2020العدد 184ملف عربي

التطورات التفاعلية في المنطقة وانتقال التأثير من الهامش إلى القلب

تتصّدر منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط واجّهة المشهد الإقليمي الخلافيّ الراهنّ، بعدما باتت موطئًا غير مسبوق؛ لحشود عسكرية بحرية تركية ويونانية تحت طائلة ملفات بينيّة شائكة ما زالت عالقة ــ دونما حسم إلى جانب حشود دولية مماثلة، مما أشاع أجواء التوتر والإضطراب المرشحة للتفاقم عند استلال ناصية التصعيد حدّ التلويح بالخيار العسكري، ونبذ جهود التسوية للأزمة الثنائية التاريخية، باعتبارها وصفة جاهزة للسّير بالمنطقة نحو المزيد من عدم الاستقرار.

وإذا كان مسار العلاقات التركية اليونانية الهشّ قابل لاحتمالات مفتوحة أمام النزاع على الموارد وتداخل أطراف إقليمية ودولية متعدّدة ضمن أبعاده، فإنَّ الأزمة قد تعمقّت أكثر عند قيام “أنقرّة” بزجّ الساحة الليبية المأزومة في نزاع شرق المتوسط؛ تأصيلًا لأهداف اقتصادية وسياسية لم تنفصم عن المشروع التركي التوسعيّ في المنطقة، فيما أدى إلى تحرك “أثينا”؛ لتوسيع نطاق تحالفاتها المضادة لـ”أنقرة” مقابل توظيف الأخيرة لأوراق قوة بيدّها قد تحقق انتصارًا، ولو جزئيًا يساعد الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” في تحسين موقفه لحين إجراء الإنتخابات الرئاسية والبرلمانية القادمة إلى الصّدام الثنائي القابل للمواجهة العسكرية التي لا يريدها أحدْ في ظل جهود دولية؛ لإحتواء الموقف والدعوة للتفاوض، وتسوية شاملة مستبعدة على المدى القريب.

بيد أنَّ التطورات التفاعلية الجارية في شرق المتوسط، أدّت إلى انتقال بؤر التأثير من الهامش إلى القلب، عند إضافة تحديات وازنة إلى متراكمة الأزمات الخانقة في المنطقة، في ظل غياب الحل السياسي القريب عن الأزمة السورية، وتفاقم الوضع في لبنان والعراق وأفعانستان، تزامنًا مع استمرار التوتر في ليبيا واليمن.

أزمة شرق المتوسط إلى الواجهة مجددًا:

يُسيطر الخلاف بين تركيا واليونان حول مجالات المياه الإقليمية والحدود البحرية الإقتصادية في البحر المتوسط، والذي بلغ ذروته في أغسطس 2020 م، على تحركاتهما التصعيدية الآنيّة؛ بوصفه الملف الأكثر تعقيدًا ضمن رزمة الملفات الثنائية الشائكة التي ما زالت عالقة دونما حسم ـــ بشأن جزيرة قبرص ـــ وتخطيط الحدود البحرية في بحر “إيجه”، وتسليح جزره الشرقية، وتداخل المجال الجويّ وحقوق الأقليات، ورفض اليونان التحاق تركيا بالإتحاد الأوروبي، والتي دفعت بالدولتين الجارتين إلى شفير الإشتباك المسلح في أكثر من مناسبة، بعدما شرعتا تلوحان بإستعمال القوة للبّت فيها.

وبالرغم من أنَّ علاقات “أنقرة” و”أثينا” العضوتين في حلف شمال الأطلسيّ “الناتو”، لم تعرف بعضًا من التهدئة إلاَّ لعقود قليلة، فإنَّ الإكتشافات المتوالية للمخزون الهائل من الموارد الطبيعية شرق المتوسط، قد أوقدت نزاعات بحرية خامدة بينهما حول ثرواته، والتي قدّرتها هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية عام 2010 م، بنحو(3455) مليار متر مكعب من الغاز و(1.7) مليار برميل من النفط بقيمة تتراوح ما بين (700) مليار دولار (3) تريليونات دولار، مع وجود مناطق أخرى واعدة أمام سواحل سوريا ولبنان وغزة ما زالت خارج نطاق الإنتاج الفعلي لأسباب سياسية تتعلق بالأزمة السورية والصراع العربي ــ الإسرائيلي وعدم توصل لبنان إلى اتفاق نهائي مع الجانب الإسرائيلي في جولات المفاوضات غير المباشرة التي انطلقت في أكتوبر 2020 م، بشأن ترسيم الحدود البحرية بينهما، بينما تولية شركات إيطالية وفرنسية وأمريكية وروسية مهام إدارة أنشطة التنقيب فيه؛ يضع دولها داخل دائرة التنافس الإقتصادي على الآبار المكتشفة والثروات الطبيعية في شرق المتوسط.

وقد كانت حكومة “نيقوسيا” القبرصية اليونانية أول من سارع إلى عقد اتفاقيات مع جوارها المتوسطي؛ لترسيم حدود منطقتها الإقتصادية في البحر، كما أبرمت الصفقات مع شركات الطاقة العملاقة؛ لإجراء عمليات الحفر مفترضة أنَّها تمثل الجزيرة برمتها ومتجاهلة حقوق “قبرص” التركية فيما رفضت تركيا ادّعاء “نيقوسيا” بتمثيل الجزيرة، وأكدت عزمها حماية حقوق شمال قبرص التركية التي وقَّعت معها اتفاقًا عام 2011 م، يسمح لـ”أنقرة” بترسيم جرفها القاريّ وإجراء عمليات التنقيب في المنطقة المحيطة بقبرص والقريبة من اليونان، وفي إبريل 2012 م، منحت “أنقرة” شركة النفط التركية امتياز التنقيب عن مصادر الطاقة في شرق المتوسط، وأضافت في عام 2015 م ثلاث سفن تنقيب أخرى لسفينتيّ التنقيب العاملتين لديها، مسيّرة سفنها الحربية المرافقة لأعمالها في العام 2018 م، كما اعترضت سفينة تابعة لشركة نفطية إيطالية كانت تقوم بالتنقيب عن مصادر الطاقة لصالح قبرص اليونانية، ونفذَّت أكبر مناورات بحرية في العام 2019 م، تزامنًا مع توسيع نطاق احتجاجها صوب حدود المنطقة الاقتصادية المصرية المطلة على المياه القبرصية، وهو ما رفضته القاهرة بوصفه “تدخلًا في شؤونها السيادية”.

وقد زاد من عمق الأزمة حينما زجّت تركيا بالساحة الليبية ضمن دائرة النزاع في شرق المتوسط، عند توقيعها اتفاقية؛ لترسيم الحدود البحرية مع حكومة الوفاق الوطني برئاسة “فايز السّراج”، في نوفمبر عام 2019 م، والتي رفضها البرلمان الليبي المُنتخب، واعترضت عليها مصر وقبرص وفرنسا واليونان باعتبارها غير قانونية، وقد جاءت خطوة تركيا ردًا عاجلًا على استثنائها من منتدى “غاز شرق المتوسط”، الذي تشكل في يناير 2019 م ومقره القاهرة ويضم الأطراف المصرية والأردنية والفلسطينية والقبرصيّة واليونانية والإيطالية والإسرائيلية؛ لإنشاء سوق غاز إقليمي، ولكنَّها استهدفت أيضًا، إنشاء منطقة بحرية اقتصادية خالصة تمتدّ من الساحل الجنوبي لتركيا على المتوسط حتى الساحل الشمالي الشرقي الليبي بما يؤسس لحدود بحرية اقتصادية منفصلة لقبرص التركية، ويضع قطاعًا ملموسًا من المنطقة الفاصلة بين جزيرتي (كريت وقبرص) ضمن منطقة تركيا الاقتصادية البحرية، ويفتح المجال أمام توسيع مساحة مياهها الإقليمية، وتهديد القدرة المصرية والإسرائيلية على تصدير الغاز لأوروبا وعرقلة جهودهما مع قبرص واليونان في عمليات التنقيب عن الغاز في المتوسط، مثلما قد يكسر خطط مد أنابيب الطاقة من شرق المتوسط إلى غربه وصولًا لأوروبا؛ أُسوةً بخط أنابيب الغاز المعروف باسم “إيست ميد”، والمزمع مدّه رغم تكلُفته الباهظة وفق الاتفاق اليوناني القبرصي الإسرائيلي، وذلك عندما يتقاطع خط مساره المقترح مع المنطقة الإقتصادية التركية ـــ الليبية.

ويبدو أن “أنقرة” تريد توظيف اتفاقها مع حكومة الوفاق الوطني في تكثيف أنشطتها التنقيبية عن مصادر الطاقة قبالة السواحل القبرصيّة، وتنمية نفوذها في شرق المتوسط؛ استنادًا إلى شقه الآخر الخاص بالتعاون الأمني العسكري الثنائي الذي عزَّز وجودها ضمن الساحة الليبية بهدف قلب المعادلة الداخلية الصعبة لصالح “السّراج” في معركته الضارية مع قوات الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير “خليفة حفتر”، حيث ترنو تركيا لأن يوفر لها الحضور القوي في أيّ حل سياسي تتوصل إليه الأطراف الليبية المتنازعة، بالرغم من التحديات الثقيلة التي تَعتري بلوغه، أُسوةً بملتقى الحوار السياسي الليبي، الذي انطلق يوم ( 9 نوفمبر 2020 م) في تونس تحت رعاية الأمم المتحدة، وانتهى في الـ (16) منه بدون الاتفاق حول تسمية الحكومة الانتقالية المعنية بالإشراف على إجراء الانتخابات الوطنية يوم (24 ديسمبر عام 2021 م)، بما يجعل الخلافات العميقة بين الأطراف الليبية حول المناصب قد تهدد بنسف الجهود الأممية للحل السياسي ما لم تشكل الضغوط الثقيلة التي تَرزح تحت وطأتها ميدانيًا عاملًا دافعًا نحو التسوية، مثلما تُعَدّ التدخلات الوازنة بين المصالح المتضادة للأطراف الخارجية في الساحة الليبية تحديًا قد يقف عقبة أمام استتباب الوضع وضمان استمرارية التهدئة، فيما تطل تركيا بأهدافها المتشعبة في ليبيا كحجر ــ عثرة ــ في طريق مغادرة قواتها بسهولة من الساحة الليبية قبل جني ثمار دعمها لحكومة الوفاق(عسكريًا وماليًا) وحصد المكاسب الإقتصادية والسياسية المرجوة، من أجل إعطاء مخرجات الحوار الليبي فرصتها القوية للتنفيذ الفعلي.

بيد أنَّ الضربة القاسمة التي تلقتها تركيا من مصر على خُطى ليبيا ونزاع المتوسط دفعتها لتوتير الأجواء حدّ الصدام في البحر؛ وذلك إزاء مبادرة الرئيس المصري” عبد الفتاح السيسي ” في (6 يونيو 2020 م)؛ لوقف إطلاق النار وبدء الحوار بين الأطراف الليبية المتنازعة وسحب كل القوات الأجنبية من ليبيا( التركية وغيرها)، والتي أَعقبها تحذيرًا مصريًا غير مسبوق، في (20) منه، من تنفيذ “أنقرة” لتهديدها بدعم حكومة الوفاق للسيطرة على مدينتي “سرت والجفرة” صاحبتا الموقع الإستراتيجي الوازن بوصفهما (خطًا أحمر) تحت طائلة التدخل العسكري المصري، مما سحب البساط من تحت أقدام تركيا وصد تطلعها للتقدم نحو الهلال النفطي وربما “بنغازي” وواجه طموحاتها في الساحة الليبية مشكلًا انعطافه في مجريات الأحداث لدرء المزيد من تفاقم الأزمة الليبية، حتى الآن، وقد تزامن ذلك مع توقيع مصر واليونان اتفاقية؛ لترسيم الحدود البحرية بينهما في ( 6 أغسطس 2020 م)، وتم إيداعها كاتفاقية دولية في الأمم المتحدة بما يقطع الطريق على الآمال التركية العريضة في غاز المتوسط ونفطه ويَحُدُّ من المشروع التركي في المنطقة.

وقد اعترضت تركيا على الإتفاقية واعتبرتها انتهاكًا لجرفها القاريّ؛ بسبب تقاطع المنطقة الإقتصادية الحصرية المتضمنة فيها والممتدة من سواحل مصر حتى منتصف البحر المتوسط مع نظيرتها المنصوص عليها في الإتفاقية التركيةــ الليبية، فنشطت سفن التنقيب التركية ــ المرافقة لقطع مسلحة من القوات البحرية؛ للبحث عن مكامن الطاقة في المنطقة التي تعتبرها تركيا جزءًا من منطقتها الإقتصادية البحرية، بغض النظر عن الموقف اليوناني. فيما وصل التدافع التركي ــ اليوناني ذروته غير المسبوقة بصِدام محدود بين سفنهما، وبتنفيذ المناورات العسكرية الكثيفة مما استدعى تدخلًا خارجيًا داعيًا للتفاوض وتسوية الخلافات الثنائية؛ وسبيلًا لإبعاد شبح الحرب التي لا يريدها أحد، حيث ما زالت الجهود مستمرة لإحتواء الموقف القابل للتصعيد.

شرق المتوسط والتمدّد التركي الزائد:

في خضم التوترات الحاصلة في شرق المتوسط، أعلن الرئيس “أردوغان” عن اكتشاف حقل ضخم للغاز في البحر الأسود، يعد الأكبر من نوعه في تاريخ البلاد يضم (320) مليار متر مكعب من الغاز، وقد كان حريًّا لهذا الكشف، في حال افتراض صحته ــ لاسيما وأنَّه تم من قبل شركة نفط وطنية تركيةــ أن يُغيّر بشكلٍ طفيف من قواعد المعادلة في شرق المتوسط، بعد اطمئنان “أنقرة” أنَّ لديها موارد طبيعية بعيدة عنه بما يسهم في تلبية الطلب المحلي ومنح دفعة للّيرة التركية التي كانت تنهار مؤخرًا، غير أنَّ “أردوغان” واصل عملياته العدائية وفق مراقبين في شرق المتوسط، من أجل جنيّ المكاسب الاقتصادية والسياسية( كزعيم للسنة في المنطقة) وفق تصوره، وتنفيذًا لخطة “الوطن الأزرق” التركية، التي وضعها الأدميرال التركي “جيم غوردنيز” عام 2006 م؛ لتوسيع نطاق نفوذ تركيا في (البحر المتوسط وبحر إيجة والبحر الأسود)، عبر ذراعيّ الدبلوماسية والوسائل العسكرية القويّة، وتمكين وصولها إلى مصادر الطاقة والموارد الإقتصادية الغنيّة، والتي تبنّاها الرئيس التركي عام 2015 م، في سياق محاولته المستمرة لترسيخ النفوذ التركي في المنطقة.

ومن ذلك، يشكل النزاع على موارد شرق المتوسط بالنسبة لتركيا حلقة وسيطة في دائرة مشروعها بالمنطقة، والذي برز مع التدخل المباشر في الأزمة السورية وعبر ساحة المغرب العربي؛ قياسًا بالإتفاق مع ليبيا ومسعى التقارب مع الجزائر وتونس؛ لتشكيل جبهة ضغط على مصر، مردفًا بتعزيز العلاقة مع إثيوبيا واللعب على ورقة سدّ النهضة ؛ لتعميق الخلاف حوله بوصفها أبرز المستثمرين فيه، ومن ثم التزاحم مع دول متوسطية حول الغاز والنفط، ومنافسة المشروع الإيراني التوسعيّ في المنطقة؛ لإستحواذ مكانة المركز الإقليمي، فضلًا عن السعي من خلال حزب (الإصلاح اليمني)، المقرب من جماعة الإخوان المسلمين لتأسيس موطئ قدم في الأراضِ اليمنية، وذلك بهدف إحياء (العثمانية الجديدة) تحت مظلة الشعار الديني الذي رفعه “أردوغان”؛ لاستمالة التيارات الإسلاميةــ لاسيما جماعة الإخوان ــ والذي تنبّهت إليه المؤسسة العربية وقصمت مصر ظهيره الإستراتيجي وأفشلته في المنطقة، عام 2013 م.

ويسعى “أردوغان” لمعالجة آثار فشل مشروعه الأول عبر قدر من التعاون مع القوى الإقليمية والدولية، في إطار المصلحة التركية العليا ببعدها البراغماتي، بالرغم من التحديات التي تواجهه نظير علاقات تركيا المتوترة مع كثير من الدول العربية، والمزاحمة الروسية لمخططها في شمال سورية، واستعادة النظام السوري السيطرة على المساحة الأكبر من الأراضي السورية، صاحبة أطول حدود معها، ومماطلة الاتحاد الأوروبي في حسم أمر عضويتها والمنافسة الإيرانية القوية ، وبالتالي فإذا كان التمدد التركي في المنطقة وعبر مستويات التفاعل الدولي المختلفة يدل على طموح إستراتيجي تركي، لكن القدرة على تحقيقه بتوظيف المركزية الإقليمية والإرتباط مع القوى الغربية في بعض الجوانب والتشبث بالعلاقة مع الأطراف المناوئة في المنطقة كما مع الإخوان وإيران ضدّ الأكراد وضدّها في سورية لا يتوازى مع مساحة ذلك الطموح، مما يدفعها إما للمضي فيه بطرق أكثر عدائية، لاسيما عند إبقاء العلاقة مع الإسلام السياسي بنسخته الإخوانية بوصفها رهان “أردوعان” للتمدُّد الإقليمي والإستراتيجي التركي بالمنطقة؛ أو لإعادة النظر في حدوده بإتجاه تقليصه إزاء احتمال حدوث تحولات تركية داخلية مرافقة قد تدفع نحو تحجيمه.

التحالفات المتضادة:

رسم نزاع شرق المتوسط خارطة تحالفات متضادة في المنطقة؛ إذ شكل التحالف السياسي “الخماسيّ”، في ( 11 مايو 2020 م) ويضم كلًا من مصر والإمارات وفرنسا وقبرص واليونان أبرز التحركات المضادّة؛ لتحجيم تحركات تركيا في المنطقة، وإجراء المناورات البحرية المشتركة، في ظل قلق مصر والإمارات من المشروع التركي وارتباطه الوثيق بجماعة الإخوان المسلمين، بينما يحتكم تكتل منتدى شرق المتوسط إلى اتفاقية الأمم المتحدة لقانون (البحار) لعام 1982 م، في دعم وحماية مصالح أعضائه الحقوقيّة، بينما تركياــ غير الموقعة على الإتفاقية الأمميّة والمدعومة من قطرــ تطالب بإجراء التعديلات على اتفاقيات دولية سابقة، وتتخذ من اتفاقها مع حكومة الوفاق الوطني صكًّا لمشروعيّة تحركاتها في البحر المتوسط.

وبينما تسعى إدارة الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته “دونالد ترامب”؛ لإتخاذ موقف أقرب إلى الحياد والدعوة للتفاوض مرسلة سفنًا حربية في إطار مهام حلف “الناتو” أجرت تدريبات عسكرية مع البحريتين(اليونانية والتركية)، في آب 2020 م، ولكنه قد لا يطول كثيرًا مع تفاعل الأحداث؛ حيث رفعت حظر تصدير الأسلحة إلى قبرص بعد (33) عامًا من الإحجام عنه، وقامت بنقل سفينة حربية أمريكية إلى جزيرة “تكريت” كرد على أعمال تركيا في شرق المتوسط.

وإذا كان الإتحاد الأوروبي قد جدد دعمه مؤخرًا لليونان وقبرص، فإنَّ ألمانيا صاحبة الثقل الرئيسي فيه، صبَّت جهدها في مسعى الوساطة والعمل على بدء مفاوضات مباشرة بين (أنقرة وأثينا)، بينما تُعَدُّ فرنسا المعضلة التي قد يصعب على الأتراك حلها، نظير العلاقات المتوترة بينهما في سورية وليبيا وشرق المتوسط، حيث تسعى فرنسا لتوكيد دورها باعتبارها القوة الأوروبية الرئيسية في حوض المتوسط، مثلما تنظر بقلق إلى اتساع تحرك تركيا الإقليمي، فدعمت الموقف اليوناني، وسيّرت مع إيطاليا الحشود العسكرية البحرية المضادة لتركيا، وقامت بتفعيل اتفاقية (الدفاع المشترك) مع قبرص وإرسال مقاتلتين إليها ونقل قطع عسكرية إلى اليونان.

وفي حين التزمت بريطانيا، التي تَرى في تركيا شريكًا اقتصاديًّا رئيسيًّا بعد الخروج من الإتحاد الأوروبي ـــ موقفًا حياديًّا من الأزمةـــ فإنَّ روسيا، التي تنظر بقلقٍ إلى تصاعد الدور التركي في شرق المتوسط، اتخذت موقفًا غير منحازٍ لأيّ من الجانبين، حتى الآن.

وفي المحصلة: فبالرغم من كثافة المشهد العسكري متعدّد الأطراف الإقليمية والدولية في البحر المتوسط، غير أنَّ المواجهة العسكرية المباشرة لا تصب في مصلحة أحد؛ نظرًا لتكلفتها الباهظة والتبعات الفادحة التي قد تنجم عنها في شرق المتوسط والمنطقة برمتها.

وإذا كان تداخل المصالح المتمايزة للأطراف الخارجية قد يضيف تحديًا ثقيلًا أمام نجاح جهود الوساطة لحل الأزمة التركية اليونانية، بينما قد لا تساهم اعتبارات ميزان القوى كثيرًا بين دولتين عضويتين في “الناتو”، فإنَّ التفاوض أو التحكيم الدولي، يُعَدُّ المخرج الأمثل والأسلم للطرفين، فيما قد تكون التسوية الشاملة مستبعدة على المدى القريب نتيجة تعقد الملفات وتشابكها، وجرّاء الموروث التاريخي البينيّ الذي لا يساعد كثيرًا في إشاعة مناخ من التعاون، حيث لعبت المخاوف المتبادلة على مدار السنين المتوالية دورًا كبيرًا في تأسيس إستراتيجية الدفاع للدولتين.

وقد تلجأ اليونان إلى نسج تحالفات أوسع لمواجهة تركيا، بينما قد توظف الأخيرة أوراق قوة بيدها كنوع من الالتفاف حول الواقع الراهن؛ ولتحقيق انتصار حتى لو كان محدودًا قد يساعد الرئيس “أردوغان” في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية القادمة؛ ولتعظيم المكاسب التي قد تتحقق عند الجلوس إلى طاولة المفاوضات، ولكن ثمة خشية من خروج تطورات الأزمة عن السيطرة في ظل مستوى الصّدام بينهما الذي وصل حدًا غير مسبوق، باتجاه المواجهة المسلحة التي قد تصبح باهظة التكاليف للدولتين ولأمن المتوسط، وقد ينجم عنها خارطة قوة جديدة في شرق المتوسط.

اظهر المزيد

نادية سعد الدين

كاتبة وباحثة في العلوم السياسية -الاردن

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى