مقدمة.
لم يتوقع أحد أن يتعامل الرئيس دونالد ترامب مع الشؤون المحلية الأمريكية والقضايا العالمية في فترة حكمه الثانية والأخيرة مثل أسلافه من الجمهوريين أو الديمقراطيين، كما لم يتوقع أحد السرعة الفائقة التي يتحرك بها لإعادة توجيه السياسات الداخلية والخارجية الأمريكية بعيدًا عن المسارات المستقرة التي قبلتها النخب السياسة المتنافسة من انتهاء الحرب العالمية الثانية.
فمنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وعلى مدار حكم 13 رئيسًا، 7 منهم ديمقراطيون، 6 جمهوريون، توافقت واشنطن خارجيًّا على تعزير نظام تحالفات عسكرية دولية تقودها الولايات المتحدة ضمنت التعهد بالدفاع عن الحلفاء في أوروبا والشرق الأوسط وجنوب وشرق آسيا، وتوافقت واشنطن كذلك على لعب دور الضامن الأكبر للتجارة الحرة حول العالم، وهي مهمة تضمنت مواجهة الاتحاد السوفيتي وصولًا لنهاية الحرب الباردة في بداية تسعينيات القرن الماضي، ومواجهة الصين منذ بداية القرن 21.
وتفردت الولايات المتحدة خلال تلك الفترة بقبول ملايين المهاجرين الشرعيين من مختلف أركان العالم، كما تسامحت مع وصول ملايين المهاجرين غير الشرعيين لأراضيها وصل عددهم معها إلى ما يقرب من 18 مليون شخص بنهاية العام الماضي.
وخلال فترة حكمه الأولى بين عامي 2017-2021، لم يخفِ الرئيس ترامب شكوكه العامة تجاه المهاجرين وحرية التجارة وتحالفات بلاده الخارجية، والقلق من تصاعد التهديدات والقوة الصينية، إلا أنه وخلال أسابيع قليلة منذ بداية فترة حكمه الثانية، عكس ترامب طموحات واسعة في اتخاذ مواقف وتبني سياسات حاسمة تجاه هذه القضايا، وأضاف عليها المزيد من الإثارة بتعبيره عن رغباته في توسيع أراضي بلاده لتشمل وتضمن أراضي دول وأقاليم جديدة يهدف معها لتغيير خريطة الحدود الأمريكية المستقرة منذ عقود طويلة. وأعلن ترامب عن عدة خطوات توسعية بداية من شراء جرينلاند من الدانمرك، مرورًا بالسيطرة على قناة بنما، وصولًا لضم كندا كالولاية الـ 53 في الدولة الأمريكية، وسبق وعرض ترامب كذلك فكرة امتلاك بلاده لقطاع غزة وتحويلها لريفيرا الشرق الأوسط، إلا أنه تراجع لاحقًا عن هذا الطرح.
وفي خطاب تنصيبه، أعلن ترامب “ستعتبر الولايات المتحدة نفسها مرة أخرى أمة متنامية، دولة تزيد ثروتنا، وتوسع أراضينا، وتبني مدننا، وترفع سقف توقعاتنا، وتحمل علمنا إلى آفاق جديدة وجميلة”. في غضون ذلك، قال مرارًا وتكرارًا إنه يعتزم استعادة السيطرة على قناة بنما، وأن كندا يجب أن تصبح ولاية أمريكية، وأنه يجب شراء جزيرة جرينلاند.
وخلال فترة حكمه الأولى، تم النظر لترامب على أنه انعزاليًّا في سياسته الخارجية، وبعد ما قاله ترامب عن خططه التوسعية خلال أسابيع حكمه الأولى في فترة حكمه الثانية، لا يزال من السابق لأوانه فك رموز ما يعتزم ترامب القيام به، وأدت إلى طرح تساؤلات حول الشكل الذي يمكن أن تبدو عليه السنوات الأربع المقبلة من حيث أجندة ترامب “التوسعية”.
ترامب موحد الشعبويين والألويجاركيين.
وصل ترامب للبيت الأول متكئًّا على زعامة تيار أمريكي شعبوي يميني جديد لم يعرف له التاريخ الأمريكي مثيلًا، وأُطلق على هذا التيار اختصارًا لفظ “ماجا Make American Great Again- MAGA” ووحد هذا التيار أفكار وفئات مختلفة في توجهاتها وأهدافها، ومتناقضة في خلفياتها الاقتصادية والتعليمية.
وبعد ما يقرب من العقد على بداية ظهور ترامب كمرشح رئاسي في عام 2015، أصبح ترامب رئيسًا متزعمًا مجموعتين أساسيتين متناقضين، هما: الشعبويون الغاضبون الذين يسعون إلى الدفاع عن الهويات والتقاليد الاجتماعية المحافظة، وقادة قطاع التكنولوجيا الحديثة. تهدف الفئة الأولى، وهي التي تتكون بالأساس من الطبقات الدنيا والوسطى الدنيا من العمال ذوي الياقات الزرقاء، وسكان الريف، ويتمسكون بالتضييق على المهاجرين ومحاربة مظاهر العولمة خاصة ما يتعلق بتسهيل التجارة العالمية ونقل الوظائف عبر الحدود. في حين تهدف الفئة الثانية، التي أصطف كبار ممثليها خلف ترامب في خطاب تنصيبه، إلى الضغط من أجل إلغاء القيود الحكومية، وتسهيل النشر السريع للتقنيات المتطورة التي من المحتمل أن تحل محل العديد من العمال ذوي الياقات الزرقاء.
وتفهم حركة ماجا أن التعاون الدولي التقليدي، كما عرفته وقادته بلادهم منذ نهاية الحرب الثانية، على أنه تهديد لحرياتهم الشخصية وكذلك سيادة دولهم، ويعارضوا الأمم المتحدة والمحكمة الدولية وحلف شمال الأطلسي ومنظمة التجارة العالمية باعتبارها تنتهك سيادة ومصالح الولايات المتحدة. من جانبه، لا يخفي ترامب استهتاره وسخريته من “النظام الدولي القائم على القواعد”.
ويحرك دعوات ترامب بصورة كبيرة رؤيته لخطر التهديدات الصينية كمصدر وحيد أمام الهيمنة الأمريكية العالمية. شراء جرينلاند والسيطرة على قناة بنما وضم كندا، كلها أفكار تنبع من زاوية مواجهة الصين المستقبلية. وفي الوقت الذي تنفق فيه الولايات المتحدة 3.4٪ من ناتجها المحلي الإجمالي على ميزانية الدفاع، أي ما يقرب من تريليون دولار، رفع ترامب مطالبته بأن تزيد دول الناتو إنفاقها العسكري إلى 5٪ من ناتجها المحلي الإجمالي حتى يتمكن البنتاجون من تركيز قوته العسكرية والاقتصادية على احتواء الصين والسيطرة عليها.
كما هو الحال في كثير من الأحيان مع ترامب، يُطرح السؤال حول مدى جديته. ويرى بعض المعلقين أن تعليقات ترامب كانت مصممة لتحويل الأضواء بعيدًا عن اختياراته الوزارية المثيرة للجدل، وما يخوضه داخليًّا من معارك انتقام من خصومه السياسيين، ومحاولة إعادة هيكلة الحكومة الفيدرالية وتخفيض عدد العاملين بها. ومع ذلك، قد يكون من الخطأ التقليل من شأن تصريحات ترامب، أو تجاهلها.
استعادة قناة بنما.
في أول يوم له في منصبه، جعل الرئيس ترامب بنما وقناتها حالة اختبار مزدوجة لاثنين من أكبر أولوياته: وقف الهجرة غير الشرعية، ومواجهة نفوذ الصين المتزايد.
فيما يتعلق بالهجرة، أصدر ترامب عشرة أوامر تنفيذية شاملة “لصد غزو” المهاجرين غير الشرعيين، حتى أولئك الذين يطلبون اللجوء منهم، وتمر الهجرة غير الشرعية لأمريكا عبر “غابة دارين”، وهي منطقة حدودية شاسعة بين (كولومبيا، وبنما). ولا تملك بنما جيشًا وطنيًّا يُمكنها من منع هذه الهجرات عبر أراضيها خاصة بعدما حلت جيشها بعد الغزو الأمريكي عام 1989، الذي أطاح بالجنرال مانويل نورييجا، وإعلانها الحياد، والاعتماد على قوات شرطة لحفظ الأمن الداخلي.
ووصف ترامب خلال خطاب تنصيبه معاهدة إعادة قناة بنما الموقعة عام 1977، والتي منحت دولة بنما السيطرة على القناة بحلول عام 2000، بأنها “هدية حمقاء”. واتهمها ترامب أن الغرض من المعاهدة ومعناها قد تم تجاوزه، وقال إن “الصين تدير قناة بنما، نحن لم نعطيها للصين، لقد أعطيناها لبنما، ونحن سنستعيدها”. كما ادعى أن السفن الأمريكية، بما في ذلك سفن البحرية الأمريكية العسكرية تمر بالقناة بمقابل مالي “مبالغ فيه بشدة”. وحتى عام 2000، كانت الولايات المتحدة أكبر شريك تجاري لمعظم دول أمريكا الوسطى والجنوبية، واليوم حلت الصين محل الولايات المتحدة كأكبر شريك تجاري.
وفي جلسة التصديق على ترشحه بمجلس الشيوخ، استبعد وزير الخارجية الأمريكي “ماركو روبيو” اللجوء إلى القوة العسكرية، لكنه قال إن واشنطن بحاجة إلى معالجة مخاوف جدية بشأن النفوذ الصيني في قناة بنما ذلك الممر المائي الحيوي بين المحيطين (الأطلسي، الهادي)، وتساءل وزير الخارجية عما إذا كان بإمكان الشركات الصينية السيطرة على القناة بناء على أوامر من بكين و”إغلاقها أو إعاقة عبورنا”.
ويبلغ طول قناة بنما 82 كيلومترًا، وتربط بين المحيطين (الأطلسي، الهادي) وامتلكتها الولايات المتحدة منذ أوائل القرن العشرين قبل أن يتم تسليمها نهاية المطاف إلى بنما عام 1977 بموجب معاهدة ضمنت حيادها، وتعد الولايات المتحدة أكبر مستخدم للقناة وهي مسؤولة عن حوالي 75% من البضائع التي تمر عبرها كل عام، وتأتي الصين في المرتبة الثانية.
ويرى قطاع كبير من المحللين السياسيين أن خطاب ترامب محاولة لابتزاز المزيد من الأموال من بنما، وربما لدفعها بعيدًا عن النفوذ الصيني، كما اعتبرها البعض إستراتيجية للضغط على بنما لبذل المزيد من الجهد لمنع الهجرة المتجهة إلى الولايات المتحدة.
شراء جزيرة جرينلاند.
لا يتوقف ترامب عن القول إنه من “الضرورة المطلقة” للولايات المتحدة أن تتولى ملكية جرينلاند، الجزيرة الشاسعة والغنية بالموارد في القطب الشمالي، كما لم يستبعد ترامب استخدام القوة العسكرية للاستيلاء عليها، وتعد جرينلاند إقليم يتمتع الحكم الذاتي ضمن مملكة الدانمرك، الدولة العضو بحلف الناتو.
ومع التغيرات المناخية، وذوبان القطب الشمالي بمعدلات أكبر، برزت أهمية جرينلاند في خطط الشحن البحري العالمية بموقعها الإستراتيجي الهام. علاوة على ذلك، يُعتقد أن الجزيرة وأراضيها البحرية تحتوي على مخزون ضخم غير مستغَل من الوقود الأحفوري والمعادن النادرة التي يحتمل أن تكون ذات قيمة كبيرة. وقدرت هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية أن المناطق البحرية المحيطة بالجزيرة تحتوي على ما يصل إلى 17.5 مليار برميل من النفط ومئة وثمانية وأربعين تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي. من بين المعادن التي تمتلكها جرينلاند بكميات كبيرة العديد مما يسمى بالمعادن الأرضية النادرة المستخدمة في تقنيات الطاقة الخضراء، مثل: البطاريات الكهربائية، توربينات الرياح وخطوط النقل عالية الطاقة.
أعربت الحكومات الأمريكية المتتالية عن اهتمامها الإستراتيجي بجرينلاند لأكثر من قرن؛ خلال الحرب العالمية الثانية، احتلت القوات الأمريكية الجزيرة لمنع ألمانيا النازية من السيطرة عليها، بعد انتهاء الحرب، عرض الرئيس “هاري ترومان” شراء الجزيرة مقابل مائة مليون دولار، لكن الدنمارك رفضت. أنشأت الولايات المتحدة وجودًا عسكريًّا دائمًا على الساحل الشمالي الغربي لجرينلاند، قاعدة ثول الجوية، التي كانت عملت كذلك بمنزلة محطة إنذار مبكر للصواريخ الباليستية خلال الحرب الباردة.
ضم كندا.. الولاية الـ 51.
مزح ترامب حول ضم كندا خلال عشاء في أواخر نوفمبر مع رئيس الوزراء الكندي “جاستن ترودو” ثم تصدر ترامب عناوين الصحف في ديسمبر من خلال وصف ترودو بأنه “حاكم” “ولاية كندا العظمى”. وبحلول أوائل يناير، بدأ في اقتراح “التخلص” من الحدود الأمريكية الكندية، واصفًا إياها بأنها “خط مرسوم بشكل مصطنع” وغرد صورتين لخرائط تظهر كندا كجزء من الولايات المتحدة. ومنذ ذلك الحين، لم يتراجع ترامب عن هذه التصريحات، ورفض العديد من المراقبين في البداية أخذ مثل هذه التصريحات على محمل الجد، لكن ترامب يكرر “أود أن أرى كندا تصبح الولاية الحادية والخمسين” وأثار الدهشة- والمخاوف- بشكل خاص من خلال تضمين “كندا … يمكنك دائمًا أن تصبح ولاية”.
تشير معظم استطلاعات الرأي إلى رفض أغلبية ساحقة من الكنديين (ما يقرب من 90%) وأغلبية كبيرة من الأمريكيين (ما يقرب من 60%) فكرة ضم بلادهم للولايات المتحدة.
ومن المرجح أن يؤثر خطاب ترامب التوسعي على زعزعة العلاقات الثنائية مع كندا، وربما لخدمة أهداف أخرى.
وعندما سئل ترامب عما إذا كان سيفكر في استخدام القوة العسكرية للقيام بذلك، رفض ترامب استبعاد ذلك، كما طرح فكرة استخدام “القوة الاقتصادية” لجعل كندا تنضم إلى الاتحاد الأمريكي وتصبح الولاية رقم 51.
إرث ترامبي توسعي قديم.
في خطاب تنصيبه يوم 20 يناير2025، تحدث ترامب عن القومية الأمريكية الجريحة، وتحدث عن الخيانة، وتحدث عن رؤية أكثر راديكالية، وكرس ترامب جزءًا من خطابه الافتتاحي لفكرة “المصير الواضح”، وأن “التوسع الأمريكي هو حقنا الإلهي”.
من الممكن أن يكون كل هذا الحديث الإمبريالي صخبًا، ولكن من الممكن أيضًا أن يشعر ترامب بالتحرر في ولايته الثانية لتغيير عقيدته “أمريكا أولًا”، التي استفاد منها لتحقيق مكاسب سياسية لسنوات، وجعل توسع الولايات المتحدة (في المجالات التي يهتم بها بالفعل) عنصرًا أساسيًّا في إرثه.
واستدعى ترامب عظمة أمريكا والحاجة لاستعادة كرامتها، وربط ذلك صراحة بالعودة إلى التوسع الإقليمي، وللولايات المتحدة تاريخها الطويل في التوسع الإقليمي، إلا أن ذلك لا يقدم سابقة لتصريحات ترامب الأخيرة، ولم يقدم تاريخ التوسع الإقليمي للولايات المتحدة ضم دول مستقلة مجاورة بالقوة.
ويرجع تاريخ آخر حديث لرئيس أمريكي بهذه الطريقة إلى عهد “جيمس بولك” الرئيس الحادي عشر للولايات المتحدة (1845-1849)، الذي ركز على ضرورة ضم أراضي خارجية، إلا أنها لم تكن دول مستقلة ذات سيادة، وضم بولك ولاية تكساس وأجزاء من السواحل الغربية للولايات المتحدة في ولايات (أوريجون، كاليفورنيا). وهناك كذلك الرئيس ويليام ماكينلي (1897-1901) والذي يستدعيه ترامب كثيرًا في خطاباته، وحاول ماكينلي بعد الانتصار في الحرب على إسبانيا الاستيلاء على (كوبا، الفلبين) بالقوة، لكنه فشل.
ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، كان حظر التوسع الإقليمي القسري سمة مركزية لكل من: القانون الدولي، والسياسة الخارجية للولايات المتحدة. بعد أن عمل الرئيس وودرو ويلسون لأول مرة على حظر الغزو عبر عصبة الأمم عقب الحرب العالمية الأولى، جعل الرئيسان (فرانكلين روزفلت، وهاري ترومان) السلامة الإقليمية مبدأ أساسيًّا لمنظومة الأمم المتحدة عقب الحرب العالمية الثانية. منذ ذلك الحين، قادت الولايات المتحدة جهودًا لردع ومعاقبة الغزاة الساعين لضم أراضي دول مجاورة بالقوة، مثل: حالة العراق مع الكويت، وحالة روسيا مع أوكرانيا.
وأوضح ترامب أن رغبته في ضم هذه الأراضي تنبع من منطلقات اقتصادية بما توفره من موارد ضخمة (مادية، معدنية وبيئية) ومنطلقات عسكرية؛ حيث تعد جرينلاند موطنًا لمنشأة فضائية أمريكية كبيرة، وقال إنها “ضرورية للجهود العسكرية لتعقب السفن الصينية والروسية المنتشرة في كل مكان” مؤكدًا “أنا أتحدث عن حماية العالم الحر”.
ينظر ترامب للعديد من قضايا العلاقات الدولية منطلقًا من كونه مطوِّرًا عقاريًّا يؤمن بصفقات البيع والشراء حتى بين أراضي الدول المستقلة ذات السيادة، ولا يُعد ترامب استثناء بين الرؤساء الأمريكيين من حيث رغبته في شراء المزيد من الأراضي لضمها للاتحاد الأمريكي. ودائمًا ما واجهت هذه العمليات الضخمة جدلًا مجتمعيًّا وقانونيًّا واسعًا، وأبرزها:
- عام 1803، اشترى الرئيس الراحل “توماس جيفرسون” ولاية لويزيانا مما ضاعف حجم البلاد، وكان عليه أن يتجاهل بعض البنود الدستورية المعرقلة لمثل هذه الصفقة.
- عام 1867، اشترى “وليام سيوارد” ووزير الخارجية حينها، أراضي ألاسكا من روسيا مقابل 7.2 ملايين دولار (162 مليون دولار بأسعار اليوم) واعتبر الكثيرون هذه العملية بمثابة حماقة كبيرة. وبعد الانتقادات الأولية، يُنظر اليوم إلى الصفقتين على أنهما من الإنجازات العظيمة.
خطاب ترامب التوسعي بين الشعبوية والإستراتيجية.
منذ وصوله للحكم بداية في عام 2017، وبعد نجاحه في الوصول للبيت الأبيض للمرة الثانية في 2025، تجدد السؤال من الخبراء والمراقبين خارج وداخل الولايات المتحدة حول طبيعة محركات الرئيس ترامب في قضايا السياسة الخارجية، وضاعف من صعوبة السؤال غياب وجود إطار أيدولوجي ينزع إليه ترامب أو يلتزم به. وتجدد النقاش مع بدء فترة ترامب الثانية وتبنيه نفس مبدأ “أمريكا أولًا” مضيفًا إليه توجهات رئاسية بالتدخل والتوسع في الخارج.
وهكذا يبدو وأن ترامب يتبنى سياسة خارجية قومية يراها أكثر إنصافًا للمصالح الأمريكية المادية التي تجاهلتها الإدارات السابقة، ولا يريد ترامب أن تنفق واشنطن على تكلفة وجود قواعد عسكرية لحماية بعض الدول خاصة الغنية منها، ولا ينتظر أن تغير الإدارات القادمة في عصر ما بعد ترامب من هذا النهج الذي يلقى دعمًا من الجمهوريين والديمقراطيين. وربما تدشن قومية السياسات الخارجية في عهد ترامب مبدأ أو عقيدة سياسية جديدة ينتهجها حكام البيت الأبيض في المستقبل.
وأظهرت السياسات الخارجية التي اتبعها ترامب حتى الآن التزامًا جادًا بشعبوية أمريكية جديدة، إلا أن ما يرتبط بالتوسع والتدخل الخارجي، لا يتسق مع نهج ترامب العام المتعلق بـ “أمريكا أولًا”. وتكمن الطموحات التوسعية لإدارة ترامب في الشعبوية القومية التي دفعت ترامب وحلفائه إلى السلطة للمرة الثانية، ونجحت شعبوية ترامب في الاستفادة من المخاوف المنتشرة بين الأمريكيين – انعدام الأمن الوظيفي وأسعار المواد الغذائية وأزمة الإسكان – من خلال الوعد بتهدئة مخاوفهم من خلال أجندة ماجا.
وبلا شك يمكن للعديد من العقبات أن تمنع أفكار ترامب التوسعية من التبلور بشكل عملي، وتتميز إدارة ترامب بصنع سياساتها بطرق فوضوية ومسرحية؛ حيث تعطي الأولوية للمكاسب السياسية قصيرة الأجل على الإستراتيجية طويلة الأجل، ويقوض عدم الاستقرار هذا أي جهود متواصلة للتوسع. وستكون الخطوة الأولى لأي تحركات مضادة من قبل خصوم ترامب الأجانب هي رؤية مخططات نظامه على حقيقتها: فوضوية، ربما، ولكن توسعية خطيرة.
ولخطاب ترامب التوسعي عدة عواقب، من أهمها:
أولًا: يوفر حديث ترامب مادة خصبة للقوى الساعية للتوسع الإقليمي غير الشرعي والمخالف للقانون الدولي وسيادة الدول الأخرى، مثل: روسيا في أراضي أوكرانيا، وربما الصين في أراضي حدودية مع الهند وفيتنام، والحدود البحرية مع إندونيسيا والفلبين.
ثانيًا: يقوض خطاب ترامب التوسعي الأمن القومي للولايات المتحدة من خلال إضعاف تحالفاتها الأمنية حول العالم خاصة مع دول أوروبا الغربية، ودول جنوب وشرق آسيا، ويساهم خطاب ترامب في تشكيك الدول الحليفة لواشنطن في الاعتماد على دولة لا يستبعد رئيسها والقائد الأعلى لقواتها المسلحة استخدام القوة لغزو أراضي دولة حليفة عضو بحلف شمال الأطلسي- الناتو.
وربما يقول ترامب هذه الأشياء كتكتيك تفاوضي للاستفادة من التنازلات في ملفات مثل: الصفقات التجارية ورفع الإنفاق الدفاعي لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، وضبط الحدود والتشدد في مواجهة الصين.
وأكد “جريجوري كوجر” أستاذ القانون والعلوم السياسية بجامعة ميامي بولاية فلوريدا لكاتب هذه الدراسة، أن ما يكرره ترامب من رغبته في توسع بقعة الأراضي الأمريكية يعكس هدفين مشتركين: الأول، طموح شعبوي لتوسيع حدود البلاد. والثاني: طموح شخصي لزيادة الأراضي الأمريكية كجزء من إرثه الرئاسي. في حين ذكر “ستيفن سيستانوفيتش” المسؤول السابق بالخارجية والخبير في مجلس العلاقات الخارجية والأستاذ الفخري بجامعة كولومبيا، في حديث مع كاتب هذه الدراسة، إنه إذا تمسك ترامب بالادعاءات التوسعية “فستصبح حتًما جزءًا من أجندة الإدارة، لكن كبار مستشاريه بالسياسة الخارجية لا بد أن يفكروا في هذا على أنه جنون رئاسي مع فرصة محدودة للنجاح”.
وتساءل “مع وجود تكاليف عالية، وعمليًّا لا يوجد مردود حقيقي، هل سيخبرون ترامب بما يفكرون به حقًا؟ ربما لا. هل سيعملون بجد لتحقيق أهدافه؟ أيضًا مشكوك في ذلك جدًا”.