يرسل انتخاب الرئيس الإصلاحي “مسعود بزشكيان” في إيران إشارات إيجابية بشأن تخفيف الوضع المتأزم في العلاقات الإيرانية مع الغرب، ويتضمن برنامج “بزشكيان” عددًا من الملفات التي تثير تطلعات الغرب (أولًا). لكن، وفي حين تتبلور عوامل داخلية وخارجية تساعد “بزشكيان” في تحقيق برنامجه المتعلق بالعلاقات مع الغرب (ثانيًا)، تترسخ تحديات هيكلية وتبرز تحديات ظرفية لتوجهات “بزشكيان” الخارجية تجاه الغرب (ثالثًا).
أولًا: أبرز الملفات التي تثير تطلعات الغرب في برنامج الرئيس “بزشكيان“
ثمة 5 ملفات أساسية تثير تطلعات الغرب في برنامج “بزشكيان”: سياسة الانفتاح والحوار مع الغرب، السعي لإحياء “خطة العمل الشاملة والمشتركة” مع إدخال تعديلات، العمل على الانضمام إلى “مجموعة العمل المالي” (FATF)، التوجه إلى تفعيل الحوار الإيراني-الأوروبي، وتحسين وضع حقوق الإنسان في إيران.
تلقى رؤية “بزشكيان” للانفتاح والحوار مع الغرب و “مد يد الصداقة للجميع” قبولًا لدى الغرب بشكل عام ولدى الأوروبيين بشكل خاص؛ فهي تعني انتقال إيران من مسار الانفتاح شرقًا والانغلاق غربًا إلى مسار الانفتاح المتعدد الجهات، ومن سياسة المواجهة مع الغرب إلى إعادة بناء العلاقات مع الدول الأوروبية وإدارة التوترات مع واشنطن. وتعكس تصريحات “بزشكيان” مدى أهمية العامل الخارجي في برنامجه الإصلاحي؛ إذ يرى أن سياسة الانغلاق تجاه الغرب حالت دون تحقيق انتعاش اقتصادي ملموس لإيران، ويشدد على أهمية رفع العقوبات، مما يستدعي فتح حوار جاد. في حين كان الرئيس الإيراني السابق المحافظ “إبراهيم رئيسي” يعتبر أن الدبلوماسية الاقتصادية مع العالم غير الغربي تستطيع أن تفقد بعض تأثير العقوبات الاقتصادية الغربية على إيران، ويجب أن تُحل المشاكل الداخلية دون ربطها بالخارج.
لكن، أثارت مداخلة وزير الخارجية الإيراني “عباس عراقجي” أمام البرلمان عندما تحدث عن “إدارة” الخصومة مع الولايات المتحدة وتخفيف الضغط الأمريكي وليس تطبيع العلاقات _تفسيرات عدة منها: من اعتبرها تراجعًا عن وعود “بزشكيان” بشأن الانفتاح على الغرب، وثمة من اعتبرها استمرارًا لسياسة التحوط الإستراتيجي لإيران ضد الولايات المتحدة، بهدف منع تحول المنافسة الجيوسياسية إلى مواجهة عسكرية حقيقية، وثمة من اعتبرها “ملاطفة” فقط للمحافظين في البرلمان لنَيل الثقة.
وتشترك أهداف “بزشكيان” مع تطلعات الدول الغربية في مسألة إحياء خطة العمل الشاملة والمشتركة مع إدخال تعديلات؛ إذ تتطلع الدول الغربية إلى الدخول في مرحلة جديدة إيجابية بشأن ملف إيران النووي بعد وصول “بزشكيان” لرئاسة إيران مقارنة بعهد “رئيسي”، بهدف التوصل إلى اتفاق ينهي أو يؤخر على الأقل التهديد النووي الإيراني. وبالنسبة للغرب، يعد موقف “بزشكيان” أكثر إيجابية مقارنة بموقف منافسه في الانتخابات المترشح المحافظ “سعيد جليلي”، الذي أكد خلال الحملة الانتخابية على أنه سيستمر في نفس نهج الرئيس السابق “رئيسي”.
ومن جانب آخر، يمثل إحياء الاتفاق النووي، وما يترتب عنه من رفع للعقوبات، الاختبار الأصعب أمام “بزشكيان”، ومعيارًا لنجاحه أو فشله خلال فترة رئاسته؛ فموقفه المغاير لمواقف “المحافظين” حول الاتفاق النووي ساهم إيجابًا في فوزه في الانتخابات. ويعكس تسمية “عباس عراقجي” وزيرًا للخارجية الإيرانية مدى الأهمية التي يوليها “بازشكيان” لتسريع إحياء مفاوضات الملف النووي الإيراني، ورفع العقوبات الاقتصادية الغربية على إيران.
ووعد “بزشكيان” بالتنسيق مع البرلمان لمراجعة وتعديل “قانون الخطوة الإستراتيجية لإلغاء العقوبات الأمريكية”؛ لخفض الالتزامات النووية، الذي أقره البرلمان الإيراني في ديسمبر2020، في حين أكد “عراقجي” أمام البرلمان التزامه بقانون “الخطوة الإستراتيجية” في المفاوضات القادمة، ويعتبر عدد من المختصين القانون السابق أكبر معرقل لإدارة بايدن في العودة للاتفاق النووي مع إيران.
ويحظى تطلُّع “بزشكيان“ الانضمام إلى “مجموعة العمل المالي” (FATF) بالارتياح لدى الغرب، باعتبار أن الانضمام للآلية يساهم في التصدي لتمويل الإرهاب وتمويل التنظيمات المسلحة خارج سلطة الدولة في المنطقة وخارجها؛ إذ تعمل “مجموعة العمل المالي” على وضع المعايير الدولية لمكافحة غسيل الأموال والتصدي لتمويل الإرهاب والتسلح، كما تقوم بتقييم مدى التزام الدول في العالم بتلك المعايير. وأدى استمرار إبقاء إيران في “القائمة السوداء” لهذه المجموعة مع (كوريا الشمالية، وميانمار) إلى دفع المؤسسات المالية الدولية إلى تحويل مواردها وخدماتها بعيدًا عن الدول المدرجة فيها؛ فإدراج اسم دولة في القائمة السوداء لـ “مجموعة العمل المالي” يعني أنها تعاني قصورًا كبيرًا في مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.
ويجلب توجه “بزشكيان” الدخول في حوار بناء مع العواصم الأوروبية مزيدًا من التفاعل الإيجابي لدى النخبة الأوروبية؛ إذ يتطلع الأوربيون إلى تحفيز إيران للعودة إلى الالتزام بخطة العمل الشاملة والمشتركة، ويعتبرون عدم حصول إيران على سلاح نووي “أولوية أمنية”. كذلك، تنتظر أوروبا من “بزشكيان” وقف أو تقليص إمدادات إيران لروسيا بالسلاح كـ(الصواريخ الباليستية، والمسيرات)، ووقف إيران دعمها للميلشيات المسلحة في الشرق الأوسط، والتي تهدد المصالح الأوروبية، كما يسعى الاتحاد الأوروبي إلى تشجيع إيران على المشاركة في إيجاد الحلول السياسية للأزمات الإقليمية بدلًا من الاعتماد على دعم الجماعات المسلحة كوسيلة لتحقيق أهدافها. وحاليًّا، يُجري عدد من الدول الأوروبية اتصالات مكثفة مع إيران على كل المستويات؛ لخفض التصعيد مع إسرائيل بعد اغتيال “إسماعيل هنية” في طهران. وفي الاقتصاد، تدرك أوروبا مدى أهمية التعاون مع إيران لضمان استدامة استقرار أسعار الطاقة عند مستوى منخفض.
من جانب إيران، يتطلع “بزشكيان” إلى التعاون مع أوروبا في مجالات عدة بما في ذلك تعزيز التعاون في مجال الطاقة، ويجادل “بزشكيان” أن الانفتاح تجاه أوروبا سيحسن الوضع الاقتصادي الإيراني، وأنه يهدف أيضًا إلى تعزيز الأمن والاستقرار الإقليمي، ووضع العلاقات بين الطرفين في المسار الصحيح، وأكد على أن أوروبا يمكن أن تكون وسيطًا نزيها في تحقيق التوازن في العلاقات الدولية، ويدرك “بزشكيان” مدى أهمية أوروبا لإعادة إحياء خطة العمل الشاملة والمشتركة مع إدخال تعديلات حتى في حال رفض “ترامب” ذلك (في حالة عودته للبيت الأبيض).
وقبل ذلك، أشار “بزشكيان” بأنه يتطلع إلى الدخول في حوار بنَّاء مع دول أوروبا، بهدف وضع العلاقات على المسار الصحيح استنادًا إلى مبادئ الاحترام المتبادل والمساواة.
كما يتطلع “بازشكيان” إلى تحسين وضع حقوق الإنسان وحقوق الأقليات ومزيدٍ من الحريات في إيران، عبر حل “شرطة الأخلاق”، وتحسين حقوق المرأة وحرية لباسها وإعادتها للحياة مرة أخرى، فضلًا عن تكريس حقوق الأقليات ومنها: المجتمعات الحدودية الكردية، كما وعد بوقف استخدام إيران القوة المفرطة والقاتلة والانتهاكات الجسيمة على الحدود الإيرانية العراقية ضد ناقلي البضائع عبر الحدود الإيرانية العراقية، المعروفين بـ “الكولباري” وأغلبهم من الأكراد، الذين ينتمون إلى مجتمعات مهمشة، ووعد بإنهاء الأزمة من خلال تسهيل التجارة عبر الحدود.
ثانيًا: العوامل التي تساعد “بزشكيان” في تنفيذ برنامجه المتعلق بالعلاقات مع الغرب
تبرز مؤشرات داخلية وأخرى خارجية تعزز من فرص نجاح توجهات “بزشكيان” الانفتاحية مع الغرب: فداخليًّا، نرصد بعض مظاهر المرونة والدعم من “المرشد الأعلى” لاعتبارات عدة، فضلًا عن منح البرلمان الثقة لجميع الوزراء الذين رشحهم “بزشكيان” لحكومته. وخارجيًّا: يشكل استمرار تحسن العلاقات العربية مع إيران عاملًا مساعدًا في نجاح برنامج “بزشكيان” مع الغرب. كما تمثل الجهود الدولية لاستقرار منطقة الشرق الأوسط فرصة لتفاعل إيران مع الأطراف الغربية المعنية، فضلًا عن أن التفاعل الإيجابي الغربي مع حكومة يقودها رجل إصلاحي في إيران قد يقلل من التأثير الصيني والروسي على إيران.
يمثل الدعم اللافت من “المرشد الأعلى” للرئيس “بزشكيان” بشكل عام مؤشرًا إيجابيًّا بالنسبة للغرب: فمن المنظور الغربي، إذا كان الدعم يعكس قناعة لدى “المرشد” ببرنامج “بزشكيان” الإصلاحي، ويمثل توجهًا جديدًا للمرشد، ويهدف إلى مساعدة الرئيس المنتخب في تجسيد رؤيته الإصلاحية بشكل عام والتعاون البناء مع الغرب بشكل خاص_ فذلك مؤشر إيجابي؛ إذ يتعذر إنجاح برنامج “بزشكيان” دون دعم قوي من “المرشد”. ومن أبرز مظاهر دعم “المرشد” للرئيس الإصلاحي أنه: أولًا، أعلن تأييده له بشكل صريح وأمام عدسات الكاميرات صباح يوم الانتخاب، ولم يلتزم بسرية الانتخاب مما أثَّر في نتائج الانتخابات لصالح “بزشكيان”. ثانيًا: ساعده في تشكيل “حكومة وفاق وطني” تتلاءم مع الوضع السياسي الداخلي والسياق الدولي من مزيج من الوزراء الإصلاحيين والمعتدلين والمحافظين، فضلًا عن التكنوقراط والشخصيات العسكرية يرأسها رئيس إصلاحي. وأيضًا، كان للمرشد دور كبير في منح البرلمان الإيراني، الذي يسيطر عليه التيار المحافظ، الثقة لجميع الوزراء الذين رشحهم الرئيس الإصلاحي “مسعود بزشكيان”؛ إذ دافع “بزشكيان” عن تشكيلته الوزارية أمام البرلمان عبر التأكيد على أنه اختار جميع الوزراء بعد تنسيق وتشاور مع المرشد “علي خامنئي”، والجهات العليا في إيران.
وفضَّل “بزشكيان” الواقعية على المثالية بتشكيله حكومة تعددية، ورفع شعار”الوئام من أجل إيران”، وجعل التيار السياسي المنافس له شريكًا في الحكم؛ ليتمكن من خلال إرساء الوفاق وخفض التصعيد السياسي، التحرك لرفع العقوبات عبر: إحياء المحادثات مع الغرب، وتحسين الوضع الاقتصادي، وخفض التوترات السياسية والاجتماعية.
من جانب آخر، دعم “المرشد” لـ “بزشكيان” ربما يعود إلى ضغوط الأوضاع الداخلية، فثمة من يرى أن دعم “المرشد” لـ “بزشكيان” يهدف إلى امتصاص غضب الشعب الذي يئس من النظام السياسي الإيراني والذي ثار لإسقاطه العام الماضي، وأن الدفع بمترشح إصلاحي لرئاسة الجمهورية والتخفي وراء “قناع” الإصلاحيين يهدف إلى حماية النظام السياسي القائم في إيران من الانهيار، وإخراجه من المأزق وتحميل الرئيس “بزشكيان” مسؤولية أي فشل داخلي أو خارجي. وأيضًا، من شأن وجود رئيس جمهورية إصلاحي في السلطة في إيران أن يساعد على استمرارية نظام “المرشد”؛ ففي حال وفاة “خامنئي” (85 سنة ويعاني من بعض التحديات الصحية)، سيعوض بمرشد آخر سيكون محافظًا بالضرورة بالنظر إلى شروط التعيين، لكن مع وجود رئيس إصلاحي، ويرأس حكومة وفاق وطني قد يخفف ذلك الضغوطات المحتملة لإضعاف نظام “المرشد”.
وأغلب الظن أن “المرشد” يدعم “بزشكيان” لكل الأهداف السابقة، وسيفسح بعض المجال للرئيس “بزشكيان” في السياسة الخارجية تجاه الغرب أكثر ممن سبقه من الرؤساء لكن بالتنسيق معه، أملًا في التوصل إلى بعض التسويات مع الدول الغربية التي تفضي إلى رفع العقوبات أو تخفيفها أو رفع جزء منها، وما يترتب عن ذلك من تحسن لحياة المواطن الإيراني.
وثمة عوامل خارجية من شأنها أن تعزز فرص تنفيذ تطلعات “بزشكيان” مع الغرب منها: توجه الدول العربية نحو الاستمرار في تحسين العلاقات مع إيران، والدفع بالشرق الأوسط إلى الاستقرار والازدهار من خلال الاستمرار في بذل الجهود لإخلاء المنطقة من كل أسباب التوتر. لذلك، من المحتمل أن تدعم بعض الدول العربية مسار الحوار والتفاوض بين (إيران، والغرب)، شرط مراعاة الانشغالات العربية من السلوك الإيراني في المنطقة. وفي هذا الإطار، تمتلك الدول العربية الكثير من الأوراق، التي يمكن أن توظفها في توجيه السياسات الدولية في المنطقة، وهو ما يبرر دعوة بعض النخبة الإيرانية “بزشكيان” أن تكون أولى زياراته الخارجية إلى الرياض والقاهرة.
هذا في الوقت الذي تشكل فيه المساعي الدولية لإرساء السلام في الشرق الأوسط حافزًا للمساعدة في إنجاح تطلعات الرئيس الإصلاحي “بزشكيان” في تطبيع العلاقات الإيرانية مع الغرب وتسوية أو إدارة الاختلافات بين الطرفين؛ إذ في النسق الدولي الحالي، تركز الولايات المتحدة الأمريكية أكثر على منطقتي المحيطين (الهادئ، والهندي) لردع الصين، في حين تركز أوروبا أكثر على الحرب الروسية-الأوكرانية وتداعياتها. ويمثل تشابك المصالح الاقتصادية، وتأثير منطقة الشرق الأوسط كمورد للطاقة وكممر أساسي للتجارة الدولية بما في ذلك البحر الأحمر، عوامل تدفع الدول إلى دعم أية توجهات تهدف إلى الاستقرار وتجنب المواجهة. ويمثل الرئيس “بزشكيان”، وهو إصلاحي ليبرالي يتبنى منطق التعاون المشترك، شخصية ملائمة للعواصم الغربية لاختبار الدبلوماسية مع إيران ودعمه للنجاح؛ لأن المكاسب التي يمكن للغرب تحقيقها تفوق المخاطر. وبالنسبة للغرب، من شأن تحسين العلاقات مع إيران تقليص التأثير الصيني والروسي على إيران.
ثالثًا: أبرز القيود لتطلعات الرئيس “بزشكيان” الانفتاحية تجاه الغرب
فداخليًّا: تشكل المقاومة المؤسسية، وتركيبة المشهد السياسي الداخلي وتأثير الرأي العام، العناصر المحلية الهيكلية الثلاث التي من شأنها أن تقوض تعامل “بزشكيان” مع الغرب؛ فغالبًا ما يواجه الإصلاح النوعي في إيران مقاومة مؤسسية (تشريعية، وقضائية)، لاسيما في نظام يحتفظ فيه “المرشد الأعلى” بسلطة كبيرة، وقضاء محافظ، ومجلس لصيانة الدستور يشرف على توافق القوانين مع المبادئ الإسلامية، ويمكنه استخدام حق النقض ضد تغييرات سياسية كبيرة وتثار حوله شكوك حول شفافيته، وبرلمان (مجلس الشورى الإسلامي)، يسيطر عليه الأصوليون المتشددون. فهذه البنية المؤسسية غير الملائمة ستعيق وستؤخر الإصلاحات التي سيقترحها “بزشكيان” بشأن العلاقات مع الغرب، ومن المحتمل أن يضطر إلى التغيير التدريجي البطيء بدلًا من التحولات النوعية السريعة، كما يتضح من الصراعات التشريعية خلال إدارة الرئيس السابق “حسن روحاني” عندما سعى إلى تنفيذ سياسات انفتاحية تجاه الغرب.
وخارجيًّا: يشكل تغير المشهد السياسي في أوروبا بعد تعزيز التيار اليميني وترسيخ الطابع اليميني للاتحاد الأوروبي بعد الانتخابات البرلمانية الأوروبية الأخيرة، تحديًّا إضافيًّا لتوجهات “بزشكيان” الانفتاحية مع أوروبا، فرغم أن الانتخابات الأخيرة لم تغير تركيبة البرلمان الأوروبي بشكل جذري، ولكنها دفعته نحو مزيد من اليمين وسيكون صعبًا في الفترة القادمة تجاهل مطالب اليمين المتطرف في البرلمان الأوروبي مما سينعكس بمزيد من التشدد على سياسات الاتحاد الأوروبي تجاه إيران، ويشدد اليمين المتطرف على ضرورة انتهاج سياسة أكثر صرامة ضد إيران -خصوصًا بشأن برنامجها النووي وملف الصواريخ البالستية، ورعاية الإرهاب، ودبلوماسية الرهائن. كما يضغط لإدراج الحرس الثوري الإيراني، وجماعة الحوثي، وحزب الله على القوائم الأوروبية للإرهاب.
أيضًا، تتزايد دعوات بعض الأحزاب الكبيرة في البرلمان الأوروبي مثل: حزب الشعب الأوروبي (EPP) إلى التخلي عن مبدأ الإجماع في موضوع فرض عقوبات الاتحاد الأوروبي ضد الأنظمة الشمولية في العالم (روسيا، وإيران، وكوريا الشمالية) مما سيسهل فرض مزيد من العقوبات على إيران. أيضًا، يشكل اختيار رئيسة وزراء إستونيا السابقة “كايا كالاس” لمنصب الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية قبل نهاية السنة الحالية بعد استكمال ولاية “جوزيب بوريل”_ تطورًا غير إيجابي لإيران.
لذلك، سيتعين على “بزشكيان” ووزير خارجيته “عراقجي” بذل جهود مضاعفة لتحقيق انفراجة في العلاقات الإيرانية مع أوروبا بالنظر إلى المشهد السياسي الأوروبي الجديد، وبالنظر إلى السياق الإقليمي الأوروبي.
وسيكون لنتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية القادمة تأثير معتبر للغاية على الطموحات الخارجية للرئيس “بزشكيان”؛ إذ تختلف مقاربات الولايات المتحدة في التعامل مع إيران بين الإدارات (الديمقراطية، والجمهورية)، بل تختلف حتى حسب العوامل الشخصية للرؤساء الأمريكيين؛ إذ كانت الإدارات الديمقراطية أكثر ميلًا إلى التعامل التفاوضي والحلول الوسط مع إيران. لذلك، في حال فوز المترشحة الديمقراطية “كامالا هاريس”، فمن المحتمل فسح المجال للجهود الدبلوماسية بين (إيران، والولايات المتحدة الأمريكية) أكثر حتى من إدارة “بايدن”. ومن المحتمل أن تتقارب رؤية “هاريس” مع رؤية “بازشكيان” للوصول إلى حلول سلمية توافقية في بعض الملفات، فقد دعمت “هاريس” بقوة مسار الاتفاق النووي الذي تم إبرامه مع إيران عندما كانت عضوة داخل مجلس الشيوخ في 2015، واعتبرته أقوى سلاح للولايات المتحدة في ذلك الوقت لاحتواء خطر إيران النووي، كما أدانت اغتيال “ترامب” لـ “قاسم سليماني”.
أما في حال فوز المترشح الجمهوري “دونالد ترامب”، سيصعب على “بزشكيان” ربما حتى الحفاظ على الوضع الحالي للعلاقات الإيرانية الأمريكية؛ فخلال الفترة الرئاسية السابقة لـ “ترامب”، اعتمدت إدارته “سياسة الضغط الأقصى” ضد طهران، وبرزت حاليًّا اتهامات لطهران بالوقوف وراء محاولة اغتيال “ترامب”، واختراق حملته الانتخابية. نذكر أن “ترامب” هو من أمر باغتيال قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني “قاسم سليماني” سنة 2020، وانسحب من جانب واحد من خطة العمل الشاملة والمشتركة المتعلقة بالملف النووي الإيراني.
ويشكِّل تفاعل حكومة “بزشكيان” مع عملية اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس “إسماعيل هنية” في إيران، مؤشرًا على النهج الواقعي الجديد لـ “بزشكيان؛ إذ يؤكد على حق الرد على إسرائيل، لكن يفضل ضبط النفس وأن يكون الرد في الوقت المناسب وبالطريقة المناسبة ويكون ملائمًا للظروف الحالية (بما في ذلك جهود وقف إطلاق النار في غزة)، ويراعي المصالح الإيرانية بما في ذلك الوضع الاقتصادي الإيراني وأن يكون “ردًا متوازنًا، لا عاطفيًّا”؛ لتجنب الوقوع في “فخ” نتنياهو وتجنب التصعيد مع الغرب.
ويدرك “بزشكيان” أن أهداف عملية اغتيال “هنية” أكثر من مجرد التخلص من شخصية مقاومة، بل محاولة إسرائيلية لاستدراج إيران إلى صراع إقليمي من شأنه أيضًا أن يجلب واشنطن إلى المواجهة المباشرة مع طهران؛ لذلك ثمة تحسب وتريث إيراني للأسباب السابقة، وهو الأمر الذي تتحسب له إيران وتعمل بإصرار على تجنبه.
هذا ويشكل اختيار “يحيى السنوار” رئيسًا للمكتب السياسي لحركة حماس خلفًا لـ “إسماعيل هنية”، تحولًا مهمًّا في علاقة الحركة بإيران؛ باعتبار أنه أقرب إلى فكر الحرس الثوري الإيراني و”دبلوماسية الميدان” مقارنة بـ “إسماعيل هنية”، مما يخلق مزيدًا من التنسيق الإيراني في غزة وسيمنح المزيد من التأثير الإيراني في المفاوضات الفلسطينية-الإسرائيلية مما سيشكل ورقة ضغط على الجانب الإسرائيل، لكن استمرار تقديم الدعم الإيراني للميلشيات المسلحة في المنطقة سيؤدي إلى تقويض احتمال حدوث اختراقات نوعية في العلاقات الإيرانية مع الغرب في عهد إدارة “بزشكيان”.
خلاصة عامة: إذا كانت نتائج الانتخابات الإيرانية تحمل جديدًا بفوز رئيس إصلاحي “مسعود بزشكيان”، الذي يتطلع إلى الانفتاح على الغرب ورفع العقوبات الاقتصادية عن بلده، إلا أن احتمالات نجاحه في تحقيق هذا الهدف ضئيلة. فصحيح أن ثمة ملفات مهمة تثير تطلعات الغرب في برنامج “بزشكيان”، لكن تبقى المعوقات أمام هذا المسار أقوى مقارنة بالمؤشرات الداعمة له. ومن جانب آخر، تستند بعض الآمال في تحقيق “بزشكيان” تحسنًا في العلاقات مع الغرب إلى بعض مظاهر المرونة والدعم من “المرشد الأعلى” للرئيس الإصلاحي “بزشكيان”، هذا فضلًا عن طبيعة النسق الدولي حاليًّا والصراع على الهيمنة بين القوى الكبرى وتطلع الغرب إلى تقليص التأثير الصيني والروسي على إيران ومحاولة تحييد أو تخفيف الدور الإيراني في الحرب الروسية-الأوكرانية، وتعزيز استقرار سوق الطاقة، أهداف قد تساهم في تحسين العلاقات بين (إيران، والغرب)، إلا أنه من المعتقد أن نتائج الانتخابات الأمريكية سيكون لها تداعيات مباشرة على تطوير هذا المسار في حالة فوز المترشحة الديمقراطية” كامالا هاريس”.