طرأت على العلاقات العربية الأمريكية عدة متغيرات خلال العقدين الأخيرين، فقد بدأ سحب وإعادة توزيع القوات الأمريكية في العراق في عهد الرئيس الأمريكي “أوباما”، ثم استكمال سحب القوات المقاتلة وتغيير مسميات بعضها مع بقائها في عهد الرئيس بايدن، وأعقب ذلك انسحاب مرتبك للغاية للقوات الأمريكية من أفغانستان، بعد ما اكتشفت الإدارات الأمريكية الأخيرة أن علوّ صوت الوجود العسكري الأمريكي مكلف للغاية ماديًّا وسياسيًّا، ولم يحقق ما سبق أن حققته الدبلوماسية من مكاسب ونفوذ ومصالح أمريكية.
وتواترت كتابات وأحاديث أمريكية مفادها أن الشرق الأوسط لم يعد أولوية إستراتيجية أمريكية رغم استمرار وجود موضوعات ذات أولوية منها (البترول، والغاز) ولكن كسلعة اقتصادية، وضمان أمن إسرائيل وإن كانت تتمتع الآن بقدرات ذاتية، والممرات المائية والتي تشارك قوى أخرى في الاهتمام بضمان أمنها، وأمن واستقرار الحلفاء وإن كانوا قد حققوا تنمية ملحوظة في قدراتهم الذاتية، ومواجهة طموحات إيران النووية والتوسعية في نفوذها في المنطقة، ويشارك في المواجهة أطراف أخرى.
ومن ثم فإن الولايات المتحدة نقلت أولوية تركيزها الإستراتيجي إلى آسيا والشرق الأقصى ومواجهة التحديات مع كل من (الصين، وروسيا)، ولكن دون أن تهجر الشرق الأوسط أو تتخلى عنه، ويؤكد المسؤولون الأمريكيون أنهم باقون في المنطقة، داعمون لشركائهم وحلفائهم.
ويُرجع الأمريكيون ما يُلاحظ من تراجع أمريكي في الشرق الأوسط إلى عوامل داخلية، وأخرى عالمية، وثالثة تعود إلى ما شهدته دول المنطقة من متغيرات وتنمية، وهو ما تطلب إعادة تقييم ومواءمة للسياسة الأمريكية وأولوياتها.
أولًا: عوامل تغير السياسة الأمريكية:
ثمة عدة عوامل أدت إلى تغييرات ملحوظة في السياسة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط بما فيها الدول العربية، وأهم هذه العوامل:
- ما لمسه الأمريكيون من حالة تقبُّل أو عدم اعتراض أو رفض مانع لغزوهم أفغانستان عقب أحداث 11سبتمبر2001، ثم غزوهم العراق في عام 2003 بادعاءات زائفة ثبت بطلانها واعترافهم بذلك فيما بعد، ولم يتعد رد الفعل على ما ارتكبته القوات الأمريكية في العراق من تفكيك لمؤسسات الدولة ونهب لثرواتها وتراثها التاريخي وتعذيب يفوق التصور في سجن أبو غريب_ سوى بيانات شجب واستنكار ليس لها أية آثار عملية. ووجهت واشنطن أصابع الاتهام في أحداث 11سبتمبر2001 إلى العرب والمسلمين وألصقت الإرهاب بالإسلام، وأصبح الشك والريبة أساس تعاملها مع مواطنيهم في الولايات المتحدة الأمريكية، والنظر إليهم نظرات دونية وعنصرية.
- تبين أن المكاسب الأمريكية بوجودها العسكري الكبير في الدول العربية أقل بكثير مما كانت تحققه بالقوة الأمريكية الناعمة، وأكثر تكلفة، كما أن نظرة الرأي العام العربي وشرائح من القوى الفاعلة العربية تغيرت وأصبحت ترى في الولايات المتحدة الأمريكية قوة مسيطرة مثل قوى الاستعمار القديم، تقوم على السيطرة والاستغلال مهما ألحقت بالدول العربية من أضرار . وبالرغم من ذلك بقي لدى فئات عريضة في العالم العربي الإعجاب بالقوة الناعمة الأمريكية من (تعليم وتكنولوجيا، وموسيقى، وسينما، وممارسة ديمقراطية).
- ما تحقق من تقدم وانتشار في وسائل الاتصال الحديثة، والتي تنقل الأحداث الداخلية الأمريكية كما هي إلى الجماهير العربية دون تدخل لتنقيحها من قبل الدبلوماسية الأمريكية، ولم تعد المكاتب الإعلامية والثقافية الأمريكية المصدر الرئيس الذي كانت تعتمد عليه أجهزة الإعلام والصحفيين في المنطقة العربية، وأصبحوا يتلقون المعلومات والأخبار من مصادرها الأصلية مباشرة، مما أظهر الأبعاد الإيجابية والسلبية للمجتمع الأمريكي وقلل من اعتباره مجتمعًا يحتذى به لدى كثير من الجماهير العربية، وبالتالي أثر ذلك سلبيًّا على الصورة الذهنية للولايات المتحدة الأمريكية لدى الجماهير العربية.
- زيادة إنتاج البترول الصخري والغاز والطاقة البديلة في الولايات المتحدة مما جعلها تتعامل مع البترول في الشرق الأوسط على أنه مجرد سلعة تجارية وما يهمها هو التأثير على كميات الإنتاج لموازنة العرض والطلب والأسعار بما يخدم المصالح الأمريكية- وخاصة إنتاج البترول الصخري والغاز والطاقة البديلة- وازداد الاهتمام الأمريكي بعائدات البترول والغاز لدى الدول العربية؛ لتمويل شراء الأسلحة الأمريكية والمساهمة في الدعم المطلوب لضمانات الأمن والاستقرار لدول الخليج العربية، ودعم الاقتصاد الأمريكي بشراء سندات الخزانة الأمريكية.
- ما طرأ على الارتباط الإستراتيجي الأمريكي الإسرائيلي من تطورات مهمة، وأصبح لدى إسرائيل قوة عسكرية وصناعات عسكرية متقدمة تمكنها بدرجة معينة من الدفاع عن نفسها، والقيام بضربات وقائية ضد ما ترى أن فيه مخاطر عليها، وتفوقها النسبي على جيرانها، مع الاتفاق الأمريكي معها على ترتيبات لتقديم الدعم المادي والسياسي لها كلما اقتضت الحاجة .
هذا فضلًا عن الدفع الأمريكي في اتجاه عمليات التطبيع، أو الاتفاقات الإبراهيمية بين إسرائيل وبعض الدول العربية إلى جانب اتفاقيات السلام السابقة .
- ترى واشنطن أن الدول العربية غير مدركة لتركيبة وطبيعة النظام الأمريكي والاعتبارات السياسية المتعددة، ويعتقدون أن الولايات المتحدة الأمريكية باعتبارها أكبر قوة عسكرية واقتصادية عالمية قادرة على إيجاد حلول للقضايا والأزمات العربية، وأن هذه الدول لا تساعد نفسها ولا يسعون للتوصل إلى تسوية أزماتهم فيما بينهم ويلقون باللوم على واشنطن خاصة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية وغيرها من الأزمات العربية.
- تأثير الأزمات الاقتصادية المتتالية على الاقتصاد الأمريكي والعالمي منذ بداية القرن 21، مع استمرار الالتزامات والأعباء الأمريكية التي كانت قائمة في أثناء الحرب الباردة خاصة في إطار حلف الناتو وتوسيع مجالات نشاطه ليشمل أفغانستان وغيرها، وعدم تقبل الرأي العام الأمريكي لذلك وما حدث في عهد الرئيس ترامب من مطالبة أعضاء الناتو بتحمل مزيد من الأعباء المالية، وأن من يريد حماية أمريكية عليه أن يدفع التكلفة، والادعاء بأن لواشنطن حقوقًا في الثروات في دول الخليج العربية نظير حمايتها لها، وما أدى إليه ذلك من استياء عربي شديد واعتباره بمثابة تراجع مستتر للدور الأمريكي في المنطقة.
- نتج عن أبعاد هذه التغيرات إدراك كل من (روسيا، والصين) أن الدور الأمريكي في الشرق الأوسط، أصبح مصدر عدم استقرار في المنطقة وإسرافها في استخدام قوى فاعلة من غير الدول؛ لتغيير الأنظمة وتفكيك مؤسسات الدولة اتباعًا لما أسمته “الفوضى الخلاقة”، وهو الأمر الذي شجع كل من (روسيا، والصين) على العودة إلى منطقة الشرق الأوسط من خلال: الأزمة السورية، والأزمة الليبية، وعلاقات روسيا الوثيقة مع إيران، والنمو الملحوظ في علاقاتها مع مصر ودول الخليج العربية، وطرحها التعاون العسكري والاقتصادي والطاقة النووية للأغراض السلمية، وذلك في نفس الوقت الذي صعَّدت فيه الصين علاقاتها مع دول المنطقة واعتمدت في علاقاتها مع دول المنطقة على العلاقات الاقتصادية والتجارية والاستثمارات، فضلًا عن تأييد القضايا العربية في المنظمات الدولية.
وبدأت الولايات المتحدة الأمريكية يتصاعد لديها القلق من هذا الوجود الروسي والصيني رغم علمها أنهما لن يمكنهما أن تحلا كليةً أو بدرجة عالية محلها، إلا أنهما طرحا البديل إزاء تراجعها أو تقاعسها أو مشروطياتها للتعاون الإيجابي والفعال مع الدول العربية، وهو الأمر الذي دفع واشنطن إلى التأكيد بأنها باقية في الشرق الأوسط وداعمة لشركائها وحلفائها رغم اهتمامها بآسيا والشرق الأقصى، ولكن لم يخرج كلامها عمليًّا إلى حيز التنفيذ واتخاذ ما يدل على عدولها عمليًّا عن هذا التراجع حتى الآن.
ثانيًا: المنظور العربي لتغير السياسة الأمريكية:
تراكمت على مدى العقود الثلاث الأخيرة مظاهر التراجع أو التقاعس الأمريكي تجاه أهم القضايا والأزمات العربية من واقع المقارنة العملية بين التعهدات والوعود الأمريكية وما تم إنجازه فعليًّا منها، وازدواجية المعايير الأمريكية بمقارنة مواقفها من عدة قضايا وأزمات عربية بمواقفها من قضايا وأزمات مماثلة في مناطق أخرى أو حتى في نفس منطقة الشرق الأوسط، ومن أهم الأمثلة على ذلك:
- الموقف الأمريكي من القضية الفلسطينية من واقع المشاركة الأمريكية ابتداءً من مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط، واتفاق أوسلو الذي ضمنته واشنطن في نهاية عام 1993، ومؤتمر كامب ديفيد الثاني بين الفلسطينيين والإسرائيليين عام 2000، وتمسك الرئيس كلينتون بعدم مناقشة الفلسطينيين لمقترحاته وقبولها أو رفضها كما هي، واعتبار انتفاضة الأقصى خصام مع الفلسطينيين، ومقترح خارطة الطريق في عهد الرئيس بوش الابن وتأجيل تنفيذها بعد إدخال تعديلات عليها أفقدتها مضمونها استجابة لمطالب إسرائيل، وخطاب الرئيس أوباما في جامعة القاهرة في يونيو 2009 ووعده للفلسطينيين بأن واشنطن ستعمل على حل عادل لقضيتهم، وانتهى حكمه دون إحراز أي تقدم.
- وقد ألحق الرئيس ترامب أضرارًا كبيرة بالقضية الفلسطينية بالاعتراف بالقدس عاصمة رسمية لإسرائيل ونقل السفارة الأمريكية إليها مكان القنصلية العامة، التي كانت تتعامل مع الفلسطينيين وأغلق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، وانسحب من الأونروا، وأوقف كل أنواع الدعم للفلسطينيين، وطرح حلًّا اقتصاديًّا للقضية الفلسطينية يؤدي إلى تصفيتها، واعتبار الجولان السورية تخضع للسيادة الإسرائيلية.
- وقد بدأت إدارة بايدن فتح الاتصالات مع السلطة الفلسطينية واستئناف المساعدات المالية للفلسطينيين والأونروا، ووعدت بإعادة فتح القنصلية الأمريكية في القدس الشرقية، وإعادة فتح مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن والعمل على حل الدولتين، واستئناف مفاوضات السلام الفلسطينية الإسرائيلية، ولكن باستثناء استئناف الاتصالات الفلسطينية الأمريكية والمساعدات المالية للفلسطينيين لم تتحقق أي من الوعود الأخرى.
- اتباع الولايات المتحدة الأمريكية سياسة “الفوضى الخلاقة” والحروب بالوكالة واستخدام قوى فعالة من غير الدول، وتغيير أنظمة عربية بالقوة المسلحة دون وجود خطة واضحة لإعادة البناء، كما حدث في ليبيا وقبلها في العراق، وإلى حد ما في الأزمة السورية، ولم يعد الإسهام الأمريكي من أجل التوصل إلى حلول سياسية وإعادة الإعمار، وإنما أصبحت واشنطن جزءًا من إدارة الأزمات بما يعبر عن رغبة غير جادة في التوصل إلى حلول سياسية لها.
- ولا تطلب الدول العربية من واشنطن أن تتولى وحدها حل هذه الأزمات، وإنما أن توظف قوتها المادية والناعمة للتعاون من أجل التوصل إلى حلول، وأن تتخذ مواقف تتفق مع منظومة القيم التي تنادي بها واشنطن وتحاول فرضها على الآخرين وتدينهم إذا لم يلتزموا بها.
- أدى ثبوت عدم صحة الادعاءات الأمريكية التي قامت بناء عليها بغزو وتدمير العراق، وتكذيب هذه الادعاءات من قبل كبار مسؤولين أمريكيين، وكذلك ما ارتكبته القوات الأمريكية من جرائم حرب وجرائم تعذيب ضد العراقيين، وتمكين إيران من أن يكون لها نفوذ فعال في العراق، إلى جانب عدم تحقيق الادعاء الأمريكي (أن أحد الأهداف من غزو العراق تحويله إلى نموذج يحتذى للديمقراطية والتنمية)، كل ذلك أدى إلى فقدان مصداقية الخطاب الأمريكي الموجه إلى الدول العربية، والنظر إليه باعتباره دعاية وتغطية مكشوفة على أهداف السيطرة والاستغلال الأمريكية، خاصة مع ملاحظة أن تنظيم القاعدة وداعش لم يكن لهما أي وجود في العراق قبل الغزو الأمريكي، وأنهما دخلتا وانتشرتا في العراق في ظل وجود القوات الأمريكية، ورغم إعلان الولايات المتحدة انتهاء نشاط هذا التنظيم والانتصار الأمريكي عليه ، إلا أنه من الواضح أن نشاطه لم ينته حتى الآن .
- إن تذبذب العلاقات الأمريكية مع إيران يثير شكوكًا ومخاوفًا كثيرة لدى دول الخليج العربية، فقد انضمت الولايات المتحدة الأمريكية إلى الاتفاق النووي مع إيران في يونيو 2015 ورفعت عنها العقوبات، وطلبت الدول العربية مساعدات تكنولوجية أمريكية لتطوير الطاقة النووية لديها للأغراض السلمية بنفس المستوى الذي وصلت إليه إيران في ذاك الحين، ولكن لم تلقَ استجابة، وانسحب الرئيس ترامب من الاتفاق النووي مع إيران في أبريل2018 وفرض عليها الحد الأقصى من العقوبات الاقتصادية والمالية.
- وتتفاوض إدارة الرئيس بايدن مفاوضات غير مباشرة مع إيران للعودة إلى الاتفاق النووي على أساس أن تلتزم كل أطراف الاتفاق بكافة بنوده، وإذا تم التوصل لاتفاق على ذلك تعود واشنطن للاتفاق وترفع العقوبات عن إيران التي ترفض أي ربط بين برنامجها للصواريخ الباليستية، ووجودها في بعض دول المنطقة بعودة واشنطن للاتفاق النووي.
- ويقلق دول الخليج العربية إتمام الاتفاق ورفع العقوبات عن إيران مما يساعدها بدرجة كبيرة على الخروج من أزمتها الاقتصادية وعزلتها السياسية والانطلاق في المنطقة بقوة أكبر مما هي عليه الآن .
- 10. عدم قيام الولايات المتحدة الأمريكية بأي رد فعل عملي على الهجمات التي تعرضت لها السعودية خاصة على مستودعات البترول، وعلى الإمارات العربية وبعض السفن في مياههما الإقليمية، رغم توجيه أصابع الاتهام إلى الحوثيين وإيران، ورغم وجود قاعدة أمريكية كبيرة في قطر، إلا أن قواتها لا تُستخدم في النزاعات العربية أو مع إيران.
- 11. التأثير السلبي للانسحاب الأمريكي المرتبك من أفغانستان وما صاحبه من قلق شديد في منطقة الخليج ولدى كل الدول المجاورة لأفغانستان؛ نظرًا لأنه بعد وجود القوات الأمريكية في أفغانستان على مدى 20 عامًا ومقاومة عودة طالبان إلى الحكم، فقد انتهى الأمر بعودتها وسيطرتها على كل مقاليد الحكم بناء على اتفاق الدوحة في فبراير2020 في أثناء إدارة ترامب، وترسخت لدى الدول العربية أن الأمريكيين لا يُعوَّل عليهم كثيرًا وأنهم يمكن أن يتخلوا عن شركائهم إذا رأوا في ذلك مصلحة أمريكية بغض النظر عن ما يلحق بشركائهم من أضرار.
- ازدواجية المعايير الأمريكية إزاء حقوق الإنسان التي تعلن أنها جزء من القيم الأمريكية ومن سياستها الخارجية، وتستخدمها لممارسة الضغوط على الدول العربية وجعلها أحيانًا مشروطية سياسية في علاقاتها معها، ووفقًا لتقارير مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان ومنظمات حقوقية أمريكية توجد انتهاكات مقلقة لحقوق الإنسان داخل الولايات المتحدة الأمريكية، وأدت هذه الاتهامات إلى جانب إدانة انتهاكات إسرائيل ضد الفلسطينيين إلى انسحاب واشنطن من المفوضية الدولية لحقوق الإنسان، هذا فضلًا عن امتناع واشنطن عن تطبيق معايير حقوق الإنسان إزاء الانتهاكات الإسرائيلية لحقوق الشعب الفلسطيني، كما تختلف مواقفها من دولة إلى أخرى بشأن الحريات العامة والديمقراطية والحكم الرشيد .
ثالثًا: البحث في ضبط العلاقات العربية الأمريكية:
ينبه كتاب أمريكيون الإدارة الأمريكية إلى أن إظهار عدم الاهتمام بالشرق الأوسط يؤدي إلى تآكل النفوذ الأمريكي في المنطقة، ويجعل الشركاء والأصدقاء يتوجهون إلى القوى التي تبدي اهتمامًا كبيرًا بالمنطقة خاصة )روسيا، والصين(، وهذا يقتضي مراجعة السياسات الأمريكية وتفعيل دور الدبلوماسية والعلاقات الاقتصادية والقوة الأمريكية الناعمة.
وقد أدركت إدارة الرئيس بايدن عندما لم تستجب كل من (السعودية، والإمارات العربية) للطلب الأمريكي بزيادة إنتاجهما من البترول والغاز لتعويض مقاطعة إنتاج روسيا منهما بسبب الحرب الأوكرانية، وتمسكت الدولتان باحترام نظام أوبك(+) بلس لتحديد معدلات الإنتاج والمحافظة على استقرار الأسواق العالمية.
كما أن أغلبية الدول العربية تميل إلى الحياد في الحرب الروسية الأوكرانية وأدانت اعتداء روسيا على استقلال وسيادة أوكرانيا، كما أدانت العقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا باعتبارها مخالفة للقانون الدولي، وترى ازدواجية في المعايير الأمريكية والأوروبية في تعاملها مع أوكرانيا، والإغداق عليها بكافة أنواع المساعدات، وفتح أبواب الدول الأوروبية للاجئين الأوكرانيين، ومقارنة ذلك بالموقف من الاحتلال الإسرائيلي لـلأراضي الفلسطينية، واللاجئين (الفلسطينيين، والسوريين، والليبيين،… وغيرهم) من مواطني الدول العربية.
إن على الدول العربية بلورة مفاهيم واضحة وصريحة في علاقتها مع الولايات المتحدة الأمريكية مع اتجاه العلاقات الدولية نحو التعددية، ووجود بدائل اقتصادية وتجارية واستثمارية بل وعسكرية، وهذا يتطلب اتخاذ عدة أمور من أهمها:
- التوسع في الاتجاه نحو التعددية في العلاقات الدولية في المجالات (الاقتصادية، والتجارية، والاستثمارية، والتكنولوجية)، فيما يمكن تسميته عدم الانحياز الاقتصادي، وفتح الأبواب أمام البدائل في كافة مجالات العلاقات دون مشروطيات سياسية أو غيرها ووفقًا لقواعد المنافسة وآليات السوق.
- إعلاء روح التعاون بين الدول العربية في مواجهة التحديات الإقليمية والدولية التي تمس الأمن والمصالح العربية، والتمسك بمبادئ السيادة والاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشؤون الداخلية والمصالح المشتركة في التعامل مع كل القوى الإقليمية والدولية، وتوسيع دوائر تنسيق المواقف العربية في الأمم المتحدة والمنظمات الإقليمية والمحافل الدولية من أجل تقوية دور وتأثير المجموعة العربية.
- تعاون الدول العربية مع الأمم المتحدة والمنظمات الإقليمية والمجتمع الدولي من أجل التوصل إلى تسويات سياسية للأزمات العربية، وذلك من أجل سد الثغرات أمام التدخلات الإقليمية والدولية بكل أشكالها، والاتجاه نحو الاستقرار والتنمية وإعادة الإعمار.
- العمل على تخفيف حدة التوتر بين الدول العربية ودول الجوار على أساس احترام مبادئ حسن الجوار والسيادة والاستقلال تأسيسًا للمصالح المشتركة، وأمن واستقرار المنطقة وبناء حد أدنى من الثقة قدر الإمكان.
- العمل على أن يكون للمجموعة العربية مواقف موحدة تجاه القضايا العربية والإقليمية والدولية في المنظمات والمحافل الدولية لإضفاء قوة على المجموعة العربية في التعامل مع القوى الدولية المختلفة والولايات المتحدة الأمريكية.
- العمل على تفعيل حل الدولتين بالنسبة للقضية الفلسطينية على أساس القرارات والمرجعيات الدولية ذات الصلة، والمطالبة بإلزام إسرائيل بإنهاء احتلالها للأراضي الفلسطينية والعربية ودفعها بكل وسائل الضغط الإقليمية والدولية إلى إنهاء هذا الاحتلال، وإقامة الدولة الفلسطينية على حدود 4 يونيو 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.
- إعطاء مزيد من الاهتمام والرعاية في الدول العربية بصفةٍ عامة للحريات العامة وحقوق الإنسان، وحرية الفكر والرأي والصحافة والإعلام، ومزيد من الضمانات لحرية ونزاهة الانتخابات، وذلك من أجل إبطال مفعول أية مطالب أو ضغوط أمريكية في أي من هذه المجالات.
لا شك أن في وحدة الصف العربي، وتعظيم استثمار الموارد والإمكانات العربية المادية والثقافية، وتوجيهها لعمليات التنمية والاستثمار- يعطي المجموعة العربية قوة تؤخذ في الاعتبار ويعمل حسابها على المستويين (الإقليمي، والدولي) .
كما أن الولايات المتحدة الأمريكية، بعد الدروس المستفادة من عدم فاعلية سياستها، وعدم صحة تقديراتها في مختلف القضايا والأزمات في المنطقة أو في أسلوب تناولها ومماطلتها، إلى جانب تجربتها الأخيرة في الحرب الأوكرانية وما أسفرت عنه العقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا من أزمة اقتصادية ومالية عالمية ألحقت أضرارًا بالغة بالعالم كله وبالدول العربية كافة، فإن كل ذلك وما ستسفر عنه الحرب الأوكرانية من العودة إلى الاستقطاب العالمي والحرب الباردة والتنافس إلى حد الصراع بين الولايات المتحدة الأمريكية وكل من (روسيا والصين) قد يجعل واشنطن تراجع سياساتها تجاه الدول العربية وتكون أكثر إدراكًا للمتغيرات في علاقاتها معها، وأن كان الجزء الأكبر من ذلك كله يعتمد بدرجة كبيرة على مدى ما تحققه الدول العربية نفسها من استثمار لعوامل القوة لديها وتحقيق حد معقول من العمل العربي الجماعي.