2025العدد 201ملف عربي

التطورات المتسارعة في لبنان ودلالاتها الشعبية في اختيار الرؤساء وسيادة الدولة ومواجهة الانقسام

المقدمة

استدعت متغيراتٌ (داخلية، إقليمية ودولية وازنة) توافقَ القوى السياسية اللبنانية على اتخاذ خطوات متسارعة لضبط المشهد السياسي اللبناني، بانتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة “تكنوقراط” جديدة، في مؤشر مهم لتغير الأداء السياسي وتجاوز الانقسامات السياسية والخلافات الداخلية وتأكيد سيادة الدولة ومسعى تعزيز دورها وبسط سيطرتها على كامل الأراضي اللبنانية.

 إلا أن العهد الرئاسي الجديد يُواجه، مع حكومته المتشكَّلة حديثًا، تحديات جسيمة تنبع من ثِقل المهام المُحددة من جانبهما كأولويات للعمل، في ظل مماطلة الاحتلال الإسرائيلي للانسحاب من جنوب لبنان وخروقاته المستمرة لاتفاق وقف إطلاق النار، سعيًا منه لاستكمال مخططه الذي فشل في تحقيقه في أثناء حربه ضد لبنان، وسط أزمة اجتماعية واقتصادية ومالية تعيشها البلاد منذ زهاء خمس سنوات، وراكمها العدوان الإسرائيلي سوءًا، ورزمة إصلاحات داخلية تستوجب التعاون المشترك بين القوى السياسية اللبنانية.

 وما لم يتحقق مسعى تكامل الأداء بين أطراف المعادلة السياسية اللبنانية في إدراك منها لخطورة التحديات الشَّاخصة، فإن الطريق سيظل ممهدًا لعودة التجاذبات السياسية التي تعوق أي تقدم محمود في معالجة الملفات الشائكّة.

أولًا: تطورات المشهد السياسي اللبناني.

 بعد فراغ رئاسي يعود لشهر أكتوبر عام 2022، مع انتهاء ولاية الرئيس اللبناني السابق “ميشال عون”، وعجز الساسة اللبنانيين عن التوافق حول ملء فراغ منصب الرئيس، فقد جرى الالتفات للمؤسسة العسكرية ليشغل قائدها رئاسة الجمهورية، وذلك بانتخاب مجلس النواب اللبناني العماد “جوزيف عون” قائد الجيش، رئيسًا جديدًا للبلاد في 9 يناير 2025، بعد جولة انتخابية ثانية حصل فيها على دعم 99 نائبًا من أصل 128، بعدما لم يحصل على أغلبية الثلثين المطلوبة للفوز بالرئاسة خلال الدورة الأولى من اقتراع النواب، وغداة انسحاب زعيم تيار “المردة” “سليمان فرنجية” الحليف التاريخي “لحزب الله”، من السباق الرئاسي.

 وفي خطوات سياسية متسارعة ذات دلالة، وعقب أيام من انتخابه رئيسًا للبلاد، كلف الرئيس “عون” في 13 يناير 2025، الرئيس السابق لمحكمة العدل الدولية في لاهاي وسفير لبنان السابق في الأمم المتحدة القاضي “نواف سلام” برئاسة الحكومة اللبنانية الجديدة، بعد الاستشارات النيابية. وفي 8/2/2025، تم الإعلان عن ولادة الحكومة اللبنانية الأولى في عهد الرئيس اللبناني الجديد بعد أسابيع من مشاورات مكثفة أتت على وقع متغيرات (داخلية، إقليمية ودولية وازنة)، رغم أنها ستكون حكومة انتقالية لن يتجاوز عمرها عامًا ونصف العام حتى إجراء الانتخابات النيابية في عام 2026.

 استند تشكيل الحكومة اللبنانية برئاسة القاضي “سلام” إلى معايير الكفاءة والخبرة والاختصاص، فضمت 24 وزيرًا من أصحاب الكفاءات والخبرات الرفيعة، ومن خارج الأُطر الحزبية؛ حيث تم تمثيل عدد من الأحزاب عبر وزراء غير حزبيين فيها، وتشمل هذه القوى: “حزب الله” و”حركة أمل”، أو ما يُعرف بـ “الثنائي الشيعي”، و”القوات اللبنانية” و”الكتائب”، وكلاهما حزبان مسيحيان، و”الحزب التقدمي الاشتراكي”، و”حزب الطاشناق” الأرمني، كما برزت قوة جديدة من خلال التحالف بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، مما يعكس تحولات في التركيبة السياسية، في حين رفضت قوى سياسية أخرى المشاركة في الحكومة، مثل: “التيار الوطني الحر”، وهو ثاني أكبر حزب مسيحي بزعامة النائب “جبران باسيل”، وتيار “المردة” برئاسة النائب السابق “سليمان فرنجية”، و”كتلة الاعتدال الوطني”، التي تضم مجموعة من النواب السنة المستقلين.

 وقد حرص الرئيس “سلام” على تأليف حكومة كفاءات إصلاحية تكون خالية من الوزراء الحزبيين، وملتزمة بمبدأ التضامن الوزاري، وهو يعني أن جميع أعضاء الحكومة يتصرفون كوحدة متكاملة، بحيث يتوجب عليهم الالتزام الكامل بالقرارات الصادرة عن مجلس الوزراء، حتى لو كانت بعضها تتعارض مع وجهات نظرهم الشخصية أو الحزبية.

 وتتمتع الحكومة بميزة جديدة تتمثل في كونها تضم 5 نساء، للمرة الأولى في تاريخ الحكومات اللبنانية؛ حيث تولين: حقائب البيئة والشؤون الاجتماعية والتربية والسياحة والرياضة، مما يعد إنجازًا إصلاحيًّا، في ظل مطالب المرأة اللبنانية منذ سنوات بحقوقها في المشاركة السياسية ونيل حصة عادلة في الحكومة، وهي اليوم تحقق نسبة غير مسبوقة من التمثيل الوزاري.

 كما اعتمدت الحكومة مبدأ إصلاحيًّا آخر، يتمثل في ميزة الفصل بين السلطتين (التشريعية، التنفيذية)؛ حيث لا يوجد بين أعضائها أي نائب في البرلمان، وهي خطوة غير مسبوقة بهذا الوضوح. كما أن الوزراء الحاليين لن يترشحوا للانتخابات النيابية المقبلة؛ إذ كان هذا أحد الشروط الأساسية التي وضعها رئيس الحكومة “سلام” لضمان عدم استغلال السلطة في العملية الانتخابية.

 وقد تمنح هذه العوامل مجتمعة الحكومة اللبنانية فرصة لاستعادة ثقة الداخل والخارج بالدولة اللبنانية، مما قد يساهم في دعم جهود إنقاذ لبنان من أزمته الراهنة.

ثانيًا: الدلالات.

 استدعت متغيرات (داخلية، إقليمية ودولية) مُعتبرة توافق القوى السياسية اللبنانية لاتخاذ خطوات متسارعة ذات دلالات مهمَّة لضبط المشهد السياسي الداخلي، في مواجهة التحديات الوازنة.

أولًا: تؤشِّر الخطوات السياسية المتسارعة إلى تغيير في الأداء السياسي قد يُعجِّل بمسعى انتظام المؤسسات الدستورية؛ إذ بعد إخفاق ثلاث عشرة جلسة برلمانية انعقدت خلال العامين الماضيين في انتخاب رئيس جديد للجمهورية، كان آخرها في 14 يونيو 2023، نظير عدم توافق الفرقاء المتخاصمين على مرشَّح بينما لا يحظى أي فريق سياسي بأغلبية تكفيه لانتخاب مرشِّحه_ فقد عاد مطلب تنفيذ هذا الاستحقاق الانتخابي للواجهة السياسية بشكل قوي وكضرورة ملحة على وقع العدوان الإسرائيلي ضد لبنان، في أكتوبر 2023 وتصاعد منذ سبتمبر 2024 قبل اتفاق وقف إطلاق النار الذي دخل حيز التنفيذ في 27 نوفمبر 2024، والذي فرض نفسه بتبعاته القاتمة على المشهد السياسي اللبناني.

 في حين يعتبر تشكيل الحكومة اللبنانية برئاسة القاضي “سلام” إنجازًا مهمًّا ينطوي على أبعاد مُعتبرة؛ إذ لم يفصل بين تاريخ تكليفه وإعلان مراسيم تشكيل حكومته سوى 26 يومًا فقط، مما يعكس ضغط متغيرات المرحلة الراهنة، وذلك خلافًا للمدة التي كانت تستغرقها عملية تأليف الحكومات في السنوات الماضية، وتحديدًا منذ عام 2009؛ حيث لم يستطع الرئيس “سعد الحريري” تشكيل حكومته الأولى إلا بعد 134 يومًا، بينما احتاج الرئيس “نجيب ميقاتي” إلى 139 يومًا لتأليف حكومته الثانية في عام 2011، فيما كسر الرئيس “تمام سلام” الأرقام القياسية؛ إذ لزمه 315 يومًا لتشكيل حكومته عام 2014.

ثانيًا: تجاوز الانقسامات والخلافات الداخلية؛ إذ لم يكن ممكنًا تشكيل الحكومة من دون توافق القوى السياسية اللبنانية، ورغم غياب الشخصيات الحزبية عن حكومة “سلام”، فإن التفاهم مع الأطراف السياسية كان ضرورة لا يمكن تجاوزها نظرًا لواقع التمثيل السياسي والشعبي الذي يفرض نفسه على أي حكومة تسعى لنيل ثقة المجلس النيابي. ومن هذا المنطلق، تستند حكومة الرئيس “سلام” إلى قاعدة شعبية ممثلة بالأحزاب إلى جانب كونها حكومة كفاءات، ما يجعل من الممكن وصفها بـ “التكنو – سياسية”، بحسب مراقبين.

ثالثًا: تأكيد سيادة الدولة اللبنانية وأن القرار السياسي والعسكري لها، فقد أعلن الرئيس اللبناني “عون”، في خطابه الأول أمام مجلس النواب اللبناني بعد انتخابه مباشرة، عن “بدء مرحلة جديدة” في تاريخ البلاد، داعيًا إلى “تغيير الأداء السياسي في لبنان”، وبناء وطن يكون الجميع فيه “تحت سقف القانون والقضاء”، و”حصرية حمل السلاح بيد الدولة” فقط، مما يرسم أبرز ملامح العهد الرئاسي القادم. وفي نظر مراقبين، فإن انتخاب الرئيس “عون”، القادم من المؤسسة العسكرية ويحظى بدعم عربي ودولي، يرمز إلى الالتزام بمشروع سيادة الدولة ويعزز من تطبيق القرارات الدولية، لاسيما قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1701* الذي أنهى العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 2006، والذي وافقت عليه الحكومة اللبنانية، إلى جانب تطبيق الدستور اللبناني، بما يسهم في استعادة الدولة اللبنانية دورها وسلطتها، ويرسِّخ سيطرتها على كامل التراب الوطني.

 إلا أن ثمة إشكالية تبرز محليًّا حول ضبابية مفهوم إعادة بناء الدولة اللبنانية عند بعض القوى السياسية اللبنانية التي فسَّرت انتخاب الرئيس “عون” وتكليف القاضي “سلام” بتشكيل الحكومة انتصارًا لمشروع الدولة على وقع تغييرات في موازين القوى السياسية بعد الحرب الإسرائيلية المُدمرة على لبنان، بما يجعل- من منظورها- الفئة المهزومة سياسيًّا معنية بالانسحاب من المشهد السياسي الداخلي وبتحمل أثمان الخسائر السياسية في الداخل اللبناني، وهي رؤية يشوبها مغالطة لمفهوم الدولة الوطنية الجامعة والحاضنة للكل اللبناني، بدون إقصاء فئة عن أخرى، وبما يعاكس النتائج الميدانية للحرب وللمشهد السياسي اللبناني الراهن.

 في حين يبقى المشهد الداخلي منقوصًا عند الاكتفاء بالحديث عن ضرورة تطبيق الدستور اللبناني، وقيام الدولة القوية القادرة المبنية على أساس الوفاق الوطني بهدف “بسط سلطة الدولة اللبنانية تدريجًا على كامل الأراضي اللبنانية بواسطة قواتها الذاتية”، وفق ما ورد في وثيقة “الطائف”، وثيقة الوفاق الوطني اللبناني لعام 1989، وفي نفس الوقت التغافل عن مواد الدستور اللبناني الداعية إلى إلغاء الطائفية السياسية، وإجراء انتخابات برلمانية خارج القيد الطائفي، بوصفهما قاعدة أساسية لبناء دولة وطنية جامعة.

رابعًا: العدوان الإسرائيلي على لبنان، وما نجم عنه من خسائر بشرية فادحة نتيجة ارتكاب المجازر الدموية التي أدت لاستشهاد وجرح آلاف الضحايا المدنيين اللبنانيين، وتهجير أكثر من مليون و400 ألف لبناني، وتدمير البيوت والمنشآت التجارية والبنية التحتية، بمسعى تفريغ منطقة (الجنوب، البقاع، والضاحية الجنوبية لبيروت) من معظم سكانها تحت وطأة الغارات الجوية الإسرائيلية الكثيفة وأوامر الإخلاء المتواترة، مما أحدث متغيرات (اجتماعية، جغرافية) مؤقتة في الساحة اللبنانية، وبما يتطلب تضافر جهود القوى السياسية اللبنانية بمختلف انتماءاتها لمواجهة تداعياته القاتمة.

 وتدرك القوى السياسية اللبنانية مخطط الاحتلال الإسرائيلي، من وراء خروقاته المتواصلة لاتفاق وقف إطلاق النار ومماطلته في تطبيقه، في محاولة منه لإدامة تبعات الحرب وتثبيتها واقعًا ملموسًا، ليس فقط بهدف تقليص نفوذ “حزب الله” في السياسة اللبنانية وتدمير بنيته العسكرية، أو على الأقل إضعافه وتحييده، بل أيضًا لمسعى خلخلة التركيبة السكانية، وزعزعة الاستقرار المحلي، وتغيير الخارطة الجغرافية اللبنانية لفرض واقع أمني وجغرافي جديد.

 إلا أن الوعي المجتمعي وصمود المقاومة الإسلامية وإدراك القوى السياسية اللبنانية لأبعاد العدوان، أسهم في إفشال المخطط الإسرائيلي في لبنان، كما أن مشهد عودة النازحين اللبنانيين من الجنوب إلى قراهم وبلداتهم، عقب سريان اتفاق وقف إطلاق النار، يؤكد إصرار وإرادة الشعب اللبناني في انتزاع حقه بالعودة وتشبثه بأرضه ووطنه لبنان. ورغم تحذيرات جيش الاحتلال الإسرائيلي من العودة إلى 61 قرية في جنوب لبنان، فقد توافد آلاف اللبنانيين إلى قراهم الحدودية في محاولة لدخولها، بينما واجههم جيش الاحتلال بإطلاق النار باتجاههم، في خرق فاضح للاتفاق، مما أدى لارتقاء عدد من الشهداء والجرحى اللبنانيين.

خامسًا: شكل مسعى تغيير المعادلة السياسية في الساحة اللبنانية، أحد أبرز أهداف الاحتلال الإسرائيلي غير المعلنة من وراء عدوانه على لبنان، إلى جانب أهدافه العسكرية الإستراتيجية الأخرى، بتدمير القدرة العسكرية والبنية الاتصالية لحزب الله ونزع سلاحه، إلا أن الاحتلال فشل في تحقيق هدفه المحوري بإضعاف “حزب الله” سياسيًّا وعسكريًّا وزعزعة مكانته لدى قاعدته الشعبية؛ إذ ليس سهلًا انهيار “حزب الله” أو القضاء عليه، أو حتى إضعافه، كما يخطط الاحتلال، مما يطوي جهلًا إسرائيليًّا بأيديولوجية الحزب وفكرة المقاومة وعقيدتها الدينية وبنيتها الهيكلية التنظيمية وتغلغلها المجتمعي ومصادرها التمويلية وارتباطاتها الإقليمية. إن الإرث المتراكم الذي عزَّزه الأمين العام السابق للحزب الشهيد “حسن نصر الله” طيلة مدة قيادته لنحو 32 عامًا، جعل من الحزب قوةً إستراتيجية في منطقة الشرق الأوسط ومكونًا وطنيًّا مُعتبرًا في الحياة السياسية اللبنانية، عبر منفذي الحكومة والبرلمان، ومؤسسة (سياسية، اجتماعية، اقتصادية، وعسكرية وازنة)، وقاعدة شعبية حاضنة؛ حيث يمثل الحزب مع حليفه السياسي “حركة أمل”، بقيادة رئيس مجلس النواب اللبناني “نبيه بري” نسبة 90% تقريبًا من المسلمين الشيعة في لبنان، مما جعله ليس فقط قوة عسكرية، بل أيضًا قوة سياسية ومجتمعية وازنة في لبنان، يستند على شعبيته المُعتبرة وحضوره القوي في المعادلة الداخلية اللبنانية.

 وإذا كان العدوان الإسرائيلي ضد لبنان قد أوجد حالة التفاف شعبي حول المقاومة الإسلامية، من أجل صدِّه ودحر الاحتلال عن الأراضي اللبنانية، فإن مصير الحرب ونتائجها الميدانية ومسار التفاوض الدبلوماسي الذي قاد لهدنة هشة مُعرضة لاختراق إسرائيلي متواصل، قد عززت مكانة “حزب الله” سياسيًّا، من خلال تمثيله، مع “حركة أمل”، في حكومة “سلام” بخمسة حقائب وزارية بينها وزارة المالية، التي تعتبر في لبنان ذات أهمية محورية لمتطلب القانون بتمرير معظم القرارات الحكومية عبر ثلاثة توقيعات أساسية ممثلة بـ : رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ووزير المالية، وذلك بالتماثل مع نفس الوضع في حكومة الرئيس السابق “نجيب ميقاتي”، التي تشكلت في سبتمبر 2021، مما يدحض تكهنات الاحتلال بقرب نهاية “حزب الله” بعد الحرب وعقب إسقاط نظام الرئيس السوري “بشار الأسد” في ديسمبر 2024، أو على الأقل زعزعة مكانته السياسية في المشهد الداخلي اللبناني، وبما يعاكس أيضًا الضغوط الأمريكية على الدولة اللبنانية لاستبعاده من تشكيلة الحكومة اللبنانية الجديدة.

سادسًا: تدهور الأوضاع (الاجتماعية، الاقتصادية والمالية) في لبنان منذ زهاء خمس سنوات، والتي راكمها العدوان الإسرائيلي سوءًا، إزاء انهيار مالي انسحب على النقد والاقتصاد وأسفر عن أزمة مصرفية كبيرة، وفراغ سياسي ومؤسساتي استمر لأكثر من عامين، مما أدى لتصدُّع اقتصاده ومؤسساته وقطاعه المصرفي، وضعف مقومات الصمود المعيشية للبنانيين، وانخفاض الناتج المحلي الإجمالي إلى 17 مليار دولار عام 2023، وحجم خسائر اقتصادية إجمالية تخطت 20 مليار دولار (وفق تصريح وزير الاقتصاد والتجارة اللبناني السابق “أمين سلام” في 20/11/2024)، متضمنًا خسائر القطاعات الاقتصادية والأضرار التي لحقت بالمنشآت السكنية والتجارية والبنية التحتية نتيجة الحرب التي طالت تداعياتها السلبية مختلف القطاعات الحيوية اللبنانية.

سابعًا: تأتي التطورات المتسارعة في المشهد السياسي اللبناني على وقع متغيرات إقليمية ودولية وازّنة؛ فبالإضافة إلى الحرب الروسية – الأوكرانية بتداعياتها السلبية على أمن واقتصاد الشرق الأوسط، فإن البيئة الإقليمية نفسها مضطربة، في ظل استمرار حرب الإبادة الإسرائيلية ضد قطاع غزة، منذ 7/10/2023 رغم توقيع اتفاق تبادل الأسرى ووقف إطلاق النار في 15 يناير 2025، والذي دخل حيز التنفيذ في 19 يناير منه، وانخراط أطراف إقليمية ودولية فيها بشكل مباشر، وهجمات جماعة “أنصار الله”، “الحوثيين” في اليمن، منذ 19/10/2023، بالطائرات المسَّيرة على العمق الإسرائيلي وفي البحر الأحمر ضد السفن التجارية المملوكة للاحتلال الإسرائيلي وللدول الغربية الداعمة له في حربه على غزة، وتفاقم تهديدات الملاحة وأمن الممرات البحرية العالمية، وأجواء التصعيد الإيراني – الإسرائيلي، رغم تراجعهما عن سياسة “حافة الهاوية” إلا أن الخطر لا يزال قائمًا، وسط أزمات مستمرة في سوريا والعراق.

 في حين أن التصريحات غير المسبوقة التي أطلقها الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” بشأن مستقبل قطاع غزة، في إطار خطة يسعى من خلالها إلى تهجير الفلسطينيين من القطاع وتحويله إلى ما سمَّاه “ريفيرا” الشرق الأوسط، ودعوته لاستقبال (الأردن، مصر ودول أخرى) سكان غزة المُهجَّرين، تشكل إجهاضًا للحقوق الوطنية الفلسطينية، وتهديدًا لأمن واستقرار المنطقة، وسابقة خطيرة قد تفتح المجال أمام تكرارها في الضفة الغربية بتهجير الفلسطينيين منها، أو أن يتم نسّخها في مواطن مختلفة من الإقليم، مما أثار ردود فعل عربية ودولية وأممية واسعة رافضة لها بشكل مطلق، وأوجد حراكًا عربيًّا دبلوماسيًّا نشطًا لإحباطها ومنع نفاذها.

ثالثاً: التحديات.

 تُواجه العهد الرئاسي الجديد وحكومته المُشكَّلة حديثًا تحديات جسيمة نابعة من ثقل المهام المُحددة من جانبهما كأولويات أساسية في المرحلة القادمة، ويتمثل أبرزها في الآتي:

أولًا: مسألة تنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1701، ونشر الجيش اللبناني في جنوب لبنان، والذي قد يكون التحدي الأكبر أمام العهد الرئاسي الجديد عند الاصطدام بسلاح المقاومة اللبنانية، إلا أن التفاهمات بين الأقطاب الرئيسة وتأكيد التزامها بما يجب تنفيذه في جنوب نهر الليطاني قد يُبعد التصادم جانبًا.

ثانيًا: يتصل بما سبق تحدي تثبيت اتفاق وقف إطلاق النار ومتابعة الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي اللبنانية؛ إذ كان من المفترض انسحاب جيش الاحتلال الإسرائيلي من المناطق التي احتلها في جنوب لبنان بحلول 26 يناير 2025، وفق مهلة محددة في الاتفاق بـ 60 يومًا، على أن يترافق ذلك مع تعزيز انتشار الجيش اللبناني وقوة الأمم المتحدة المؤقتة (يونيفيل)، إلا أن الاحتلال الإسرائيلي لم يلتزم بها، فجرى تمديدها لاحقًا حتى 18 فبراير 2025، ومع اقتراب الموعد الجديد، عاد الجيش الإسرائيلي إلى التنصل من الاتفاق، فقدم طلبًا من خلال الولايات المتحدة الأمريكية للبقاء في خمس نقاط في جنوب لبنان، بعد انتهاء مهلة الانسحاب، وبتمديدها حتى 28 فبراير 2025، وهو ما رفضته “بيروت” (في 14/2/2025)، مؤكدة أن “الجيش اللبناني سيقوم بمسؤولياته وواجباته بشكل كامل في جنوب لبنان إذا بقي الاحتلال”، ومطالبة بانسحابه الكامل منه ضمن المهلة المحددة وفق الاتفاق، فيما تواصل قوات الاحتلال التواجد في بعض المناطق الحدودية بجنوب لبنان، في خرق صريح للاتفاق.

ثالثًا: يتلازم ذلك مع مهام كبرى لإعادة الإعمار، والسعي لإعادة الثقة بين المواطنين اللبنانيين والدولة وبين لبنان ومحيطه العربي وبين لبنان والمجتمع الدولي، في ظل أزمات اقتصادية ومعيشية صعبة يعيشها لبنان منذ سنوات طويلة وتحتاج إلى معالجة.

رابعًا: شخَّص رئيس الحكومة اللبنانية “نواف سلام”، في كلمة ألقاها عقب تشكيل الحكومة، المشكلة الأساسية في البلاد وقدم لها الحل معًا، حينما تعهَّد بالإصلاح باعتباره “الطريق الوحيد للإنقاذ الحقيقي”، ومما يقرب البلاد من الوصول إلى أموال إعادة الإعمار والاستثمارات في أعقاب الحرب الإسرائيلية المدمرة.

 ويُعد القيام بإصلاحات داخلية ملحة للدفع بعجلة الاقتصاد بعد أكثر من خمس سنوات من انهيار غير مسبوق من أولويات الحكومة المقبلة، إلى جانب التعاون مع مجلس النواب في تنفيذ الإصلاحات المالية والاقتصادية المنشودة وقيام دولة القانون والمؤسسات، ولكنه قد يظل مطمحًا بعيد المنال عند غلبة التجاذبات السياسية والخصومات الداخلية على أي مسعى محمود لمعالجة الملفات الشائكة.

خامسًا: ثمة تحدي آخر وازن يواجه الحكومة اللبنانية ويتعلق بكيفية ملء الشواغر في الوظائف الأولى، مثل قيادة الجيش وحاكمية مصرف لبنان، والمديرية العامة للأمن العام، ومجلس القضاء الأعلى، وهي هيئات ومؤسسات لطالما شكلت موضع تنازع وخصومات حادّة بين القوى السياسية اللبنانية.

 ومع ذلك، فإن أداء المهام الجسيمة والتصدي للتحديات المُعقدة مرهون بقدرة الحكومة اللبنانية على تحقيق الانسجام بين أعضائها والعمل كفريق متكامل ومتفاهم وبمستوى عالٍ من التنسيق والتعاون المشترك وبروح التضامن الوزاري، بعيدًا عن الصراعات السياسية والخلافات الداخلية؛ حتى تتمكن من تحقيق إنجازات ملموسة، أما إذا طغت عليها التجاذبات السياسية فستواجه نفس مصير الحكومات السابقة، عند عرقلة التقدم في ملفات حيوية.

 وفي المحصلة، إن التطورات المتسارعة في المشهد السياسي اللبناني على وقع المتغيرات (الداخلية، الإقليمية والدولية الوازنة) تشكل فرصة مهمة للنهوض بمشروع لبناني جامع عبر حوار وطني شامل لمناقشة التحديات وسبل المعالجة، بحيث يضع التفاعل اللبناني بمختلف مكوناته في مسار تعزيز الوحدة الوطنية المنشودة، والتي طال انتظارها.

(*) صدر القرار 1701 عن مجلس الأمن الدولي في 11 آب 2006 بهدف إنهاء الحرب بين الجانب الإسرائيلي و”حزب الله” في جنوب لبنان بعد 34 يومًا من الصراع، ويتضمن بنودًا عدة من أبرزها: وقف إطلاق النار، ومطالبة الحكومة اللبنانية وقوات الأمم المتحدة “اليونيفيل” بنشر قواتهما في مناطق الجنوب، وبشكل موازٍ، مطالبة حكومة إسرائيل بسحب جميع قواتها من جنوب لبنان، وبسط سيطرة الحكومة اللبنانية على جميع الأراضي اللبنانية وممارسة سيادتها عليها، واحترام الخط الأزرق، وهو الحدود المعترف بها دوليًّا بين إسرائيل ولبنان، وإنشاء منطقة بينه وبين نهر الليطاني خالية من أي أفراد مسلحين أو معدات أو أسلحة، بخلاف ما يخص حكومة لبنان وقوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان.

اظهر المزيد

نادية سعد الدين

كاتبة وباحثة في العلوم السياسية -الاردن

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى