2020العدد 181ملف ثقافي

الزمن المستمر للقصة العربية القصيرة

حين وضعت لافتة “زمن الرواية” أمام عيون كل الأدباء العرب، كنت قد نشرت عددا من الروايات أكبر بكثير من نظيره في كتابة القصة القصيرة، ومع هذا تلقيت هذا الشعار أو هذه الخلاصة بتعجب وخوف واندهاش وحيرة ورفض ورغبة في المساءلة، ظلت تلح علىَّ حتى رفعت لافتة جديدة تقول “زمن القص” أو تؤكد أن “القصة القصيرة هي شعر الدنيا الحديثة”.

 في مدار الذات لا يمكنني أن أنسى أن القصة القصيرة كانت طريقي إلى السرد الواسع، وكنت أحسب، على حين غرة، أنها مجرد قنطرة انتقلت بها من الشعر إلى الرواية، لكن مع توالي الأيام، واختمار الفن أو نضجه في وجداني وعقلي أدركت أن القصة أصل لا استغناء عنه، وجذر لا يمكن اجتثاثه، ولون فني ليس بمقدوري التعامل معه على اعتباره مجرد جسر عابر، أو تدريب على سرد أوسع وأعمق، أو مرحلة في حياة كل أديب يجب ألا تطول، إنما الواجب هو الاستقرار في الرواية، باعتبارها نصا سرديا كبيرا، وأكثر قدرة على الانتشار والبقاء، لكن كل هذا ذاب، وأيقنت أنه وهم، حين وجدت نفسي غير قادر على مغادرة فن القصة القصيرة، وأيقنت أنه ليس مجرد نوع أدبي نكتبه بين الأعمال السردية المتسعة مثل الروايات، إنما هو مسار لا يمكن تجاوزه، أو النظر إليه على أنه كتابة محصورة بين روايتين، أو نص قصير لا يشكل سوى استراحة بين نصين طويلين.

أعرف أن هناك كثيرين أخلصوا فقط لهذا اللون، بعضهم حاول في الرواية، وأنتجوا فيها نصوصا لا بأس بها، لكن صيتهم في القصة بقي هو الأساس الذي يتكئون عليه وفي مطلعهم يوسف إدريس، وهناك من حاول كتابة رواية، وأعلن عن هذا في جلسات خاصة، لكن شيئا من هذا لم ير النور، ليظل إبداعه السردي محصورا في فن القصة ومقصورا عليها, مثل سعيد الكفراوي، وهناك من اكتفوا بالقصة القصيرة، وأخلصوا لها مثل إبراهيم صموئيل ومحمد المخزنجي. ورأوا أنها تغنيهم عما عداها، رافضين أن تكون مجرد جسر لغيرها، وأنها فن خالص جدير أن يُقدر ويُحترم ويعلو لذاته.

لكن أدباء كبارا في تاريخ العربية لم يشغلوا أنفسهم بهذه التفرقة، ولم يتوقفوا يوما ليضعوا الرواية في وجه القصة، أو القصة في وجه الرواية، إنما أخلصوا لهذين اللونين الأدبيين ما بقي القلم في أيديهم، وما بقي الوجدان والمخيلة والذهن يفرضون ما شاءوا، ولم يشعر هؤلاء الكتاب قط أن أحد اللونين في وجه الآخر أبدا، أو أن القصة مجرد استراحة بين روايتين، وأن الرواية هي سرد ما بعد الهدنة في حرب ضد نص طويل لا مناص من إنجازه، وأن هذا لا بد أن يسوق إلى تعب ورهق ومسغبة إبداعية.

لقد رأينا كيف ظل نجيب محفوظ ينتج اللونين معا، فمنذ أن أصدر مجموعته الأولى “همس الجنون” والتي هي عبارة مختارات من بين ثلاثمائة قصة نشرها من قبل، ولم يرق للناشر سوى عشرها تماما كي يضمها في مجموعة واحدة، وهو يوازي بين الرواية والقصة، حتى انتهى إلى ما يمكن  أن تكون القصة القصيرة جدا في “أصداء السيرة الذاتية” و”أحلام فترة النقاهة”.

وسيقول قائل إن محفوظ لم يكن أمامه سوى هذا المسار بعد أن اعتلت صحته، وخارت قوته، ولم يعد بوسعه أن يجلس إلى مكتبه وهو شيخ طاعن في السن، لاسيما بعد حادثة الاعتداء عليه من قبل شاب إرهابي جاهل، كي يكتب نصا طويلا، يحتاج إلى عناء وبناء، مثلما تطلبت منه رواياته، سواء كانت قصيرة على غرار “الكرنك” أو طويلة مثلما رأينا في ثلاثيته “ملحمة الحرافيش”.

لكن هذا القول ينطوي على زيف شديد، فمحفوظ قبل فوزه بجائزة نوبل، ثم اعتلاله، أنتج لنا مجموعة “صباح الورد”، التي حققت نجاحها في إضافة لبنة جديدة إلى البناء الذي أقامه الأستاذ منذ أول قصة كتبها، وكذلك فعل يحيى حقي في المزاوجة بين القصة والرواية، دون توقف أمام أيهما أولى بالرعاية، وهو سؤال قسري فرضته الأحوال فيما بعد. حتى أن الجيل اللاحق سار على الدرب نفسه، فوجدنا بهاء طاهر وجمال الغيطاني وإبراهيم عبد المجيد وإبراهيم أصلان ومحمد البساطي ومحمد جبريل يبدعون قصصا قصيرة رغم اللافتة العريضة التي رفعت بالشعار الأثير: “زمن الرواية”.

وقد فرض فن القصة نفسه، حتى أن صاحب لافتة “زمن الرواية” وهو الناقد الكبير جابر عصفور، عاد وكتب “زمن القص”، وكأنه به أراد الاعتذار أو الموازنة مع تصوره الأول، حين اعتقد أن الرواية سادت، وامتطت صهوة الأشكال الأدبية كافة، وأنها وحدها السيدة، وأن هذا أمر لا تراجع فيه، ولا فكاك عنه. ويبدو أن عصفور قد استدرك برفع ثانيتهما، إما من باب مراجعة النفس، أو من قبيل تقدير وتقييم جديد للمشهد الأدبي، واعتراف بقدرة القصة القصيرة على المنازعة، وفرض نفسها. 

إن الحديث عن “زمن الرواية” يشبه إلى حد ما ما قيل عن “نهاية التاريخ وخاتم البشر”، مع الفارق الشديد بين المقولتين وبنيتهما ومضمونهما وكل من يقف وراءهما والأهداف التي ترميان إليها، لكن ما يجمع بينهما هو التسرع الشديد، الأولى لحساب تصورات أيديولوجية توهمت أن انكسار الشيوعية يعني بالضرورة انتصارا أبديا للرأسمالية، والثانية لحساب الانسياق وراء رواج الرواية من حيث الطلب على استهلاكها أو قراءتها، وهي حقيقة لا يمكن إنكار سيطرتها لزمن ما، لكن من العيب أن يتسرع أي أحد بأن هذا التفوق والسيادة بوسعه أن يستمر إلى ما لا نهاية.

وفي الوقت الذي أدرك فيه النقاد غير المرتبطين باستراتيجيات أبعد من الأدب أن قولهم بسيادة الرواية في حاجة إلى مراجعة، لم يدرك أصحاب التصورات السياسية خطأ ما انتهوا إليه زيفا أو تسرعا، أو لم يقدروا على المجاهرة بهذا. ويضع هذا نقطة اختلاف بل خصام بين ما يفرضه عالم السياسة من سياسات وخطط واستراتيجيات هي موضوعة سلفا بغية تحقيق أهداف معينة ومدبرة ومقدرة وبين ما يعن لذهن نقاد الأدب ومنظريه ممن يفكرون بحرية في النصوص التي تنهمر هنا وهناك، ويربطونها بسياق اجتماعي وسياسي وفكري قد يوحي لهم بتصورات ما، يعتقد بعضهم أنها تشكل خط النهاية، الذي لا يمكن للإبداع الأدبي أن يتجاوزه.

وهناك من يدرك أن القصة باقية ما بقيت الصحيفة والدورية الثقافية أو العامة، إذ ليس بوسعها نشر رواية كاملة، وإن فعلت فليس أكثر من فصل فيها، يشار في مطلعه أو آخره بأن هذا “النص المقتطع” ليس سوى جزء من نص أوسع وأعرض هو “رواية كاملة”، لكن قضية فن القصة القصيرة تعدى هذا المسار الوظيفي إلى درب فني لا يمكن لأحد أن يضيقه كي يجعله مجرد مسألة أوسع من الرواية لمقتضيات النشر، أو هو استراحة بين نصين سرديين عريضين، إنما هو فن عصي على التجاهل والنسيان، وأنه مقدر لذاته، بل إن قصة قصيرة واحدة بوسعها أن تترك أثرا في وجدان الناس وأذهانهم أكبر كثيرا من رواية كاملة عابرة.

سأضرب مثلا في هذ المقام، بقصص يوسف إدريس المعنونة بـ “طبلية من السماء” و”النداهة” و”مسحوق الهمس” و”آخر الدنيا” و”حادثة شرف” وغيرها، وليست الاستعانة في هذا المقام بإدريس مصادرة على إبداعه خارج القصة القصيرة، في مسرحيات لا تنسى من أمثال “الفرافير” و”ملك القطن” و”المهزلة الأرضية” أو رواية مثل “الحرام”، إنما أردت أن أقول إن بعض هذه القصص قد بقي في الذاكرة أكثر من بعض محاولات إدريس الروائية والمسرحية نفسها.

وحتى أن البنَّاء الأكبر للرواية العربية نجيب محفوظ إن كنا نذكره دوما برواياته ذائعة الصيت مثل “الثلاثية: بين القصرين ـ قصر الشوق ـ السكرية” و”أولاد حارتنا” و”ملحمة الحرافيش” و”اللص والكلاب” فإن له قصة قصيرة لا تقل حضورا حين يتم استدعاء اسمه، وهي قصة “زعبلاوي” التي جاءت ضمن مجموعته “دنيا الله” وكان من أوائل ما ترجم له إلى لغة أجنبية، وهي الألمانية، وعدها نقاد قصة عميقة المعنى والمغزى، وهناك كذلك قصة “الحب فوق هضبة الهرم” التي عكست تأثير الانفتاح الاقتصادي على الشباب المصري.

وهناك من استطاع أن ينسج من قصص قصيرة عالما متكاملا، يُغني عن كتابة رواية، لا يعبر عنه سواها لامتداده، ودورانه حول مسألة واحدة. وفي هذا المقام تتجلى مجموعة محمد المخزنجي “سفر”، التي تدور حول تجربة واحدة لكاتبها. وسار كاتب هذه السطور على المنوال نفسه في تجربة “حكايات الحب الأول” التي تحوي مائة أقصوصة أو قصة قصيرة جدا تؤدي جميعها وظيفة واحدة وهي التعبير عن هذه التجربة. وسبق أن كتب نجيب محفوظ تجربة “حكايات حارتنا” وهي عبارة عن مائة وسبعة وثلاثين حكاية منفصلة متصلة ترسم ملامح الحارة بشتى تفاصيلها في لحظة زمنية معينة.

إن هذا معناه أن القصة في سعيها للتعبير عن عالم متكامل تتمرد على صورتها المتعارف عليها بأنها سرد مكثف يعبر عن لحظة أو موقف أو حالة، ويكون هذا التمرد عبر دوران قصص المجموعة كلها حول نقطة واحدة، وكأنها تمثل دائرة حول مركز تحط فيه رؤية أو تصور أو حالة أو رغبة أو مسعى أو هدف، وكل قصة تشكل جزءا من هذه الدائرة حتى يكتمل محيطها.

وأنتج هذا المسعى لونا أدبيا جديدا يسمى “المتتالية القصصية”، التي تعني قصصا متتابعة عن موضوع واحد، لتقع في منطقة وسطى بين “الرواية” و”المجموعة القصصية”، في اختلاف عن القصة الطويلة والرواية القصيرة أو “النوفيللا”. لكن حضور هذا اللون لا يزال باهتا، إذ لم يحظ باعتراف تام، لأنه لم يشق إلى الآن مسارا عفيا، وبات متهما بأنه لا يعدو كونه نوعا من الإزاحة التي يقوم بها أدباء أحيانا، ربما دون قصد، حين يكتبون نصا، لا هو بالرواية ولا بالقصص، فيذهبون إلى “تصنيف اضطراري” يسمى “المتتالية”، وكأنها رواية مبتسرة أو قصة متورمة بزوائد متناثرة في جسدها كله.

ولم يؤد هذا التوجه إلى تراجع وجود فن القصة القصيرة، وإن كانت سوق القراءة هي التي خلقت هذا التراجع، فعلى مدار عقدين أو أكثر زاد الإقبال على الرواية بينما ضعف على القصة والشعر، فطالهما أذى كبير، وإن كان النشر في الدوريات وصفحات الأدب بالصحف وحيزه في المواقع الإلكتروني ظل مفتوحا على مصراعيه أمام القصص التي تنهمر من هنا وهناك، لكن نشرها في مجموعة يوجب التوجه بها إلى دار نشر، وهنا تبدأ المشكلة أمام أغلبية الأدباء، حيث تفضل دور النشر الروايات، ومثلها أصحاب واجهات وفرشات ومكتبات العرض والبيع، لأن الطلب عليها أكبر.

إن فن القصة القصيرة لا يُنتج في فراغ، وارتباطه بالسياق الاجتماعي الاقتصادي مسألة جلية، ليس من زاوية التقاطه لأفكار وموضوعات ومضامين فقط، بل أيضا ما يتعلق بإبداعه أصلا، حيث يتحدد مدى أو مستوى الإقدام عليه، والإحجام عنه. فالثابت مثلا أن هذا الفن قد انتعش في أوروبا حين راجت الدوريات الثقافية، وكانت سخية في منح مكافآت للكتاب عن قصصهم، فأقبلوا هم على كتابتها إقبالا شديدا، لسد احتياجهم إلى بعض المال، وحين تساقطت هذه الدوريات تباعا تراجع حجم إنتاج هذا اللون الأدبي البديع، لكنه لم يصل أبدا إلى نقطة الصفر.

فالأدباء الكبار الذين تتابع إنتاجهم الروائي، لا تزال القصة القصيرة تمثل لديهم فنًا بديعًا لا يمكن هجرانه، والأدباء الصغار يعتبره بعضهم مسار تدريب على كتابة سردية يمكن أن تطول وتتعقد مستقبلا لتكون رواية، وبين الاثنين هناك من يقصر إبداعه عليها، دون أن يشعر بنقص، بل إن بعض هؤلاء يعتبرونها الفن السردي الأصعب، لما تنطوي عليه من تكثيف للأحداث، وبديهة حاضرة لالتقاط ما يصلح للكتابة من مجريات الحياة، أو ما يهيم به الخيال، أو من مزجهما.

وبعيدًا عن موقف الأدباء ومنفعتهم، وحسابات دور النشر ومصالحها، فإن تسارع وتيرة الحياة مع تقدم التصنيع، وتعزز قدرة مواقع التواصل الاجتماعي على جذب الجيل الجديد بقوة نافذة، لا فكاك منها، سيجعل القصة القصيرة، والقصيرة جدًا، مطلوبة بإفراط، ولديها مُكنة أكبر على التفاعل والدوران مع “التفكير الشبكي” الذي صنعه الإنترنت، ويزداد تأثيره مع مطلع شمس كل يوم جديد.

فنحن نطالع كثيرًا حكايات مكتوبة على “فيسبوك” هي بنت واقع من نقروا على لوحة الحروف كي تظهر لنا على هذا النحو، بغض النظر عن مستوى إتقانها اللغوي، أو اتساقها مع التصور العام لفن القصة، فأصحابها لم يزعموا أنهم يكتبون هذا النوع الأدبي، ولا يشغلهم كيف نرى ما كتبوا، بقدر انشغالهم بالتعبير عن مواقف مروا بها، وأحوال نفسية عاشوها، ومكنون من تصورات وتأملات اشتعل في أنفسهم واختمر فوجدوا في البوح به سبيلا للراحة، وجلسوا ينتظرون كيف سيتفاعل أصدقاؤهم ومتابعوهم مع ما كتبوه.

أما على “تويتر” فيجب على من يبوح أو يحكي أن يتمتع بقدرة هائلة على الاختزال والإزاحة ثم التكثيف والتثبيت والتثبت، فيقص كل شيء في سطور لا يزيد مجموع حروفها ـ حتى الآن ـ عن مائتين وثمانية وثمانين حرفا، أو يكون مضطرًا إلى أن يقسم حكاياته إلى تغريدات متتابعة، هي أشبه بدفقات كان بعض كتاب القصة يدفعونها، ويرتبونها رقميًا بين البداية والنهاية.

ويمكن للحكاية أن ترد على لسان راو يسجلها بالصوت والصورة على موقع “يوتيوب”، ولا يزيد الأمر في كافة مواقع التواصل الاجتماعي عن هذه الطريقة القديمة في الحكي التي كان يلجأ إليها الناس للبوح والتبيين والتسرية والتسلية في سالف الأيام. فمثلًا كان الفرد يعود في نهاية اليوم من السوق أو المحكمة أو المكتب الحكومي أو ملعب الكرة ليقص على أهله وأصحابه ما جرى له، وكان هؤلاء يتحلقون حوله مشنفين آذانهم، لينصتوا إلى حكايته القصيرة، كي يشاركوه همومه، أو يستمتعوا بها، أو يسدوا له النصيحة.

إن الحكايات الشفاهية التي لم تتوقف، والتي أجبرت وسائط التواصل الاجتماعي على الإنترنت على اختزالها، تؤكد، دون مواربة، أن الحاجة إلى الحكاية/ القصة مستمرة، لأنها تلبي نداء إنسانيا واجتماعيا يتجدد في الأزمنة والأمكنة، حيث لا يوجد شعب بلا قصص، كما يقول رولان بارت.

لا يعني هذا أن المجتمعات طوال تاريخها لم تعرف القصص غير القصيرة التي ترد على الألسنة، إذ إن الروايات الطويلة والملاحم النثرية والشعرية الشفهية تكاد تكون قاسما مشتركا بين الأمم على مدار التاريخ، وبعضها تتقارب موضوعاته، وإن توحدت أو تشابهت خصائصه وطرق التعبير عنه، لكن البشر يميلون بطبعهم إلى القصة التي تكتمل في جلسة واحدة، بل إن هذه تطاردهم في حياتهم اليومية، وتأتي إليهم في مكانهم، بينما يكونون هم في حاجة إلى الذهاب إلى المكان الذي تروى فيه الملاحم على ألسنة شعراء شعبيين أو حكاءين.

لهذا ظلت القصة القصيرة استجابة لطلب لا ينقطع، وهذه الوظيفة لا أظن أنها ستنقضي أبدًا، ومن ثم يصبح من العبث أن تتحدث النخبة المثقفة عن تراجع فن أدبي يقبل عليه الناس ويصنعونه ويبدعونه ويتداولونه بالطرق التقليدية، وعلاقة الوجه للوجه، أو عبر المسارات الإلكترونية الجبارة التي وسعت المشاركة وأعطتها سرعة فائقة، بشكل لم يسبق له مثيل.

وقد جاءت الأحداث السياسية الفارقة بوصفها “سرديات كبرى” لتجدد نشاط الحكاية أو القصة المحكية, فالثورات والانتفاضات والحروب الأهلية والاضطرابات السياسية الواسعة والفوضى هي أشبه بسرديات كبرى تحوي في باطنها نثارا من حكايات تفصيلية تخص كل من شارك فيها أو شهد عليها أو سمع عنها. وفي السنوات العشر الأخيرة، ومنذ اندلاع انتفاضة تونس وحتى نهاية العقد الثاني من الألفية الثالثة، صارت لكل مواطن عربي، ينتمي إلى البلدان التي وقعت فيها هذه الأحداث المغايرة، حكاية أو أكثر يرويها مع أهله وأصدقائه الذين تربطه بهم علاقة وجه لوجه، أو أولئك الذين يتواصل معهم في ساحة العالم الافتراضي الرحيبة.

وهذه القصص، التي تمثل تجارب شخصية أو شهادات فردية وذاتية، إن جمعناها من أفواه الناس وما كتبه كل منهم على صفحته بأي من مواقع التواصل الاجتماعي على شبكة الإنترنت، يمكنها أن تشكل جانبا مهما في فهم وتحليل ما جرى على مدار عشر سنوات،  لاسيما أنها محملة بأشواق هؤلاء وتطلعاتهم وآمالهم ومواقفهم وتوجهاتهم، ولذا يظل هذا أشبه بتاريخ حي، ينبض ولا يموت على صفحات الورق مثل ما هو موجود في الوثائق وقصاصات الصحف أو ما يموت فور ولادته مثل أغلب برامج التلفزيون.

لا يعني هذا أن من حكوا أو كتبوا تجاربهم في اختزال وتكثيف يلائم ما تتيحه مواقع التواصل الاجتماعي أو ما يناسب وقتا ضيقا لدى الجميع في واقعهم الحياتي، كانوا يقصدون كتابة قصص قصيرة بالمعنى الفني المتعارف عليه، إنما كانوا ينطقون أو يكتبون تحت لافتة الفعل “حكى” والاسم “حكاية”، إلا أنهم في حكيهم هذا رفدوا المجال العام بما عزز وظيفة القصة في تسجيل التجارب الذاتية التي يشكل كل منها نقطة في دائرة واسعة، بينما تمثل كل مجموعة زاوية من الزوايا، وبهذه وتلك يمكن أن تكتمل السردية إلى حد كبير.

في العهود السياسية السابقة على الانتفاضات والثورات لم تكن الحكايات ميتة بالطبع، لكنها لم تنهمر بهذه الغزارة، ولم تتسم بهذه الحرارة، التي قد تعني الحماس أو الحميمية أو التعاطف مع الآخرين، وقد تعني الانزلاق إلى صراع محتدم على المكانة والمنفعة. وقبل ظهور ثورة الاتصالات لم تكن للحكايات فرصة للذيوع الذي اكتسبته الآن، وستعزز في المستقبل.

 في سنوات ما قبل “الاضطراب” أو “الزعزعة” التي تواكب الفعل الثوري دوما في سبيل إعادة توزيع وترتيب أوزان القوة داخل المجتمعات على أسس جديدة، كانت الحكايات تأتي رتيبة مكرورة .

تتلاقى في بطء كي تشكل اللوحة الاجتماعية الكبرى، وبعضها لا يعدو أن يكون تأكيدا لما هو موجود، أو تجويدا له، وهي برمتها تعكس مواقف الناس مما يجري لهم وبهم ومعهم وفيهم.

وحتى أيام الحوليات التاريخية كانت حكايات المؤرخين تقتصر على يوميات الحكام والأمراء وقادة الجند وكبار التجار والوجهاء، وتكون رتيبة بطيئة، تتعلق بموت أبطال التاريخ هؤلاء أو قيامهم بفعل لافت. لكن هذه اليوميات كانت تلتهب بحكايات مختلفة في أيام الحروب والهبات والكوارث الطبيعية والفتن فتتدفق سخية على الورق، وفي الوقت نفسه تنبض بحياة حقيقية، وتفارق الطابع التسجيلي الباهت والمحايد والبارد أحيانا الذي تأخذ في الأوقات العادية، حتى أنها تبدو لوحات ثابتة معلقة على جدران كالحة.

وزمن ثوراتنا نحن ليس استثناء من هذا، فالحكايات الرتيبة والتقليدية سرعان ما تختفي، أو تتوارى في زاوية بعيدة مقصية، وربما منسية أحيانا، مفسحة الطريق لقصص أخرى ذات إيقاع سريع حتى يكون بمكنتها مواكبة الأحداث المتدفقة، التي تنطوي على صور وكلمات وإشارات وإيماءات، ما إن تلوح حتى تختفي ويأتي غيرها. ونظرا لهذا تكون الحكاية عند صاحبها ذات قيمة كبرى، إن كان وحده بطلها أو الشاهد عليها, لاسيما إن تعلقت بحدث مهم، يشغل الذي يؤرخون ليوميات الثورة، أو حين يتم استدعاؤه كشهادة في ساحة القضاء إن كان الحدث يتلاقى فيه قاتل ومقتول، أو معتدٍ ومصابون، أو مخرب وحطام.

لم يكن الأمر يستدعي بالطبع انتظار الاستدعاء إلى محاكم، فهذا إن حدث يكون للقلة القليلة، إنما تنهمر الشهادات يثرثر بها المحتشدون في الميادين، حين تكل الحناجر من فرط الهتاف، فكل يحكي ما جرى له يوم الزحف الأكبر في الشوارع، والبعض يرددون شائعات أو أخبار خاصة وصلتهم، أو ما رأوه وسمعوه في مناطق معزولة، أو حتى يسردون آراء الأصحاب والأقارب فيما يجري. يخرج كل هذا من الأفواه على هيئة حكايات قصيرة تصور ملمحا أو مشهدا أو زاوية، وتعبر عن حال أو موقف أو مسار واختيار.

هذا الخروج لا يكون بالضرورة منضبطا، يبدأ من نقطة ويصعد إلى الذروة، فمن يحكون وقتها يشغلهم الإخبار والبوح والتعبير عن الفن، وقد لا يدري أغلبهم أنه يصنع فنا شفهيا لا غنى عنه لتأدية وظائف معنية مثل التحفيز والتصبير والتسرية والتقضية للوقت في الاعتصامات والمرابطة.

 وإن أردنا أن ندرك مدى أهمية هذه الوظائف التي تؤديها الحكايات فلنتخيل أن الجموع الغفيرة المحتشدة في ميدان ما، واهبين وجودهم لعمل ثوري أو احتجاجي، قد جلسوا صامتين طوال الوقت، ينظر كل منهم في عيون من حوله، دون أن ينطق ولو بكلمة واحدة، فهل بوسع هؤلاء أن يصنعوا فعلا مقاوما مستمرا؟

إن الحكايات الصغيرة أيام الثورات تؤدي دورا في المقاومة المدنية السلمية، وكذلك المقاومة بالحيلة، ولهذا يمكن أن يُحكى بعضها مختصرا وفي صوت زاعق أحيانا من فوق المنصات المنصوبة في الميادين، أو أمام كاميرات الفضائيات التي تدخل بيوت الناس بالصوت والصورة، أو على مواقع التواصل الاجتماعي لاسيما وسط “المجموعات” التي تشكل روافع للعمل الثوري أو تنطق باسمه أو تنتمي إليه.

هنا تتاح الفرصة لكل شخص شارك في العمل الثوري أن يكتب ما شاء على صفحته أو حسابه في أي من مواقع التواصل الاجتماعي، فإن كان كاتبا محترفا فبوسعه أن يسجل حكاياته في يوميات مثلما رأينا في كتب “مائة خطوة من الثورة: يوميات ميدان التحرير” لأحمد زغلول الشيطي، و”كراسة التحرير” لمكاوي سعيد، و”أيام التحرير” لإبراهيم عبد المجيد، و”الثورة الآن” لسعد القرش. وكانت هذه اللحظة التاريخية ملهمة لكثيرين من غير الكتاب المحترفين فولدت كتب كثيرة سجلت تجربة كل كاتب مع الحدث الكبير. وعلى التوازي تتابعت على صفحات الجرائد كثير من الحكايات، وكذلك في البرامج المتلفزة والإذاعية.

ولأن كتابة رواية أو شهادة واسعة عميقة متكاملة عن الحدث في جريانه هي مسألة صعبة، اللهم إلا إذا قسمناها إلى مشاهد مثلما فعل كاتب هذه السطور في روايته “سقوط الصمت” وشهادته “عشت ما جرى”، فإن الحكاية/ القصة كانت طيعة وجاهزة لتلبية نداء أصحاب القلم حين تنادوا ليكتبوا عن الثورة، التي هي في خاتمة المطاف من زاوية المعنى والبلاغة والبنية والمجرى والمسار بمنزلة سردية كبرى تطوي في بطنها الآلاف من السرديات الصغيرة، إنها في النهاية مجموع حكاياتنا القصيرة.

اظهر المزيد

د. عمار على حسن

روائي وباحث في علم الاجتماع السياسي - القاهرة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى