بتنصُّب دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتحدة الأمريكية في 20 يناير 2025، دخل العالم حقبةً جديدة، سيكون الرئيس الجديد مستعدًا خلالها – بحسب تحليلات غربية رصينة – لمنافسة “كل عنصر تقريبًا من عناصر النظام الليبرالي الدولي: التجارية، التحالفات، الهجرة، تعددية الأطراف، التضامن بين الديمقراطيات وحقوق الإنسان”. ويشير “جون إيكينبري” أستاذ العلاقات الدولية بجامعة برينستون إلى أن ذلك يعني أنه بدلًا من دعم النظام الدولي الراهن، باتت الولايات المتحدة على استعداد لأن تصبح المزعزع الرئيس للأمن.
يشكِّل سقوط نظام الأسد التطبيق الأكثر عملانية لنظرية البجعة السوداء التي تشير إلى صعوبة التنبؤ بالأحداث المفاجئة؛ إذ حتى قبل أيام من سقوط النظام السوري، كانت كل المؤشرات تدل على أن البيئتين (الدولية، الإقليمية) قد رضختا للأمر الواقع في سوريا، وتطبيقًا لمبدأ الواقعية السياسية، بدأت الأطراف المختلفة التوافق على خطة طريق لخفض العقوبات وإعادة إدماج النظام السوري، حتى إسرائيل نفسها، وعلى لسان مسؤوليها، خفضت سقف مطالبها إلى حد منع نقل الأسلحة عبر سوريا إلى لبنان، وأسقطت تلك المطالب المتعلقة بإنهاء الوجود الإيراني في سوريا.
بالمقابل، كانت المعارضة السورية السياسية قد وصلت إلى ذروة عجزها وخرجت من حسابات الفاعلين الخارجيين، فيما المعارضة المسلحة كانت منشغلة بصراعات بينية أضعفت فاعليتها وتراجعت جاهزيتها إلى حدٍ أدى إلى رفع منسوب الخوف عند بيئة المعارضة في إدلب من أن الظرف الحالي يشكِّل فرصة للنظام السوري لاستعادة سيطرته على إدلب والانتقام من القوى التي عارضته، ولا سيما في ظل إغلاق تركيا للحدود تحسبًا لموجات لجوء جديدة قد تؤدي إلى هز الاستقرار السياسي في البلاد.
المؤكد أن هجوم هيئة تحرير الشام، قد يكون بدعم من تركيا، وذلك لإجبار الأسد على التفاوض، بعد الطلبات العديدة التي قدمها الرئيس رجب أردوغان للقائه وتوسيطه روسيا والعراق وإصرار الأسد على الرفض، رغم ذلك فإن الهجوم كان في البداية محدود النطاق وضمن مساحة لا تتعدى المناطق التي استعاد النظام السيطرة عليها في أرياف إدلب وحلب في معارك عام 2020، وحتى السيطرة على حلب لم تكن متوقعة بدرجة كبيرة على اعتبار وجود أنساق دفاعية كبيرة تؤمنها ميليشيات إيران، أما ما بعد حلب فكان حلمًا مستحيلًا، فلا الهيئة تملك القدرة على تأمين خطوط إمداد طويلة وليس لديها العدة والعديد الكافي لإنجاز هذه المهمة، كما أنها ستكون مكشوفة في مواجهة سلاح الجو الروسي وطائرات النظام السوري.
فما هي سياقات الحدث وارتباطاته؟ وما هي تعقيداته وتحدياته الماثلة؟ ثم ما المآلات التي سيصل إليها الحدث السوري؟
سياق وتوقيت الأحداث.
تضافرت عوامل عديدة في سقوط نظام الأسد وسيطرة هيئة تحرير الشام، بعضها يرتبط بأسباب محلية، وأخرى تتعلق بتغيرات حصلت في البيئة الإستراتيجية لسوريا.
العوامل الداخلية.
تتمثل بوصول النظام السوري إلى درجة عالية من الاهتراء الداخلي، نتيجة القمع الدموي الذي مارسه ضد الشعب السوري طيلة سنوات طويلة، ورفضه الاستجابة لأي من مطالب السوريين تحت حجج وذرائع واهية، وارتكازه على الحل الأمني للخروج من الأزمة التي لم يستطع إدارتها، ورفض أي إمكانية للحل السياسي حتى في ظل تراخي المطالب الخارجية و التلميح بإمكانية قبول أي مخرج للحل، في وقت تراجعت قدراته بشكل كبير على تلبية مطالب المجتمع السوري في الأمن وتأمين الخدمات الضرورية وإيجاد فرص للعمل، أو الحد الأدنى من الواجبات المترتبة على أي نظام سياسي، وترك البلاد نهبًا لمافيات السوق وانتشار اقتصاد الجريمة وشبكات الفساد التي كانت تُدار من قبل النظام نفسه بعد تورطه في تجارة الكبتاجون.
وقد أفقدت هذه العوامل النظام شرعيته، وخاصة داخل البيئات التي طالما أيدته وشكَّلت خزانًا للمدافعين عنه، فقد أفقرت الأوضاع الاقتصادية هذه الفئات التي أدركت بنفس الوقت أن سياسات نظام الأسد أفقدتها جميع الخيارات وشعرت بأن المستقبل ليس مضمونًا، في ظل تعنت نظام الأسد تجاه مبادرات الحل السياسي ورفض اليد العربية الممدودة له، وهو ما دفعها إلى التخلي عنه مما ساعد بدرجة كبيرة في إسقاطه.
العوامل الخارجية.
جاء سقوط نظام الأسد في سياق تغييرات ملحوظة في توازنات القوى في المنطقة، ولا سيما الأطراف الفاعلة في (سوريا، إيران وروسيا)؛ إذ نتيجة الضربات التي تعرض لها محور إيران في لبنان وسوريا، تراجعت قوته إلى حد بعيد، وانشغل حزب الله بشكل كلي في صد الهجوم الإسرائيلي الذي دمَّر مواقعه وقتل أغلب قيادات الصفين (الأول، الثاني) كما أدت العمليات المتواترة لإسرائيل داخل العمق السوري إلى زعزعة استقرار ميليشيات إيران وانسحاب أغلب القيادات إلى العراق، وبالتالي تحوَّل الوجود الإيراني في سوريا إلى وجود غير فاعل.
في الوقت نفسه، كانت روسيا منشغلة بشكل كبير في الصراع الأوكراني، لدرجة أنها سحبت غالبية أصولها العسكرية ذات القيمة والفعالية لساحة الحرب الأوكرانية، اعتقادًا منها أن الحرب هناك هي من ستحدِّد موقع روسيا في النظام الدولي وتقرِّر مصير النخبة الروسية الحاكمة، في حين أن الأوضاع في سوريا يمكنها الانتظار قليلًا، في ظل تقدير روسي بأن قوى المعارضة لن تستطيع إسقاط نظام الأسد الذي بات يعود تدريجًا إلى التفاعل الإيجابي مع الفاعلين الإقليميين والدوليين.
على الجانب العربي، ورغم أن الفاعلين العرب قد قبلوا، من منطلق الواقعية السياسية، التعامل مع النظام السوري، بوصفه قوَّةَ أمر واقع، أو لجذبه إلى المدار العربي وتخفيف حدة اندفاعه صوب إيران والتي كان لها نتائج سلبية على سوريا، إلا أن الأطراف العربية كانت تدرك بدورها أن نظام الأسد يصعب تغيير توجهاته والتأثير على سياساته، وبالتالي لم يكن أحد لديه أدنى استعداد لإنقاذه من السقوط، رغم اختلاف وجهات النظر مع القوى البديلة لنظام الأسد.
واستفادت هيئة تحرير الشام من هذه التغيرات، واستغلت هشاشة النظام في مواجهة ديناميكيات متغيرة، فقد كشفت لها الأيام الأخيرة قبل القيام بعملية ردع العدوان أن المسألة لا ترتبط بساحة المعركة وقواعد الاشتباك، فهذه أمور تفصيلية يمكن التعامل معها، لكن ثمة حقيقة أعمق تتمثل بعدم قدرة نظام الأسد على التكيف مع التحولات الطارئة في خارطة التحالفات الدولية، وعلى ضوء ذلك، وفي ظل غياب إستراتيجية واقعية تضمن له البقاء في سياق هذه التغيرات، سيكون الإجهاز عليه ممكنًا.
التحديات التي تواجه المرحلة السورية الجديدة.
تكشف التفاعلات الحاصلة في سوريا بعد عملية التغيير أن إسقاط النظام كان الفعل الأسهل في جملة التعقيدات التي تواجه سوريا في المرحلة المقبلة، والتي يمكن تحديدها وفق الترتيب الآتي:
تحدي الأخطار الخارجية.
شكَّل سقوط نظام الأسد نقطة تحوُّل جيوسياسية كبرى في الشرق الأوسط، نتج عنها تغيير موازين القوى الإقليمية والدولية؛ إذ على مدار السنوات السابقة شكَّلت إيران شبكات ميليشياوية واسعة على كامل الجغرافية السورية، وربطتها بنفوذها في العراق ولبنان، وتحولت سوريا إلى ركيزة أساسية في المشروع الجيوسياسي الإيراني، بوصفها قاعدة عسكرية ولوجستية متقدمة للحرس الثوري الإيراني لتسهيل التوسع الإقليمي ودعم الميليشيات الإيرانية في مناطق الشرق الأوسط، وقد قوَّى هذا الوضع أوراق إيران بشكل كبير في المنطقة، لدرجة أن صانع القرار الإيراني بات يقيِّم الدور الإيراني كدور مقرِّر ومؤثر يمكن من خلاله التحكُّم بالسياسات الإقليمية وإجبار دول المنطقة على أخذ مصالح إيران الأمنية والسياسية والاقتصادية بعين الاعتبار.
من جهتها استمرت روسيا، استثمرت وجودها في سوريا لتحسين موقعها العالمي بدرجة كبيرة، وباتت فاعلًا مهمًّا ومؤثرًا في تفاعلات المنطقة وشؤونها، وطرحت نفسها كحليف بديل محتمل للعرب، وقامت بتفعيل علاقاتها العربية والإقليمية من منطلق كونها لاعبًا مؤثرًا في الأوضاع الأمنية والسياسية في المنطقة، كما أن وجود قواعدها في الساحل السوري منحها هامشًا مهمًّا للتأثير في الأمن الأورو متوسطي وساعدها في التمدُّد صوب إفريقيا في ليبيا ودول الساحل الأوروبي.
إيران وروسيا من أكثر الأطراف الخارجية تأثرًا بالمتغير الجيوسياسي السوري، من غير المرجح قبولهما بمخرجات هذا التغيير، الذي ستكون نتيجته إخراجهما نهائيًّا من دائرة الفاعلية والتأثير في المنطقة، كما يملك الطرفان شبكات أتباع نائمة في سوريا يمكن تفعيلها وتوظيفها لإعادة عقارب الساعة إلى الخلف أو أقله الحصول على حصة من سوريا.
وتشكِّل إسرائيل خطرًا خارجيًّا آخر، في إطار مشروعها لتغيير الشرق الأوسط، والذي يهدف إلى تصميم بيئة إستراتيجية أمنية لإسرائيل على مدار العقود القادمة، وترى في الأوضاع السورية والتغيير الحاصل على حدودها الشمالية فرصة لتحقيق هذا الهدف، لذا سارعت إلى قضم المنطقة العازلة مع سوريا وإعادة احتلال قمة جبل الشيخ ذات الموقع الإستراتيجي المميز، ولا تخفي إسرائيل رغبتها في رؤية سوريا دولة ضعيفة مفككة إلى دويلات متصارعة على أسس طائفية وعرقية، وتبدي استعدادها لمساعدة بعض الفاعلين المحليين لإنجاز هذا الأمر.
تتطلب هذه التحديات من الإدارة السورية الجديدة التنبه للمخاطر الخارجية والحذر من إمكانية قدرة هذه الأطراف على العبث بالأمن والاستقرار الداخليين، وهذا يستدعي بالدرجة الأولى النجاح في إدارة التحديات الداخلية المذكورة وإغلاق النوافذ أمام أي اللاعبين من الخارجيين الذين لا يهمهم سوى مصالحهم حتى وإن كان على جثة الوطن السوري.
تحدي إدارة توازنات العلاقات الخارجية.
ليس خفيًّا التسابق على احتواء سوريا من قبل الفاعلين الإقليميين والدوليين، وثمة اعتقاد لدى أغلب الفاعلين بوجود فرصة للحصول على دور مؤثر في إعادة تشكيل المجال السياسي السوري بشقيه (الداخلي، الخارجي) بالنظر لحاجة النظام الجديد في دمشق للمساعدات المادية والتقنية، وحاجته إلى الاعتراف الدولي لتثبيت شرعيته والاعتراف بمكانته الدولية والإقليمية، وهي حاجة تبدو ملحة وتدركها الأطراف الخارجية التي تسعى إلى الاستفادة من المتغيرات واستثمار موقع سوريا الجيوسياسي المهم.
في هذا السياق، يبرز السعي التركي لتحقيق مكاسب جيوسياسية عبر التأثير على صانع القرار السوري والحصول على امتيازات جيوسياسية بعيدة المدى على صعيد الأمن والاقتصاد والسياسة، انطلاقًا من الدور التركي في مساعدة المعارضة المسلحة في إسقاط نظام الأسد، ورغم أن العلاقات التركية العربية تجاوزت عتبة الصراع مقارنة بما كانت عليه في العقد السابق، بل وتشهد تعاونًا وتنسيقًا ملحوظًا، ولا سيما مع الدول الفاعلة في المنطقة (مصر، دول الخليج العربي) إلا أن الأطراف العربية تعمل على إعادة تموضع في الملف السوري وإعادة صياغة مواقفها لتعزيز سيادتها وتمكين دورها، ولا ترغب في أن تكون سوريا موضعًا لتجاذبات إقليمية أو استعادة تجربة السيطرة الإيرانية على قرار سوريا مع تركيا، بالمقابل تتسابق الدول الأوروبية على حجز مكانة في صناعة مستقبل سوريا، وتحاول إزاحة الدور الروسي كشرط لتعميق العلاقة مع دمشق.
إزاء هذه اللوحة المعقدة من العلاقات، تحاول الإدارة السورية الجديدة المناورة وتحقيق أكبر قدر من المكاسب، لكنها مناورة خطيرة وتتطلب انتباهًا وإدراكًا للتعقيدات التي تنطوي عليها، ويتوجب على الإدارة في دمشق البحث عن صيغة توازن بها علاقاتها الخارجية دون الرضوخ لطرف معين ولا خسارة العلاقة مع طرف آخر.
التحدي الاقتصادي.
تواجه سوريا أوضاعًا اقتصادية معقدة انعكست بشكل كبير على الواقع الاجتماعي والمعيشي، فقد بلغ التضخم مستويات غير مسبوقة، وتوسعت شريحة الفقراء وغير القادرين على تأمين قوتهم اليومي لتشمل النسبة الغالبة من الشعب السوري، فالحرب تركت خلفها مشهدًا اقتصاديًّا منهارًا وبُنى تحتية مدمرة، احتياطيًّا إستراتيجيًّا من القمح والمواد الغذائية يساوي الصفر، وفوق ذلك فوضى إدارية ضاربة وعقوبات دولية تمنع الوصول إلى موارد خارجية.
حاولت الدول العربية تقديم مساعدات إسعافية عبر تسيير قوافل إغاثية لمساعدة الشعب السوري، لكن الإشكالية من يستطيع تسيير شؤون بلد بحجم سوريا يحتاج ميزانيات هائلة وسلاسل توريد غذائية وطبية ومواد نفطية لا تنقطع وضمن مدى زمني مفتوح الأفق؛ إذ تحتاج الإدارة الجديدة إلى زمن غير محدَّد لتأمين الاكتفاء الذاتي وتفعيل الإنتاج وإعادة تشغيل الأصول الاقتصادية، فيما تقف على الباب ثورة جياع بدأت تطرق على الحلل الفارغة وتحركها الأمعاء الخاوية.
ويبدو أن إدارة هذه المشكلة تنطوي على تخبط واضح من قبل الإدارة الجديدة، التي ترى أن أحد المعالجات المستعجلة للأزمة الاقتصادية تتمثل بتقليص عدد موظفي القطاع العام بشكل كبير لوقف استنزاف خزينة الدولة وتوظيف الفائض في ترميم البنى التحتية، بما يسمح بمنح الموظفين رواتب أعلى، لكن هذه المعالجة قد تتحول إلى علة عبر قذف ملايين من السوريين إلى البطالة دون توفير بدائل أخرى، كبرامج التأهيل والرعاية الاجتماعية، الأمر الذي من شأنه التأثير على الاستقرار السياسي الهش أصلًا والمخاطرة بأمن البلد.
وتتداخل الإشكاليات الاقتصادية في سوريا مع عنصرين، من شأن تفاعلهما أن ينتج ديناميكيات غير قابلة للسيطرة، فقد أعلنت الإدارة الجديدة عن عزمها تبني اقتصاد السوق أو النمط الليبرالي، وما يعنيه ذلك من رفع للدعم عن الكثير من السلع في ظل أزمة فقر خانقة وعدم قدرة المجتمعات على تأمين الحاجيات الأساسية، والعنصر الثاني الدعم الخارجي الذي سيكون حكمًا مشروطًا بمطالب محدَّدة أو بلغة أكثر دقة بتنازلات تقدمها الإدارة الجديدة على صعيد توجهات الحكم وسياساته المستقبلية ومواقفه تجاه العديد من القضايا الداخلية والخارجية، والمعلوم أن ثمَّة أجنحة داخل الكتلة المسيطرة على الحكم ترغب في تطبيق نموذج إسلامي محافظ، وسترفض بالتالي تقديم تنازلات على الصُّعد الاجتماعية والسياسية.
تحدي إدارة التنوع والتوازنات الداخلية.
من المؤكد أن تجربة هيئة تحرير الشام في إدلب، رغم غناها، إلا أنها تفتقد لخبرة إدارة التنوع، سواء على المستوى الطائفي والقومي، أو على المستوى الثقافي والحزبي؛ إذ لا يكفي إدارة علاقة جيدة مع بعض ألوف من الدروز ومئات من المسيحيين، وبعض شيوخ العشائر في إدلب، أو مع بعض الناشطين والتشكيلات الناشئة، لتعتقد الهيئة أنها تمتلك تجربة تؤهلها لإدارة التنوع المعقَّد في المساحة السورية.
تتمثل الإشكالية التي تواجهها الإدارة الجديدة بوجود مجتمع سوري متطيِّف إلى أبعد الحدود، بعد أن عمل النظام السابق على تحويل الهويات الطائفية والعرقية والجهوية إلى فواعل أساسية عبر إدارتها لشؤونها وعلاقاتها مع الآخر، واللافت اليوم أن الجميع يريد أن يتم التعامل معه وفق هذه الهوية والحصول على أساسها على حصته في سوريا الجديدة، ويعزز وجود هوية سياسية واضحة ومعلنة لقوى الحكم الجديدة (هيئة تحرير الشام) هذا التطيُّف نظرًا لوجود قاعدة اجتماعية واضحة وعقيدة معلنة ما يجعل الفضاء السوري فضاء مشبعًا بالتطيُّف، ويزيد من تعقيد الإشكالية السورية.
وتشي التعبيرات المختلفة الصادرة على المكونات السورية بوجود توجس من سيطرة سنية على مفاصل الحكم والدولة، وفرض منظومة قيم ونمط حياة لا يتناسب مع فئات أخرى، حتى داخل الطائفة السنية، وحتى اللحظة لا يبدو أن السلطة الجديدة في دمشق، ورغم إعلاناتها الكثيرة، تستطيع تقديم صيغة تطمينية لمختلف المكونات السورية.
وتواجه السلطة الجديدة في دمشق ضغوطًا متقاطعة من الخارج وقسمًا وازنًا من الرأي السوري بوجوب احتضان التنوع الاجتماعي عبر إقامة سلطة شاملة لكل المكونات، وستمثل الاستحقاقات القادمة مثل: الإعلان الدستوري، ومؤتمر الحوار الوطني، والحكومة التي سيجري تشكيلها، اختبارات لمدى قدرة السلطة الجديدة على إدارة التنوع في سوريا.
التحدي الأمني.
تُعد مهمة إعادة بناء الجهاز الأمني أحد أخطر التحديات التي تواجه الإدارة الجديدة في سوريا، فقد تعرضت الأجهزة الأمنية والجيش للانهيار التام طيلة سنوات الحرب، كما صدر قرار بحلها وبناء أجهزة جديدة من الصفر، وبرزت بدلًا من تلك الأجهزة الفصائل المسلحة التي قاتلت قوات النظام السوري، وهي تشكيلات مختلفة الإيديولوجيات والعقائد وتفتقد للتنظيم الأكاديمي، كما تختلف في الرؤى والتصورات حول كيف يكون الأمن السوري المستقبلي، وتحديد عقيدة واضحة للجيش، ولاسيما تحديد من هم الأعداء، في وقت أعلنت الإدارة الجديدة أنها لا ترغب في خوض صراعات خارجية ولم تحدد موقفها تجاه الأراضي التي تحتلها إسرائيل في الجولان.
المشهد الأمني السوري الراهن ينطوي على تعقيدات كبيرة، نتيجة لوجود العديد من الجيوش، ذات الولاءات والانتماءات المختلفة، وإلى جانب الفصائل المقاتلة التي استولت على السلطة، يوجد جيش النظام السابق والذي رغم تفكيك هياكله ما زال موجودًا ولا سيما في مناطق الساحل، بالإضافة إلى قوات سوريا الديمقراطية” قسد” التي تتبع للإدارة الذاتية الكردية في شرق سوريا، وفصائل الجنوب التي تتشكّل من قوات درزية في محافظة السويداء وفصائل درعا، ويكاد يكون صهر هذه التشكيلات في هيكل واحد أمر بالغ الصعوبة نظرًا للتضارب في العقائد والتصورات بينها.
وتتمثل الإشكالية في تخوّف تلك التشكيلات، التي تمثل حساسيات طائفية وعرقية وجهوية، من أن يتم بناء جيش ذي لون واحد تحت سيطرة الطائفة السنية، وتهميش بقية المكونات العرقية والطائفية، الأمر الذي من شأنه الانعكاس على موقع ومكانة تلك الأطراف ودورها في سوريا الجديدة، ولا سيما أن جميع هذه الأطراف عانت من التهميش في ظل نظام الأسد نتيجة سيطرة مكوِّن واحد على الجيش والأجهزة الأمنية.
والسؤال اليوم، كيف يمكن للنظام الجديد إدارة هذا التحدي وبناء جيش احترافي ومهني وأجهزة أمنية وطنية في ظل سيادة حالة من عدم الثقة والشك بين مختلف المكونات السورية؟ ما لا شك فيه أن هذه المسألة ستكون أحد الاختبارات الحقيقية لتعزيز الأمن والاستقرار في سوريا الجديدة.
المآلات: سيناريوهات المرحلة المقبلة.
ثمّة ثلاثة سيناريوهات محتملة لتطور الأوضاع السورية:
السيناريو الأول: الاستقرار والتنمية، يرتكز هذا السيناريو على مجموعة من المعطيات، يأتي في مقدمتها الرغبة الإقليمية والدولية في الانتقال إلى أحوال مستقرّة والخروج من حالة الحرب والصراع في سوريا، وقد كان الاحتضان العربي واضحًا ومعبرًا عن هذه الرغبة، في ظل تقاطع المصالح العربية والدولية في الرغبة برؤية مشهد سوري مختلف عما كانت عليه الأمور في العقد الماضي، والتي لم تسلم من تداعياتها أي من هذه الأطراف القريبة والبعيدة.
في ظل هذا السيناريو، من المحتمل إعادة صياغة النخبة الجديدة عقيدتها وأيديولوجيتها وإعادة التموضع الفكري والسلوكي للوصول إلى نمط إسلامي محافظ قريب من النمط التركي المقبول نسبيًّا على الصعيدين (الداخلي، الخارجي). ويبدو أن تحقيق هذا السيناريو سيعتمد بدرجة كبيرة على مقدرة تكيُّف هيئة تحرير الشام مع متطلبات السياستين (الداخلية، الخارجية) وهذا السيناريو هو الأكثر احتمالًا لقربه من المعطيات والمؤشرات المتوفرة.
السيناريو الثاني: الدخول في صراعات وانقسامات نظرًا لتأثير عاملين أساسيين: العامل الداخلي، ويتمثل بعدم قدرة الأطراف الداخلية التوصل إلى مقاربة للتشارك في الحكم والاتفاق على صيغة ترضي جميع المكونات والحساسيات لإدارة البلاد. والعامل الخارجي، المتمثل بوجود أطراف إقليمية (إيران، إسرائيل) ودولية مثل (روسيا، الولايات المتحدة الأمريكية) تعتقد أن مصالحها ستتضرر من نجاح طرف سوري في توحيد البلد ما قد يؤثر على التوازنات الإقليمية والدولية ويغير الواقع الجيوسياسي لغير صالحها بعد أن كانت هذه الأطراف أكثر الفواعل دورًا وتأثيرًا في سوريا.
يتعزَّز هذا السيناريو من خلال تقاطع مصالح أطراف داخلية مع الفاعلين الخارجيين في رفض التغيير الحاصل في سوريا واستلام سلطة جديدة للحكم.
السيناريو الثالث: استمرار حالة الفوضى والاضطراب دون الوصول إلى حرب أهلية معلنة ولا التوافق على مقاربة موحدة للحكم، ويرتكز هذا السيناريو على ضعف الإدارة الأمنية وعدم القدرة على تحسين الأوضاع الاقتصادية بشكل كبير.
أمام الإدارة السورية الجديدة العديد من الفرص والمخاطر، يمكن تحويل التحديات إلى فرص في حال معرفة كيفية إدارة الأوضاع وتفكيك العقد وتجاوز المطبات، وهي أمور تحتاج إلى مرونة في معالجة الإشكاليات والتوصل إلى تطوير مقاربات مناسبة ووضع قائمة أولويات تتناسب مع ما تحتاجه سوريا لتطوير اقتصادها وتعزيز استقرارها وسلمها الأهلي.