اعتراف إيرلندة وإسبانيا والنرويج بالدولة الفلسطينية:
في خطوة تمثل تطورًا جذريًّا لافتًا في المواقف الأوروبية من القضية الفلسطينية، أعلنت ثلاث دول أوروبية هي (إيرلندا، وإسبانيا، والنرويج)، في 22 مايو 2024، اعترافها بالدولة الفلسطينية وذلك في بيانات صحفية متزامنة لقادة تلك الدول، منوهة بأن هذا الاعتراف سيصبح رسميًّا وساريًا في 28 مايو 2024. وفيما يتعلق بأهداف التحرك الأوروبي الثلاثي نحو الاعتراف بالدولة الفلسطينية فقد أوردت صحيفة “الجارديان The Guardian ” البريطانية أن هذا التحرك قد استهدف العمل على دعم “حل الدولتين”؛ لتسوية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وتعزيز السلام في الشرق الأوسط، كما عكس الموقف الأوروبي الثلاثي مدى الدعم المقدم من قبل تلك الدول للقضية الفلسطينية، وحرصها على توجيه رسالة واضحة لإسرائيل مفادها الإعراب عن القلق الدولي العميق إزاء الحرب التي تديرها في قطاع غزة بما في ذلك ما ترتكبه من جرائم إبادة جماعية وتطهير عرقي في حق المدنيين الفلسطينيين، وذلك وَفقًا لما أوردته جريدة “نيويورك تايمز The New York Times” الأمريكية.
وفي هذا الإطار، كان رئيس وزراء إيرلندا “سيمون هاريس” قد صرح بأن ما أقدمت عليه دبلن من حيث الإقرار بالحق الشرعي للدولة الفلسطينية في أن تعيش في سلام وأمن ضمن الحدود المتفق عليها دوليًّا إنما يعبر عن الدعم الصريح “لحل الدولتين”. كما أعرب رئيس الوزراء الإيرلندي عن ثقته في أن تحذو خلال الأسابيع القادمة مزيدٌ من الدول الأوروبية حذو الدول الأوروبية الثلاثة. ومن جانبها أعلنت إيرلندا موافقتها على تأسيس علاقات دبلوماسية كاملة وتعيين سفير لها لدى الدولة الفلسطينية.
وبالنسبة لرئيس وزراء النرويج ” يوناس غار”، فقد صرح بأنه لن يكون هناك سلام في الشرق الأوسط بدون الاعتراف بالدولة الفلسطينية، وأن ما أقدمت عليه النرويج مع كل من (إيرلندا، وإسبانيا) يمثل جهدًا مشتركًا لإنقاذ “حل الدولتين” في مواجهة الحكومة الإسرائيلية الذي رفضته بشكل صريح. وفي وقت لاحق أعلنت أوسلو بأن المكتب التمثيلي للنرويج لدى السلطة الفلسطينية- والذي تم افتتاحه في الضفة الغربية عام 1999 – سيصبح سفارة، إلا أنه لم يتم تحديد تاريخ لهذا الإجراء الدبلوماسي.
ومن جانبه أعلن رئيس الوزراء الإسباني “بيدرو سانشيه” أن الاعتراف بالدولة الفلسطينية هو “مسألة عدالة تاريخية” و” ضرورة” من أجل تحقيق السلام، موضحًا أن هذا الاعتراف ليس موجهًا ضد أي دولة، وعلى الأقل من ذلك ليس موجهًا ضد إسرائيل، كما أكد أن حل الدولتين يظل هو الإجابة الوحيدة لأزمة الشرق الأوسط. من ناحية أخرى اتهم رئيس الوزراء الإسباني نظيره الإسرائيلي بمسؤوليته عن المذابح المرتكبة في قطاع غزة لافتًا إلى أن “نتنياهو” مازال يغض الطرف عن عمليات تفجير المستشفيات والمدارس والمنازل، ومجددًا طلبه بضرورة التوصل إلى وقف إطلاق النار.
التعاطي الإسرائيلي مع الاعتراف الأوروبي الثلاثي بالدولة الفلسطينية:
أثار التحرك الأوروبي الثلاثي نحو الاعتراف بالدولة الفلسطينية غضب إسرائيل؛ حيث أعرب رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” عن استنكاره للتحرك الأوروبي الثلاثي واصفًا إياه “بأنه بمثابة مكافأة للإرهاب”، ومشيرًا إلى أن هذه الدولة ستكون “دولة إرهابية”، وأنها سوف تقوم بارتكاب مذبحة 7 أكتوبر عدة مرات أخرى، وهو”الأمر الذي نرفضه”. وفي وقت لاحق، قامت الخارجية الإسرائيلية باستدعاء سفرائها لدى هذه الدول الأوروبية الثلاثة بهدف “التشاور”. وفي هذا الإطار، ذكر وزير الخارجية الإسرائيلي “إسرائيل كاتس” بأنه قام باستدعاء مبعوثي هذه الدول الثلاثة ” للتوبيخ الشديد” في أعقاب قرار حكوماتهم والتي جاءت بمثابة “مكافأة لإرهابيِّ حماس”. ولم يكتفِ وزير الخارجية الإسرائيلي بذلك، بل إنه وجه الاتهام لرئيس الوزراء الإسباني “سانشيه” بالتواطؤ في التحريض ضد اليهود في إطار اعترافه بالدولة الفلسطينية، وصرح في هذا الشأن ” بأن إسرائيل لن تبقي صامتة في مواجهة هؤلاء الذين يقوضون سيادتها ويعرضون أمنها للخطر”. وفي هذا الإطار ذكرت صحيفة “يديعوت أحرونوت” الإسرائيلية بأن وزارة الخارجية الإسرائيلية تدرس سلسلة من الإجراءات العقابية ضد الدول الثلاثة التي اعترفت بالدولة الفلسطينية. ومن جانبه أيضًا أعلن “يائير لابيد” زعيم المعارضة البرلمانية الإسرائيلية اتفاقه مع وصف رئيس الوزراء الإسرائيلي، وصرح بأن قرارات الدول الأوروبية الثلاثة ” مخزية ومشينة”، كما اعتبرها بأنها تمثل ” فشلًا دبلوماسيًّا غير مسبوق ” بالنسبة لإسرائيل.
وفي خطوة لاحقة ووفقًا لما أوردته جريدة ” نيويورك تايمزThe New York Times الأمريكية”، أعلنت إسرائيل امتناعها عن تحويل الأموال إلى السلطة الفلسطينية والتي تعاني بالفعل من أزمة اقتصادية طاحنة، حيث صرح وزير المالية الإسرائيلي اليميني المتطرف ” بتسلئيل سموتريش” أنه قام بإبلاغ رئيس الوزراء الإسرائيلي باعتزامه الامتناع عن إرسال إيرادات الضرائب إلى السلطة الفلسطينية في رام الله([1])؛ وذلك ردًّا على الاعتراف الأوروبي الثلاثي الأخير “الأحادي الجانب” بالدولة الفلسطينية، كما طالب أيضًا بإلغاء الاتفاق الفلسطيني الإسرائيلي، الذي سبق التوصل إليه في أعقاب اندلاع الحرب في غزة، والذي تحتفظ بموجبه النرويج ببعض الإيرادات على سبيل الأمانة لحين موافقة إسرائيل على إرسالها إلى السلطة الفلسطينية.
ردود الأفعال العربية والدولية:
أثار إعلان الدول الأوروبية الثلاثة الاعتراف بالدولة الفلسطينية العديد من ردود الأفعال على الصعيدين (العربي، والدولي). فعلى الصعيد العربي: رحبت الرئاسة الفلسطينية بالإعلان، وحضت دول العالم وخاصة الدول الأوروبية التي لم تعترف بعد بدولة فلسطين على أن تعترف بها وذلك وفقًا ” لحل الدولتين” المعترف به دوليًّا والمستند إلى قرارات الشرعية الدولية على خطوط عام 1967. كما اعتبرت حركة المقاومة الإسلامية “حماس” أن اعتراف الدول الأوروبية الثلاثة بدولة فلسطين “هي خطوة مهمة” على طريق تثبيت حقوق الفلسطينيين في أرضهم وفي إقامة دولتهم وعاصمتها القدس، مؤكدة أن هذا الاعتراف “يمثل نقطة تحول في الموقف الدولي من القضية الفلسطينية”. كما رحبت حركة التحرير الوطني الفلسطيني ” فتح” بهذه الاعترافات التاريخية، والتي جاءت تعبيرًا عن انحياز دول العالم إلى حق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة ذات السيادة وفقًا لمبادئ القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية.
كما رحب الأردن بقرار الاعتراف باعتبار أنه يمثل خطوة مهمة وأساسية على طريق حل الدولتين، والذي يجسد دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة على حدود الرابع من يونيو من عام 1967. ومن جانبها رحبت مصر أيضًا بالقرار، فقد اعتبرته وزارة الخارجية المصرية “خطوة مقدرة” تدعم الجهود الدولية الرامية إلى خلق أفق سياسي يؤدي إلى إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، ودعت الدول التي لم تتخذ هذه الخطوة بعد إلى المضي قُدمًا نحو الاعتراف بدولة فلسطين. وقد أعربت المملكة العربية السعودية عن ترحيبها “بالقرار الإيجابي”، والذي يؤكد على الإجماع الدولي على الحق الأصيل للشعب الفلسطيني في تقرير المصير، كما دعت المملكة بقية الدول التي لم تعترف حتى الآن بالدولة الفلسطينية للمسارعة باتخاذ نفس القرار، وبصفة خاصة الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن. ومن جانبه وصف الأمين العام لجامعة الدول العربية “أحمد أبو الغيط” قرار الدول الأوروبية الثلاثة “بالخطوة الشجاعة والتطور الإيجابي”، ووجه التحية والشكر للدول الثلاثة على تلك الخطوة التي تضعها على الجانب الصحيح من التاريخ في هذا الصراع. ودعا “أبو الغيط” الدول التي لم تفعل ذلك إلى الاقتداء بالدول الثلاثة في خطوتها الشجاعة، وختم ” أبارك لفلسطين على هذا التطور الإيجابي”. كما رحب مجلس التعاون الخليجي بالاعتراف الأوروبي الثلاثي مؤكدًا أنه سيسهم في حصول الشعب الفلسطيني على كافة حقوقه والعيش بسلام وعدالة واستقلال، وأنه يعد خطوة محورية وإستراتيجية نحو تحقيق “حل الدولتين”، داعيًا المجتمع الدولي بكافة مؤسساته ومنظماته للقيام بدوره في دعم الشعب الفلسطيني للحصول على حقه الكامل في إقامة دولته.
وعلى الصعيد الدولي: اعتبرت منظمة التعاون الإسلامي أن هذه الخطوة التاريخية الهامة تسهم في تأكيد الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وتعزيز مكانة دولة فلسطين على الساحة الدولية، وجددت المنظمة دعوتها لكل دول العالم لمساندة طلب دولة فلسطين الخاص بالعضوية الكاملة في الأمم المتحدة.
وبالنسبة للاتحاد الأوروبي، فقد أوضح مسؤول السياسة الخارجية “جوزيب بوريل” أن الاعتراف بالدولة الفلسطينية “ليس هدية لحماس” بل على العكس تمامًا، فالسلطة الفلسطينية ليست حماس فهما على خلاف عميق، كما دعا ” بوريل” إسرائيل إلى وقف تهديد وترهيب قضاة المحكمة الجنائية الدولية مشيرًا إلى ” أنه في كل مرة يتخذ فيها أحد قرارًا بدعم دولة فلسطين يكون رد فعل إسرائيل تحويل الأمر إلى معاداة للسامية “. وفيما يتعلق بموقف الولايات المتحدة، فقد أعلن البيت الأبيض أن الرئيس الأمريكي “جو بايدن” مؤيد قوي لحل الدولتين، وأنه يعتقد أن إقامة دولة فلسطينية يجب أن تتم من خلال المفاوضات المباشرة بين الطرفين وليس عبر الاعتراف من جانب أطراف منفردة. ومن جانبه صرح مستشار الأمن القومي الأمريكي”جاك سوليفان” أنه من المؤكد” رؤية أصوات متزايدة، والتي كانت فيما سبق تدعم إسرائيل تنجرف في اتجاه آخر، الأمر الذي يشكل مصدرًا لقلقنا؛ لاعتقادنا أن هذا لا يسهم في تحقيق أمن وحيوية إسرائيل على المدى البعيد”. وفي فرنسا، صرح وزير الخارجية ” ستيفان سيجورنيه” بأن الاعتراف بدولة فلسطين ” ليس من المحظورات” بالنسبة لفرنسا، لكن باريس تعتبر أن الظروف غير متوافرة الآن ليكون لهذا القرار تأثير فعلي على العملية الهادفة إلى قيام دولتين. وفي ألمانيا، أكد المتحدث باسم الخارجية الألمانية ” كاترين ديشاور” بأنه ” لاتزال دولة فلسطينية مستقلة هدفًا راسخًا للسياسة الخارجية الألمانية، وأنه أمر عاجل، إلا أنه يجب أن يأتي في نهاية الحوار بين الجانبين”.
سلوفينيا (البلد الأوروبي الرابع المعترف بالدولة الفلسطينية):
أعلن رئيس وزراء سلوفينيا “روبرت غولوب” في 30 مايو 2024، في تصريح له عقب اجتماع الحكومة أنها قررت الاعتراف بفلسطين دولة مستقلة ذات سيادة على حدود عام 1967، وفقًا لمبادئ القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية. وفي هذا الإطار ذكرت صحيفة ” فويس أوف أمريكا Voice of America ” أن رئيس الوزراء السلوفيني قد أوضح أن “الحكومة قد قررت اليوم الاعتراف بفلسطين كدولة مستقلة ذات سيادة”، مطالبًا بإطلاق سراح الرهائن وإنهاء العداء ما بين (إسرائيل، وحماس)، ولافتًا إلى أنها “رسالة سلام”. وفي أعقاب قرار الحكومة السلوفينية بالاعتراف بالدولة الفلسطينية، تم إحالة القرار إلى البرلمان للحصول على الموافقة من قبل النواب. وفي 4 يونيو 2024، صوت البرلمان في سلوفينيا بأغلبية 52 صوتًا من أصل 90 عضوًا في البرلمان لصالح قرار الاعتراف بالدولة الفلسطينية([2])، وقد أثارت هذه الخطوة تنديدًا فوريًّا من قبل إسرائيل، والتي كانت تأمل أن يرفض برلمان سلوفينيا الاعتراف رسميًّا بدولة فلسطين؛ فقد اعتبر وزير الخارجية الإسرائيلي “إسرائيل كاتس” أن التحرك السلوفيني هو بمثابة “مكافأة لحماس” على ما ارتكبته من أعمال قتل.
الاعتراف الأوروبي الرباعي بالدولة الفلسطينية: الدلالات والإشكاليات:
لا مراء أن التحرك الأوروبي الرباعي (إسبانيا، إيرلندا، النرويج، سلوفينيا) نحو الاعتراف بالدولة الفلسطينية قد جاء في توقيت بالغ الحساسية في خضم الحرب الإسرائيلية الجارية في قطاع غزة، وفي ظل تنامي الأصوات الأوروبية المستنكرة لأعمال الإبادة الجماعية التي ارتكبتها إسرائيل ضد الفلسطينيين، الأمر الذي يمثل تحولًا جذريًّا لافتًا في السياسات الأوروبية تجاه القضية الفلسطينية من خلال مساعي العديد من الدول الأوروبية لحشد الدعم الدولي لتحقيق تطلعات الشعب الفلسطيني نحو إقامة دولته المستقلة ذات السيادة، ويمثل هذا التحرك الأوروبي الرباعي انتصارًا للشعب الفلسطيني ونجاحًا للدبلوماسية الفلسطينية التي سعت للحصول على اعترافات متتالية من دول العالم- بما في ذلك الدول الأوروبية- بأحقية الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة.
كما عكس التحرك الأوروبي في مجمله مدى تأثير الحرب الإسرائيلية الدائرة في غزة على الرأي العام في أوروبا، والذي تحرك مؤخرًا بشكل ملحوظ للضغط على حكوماته لوقف العدوان الإسرائيلي على غزة، كما أن هذه الاعترافات الأوروبية قد تكون بمثابة ورقة ضغط على الولايات المتحدة (الحليف الرئيس) لإسرائيل؛ لكي تبذل مساعيها لدفع الكيان الصهيوني إلى وقف الحرب في غزة. ومما لا شك فيه أن هذا التحرك الأوروبي الرباعي قد يولد زخمًا باعتراف دول أوروبية أخرى بدولة فلسطين، ومن ثم فهو يمثل خطوة هامة على طريق حصول فلسطين على العضوية الكاملة في الأمم المتحدة ([3])، ودعم شخصيتها القانونية؛ حيث إنه كلما زادت عدد الدول التي تعترف بفلسطين كدولة، فإن ذلك من شأنه أن يعزز من فرص حصول فلسطين على العضوية الكاملة في الأمم المتحدة، كما إنه من ضمن تبعات هذا الاعتراف الأوروبي الرباعي أنه سوف يؤدي إلى توفير مزيد من التمثيل الدبلوماسي الفلسطيني من حيث: السفراء، والهيئات الدبلوماسية، والقنصلية في البلدان الأوروبية، الأمر الذي قد يسهم في تعزيز العلاقات الفلسطينية مع دول الاتحاد الأوروبي، كما أنه قد يوفر أيضًا هامشًا لإحداث اختراقات في السياسات الأوروبية التي مازالت تدعم الموقف الإسرائيلي. وتكمن أهمية هذا الاعتراف الأوروبي بالدولة الفلسطينية ليس فقط عبر عدد الدول التي اتخذت هذا القرار، بل أيضًا عبر وزن هذه الدول وثقلها السياسي وتأثيرها الدولي؛ إذ تعد إسبانيا من أبرز الدول المؤثرة داخل الاتحاد الأوروبي، وبالنسبة للنرويج فهي الدولة التي استضافت الاجتماعات السرية عام 1993، والتي أفضت إلى “اتفاقيات أوسلو”، كما أنها ترأس مجموعة المانحين الدوليين للفلسطينيين.
من ناحية أخري، يرى العديد من المراقبين السياسيين وفق ما ورد في صحيفة “نيويورك تايمز The New York Times” الأمريكية، أن الاعتراف الأوروبي الرباعي بالدولة الفلسطينية هو في مجمله قرار رمزي، وأنه من المرجح أن يكون التأثير الفوري والعملي المباشر لهذا الاعتراف محدودًا للغاية، وذلك فيما يتعلق بحياة المواطنين في غزة أو في الضفة الغربية، كما أنه من المرجح أيضًا ألا يؤثر هذا الاعتراف الرباعي على مسار العمليات العسكرية والحرب الدائرة في غزة. وزيادة على ذلك يرجح بعض المراقبين السياسيين أن تكون لهذه الاعترافات الأوروبية انعكاسات سلبية على الأوضاع الاقتصادية في الضفة الغربية جراء اعتزام إسرائيل المضي قدمًا في إجراءات وقف تحويل أية أموال للسلطة الفلسطينية. وفي ضوء انعكاس هذه الاعترافات على إسرائيل، والتي جعلتها تبدو أكثر عزلة على الساحة الدولية، فقد تستغلها تل أبيب للتحرر من كل الالتزامات الدولية الواقعة عليها والمضي قدمًا نحو إقامة مستوطنات جديدة في الضفة الغربية، ومما يدلل على ذلك دعوة وزير المالية الإسرائيلي “بتسلئيل سموتريش” إلى عقد اجتماع فوري لمجلس التخطيط الاستيطاني في الضفة للمصادقة على 10 آلاف وحدة سكنية في المنطقة المصنفة ُE1، مطالبًا بإقامة 3 مستوطنات جديدة في الضفة الغربية. ناهيك عن إعلان وزير الدفاع الإسرائيلي ” يوآف جالانت” إلغاء قانون ” فك الارتباط” بالكامل في شمال الضفة الغربية، وهو ما يعني إعادة المستوطنات شمال الضفة، والتي جرى تفكيكها في عام 2005. كما تعد الاعترافات الأوروبية الأخيرة وفقًا لماورد في صحيفة “تايمز أوف إسرائيل” أحدث تطور في سلسلة الانتكاسات الدبلوماسية لإسرائيل في حربها مع حركة حماس، كما أنها تمثل ضربة قوية للحكومة اليمينية المتطرفة في إسرائيل ودليلًا واضحًا على فشلها في وقف عملية الاعتراف بالدولة الفلسطينية على الصعيد العالمي. ومن المرجح أيضًا، أن تكون اعترافات الدول الأوروبية الأربعة بالدولة الفلسطينية على حساب علاقات تلك الدول بإسرائيل، بعبارة أخرى أن علاقات إسرائيل بتلك الدول مرشحة بنسبة كبيرة للتوتر خلال الفترة القادمة. وجدير بالذكر، أن قضية الاعتراف بالدولة الفلسطينية مازالت تثير انقسامًا داخل الاتحاد الأوروبي؛ بدليل مواصلة العديد من دول الاتحاد دعمها لإسرائيل وبصفة خاصة الدول ذات الثقل السياسي والاقتصادي مثل: (ألمانيا، وفرنسا)، هذا بالإضافة إلى دول أخرى مثل: (جمهورية التشيك، والمجر)، الأمر الذي يؤثر في مجمله على موقف الاتحاد الأوروبي وعلى سياسته الخارجية تجاه القضية الفلسطينية، بما في ذلك الحق المشروع للشعب الفلسطيني في أن تكون له دولته المستقلة.
ماذا بعد …؟
في ضوء استمرار العدوان الإسرائيلي الغاشم على قطاع غزة إلى جانب ما طرأ مؤخرًا من مستجدات على الموقف الأوروبي بشأن الاعتراف بالدولة الفلسطينية تُثار عدة تساؤلات في هذا الشأن: هل ستخدم هذه التحركات الأوروبية الأخيرة نضال الشعب الفلسطيني من أجل إقامة دولته المستقلة ذات السيادة؟ وهل ستمهد هذه الخطوات الأوروبية لحل القضية الفلسطينية وتسوية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي في منطقة الشرق الأوسط؟
الواقع أنه من المستبعد أن تسهم هذه الاعترافات الأوروبية الأخيرة في حل القضية الفلسطينية أو في تسوية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وذلك نظرًا لعدة اعتبارات:
أولًا: تعنت وتشدد الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، وبصفة خاصة الحكومة اليمينية المتطرفة في الوقت الراهن برئاسة ” بنيامين نتنياهو”، ومعارضة جميع أعضائها لإقامة الدولة الفلسطينية وقناعتهم القائمة على أن الاعتراف بالدولة الفلسطينية حتى وإن كانت بلا سيادة حقيقية هو خطر على إسرائيل.
ثانيًا: دعم الولايات المتحدة اللامحدود لحليفتها إسرائيل، وتوافق التصور الأمريكي للدولة الفلسطينية مع نظيره الإسرائيلي، والذي يرى في هذه الدولة كيانًا سياسيًّا منزوع السيادة والسلاح ومتقطع الأوصال على ألا تكون القدس الشرقية جزءًا منه. وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن ما طرحه الرئيس الأمريكي “جو بايدن” مؤخرًا من دعوة لإقامة دولة فلسطينية مستقلة، إنما يعبر عن رغبة الإدارة الأمريكية الراهنة في إيجاد مخرج للحرب الإسرائيلية على غزة من خلال طرح مشروع حل سياسي للقضية الفلسطينية قائم على أساس الاعتراف الإسرائيلي بقيام دولة فلسطينية منزوعة السلاح وضمن سياق المفاوضات مع الفلسطينيين. كما يأتي هذا الطرح الأمريكي في إطار الجهود المبذولة؛ لتخفيف النقمة العارمة في الغرب وفي العالم كله على الكيان الصهيوني إزاء ما يرتكبه من أعمال إبادة جماعية للفلسطينيين. وعليه فإن هذا الطرح الأمريكي الأخير ما هو إلا مناورة تستهدف انشغال المنطقة وتعلقها بأمل زائف، مع الأخذ في الاعتبار أن الولايات المتحدة على أبواب حملة انتخابية رئاسية جديدة.
ثالثًا: منذ التوقيع على “اتفاق أوسلو” في 13 سبتمبر 1993، وما تلاه من قيام حكم ذاتي فلسطيني في: غزة، وأريحا ليشمل الضفة الغربية، لم يتمكن الفلسطينيون من خلال المفاوضات من الحصول على أي شكل من أشكال السيادة الحقيقية على أرضهم، وقد تم تأجيل مفاوضات الحل النهائي عدة مرات، إلى أن وصلت هذه المفاوضات إلى طريق مسدود، ولم تجر مفاوضات مباشرة بين الجانبين حول “حل الدولتين” منذ أكثر من عقد.
رابعًا: الانقسام داخل الجبهة الفلسطينية والتباين في المقاربات، فلاتزال السلطة الفلسطينية تعتقد أن الطرق السياسية السلمية هي الأفضل لتحقيق الهدف المنشود والمتمثل في إقامة الدولة الفلسطينية ذات السيادة، بينما تتبني حركة حماس مقاربة “العمل المقاوم” للحصول على الحقوق الفلسطينية. ولا شك أن حالة الانقسام الداخلي يستغلها الاحتلال الصهيوني لتشديد الحصار وتصعيد العدوان اليومي على الشعب الفلسطيني، الأمر الذي يتطلب ضرورة تغليب المصلحة الوطنية العليا وترسيخ مبادئ الحوار الوطني لاحتواء الأزمة الداخلية وحالة الانقسام الخطيرة.
خامسًا: الإشكاليات المتعلقة بعدم وجود إطار رسمي وقانوني تخضع له الدولة الفلسطينية ومعترف به من قبل المنظمات والمؤسسات الدولية. وفي هذا الإطار تجدر الإشارة إلى أنه في 18 أبريل 2024، استخدمت الولايات المتحدة حق النقض (الفيتو) ضد مشروع جزائري يوصي الجمعية العامة بقبول دولة فلسطين عضوًا في الأمم المتحدة، وصوت لصالح القرار 12 عضوًا من بين أعضاء المجلس الخمسة عشر، وعارضته الولايات المتحدة وامتنعت عن التصويت المملكة المتحدة وسويسرا. وفي 10 مايو 2024، اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارًا يدعم طلب فلسطين للحصول على عضوية كاملة بالأمم المتحدة، ويوصي مجلس الأمن بإعادة النظر في الطلب، وقد صوت لصالح القرار143 دولة وامتنعت 25 دولة عن التصويت.
سادسًا وأخيرًا: فإن استمرار إحجام الدول العربية عن اتخاذ مواقف حاسمة ضد الكيان الصهيوني مثل: قطع العلاقات، ووقف التطبيع أو باتخاذ إجراءات اقتصادية رادعة ضد الولايات المتحدة، الأمر الذي يشجع كلًا من الكيان الصهيوني والإدارة الأمريكية على مواصلة نهجها المعادي لإقامة الدولة الفلسطينية. وعليه، فكما نجح “طوفان الأقصى” في إعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية، فإن استمرار المقاومة الفلسطينية وصمودها على أرضها وما قد ينتج عنها من تغيير في موازين القوة، قد يمكن الفلسطينيين في النهاية من تقرير مصيرهم بأنفسهم طال الزمن أم قصر.
([1]) اعتادت إسرائيل منذ عقود بموجب اتفاقيات قديمة أن تقوم بجمع الرسوم الجمركية وضرائب الاستيراد بالنيابة عن السلطة الفلسطينية، حيث تمثل هذه العوائد معظم الموازنة الفلسطينية، خاصة في ظل انخفاض حجم الدعم الدولي المقدم للسلطة الفلسطينية.
([2]) تجدر الإشارة إلى أنه في استطلاع رأي أجري في سلوفينيا على عينة من 600 مواطن أيد نحو 60% من مواطني سلوفينيا الاعتراف بدولة فلسطينية في مقابل معارضة 20% فقط.
([3]) تعترف 144 دولة في العالم بفلسطين كدولة، وبعد القرار الأوروبي الرباعي وصل عدد الدول المعترفة إلى 148 دولة (منها 11 دولة أوروبية) من أصل 193 دولة عضو في الأمم المتحدة.