على الرغم من أن أحداث الربيع العربي تذكر العالم الغربي مجددا كيف أن فهمه للعالم العربي ضئيل فقد قدم سوقا لصناع الرأي من مختلف التوجهات لشرح نقطة التحول التي حدثت وظهرت في صورة ثورة شعبية كان من أهم أسبابها الاقتصاديات الباهتة، والمؤسسات الجامدة التي تعاني فقر الدم، ودور وسائل التواصل الاجتماعي التي تذكر كل ذلك ضمن التفسيرات المفضلة، ومن المثير للدهشة أنه قد سعت قلة قليلة لتفسير الدور الذي لعبته الجيوش خلال هذه الثورة الكاسحة، فإن أي دارس للشرق الأوسط سيخبرنا أن الجيوش العربية كانت دائما في مركز الحياة السياسية في الشرق الأوسط، كقاعدة عامة، ولمدة طويلة مثلت القوات المسلحة أقوى المؤسسات المحلية في أنحاء المنطقة يساعدها في ذلك الموارد الهائلة التي خصصت لنفقات الدفاع.
وبالنسبة للكتاب فهو مكون من تسعة فصول، الفصول الثلاثة الأولى يقول الكاتب فيهم أن الجيوش العربية لعبت دورا محوريا أثناء نتيجة الاضطرابات العربية الشعبية واسعة النطاق. وعلى الرغم من أوجه الشبه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الكثيرة بين الدول العربية، فإن الجيوش العربية لم تستجب للثورات بصورة موحدة، فبعضها قد انكسر أو تفتت، وبعضها ظل موحدا، وأيد بعضها النظام الحاكم بقوة، ووقف بعضها بجرأة مع المتظاهرين، وبقى بعضها على الحيــــــــاد، فقد فشلت نماذج السلوك العسكري التي وضعت لعقود خلال موجة الأبحاث الأكاديمية عن تدخلات الجيش في الشؤون السياسية، سواء في التنبؤ بتصرفات الجيوش خلال الثورات العربية الاخيرة، أو في تفسيرها، فقد اعتاد العلماء والخبراء المتخصصون في العلاقات المدنية العسكرية في العالم العربي، قديما وحديثا، أن يشيروا إلى مجموعة أحادية من العوامل الداخلية والخارجية، كمحددات وحيدة لاستجابات الجيوش، لم يكن أي من هذه العوامل كافيا لتفسير الاختلاف الشديد الذي شهدته المنطقة بين استجابات الجيوش العربية، حتى في حالة التشابه في العديد من المؤثرات الخارجية .
حتى الآن، عانت الأدبيات التي تحاول أن تعالج سؤال : تباين دور الجيوش في الثورات العربية، من التبسيط الشديد لذلك اللغز المعقد، عن طريق تأطير السلوك العسكري، فعلى سبيل المثال، يعتقد البعض أن الجيوش استجابت بصورة مختلفة إذا كان أفرادها قد تلقوا تدريبات في الغرب، وفقا لهذا الرأي، لم يطلق الجيش المصري أو التونسي النار على المتظاهرين، لأن التعليم العسكري الغربي لقادتهم قد غرس فيهم معايير حقوق الإنسان ‘ في المقابل لا ترسل سوريا أو ليبيا ضباطها إلى المدارس الأمريكية، ومن ثم أظهرت تلك الجيوش القليل من ضبط النفس، بينما يؤكد آخرون أن الضغوط الخارجية أثرت على ردود أفعال المؤسسات العسكرية، أكثر مما أثر اكتساب المعايير الغربية، ويرى آخرون أيضا أن الولاء لمذهب أو عرق معين، أو التجانس الأقوى للمجتمع، هو الذي يحكم سلوك الجيش .
أما تحليل الكاتب فيرى أن الاستجابات العسكرية للثورة العربية لا يمكن إخضاعها لاستجابات الجيوش العربية تجاه الاضطرابات الاجتماعية، ومن الواضح أيضا أن أحداث الربيع العربي تقود حقبة جديدة من العلاقات المدنية العسكرية في الشرق الأوسط العربي، فقد تغيرت البيئات الدولية والمحلية التي كانت تؤثر على العلاقات المدنية العسكرية العربية تغيرا جذريا، منها الحرب الأمريكية العالمية على الإرهاب، وظهور وسائل التواصل الاجتماعي وتنامي النفوذ السياسي الإسلامي، بالإضافة إلى أن العلاقات المدنية العسكرية تعاملت مع الجيش كسليل للتدخلات السياسية، وليس كحكم في شأن ثورة شعبية هائلة فقد وجدت الجيوش العربية أنفسها في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا عام 2011 كرد فعل لظروف غير متوقعة في بلادها، وكانت مجبرة على عجل في ظل معلومات محددة في بعض الحالات أن تقرر ما إذا كانت ستصطف مع القادة السياسيين أو المتظاهرين، وأخيرا لم يكن لتلقي الضباط العرب تعليما عسكريا في الكليات العسكرية تأثير حاسم على سلوك الجيوش العربية خلال الانتفاضات الاجتماعية فقد أظهر المسح الذي أجراه الكاتب على الضباط الدوليين الذين التحقوا بالكليات العسكرية الأمريكية أنه في معظم الحالات ليست هناك علاقة دلالة إحصائية، بين المدة الزمنية التي قضاها الضباط الأجانب في الولايات المتحدة وبين آرائهم فيما يتعلق بالسياسة الخارجية الأمريكية.
ثم يناقش الكاتب بعد ذلك ماضي العلاقات المدنية العسكرية العربية ومستقبلها حيث يشرح الفروق التاريخية الدقيقة لتدخل الجيوش العربية في الشؤون السياسية ،موضحا أن الكثير من السلوك الإنساني يعتمد على المسار التاريخي، فالماضي يشير إلى المستقبل، ولن يكون فهم السلوك العسكري في خضم الصحوة العربية مكتملا دون فهم العلاقات المدنية العسكرية في الشرق الأوسط، منذ الحرب العالمية الثانية، كما ويسلط الضوء على أنه لا يوجد عامل سلبي صارم وحيد، يستطيع أن يفسر الطريقة التي تدخلت بها الجيوش العربية في الصحوة العربية، ففي سياق تعاظم الأحداث التاريخية الإنسانية تتعدد العوامل المختلفة، فإننا ندخل حقبة جديدة من العلاقات المدنية العسكرية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، فلم تعد الجيوش العربية حامية للأنظمة المستبدة ولا رائدة تغيير الأنظمة، ولكنها ستقوم في جميع أنحاء الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بدور الحكم في الاضطرابات الاجتماعية، لتقرر ما إذا كانت ستدعم الشارع أو تدافع عن النظام .
أما الفصول من الرابع إلى السادس فيتحدث الكاتب بداية عن الدعم الطموح من الجيش التونسي للصحوة العربية ، حيث كان التونسيون يحترمون القوات المسلحة قبل الثورة احتراما واسعا بسبب موقعه من السلطة والمساعدات الإنسانية وسمعته الطيبة كمؤسسة وطنية لا بسبب قوته العسكرية، أو انتصاراته السابقة.
فكانت إزاحة بن علي من السلطة ستؤدي إلى إعادة التوازن لقوة الجيش في مواجهة وزارة الداخلية، فقبل الانتفاضة الشعبية، كانت وزارة الداخلية تتفوق على القوات المسلحة بكل اعتبار، فقد تمتعت وزارة الداخلية بمزيد من السلطة السياسية، وبميزانية أكبر وحجم قوات أكبر، وصلاحيات أوسع، فمثلا كانت ميزانية وزارة الداخلية 106 مليون دولار فقط عام 1984، قبل ثلاث سنوات من سيطرة بن علي على الرئاسة، لكن بعد عشرين عامًا، ارتفعت الميزانية إلى 410 مليون دولار، بزيادة 75% وفى المقابل لم تزد ميزانية القوات المسلحة إلا بنسبة 18%، كما كان تعداد القوات المسلحة أقل بشكل ملحوظ من تعداد أفراد الداخلية 37 ألف جندي في مقابل 200 ألف في وزارة الداخلية .وكان ضباط الجيش التونسي يشتكون دائما أنهم في المركز الأخير من بين أجهزة الأمن، وكان الجيش يشعر بالاستياء أن يلعب دورا ثانويا بعد الحرس الوطني في الدفاع عن البلاد .
وخلال ثورة الياسمين اتخذ الجنرال عمران وقادة القوات المسلحة قراراتهم بحساب عقلاني مدروس لتعزيز مصالح المؤسسة العسكرية، لقد عاشت هذه المؤسسة في الظل قبل الثورة، وفي أعقابها أصبحت القوات المسلحة تتمتع بمزيد من الموارد والنفوذ المجتمعي، والسياسي، كما أصبحت تضم أول بطل قومي في تاريخ تونس الحديث، الجنرال عمار، ولم تكن القوات المسلحة لتحقق أي مكاسب إذا قررت قمع الاحتجاجات باستخدام القوة المميتة، بل كان قتل المواطنين سيؤدي إلى تآكل القاعدة الأساسية للقوات المسلحة .
ثم ينتقل الكاتب بحديثه بعد ذلك إلى الجيش السوري، فيقول بعيدا عن نظائرها الإقليمية صمدت النخبة العسكرية السورية، أمام الموجة المتصاعدة من الاضطرابات الداخلية منذ اندلاع الانتفاضة العربية في درعا، في منتصف مارس 2011، ومنذ ذلك الحين توقع الكثيرون داخل سوريا وخارجها وفى الغرب إلى زوال النظام العلوي، ومن الواضح تماما لماذا اعتقد الكثيرون أن أيام الأسد باتت معدودة، لقد كان الجيش يستطيع أن يطيح بسهولة بالأسد، في محاولة لتهدئة الحشود، وعلى الرغم من ذلك وعلى خلاف جميع التوقعات، فقد أظهرت النخبة العسكرية التي تسيطر عليها الطائفة العلوية دعما قويا للغاية لسياسات النظام .
ويقول الكاتب إن مهمة استجابة الجيش السوري للنظام تقدم الكثير من التساؤلات، وربما كان هذا هو السبب الأساسي لقلة الدراسات حول هذا الموضوع، أو لعدم فهمه، حيث كان النظام السوري شديد السرية والتحفظ والغموض، وفى سورية استخدم الأسد وعدد من قيادات حزب البعث الآخرين في دائرة النظام الداخلية، أجهزة الأمن بالاشتراك مع الوحدات العسكرية للقضاء على المظاهرات، ومع التغطية الإعلامية الأجنبية غير المكتملة، تم إلقاء اللوم على اللاعبين الخارجين بما في ذلك إسرائيل والعراق والأردن والسعودية وغيران وحزب الله وروسيا والغرب والإسلاميين المتشددين، يبقى السؤال عن حسابات صنع القرار لدى الجيش السوري، مسألة مفتوحة، وحتى الآن، فقد دعمت النخبة العسكرية النظام السوري بقوة، لحسابها أنها لن تربح إلا القليل وستخسر الكثير إذا دعمت الجانب الآخر .
وينتقل الكاتب بعد ذلك إلى الجيش المصري فعلى خلاف بعض الدول الأخرى لم تكن هناك ضوابط عرقية على التحاق الضباط بالقوات المسلحة أو ترقيتهم، ولم يعرقل ذلك القيادة العسكرية فإن مصر متجانسة عرقيا، حيث إن أكثر من 99% من سكانها هويتهم مصــرية، وتنقسم البلاد إلى 90% من المسلمين السنة و9% من الأقباط المسيحيين، لكن هذه الاختلافات الدينية لم تكن مصدرا للنزاع داخل القوات المسلحة ويتكون الجيش المصري من 60% إلى 70% من المجندين، وهم يمثلون بشكل عام التركيبة الدينية والطبقية للدولة، وبالتالي فإن العديد من الجنود من المناطق الريفية، ولذلك قال أحد الضباط المصريين البارزين إن القوات المسلحة لديها علاقات حميمية مع المصريين لأننا من الشعب المصري .
هذا وتحتل القوات المسلحة موقعا مهما في المجتمع المصري قبل الانتفاضة فقد أظهرت استطلاعات الرأي باستمرار أن الشعب يرى المؤسسة العسكرية الأكثر كفاءة والأكثر تحديثا والأقل فسادا بين مؤسسات الدولة والوحيدة التي تضم أكبر عدد من المثقفين والشرفاء والمخلصين .
ثم يقول الكاتب إنه لا توجد أي أدلة تشير إلى النخب العسكرية قد انحازت للثورة في شهري يناير وفبراير عام 2011 بسبب التأثير الأمريكي، أو بسبب مصلحة الجيش في صياغة دور آخر له في هيكل السلطة في مصر، فكانت استجابة الجيش بطيئة في أول الأمر ولم يتدخل لإجبار مبارك على التنحي إلا حينما شعر أن تردده في التدخل سيضر بمصالح الوطن ومصالح المؤسسة العسكرية .
أما الفصول من السابع إلى التاسع ففيها موضوع هام جدا ألا وهو تأثير الولايات المتحدة على صناعة القرار العربي في أوقات الاضطراب الاجتماعي، حيث يقول إنه على مدى عقود طويلة سعت الولايات المتحدة للتأثير على الجيوش العربية، وشملت أساليب ممارسة ذلك التأثيــــــــــر : المنح الدراسية لضباط الجيوش العربية للالتحاق بالكليات العسكرية الأمريكية، وتنظيم التبادلات المناورات العسكرية، ورحلات العرض الثقافي مع الجيوش العربية، وتقديم مساعدات عسكرية واقتصادية ضخمة للدول العربية، وفى ضوء الانتفاضات الشعبية الأخيرة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، حان الوقت لدراسة أثر تلك الجهود على حسابات صنع القرار في الجيوش العربية، أثناء الانتفاضات وبعدها، هل هناك علاقة تربط بين درجة التعليم العسكري التي تلقاها الضباط الأجانب أو المبيعات العسكرية الأمريكية، وبين قرارات هذه الجيوش بالانحياز إلى الشارع أو دعم النظام الحاكم، وقد أخذ الكاتب على عاتقه أن يرصد مواقف الضباط العرب وتصوراتهم، الذين التحقوا بالكليات العسكرية الأمريكية، حيث تشير النتائج التي توصل إليها أن التدريب العسكري للضباط العرب في الكليات الأمريكية، والمساعدات العسكرية والاقتصادية للدول العربية، لم يكن لها دور حاسم في صنع القرار العسكري خلال الانتفاضات الشعبية، وليس هناك إحصائية بين المدة التي قضاها الضباط الأجانب في الولايات المتحدة وبين آرائهم بشأن الديمقراطية وحقوق الإنسان والليبرالية، واعتماد بلدانهم على الجيش الأمريكي سواء في جانب التسليح أو إدارة النظام الدفاعي، واللافت للنظر، أنه قد أظهر الضباط الأجانب الذين تلقوا تعليمهم منها نفورا من السياسة الخارجية للولايات المتحدة ومن بعض جوانب الحياة الاجتماعية الأمريكية، بما يتناسب طردا مع فترة إقامتهم في الولايات المتحدة، فإن تلك النتائج تفرض التساؤل حول تأكيدات الباحثين السابقين على أن التدريب العسكري الأمريكي للضباط الأجانب في الكليات العسكرية يجعلهم أكثر تقبلا للولايات المتحدة، وينقل إليهم القيم الغربية، ويقلل من اعتمادهم على الجيش الأمريكي في إدارة مؤسساتهم الدفاعية، ويرى الكاتب أن الباحثين السابقين عانوا من عدد من أوجه القصور، بما في ذلك الاعتماد الزائد على الحكايات والأقاويل، والخلط بين الأهداف المتعددة لبرامج التدريب العسكري للضباط الأجانب، والاقتصار على تحليل اتجاهات الليبرالية على مستويات وطنية بدلا من رصد آراء الضباط أنفسهم بالإضافة إلى الانحياز الغربي .
ثم يشير الكاتب بعد ذلك إلى توصيات للسياسة الأمريكية حيال منطقة الشرق الأوسط، حيث يقول إنه ينبغي على صناع السياسة الأمريكية أن ينتبهوا إلى عدة دروس مستفادة من هذه الدراسة، أولا سوف تستمر الجيوش في الشرق الأوسط في لعب دور مهم في المنطقة في المستقبل المنظور، ومع تبني العديد من الدول العربية للديمقراطية، سوف تكون جيوش تلك الدول بمثابة الحكم الذي يفصل في النزاعات الاجتماعية، وسوف تكون حسابات صناعة القرار متسقة مع القيود السياسية ومصالح المؤسسة العسكرية، وفي سياق كل دولة وحكومتها واقتصادها ومجتمعها، وأيضا ينبغي أن يعترف صناع السياسة الأمريكيون بمحدودية تأثيرهم في السلوك العسكري العربي فيما يتعلق بالمسائل الداخلية، وهنا لا يقلل الكاتب من أهمية المبيعات العسكرية إلى الدول العربية، فضلا عن تدريب الضباط العرب في الكليات العسكرية الأمريكية، فسوف تستمر الكليات العسكرية في وظيفتها النافعة في تحسين فهم الضباط الأجانب لثقافة الولايات المتحدة ومؤسساتها ( السياسية والاقتصادية والعسكرية )، وتسهيل التواصل المباشر بين الضباط، وتعزيز العمل العربي المشترك وبناء التحالفات، فإن الولايات المتحدة تستفيد من ذلك أن هؤلاء الضباط الأجانب يعملون على تقليل سوء التفاهم الأمني بين الدول، لكن تدريب الضباط الاجانب في الكليات العسكرية الأمريكية قد لا يؤدي إلى تحسين مكانة الولايات المتحدة بين هؤلاء الضباط، ولا إلى زيادة اعتماد جيوشهم على المبيعات العسكرية الأمريكية، ومن أوجه متعددة، سوف تتأثر حسابات صنع القرار لدى الجيوش الأجنبية بالسياسة الخارجية للولايات المتحدة، بالأوضاع الداخلية السياسية والاقتصادية والاجتماعية في ذلك البلد.
عمـــــــــــاد الديــــــن حلمـــــي
الأمانة العامة لجامعة الدول العربية