فكتب سلسلة روايات مثل “الرفاعى،والزويل،والغريب”،وكذلك مجموعات قصصية مثل “أرض أرض”،ومن المؤكد أن المشاركة العملية لجمال الغيطانى كمراسل صحفى من الجبهة،واقترابه الفعلى من الخطوط الأولى للمواجهة،جعلته يمسك بعديد من الخيوط الحقيقية فى الحرب،وانخراطه البحثى فى كتاباته البحثية فى المجال العسكرى،أعطته قدرة واسعة على رؤية الأحداث الحقيقية على أرض الواقع،وكتب كتابين بحثيين عن المقاتلين،الأول هو”المصريون والحرب”،والثانى هو”حُرّاس البوابة الشرقية”،وعندما كتب سردياته القصصية والروائية كان قادرا على التعبير الواقعى والفنى عن ما كان يحدث على جبهات القتال،خاصة أنه يملك ناصية السرد الفنّى بامتياز،وهذا الأمر جعله مختلفا عن كل من كتبوا عن بعد،أو عبر المتابعات فى الصحف والمجلات.
وإذا كان جمال الغيطانى استطاع أن يكتب سردياته القصصية والروائية البديعة،وذلك لمشاركته كمراسل صحفى من الميدان،فهناك كاتب آخر كان مشاركا فى ساحات المعركة كمقاتل،وهو الكاتب والأديب “محمد يوسف القعيد”،والذى التحق بالقوات المسلحة بعد أن تم تجنيده منذ عام 1962،وعاش مرارة هزيمة 1967 بشكل كامل،كما أنه عاش وشارك فى معركة 6 أكتوبر المجيدة 1973،وكانت روايته الأولى “الحداد”،والتى صدرت فى العام 1969،وهى ترمز إلى ماحدث فى عام 1967،ولكن عند النصر عام 1973،كتب القعيد عددا من السرديات القصصية والروائية،سجّلت جانبا من دراما الحرب،أى أنه فى الحالتين قدّم القعيد دراما المعركة فى الهزيمة والانتصار،وذلك يعود إلى أنه عاصر حالة القتال بشكل مباشر دون أى وساطة،ويقول الناقد أحمد محمد عطية عن تلك الرواية “الحداد”: “…وبدلا من الراوى الثرثار الذى يسيطر على الرواية التقليدية،اتحد الروائى مع شخصياته،تاركا لها حرية التصرف والتعبير،وعوضا عن التسلسل الزمنى للقصة كما فى الرواية القديمة،قدّم لنا القعيد قصته الرئيسية وأشركنا فى تطويرها وإثرائها وإلقاء الأضواء عليها…”
وبالتأكيد هناك كُتّاب كثيرون استطاعوا أن يُعبّروا عن اللحظات التاريخية فى الحروب،وعكسوا ذلك فى أشعار وقصص قصيرة وروايات،وهذا يدلّ على أن للحروب وجوها إيجابية مهما بلغت من الدمار وغريزة التدمير التى تنتاب كثيرا من العسكريين أثناء القتال،ولو عدنا إلى الحروب الصليبية _مثلا_،وهى من أشهر الحروب التى جرت على الأراضى العربية سنجد أن الشعراء تباروا فى قول ما أتاحت قرائحهم به من قصائد،للتحريض أو التمجيد،أو تسجيل المعارك،وذلك عندما استطاع ما اتفق على تسميتهم ب”الصليبيين” أن يستولوا على مدينة قونية فى عام 490 هجرية،بعد أن “أبلى المسلمون فى الدفاع البلاء الحسن،ثم اتجه قسم من الصليبيين إلى شطوط الفرات واستولى على إمارة (الرها)،وهى إمارة مسيحية يحكمها أمير يونانى يدفع جزية للمسلمين…”
ورغم أن كثيرا من رسائل الوعظ والإرشاد والترغيب والترهيب قد انتشرت أثناء الحروب الصليبية،من طراز:”…يا أيها الناس اعملوا على مهل،وكونوا من الله على وجل،ولا تغتروا بالأمل ونسيان الأجل،ولا تركنوا إلى الدنيا فإنها غدارة خداعة،قد تزخرفت لكم بغرورها وفتنتكم بأمانيها وتزينت لخطابها فأصبحت كالعروس المجلوة،العيون إليها ناظرة والقلوب عليها عاكفة والنفوس لها عاشقة…”،إلا أن أعلاما كثيرين برزوا فى تلك الحرب،وكتبوا شعرا ونثرا ينُمّان عن خبرة أدبية عظيمة ودراية وإلمام بالذات القارئة التى يتوجهون إليها،وربما يكون المؤرخون لتلك المرحلة لم يركزوا إلا على أسماء بعينها لأسباب لا تكاد تكون مفهومة،أو مفهومة لظروف سياسية بعينها،وهذا الأمر يتكرر فى التاريخ بشكل دائم،لولا أن باحثين ومنقبين عادلين،يقدرون على إقامة العدل الأدبى الذى أغفله الظلم والبطش السياسى.
ومن هؤلاء الشعراء_على سبيل المثال_ ابن القيسرانى،وله مطولة هائية يقول فيها:
(هو السيف لا يغنيك إلا جلاده وهو طوق الأملاك إلا نجاده
وعن ثغر هذا النصر فلتأخذ الظبا سناها وإن فات العيون اتقاده )
وكذلك الشاعر ابن منير الطرابلسى،والحكيم أبو الفضل عبد المنعم بن عمر بن حسان،وأبو الحسن بن على الجوينى الذى قال:
(جند السماء لهذا الملك أعوان من شك فيهم فهذا الفتح برهان
متى رأى الناس مانحكيه فى زمن وقد مضت قبل أزمان وأزمان
هذى فتوح الأنبياء وما لها سوى الشكر بالأفعال أثمان.)
وظلّت الحروب الصليبية ملهمة للأدباء والمبدعين على مدى التاريخ،وكتب كثيرون أشعارهم وقصصهم ورواياتهم ونصوصهم المسرحية،كما أعاد هؤلاء الأدباء تقليب تربة التاريخ للإدلاء بوجهات نظر عبر تلك الوسائل الفنية،ومن أشهر الكتابات التى تناولت تلك الفترة،رواية “الحروب الصليبية كما رآها العرب” للكاتب والأديب اللبنانى أمين معلوف،والذى يكتب رواياته باللغة الفرنسية،وأوضح معلوف فى روايته أشكال الوباء التى داهمت المتحاربين على مدى الفترة الزمنية الطويلة التى استغرقتها الحرب،وجاء على غلاف الرواية نبذة مختصرة،جاء فيها:”…كانت الحروب الصليبية ولا تزال تشغل حيزا كبيرا من الكتابات التاريخية فى الشرق والغرب لما لها من شأن وخطر على الصعد السياسية والاجتماعية والفكرية والاقتصادية والحضارية..”
ولا بد أن نتذكر فى هذا السياق ماحدث أثناء الحملة الفرنسية فى مصر،فى نهايات القرن الثامن عشر،ونشب صراع معروف بين القوات الانجليزية والقوات الفرنسية،وهذا لأسباب الأطماع التى ترواد الفرنسيين والانجليز فى نهب ثروات الشرق عموما،وكانت مصر هى المحطة الأنسب للصراع،ومن ثم فرضت القوات الانجليزية البحرية حصارا متينا حول السواحل المصرية،وذلك بعد أن حطموا الأسطول البحرى،وأجبروا نابليون أن يتجه بقواته إلى سوريا،وكانت العقبة الكئود التى واجهته هى صمود “أهل عكا”صمودا تاريخيا،واضطر أن ينشئ محاولات لمحاصرتها،تلك المدينة التاريخية العريقة،وهذا لأن هجماته المتكررة قد أصابها الخذلان،وكان الأسطول الانجليزى يمد المدينة بالمؤن والعون،فى الوقت الذى نقصت المؤن والمعاونات عن أسطول نابليون،ومن ثم طالت مدة الحصار،وفى ذلك الوقت،حدث ما لم يكن يتوقعه نابليون وقواته الطاغية،”…ذلك هو (الطاعون الدملى)،ولم يكن الطاعون بالوباء المجهول لدى الأوربيين،قد عانت منه أوروبا الويلات،حين تعدد اجتياحه بلدانها فى فترات متعاقبة فى القرن الرابع عشر،وفى القرن السابع عشر،فكان يفتك بالناس فتكا،ويحصد الأرواح حصدا،لذلك كان من السهل أن يثير ظهوره بين الحنود فى تلك الفترة العصيبة،والتى أوشكت فيها روحهم المعنوية على الانهيار،ذعرا بالغا…”
وجدير بالذكر أن نابليون اضطر أن يتخلى عن عكّا،وذلك لخطورة الموقف،وتفشى الطاعون الذى لا يعرف المهادنة،وكانت هذه هى أولى هزائمه فى الشرق،وذلك بسبب الطاعون المخيف،وفى إثر ذلك،تراجع جيش نابليون إلى يافا،وكانت قد أعدت مستشفى فاض بصرعى وبمصابى الوباء،وسعى نابليون إلى محاولات للتخفيف عن جنوده،وذلك لمواصلة حملته،ولكنه رأى _ذات يوم_ مريضا قد سقط من فراشه،الإفرازات العفنة المتقيحة تكاد تكسو جسمه كله،فما كان منه إلا أن حمله بنفسه وأرقده على فراشه،بينما امتعض جنوده،بعدها قرر نابليون التخلى عن حلمه فى ثروات الشرق.
الوباء:
وإذا كانت الحرب قد ظهرت فى أدبيات لا حصر لها،كان الوباء بكل أنواعه بطلا أساسيا فى عدد من النصوص القصصية والروائية والشعرية،عدا السينما والمسرح،وكان وباء الكوليرا الذى ضرب مصر والعالم العربى والعالم كله فى مراحل زمنية مختلفة،وكانت مصر على سبيل التخصيص قد أصيبت بذلك الوباء فى أكثر من مرة،وكان أكثرها تأثيرا وانتشارا فى العام 1947،وربما كانت أقلها كارثية،فالمرة الأولى التى أصيبت مصر بذلك الوباء فى عام 1846،وكان قد وفد إلى مصر عبر البلاد الآسيوية وخاصة الهند،واستمرت هجماته المتقلبة حتى عام 1961،إذ مكث خمسة عشر عاما تماما،وانقطع حتى يأتى مرة أخرى عام 1863،وراحت عشرات الألوف ضحايا له،وفى سنة 1883 ظهر بمدينة دمياط،ثم انتشر فى كثير من محافظات مصر،وعبر البحر المتوسط،ليصيب مالطة وإيطاليا،وظل حتى 1886،ولم تنقشع خطورته حتى تم القضاء عليه عام 1890،ليعود مرة أخرى عام 1895،واستمر لمدة عام كامل،ويعود مرة أخرى عام 1902 عندما ظهرت بوادره فى قرية موشة بجنوب أسيوط فى يوليو،ومات أكثر من أربع وثلاثين ألفا من الضحايا،_كما يذكر تقرير فى مجلة الهلال_(14)ثم داهم مصر مرة أخرى عام 1947،وكانت البشرية قد توصلت إلى قدر من أشكال العلاج والتقدم،ففى الماضى كان يحصد الآلاف من البشر،بينما كانت الضحايا أقل بشكل ملحوظ فى العام 1947 كما يذكر تقرير مجلة الهلال.
وكان أول من تناول وباء الكوليرا فى نصوص أدبية الدكتور طه حسين فى رائعته “الأيام”،وكان حديثه مؤثرا للغاية،إذ أنه لم يتوقف عند سرد ماحدث لمصر بصدد وباء الكوليرا،ولكنه وضع سيرة الوباء مقرونة بأحداث مريرة أخرى،ظلّت تترك أثرا قاسيا بعد أثر لكل من يقرأ هذا النص الفريد،إذ كتب طه حسين يقول:”…كان هذا اليوم 21 أغسطس من سنة 1902،وكان الصيف منكرا فى هذه السنة،وكان وباء الكوليرا قد هبط مصر ففتك بأهلها فتكا ذريعا،ودمر مدنا وقرى،ومحا أُسرا كاملة،وكان (سيدنا) قد أكثر من الحجب وكتابة المخلفات،وكانت المدارس والكتاتيب قد أقفلت،وكان الأطباء ورسل الصحة قد انبثوا فى الأرض ومعهم أدواتهم وخيامهم يحجزون فيها المرضى،وكان الهلع قد ملأ النفوس واستأثر بالقلوب،وكانت الحياة قد هانت على الناس،وكانت كل أسرة تتحدث بما أصاب الأسر الأخرى وتنتظر حظها من المصيبة…”
ويسترسل طه حسين فى وصف حالة الذعر التى أصابت الناس إزاء هذا الوباء القاتل،وعلى مايبدو أن هذا الوصف يليق بحلول هذا الوباء أو غيره فى كل عصر وأوان،كذلك يصف سلسلة أشكال الوقاية التى يواجه بها الناس ذلك الوباء،وحركة العزل التى يلجأ الناس إليها،وعندما يصل طه حسين إلى حالة فقد شقيقه،تقطر الكلمات حسرة ودموعا وهو يصف حال الأم التى تفقد واحدا من أبنائها،وهو حال كل من كان يفقد عضوا من الأسرة،فيعم الاكتئاب ويسود الحزن وينتشر الهلع بكل صوره.
وإذا كان ذلك الوصف السردى الذى أجراه طه حسين فى سياق سيرته الذاتية،لوباء عام 1902،فهناك وباء عام 1947 الذى شغل كتابات سردية،أشهرها رواية “اليوم السادس” للكاتبة المصرية الأصل أندريه شديد،والتى كتبتها متأثرة بأحداث ذلك العام الكئيب،إذ تتفقد فى الرواية لما حدث فى ذلك العام،ويقدمها المترجم قائلا:
“تجرى أحداثها فى مصر،أو(الأرض الحبيبة)كما تسميها الكاتبة،وهى رواية من الأدب الراقى لا تقل فى روعتها عن أشهر الروايات العالمية،وهى رواية رمزية،فالكوليرا فيها تمثل القضاء والقدر فى أبشع صورهما،والطفل المريض حسن يمثل الانسان بكل مافيه من ضعف،أما جدته أم حسن فهى تجسيد للحب والإيمان بالحياة والأمل فى المستقبل”
وبالفعل فالرواية معزوفة واقعية على حال المجتمع المصرى،إذ أن الأحداث لا تكتفى بالحديث عن مايجرى للناس بصدد وباء الكوليرا،ولكنها تكشف عن سمات اجتماعية ونفسية كاملة،وتكشف عن نفسية خوف متوطدة فى الناس تجاه كل ماهو مجهول،رغم التنوع فى ردود الأفعال المختلفة،فضلا عن توتر العاطفة عند الجميع إزاء أحداث وباء الكوليرا القاتل.
وفى هذا السياق لا ننسى القصة التى كتبها القاص”يوسف الشارونى” تحت عنوان “الوباء”،ونشرها فى مجموعته الأولى “العشاق الخمسة” عام 1954،وهى تمزج عدة خيوط معا،وآثر الشارونى أن يضع الوباء فى مصر ضمن سلسلة أحداث عالمية،ففى الوقت الذى كان مندوبو هيئة الأمم المتحدة يهاجمون بعضهم بعضا،وفى باريس عقد أكبر مؤتمر دولى فى تاريخ السحر،حيث اشترك مندوبو أربع عشرة دولة نجحوا فى خداع بعضهم بعضا،فكان الماء يتحول إلى خمر،وكانت تبدو فى الهواء النقود والسجائر وكرات البلياردو وآلات الكمان…،وغير ذلك من أحداث ذات شأن كونى،فبعد أن يذكر الشارونى كل ذلك وغيره من أحداث يقول:”وفجأة ظهر الوباء..بدأ أولا بعشرة أشخاص كأنما هو رسالة شخص عظيم،توفى طالب فى الجامعة وسيدة حُبلى وطفلان وخمسة فلاحين وصبى عبيط أعرج…وكان هؤلاء هم شهداء الرسالة الجديدة،بموتهم حملوا الخلاص إلى بقية الشعب،ظلوا يتقيأون ويتبرزون برازا سائلا أبيض كالأرز حتى جفت أمعاؤهم وتثلجت أطرافهم…وقد ظُن في بادئ الأمر أن وفاتهم بالأعراض الواحدة نتيجة للصدفة الخالصة أو هى حوادث تسمم متشابهة،لكن سرعان ما كشف الطبيب المختص عن الحقيقة التى روعت ملايين السكان…”
ويسترسل الشارونى فى وصف كافة أشكال الاستقبال المختلفة التى بدت على الناس،وأشكال الاحتياطات التى تتخذها الجهات المسئولة،حيث أن عاد التلاميذ إلى بيوتهم،وتوقفت المدارس،وصدر أمر بإغلاق الأسواق،وحملت كل فلاحة دجاجاتها،وشد الفلاحون رباط بهائمهم الهزيلة المعروضة للبيع وأقفل الجميع إلى قراهم،وكف المثقفون عن جدالهم _كما يكتب الشارونى_ حول معنى الحياة وعدلوا عن رغبتهم فى الموت وهكذا.
ويبدو أن مايحدث فى كل ظهور لجائحة الوباء،لا جديد فيه،سوى المفردات المختلفة فى كل عصر،إذ أن الآليات تكاد تكون واحدة،وتمثل قاسما مشتركا فى كل المجتمعات المتنوعة والمتقدمة منها وغير المتقدمة،ويسرد الشارونى حكاية على سبيل التفكه والتدريم فى آن واحد،إذ أن شخصا ما راح ليركب القطار فى ظل انتشار الوباء،وعندما صعد إلى القاطرة،وجد أن كل المقاعد ممتلئة،بل أن الطرقة التى تفصل بين تلك المقاعد كان الناس فيها متلاحمين،فما كان منه إلا أن وضع إصبعه فى حلقه،وشعر بأنه يريد أن يتقيأ،وبالفعل صدر منه صوت يشبه صوت التقيؤ،فهلع الناس وهرعوا وقاموا من مقاعدهم،خوفا من ذلك الرجل الذى يشتبه فيه أنه مصاب بالكوليرا،وجلس الرجل وحده تماما فى كل القاطرة،وعند نهاية الخط،اكتشف الناس أن الرجل مازال يحيا،بل إنه فى كامل قواه البدنية،فأمسكوا به وأبلغوا عنه الشرطة،وما كان منه إلا أن قال للضابط بأن الركاب كانوا كرماء معه للغاية،إذ أفردوا له قاطرة كاملة وحده دون أن يطلب منهم ذلك،وهكذا تعد قصة “الوباء” للشارونى من أقوى السرديات التى عبرت عن كافة الملابسات التى تصاحب ظهور الوباء فى بلد ما.
ولا ننسى كذلك القصيدة التى كتبتها الشاعرة العراقية”نازك الملائكة”بصدد وباء “الكوليرا” فى مصر،تلك القصيدة التى أنبنت عليها شهرة وقيمة الشاعرة طوال تاريخها،كما أن القصيدة كانت إعلانا عن مرحلة جديدة فى تاريخ الشعر العربى كله،إذ أنها راجت على كل شعر فى ذلك الوقت،رغم أن الشاعرة لم تكن قد تجاوزت الثلاثة والعشرين من عمرها،وجاءت القصيدة لكى تشجى آلاف القراء،وتبدأها نازك بـ:
سكن الليل
أصغ إلى وقع صدى الأنّات
فى عمق الظلمة،تحت الصمت،على الأموات
صرخات تعلو تضطرب
حزن يتدفق،يلتهب
يتعثر فيه صدى الآهات
فى كل فؤاد غليان
فى الكوخ الساكن أحزان
فى كل مكان روح تصرخ فى الظلمات
فى كل مكان يبكى صوت
هذا ما قد مزقه الموت…)
ورغم أن السرد والشعر كان يتناول الوباء من زاوية تحليل ردود الأفعال التى كانت تصدر من الجميع،والإجراءات التى كان يتخذها مسئولو الحكومة للتصدى لذلك الوباء القاتل،إلا أن الحركات الشعبية والوطنية والسياسية كانت تشارك بقوة فى مواجهة الوباء،وفى القيام بما لم تستطع الجهات المسئولة تداركه،ويكتب د فخرى لبيب فى مذكراته : ” فى سبتمبر 1947 اجتاحت الكوليرا قرية القرين بالشرقية،جاءت من الهند مع قوات الحلفاء المعسكرين قرب القرية،انتشرت حتى غدت وباءً اجتاح 2270قرية ومدينة،انتشر عبر حبات البلح،ثم عبر الخضروات والفاكهة،الناس تصاب بقئ وإسهال شديدين حتى يجفوا ويموتوا،رابطة الطلبة المصريين نزلت تخوض المعركة،شكلت لجانا لمكافحة الكوليرا،فى القاهرة،وخاصة فى الأحياء الشعبية،بعد أن غزاها الوباء”
وبالفعل شعر الجميع بخطورة الوباء،ولم يكن سوى التكاتف الاجتماعى والسياسى لمواجهة هذا المأزق الكارثى،والذى لا يعرف وفديا ولا اشتراكيا ولا سعديا،كما أنه لا يدرك العقيدة ولا الجنس ولا العمر،من ثم هرعت كل أطياف المجتمع الشعبية والرسمية للمواجهة،وكتب الشاعر محمود توفيق مذكراته معربا عن ذلك التضامن العام لمواجهة الوباء:”بدأت الإشاعات تترامى وتتوافر عن ظهور وباء الكوليرا فى مصر،وبدأ انتشاره فى مناطق متعددة من البلاد،ومالبث الأمر أن تأكد وثبتت صحته،واجتاح الرعب من هذا الوباء كل أرجاء مصر،وتبين من التحقيقات الصحفية التى أجريت،أن المرض بدأ من قرية القرين،ثم إلى أرجاء مصر…وكان المرض يحصد أرواح الناس بالمئات كل يوم،وأسرعت الجهات الحكومية المختصة بإقامة المعازل والمستشفيات المتنقلة،المقامة أساسا من الخيام،لمحاولة إسعاف المرضى،وعلاجهم _على قدر الإمكان_ ولتطهير المناطق المصابة،والمعرضة للإصابة بالمطهرات،كما أقيمت الكثير من المدافن الجماعية لدفن عشرات أو مئات الجثث فيها.
وربما يكون وباء الكوليرا هو الأكثر والأقدم انتشار فى العالم،لذلك اعتنت به الآداب السردية والشعرية والفنية بشكل واسع،وربما تكون رواية الكولومبى جارثيا ماركيز “الحب فى زمن الكوليرا”،من أشهر الروايات التى كتبت فى العصر الحديث،لكن هناك المرض والوباء الآخر الذى كتب فيه الفرنسى ألبير كامو رواية نالت حضورا ورواجا واستقبالا كبيرا،وهى رواية “الطاعون”،والتى كتبها ونشرها عام 1947،وهى تتناول مدينة وهران فى الجزائر،باعتبارها مقاطعة فرنسية،وأبدع فيها كامو إبداعا ذا شأن كبير،وإن كان الدكتور طه حسين كتب مقالا طويلا فى مجلة الكاتب عام 1948 محتجا على بعض ماجاء فى الرواية،ومتسائلا:هل هى رواية أم مذكرات أم ماذا؟،وكان مندهشا من ذلك الاستقبال الحافل الذى قوبلت به الرواية،ورغم احتجاج طه حسين الحاد،إلا أن الرواية تعتبر من الآثار الأدبية والسردية الكبرى التى استطاعت أن ترصد وتحلل هلع الناس تجاه تلك الأوبئة الغامضة.
ولا تسعنا فى هذه السطور رصد وتحليل وتفنيد كل الأدبيات الحديثة والقديمة التى تناولت كل أنواع الأوبئة،بداية من الجذام والجدرى والملاريا والسل والكوليرا والطاعون وغيرها من أوبئة،كذلك كافة أشكال المواجهة التى تبديها الشعوب والحكومات تجاه تلك الأوبئة،ولكن من خلال استقراء وتأمل كل تلك التجارب المعاصرة والقديمة،تتجلى لنا عدة مشتركات منها:
أولا_أن الوباء يظهر فى كل مرة دون أن ينتبه له الناس ولا ينتبه له المسئولون،وتبدأ كافة الدوائر تتساءل عن كنية ذلك المرض اللعين،والغامض،وفى ذلك أبدع كامو فى روايته الطاعون.
ثانيا_أن الناس فى البداية تستهين بالأمر،وعند ظهور وتكاثر الحالات،يشتد الاهتمام،ويبدأ الناس فى المواجهات الجماعية والفردية،كل على حسب قدراته المادية والاجتماعية.
ثالثا_تحتشد الدوائر الدينية فى استثمار ذلك الحدث،وفى تفسيره على أنه انتقام من القوى الإلهية العظمى،لأن البشر انحرفوا،ولم يواظبوا على طاعة الله.
رابعا_انتشار نظرية نهاية العالم،وهذا الأمر يتكرر بتكرار ظهور الوباء فى كل المراحل التاريخية.
بالطبع هذه عناصر قليلة من نقاط كثيرة،وأعتقد أن علماء الاجتماع لديهم حقول ثرية لدراسة النفس البشرية،وهى تحت طائلة الوباء القاتل.