تكررت الحوادث الإرهابية فى فرنسا والتي قام بها مهاجرون مسلمون، كما شهدت عدة دول أوروبية أخرى من قبل حوادث مماثلة وإن كانت محدودة، وكان لها ردود أفعالها في بعض دول العالم الإسلامي، فضلًاعن انعكاسها على الجاليات الإسلامية فى الدول الأوروبية، ومحرك هذه الحوادث ناجم عن سلوكيات أطراف أوروبية مسَّت رموز إسلامية لها اعتبارها ومكانتها، وتتمثل بعضها فى رسوم مسيئة للنبي (محمد عليه السلام) وقد برَّرت السلطات الأوروبية موقفها السلبي تجاهها، وبالقول أنَّها تستند لمبدأ حرية التعبير، وهو مبرر لم يلقَ قبولًا من مختلف الأوساط الإسلامية فما هي خلفيات هذه المشكلة وسُبل التعامل معها؟
وظاهرة الهجرة ثلاثية الأبعاد، الطرف الأول فيها: هو المهاجر نفسه بظروفه ودوافعه وثقافته، والطرف الثاني: هو الدول المضيفة وثقافة الهجرة السائدة فيها ومفهوم الاندماج ومدى ملاءمتها، والطرف الثالث: هو الوطن الأم والأطر المنظمة لعلاقته بمهاجريه، فضلًا عن الأحداث التي تدور فيها، وسنبحث بإيجاز لضيق المجال في علاقة هذه الأطراف الثلاثة بالحوادث الإرهابية التي تقع بين الحين والآخر فى الدول المضيفة، ومدى تأثير مفهوم وثقافة الهجرة المطبقة والسائدة.
1-الطرف الأول (المهاجر):
للهجرة تداعيات وتفاعلات اجتماعية وثقافية ونفسية بالنسبة للمهاجر تختلف درجاتها ومستوياتها من حيث آثارها السلبية والإيجابية، تبعًا لظروف وأوضاع كل مجتمع وظروف كل مهاجر بل وكل مرحلة، فإذا كانت الهجرة فى مقوّمها المادي، تمثل رحيلًا من الوطن سعيًا وراء توفير متطلبات مادية أو نفسية أو اجتماعية أو سياسية فإنَّه يقابلها من الناحية الأخرى حاجة الدول المضيفة للأيدي العاملة؛ لتصحيح الهرم الديمغرافي المائل للشيخوخة، وللهجرة وجه آخر يتعلق بمجموعة من القيم والمبادئ التي يحملها المهاجر معه من وطنه الأم، وتلك التى يواجهها فى بلد الهجرة، وهو ما يتطلب إعادة تشكيل شخصيته من خلال التوفيق والمواءمة بين ما هو أصيل من قيم وعادات وتقاليد موروثة، وما هو طارئ ومتغير فى بلاد الهجرة، فالمهاجر فى المراحل الأولى يحاول انتزاع نفسه من بيئته الاجتماعية ووسطه العائلي ومحيطه الثقافي والديني؛ ليعيد زرع نفسه فى وضع شبيه بزراعة الصوبات فى بيئة غير مألوفة تمامًا له، وهى مسألة نفسية ومعنوية بالغة الصعوبة إنسانيًّا وعادة تستغرق عملية التكيف والمواءمة فترة زمنية تطول أو تقصر حسب استعداد كل مهاجر وقابليته للتكيف مع آليات الاندماج ومستوى القبول به فى المجتمع المضيف (ثقافة الهجرة لدى المجتمع المضيف).
ويتوقف مدى تفاعل المهاجر وسرعة اندماجه فى مجتمع الهجرة على خلفيته الثقافية والحضارية. فالنشأة الأولى والتى شكَّلت وجدانه، ومدى نضوجه الفكري والنفسي، والأسباب التى دفعته للهجرة وتتوقف محصلة هذا التفاعل فى النهاية على مدى ما يتخلى عنه المهاجر لبعض ما حمله معه من موطنه الأصلي من زاد ثقافي واجتماعي وديني، ومدى قدرته على تبنى معايير حياتية جديدة مغايرة يتوقع أن توفر له إشباعًا نفسيًّا وماديًّا تتمثل بإعادة التقدير للنفس، وبمدى ما تُشعره بأنَّه قد أصبح عضوًا فاعلًا فى مجتمعه الجديد، يتقاسم معه الأرضية الثقافية والحضارية نفسها، وتتوقف محصلتها ونتاجها فى النهاية، على مدى التلاقي بين استعداد المهاجر للاندماج من ناحية، وبين ما تسمح به أوضاع وظروف بيئة الدول المضيفة من عوامل ميسرة لهذا الاندماج أو معرقلة لها، وارتباط ذلك بمفهوم الهجرة المطبقة فى الدول المضيفة.
2-الطرف الثاني (الدول المضيفة):
الاندماج كلمة تتسم ببعض الغموض، وتتعدد معانيها ودلالتها بتعدد أطرافها فهي فى أحد هذه المعاني قد تعني (التكامل) أو نوعًا من الثنائية التوفيقية أو التفاعل الديناميكي (الجدلي)، وقد عرَّفت منظمة الهجرة الدولية الاندماج بأنَّه عملية ذات اتجاهين للمواءمة المتبادلة بين المهاجرين والشعوب المضيفة وفي الوقت نفسه الذي يتعلم كل طرف من ثقافة الآخر المغايره، فإنَّ الفرد أو المجموعة العرقية يظلُّون محتفظين ببعض ميراثها الثقافي، وفى ظل هذا الوضع، فإنَّ المجتمعات المستقبلة تظل هي المجموعة المهيمنة.
وعملية الاندماج ليست بالعملية السَّهلة فهي تتعلق بالسعي للتوصل إلى وفاق بين طرفين إنسانيين مختلفين، وهذه الصعوبة لا تقتصر على المهاجرين العرب والمسلمين وحدهم، بل تواجهها الفئات المهاجرة أيًّا كانت جذورها الأصلية وانتماءتها الدينية والثقافية، كـ (الهنود والأفارقة والصينيين وغيرهم).
وتعود أهمية تحقيق أكبر قدر من الاندماج إلى أنَّها تسمح بحدوث تفاعل إيجابي بين المكتسبات الثقافية والاجتماعية للمهاجر ، وقيم الحضارة التي أصبح يعيش في محيطها، وكلما تزايد الإسهام المتجدد فى تبادل العطاء الإنساني، وبالمزج الواعي بين ميراث المهاجر وحاضره المستجد فى أوطان الهجرة، وتعزيز التواصل الاجتماعي الإيجابي بينهما ، تتحدد حجم النتائج للجانين.
واندماج المهاجرين المسلمين فى المجتمعات الأوروبية يتطلب من جانبهم تنازلات لا تقتصر على العادات والتقاليد الاجتماعية، لكنَّها تمس فى تقديرهم دائرة (الحلال والحرام)، الأمر الذى يصعب على الكثيرين منهم قبوله، ويتمسكوا بتعاليم دينهم وفقًا لمرجعيتهم الدينية، فهناك شرائح بالنسبة للمهاجر المسلم تتضمن أحكام تتعلق بقضايا مثل: (الزواج والطلاق والميراث) تفرضها الشريعة لا يستطيع فى معظم الحالات تجاوزها، ومن هنا تأتي أهمية مفهوم الهجرة المطبق فى الدولة المضيفة.
3-أهمية مفهوم الهجرة المطبق فى الدولة المضيفة(Integration).
تُطبِق بريطانيا مفهومًا للاندماج يقوم على التعددية العرقية والتعددية الاجتماعية، بل والتعددية اللّغوية، وهو مفهوم يسمح بإتاحة مساحة للتعبير لكل جالية أو عرق، ويسمح بالاحتفاظ بجانب من ثقافتهم، وتقاليدهم ومعتقداتهم الدينية فى إطار القانون، ولذلك يوصف النموذج البريطاني أحيانًا بأنَّه (نصف استيعاب) فهو يسمح بالتفاعل مع المجتمع المضيف فى أحداثه ونشاطاته، ولقد ثبت نجاح هذا المفهوم نسبيًّا.
أمَّا فى إطار مفهوم “الاستيعاب”(Assimilation) ، والذي تُطبقَه حاليًا فرنسا، فإنَّه يتطلب أن يصبح المهاجر جزءًا لا يتجزأ من المجتمع الفرنسي الذى هاجر إليه، ويعيش فيه، والذي يعتبره وطنه الجديد، وينشغل بهمومه ومشكلاته، وينفصل عمَّا يحدث في الوطن الأم، وعن ما ورثه الآباء والأجداد وتاريخهم وثقافتهم وهو على هذا النحو مفهوم ويتطلب وقتًا طويلًا لتحقيقه جزئيًا.
وفى بريطانيا لا تُناقش أصلًا قضية مثل ارتداء الحجاب من جانب المسلمات هناك أو الملابس الوطنية الخاصة بهم فى المدارس والجامعات أو الدوائر الحكومية بينما يثير ذلك التحفظ والرفض فى فرنسا. فمع بداية عام(2004 م ـــ2005 م) تم طرد قرابة (40) طالبة مسلمة رفضْن خلع حجابهنَّ ورسبن وسبق ذلك صدور موافقة البرلمان الفرنسي في ( 10/2/2004 م) بأغلبية كبيرة على قانون يحظر ارتداء الرموز الدينية داخل المدارس الحكومية للحجاب. وتجدر الإشارة إلى أنَّ (المجلس الإسلامي الأوروبي للإفتاء والبحوث) ذهب إلى حد اعتبار ذلك من أشد أنواع الاضطهاد والذي لا يتفق مع القيم الفرنسية الداعية إلى احترام كرامة المرأة وحريَّاتها الشخصية والدينية.
والنموذج الفرنسي يقوم على مفهوم الدمج الذى يسعى إلى (فرنسة) المهاجرين تدريجيًا، وتحاول الجاليات الإسلامية فى فرنسا التعايش مع المفهوم الفرنسي برغم معاناتها، مع السعي للاحتفاظ بحق الاختلاف من حيث هو مفهوم موازٍ، وهو الذي لم تتمكن هذه الجاليات من تفعليه وممارسته حتى الآن، وقد ظهر ذلك بشكلٍ واضحٍ فى موضوع (الحجاب)، وهو ما أسفر عن أحداث عنف استمرت لعدة أيام خلال شهري (أكتوبر/ نوفمبر2005 م)
وفى الواقع هناك تباين بين النموذج الفرنسي لدمج المسلمين ، والنموذج البريطانى. فمستوى التعبير عن الإسلام الثقافي والإسلام الشعائري مثلًا أكثر إتساعًا فى النموذج البريطاني، أمَّا المفهوم الفرنسي فإنَّه ينطلق من ضرورة تفتيت التجمعات العرقية والدينية والعمل على تذويبها فى بوتقة الأنصار الثقافية والاجتماعية الفرنسية، وهذا يعطي هذه التجمعات هامشًا أقل من التعبير الثقافي المستقل.
4-مسألة حرية الرأي والتعبير هل هى مطلقة؟
لقد برَّرت السلطات الفرنسية أكثر من مرة عدم قدرتها على التدخل لإيقاف ممارسات الإساءة للدين الإسلامي ورموزها بحجة أنَّ ذلك يمس الحرية الأم، وهي حرية الرأي والتعبير والإبداع الفني، وهذا القول ترد عليه الملاحظات التالية:
- إنَّ أكثر ما يهدد حرية الرأي والتعبير أن يكون الإيمان بها شكليًّا أو سلبيًّا بل يتعين أن يكون الإصرار عليها مقبولًا بتبعاتها من مختلف الأطراف ، والقول بأنَّه لا يجوز أن يفرض أحد على غيره صمتًا ولو بقوة القانون، مردود عليه بأنَّه لا توجد حرية مطلقة، وإذا كانت الحرية هى أصل جميع الحقوق، بل أنَّها أسبق من الحقوق من ناحية النشأة، الأمر الذى يجعل للحرية بالضرورة مضمونًا أوسع، ويجعل لها جانبًا إيجابيًّا وآخر سلبيًّا فى وقت واحد، بمعنى أنَّ للفرد إمكانية الفعل الحر أو عدم إتيانه فى نفس الوقت، وذلك مع عدم الإضرار بالآخرين (المسلمين) في فرنسا الذين يحتلون المكان التالي عددًا بعد المسيحيين الكاثوليك.
- ولا يوجد تعارض بين الحرية والتنظيم، بل إنَّ التنظيم هو الذي يعطي المناخ الملائم لممارستها، وبدون التنظيم تصبح الحرية فوضى لا يمكن لفرد أن يتمتع بحريته فى ظلّها، وتستمد الحكومات سلطتها فى تنظيم ممارسة الحريات من مسئوليتها فى حفظ النظام العام فى الدولة، ونسبيّة الحريات يُعنِي أنَّها ليست مطلقة أو تمتنع عن القيود والحدود، وإذا ما تطلب الأمر فرض بعض القيود والحدود عليها، ومن الأهمية بمكان الوصول إلى نقطة التوازن بين الحرية الفردية من ناحية، وبين الاستقرار الاجتماعي للدولة، وعلاقاتها بالأطراف الأخرى ذات العلاقة.
- إنَّ حرية الرأي والتعبير لا ينبغي أن تُطِل الحقائق والقيم الرمزية للآخرين ،(وجاستن تروده) رئيس وزراء كندا لم يتردد عن القول: “بأنَّ لحرية التعبير حدود، وأن يتم التصرف مع الآخرين باحترام معتقداتهم وألاَّ يجرح مشاعرهم، وموقف رئيس (اسقافة تولوز) وهو أحد أعمدة الكنيسة الكاثوليكية فى فرنسا الذي امتلك الشجاعة ليوضح:” أنَّه لا يحقّ لأحدٍ أن يسخر من الأديان، وأنَّ الرسم الذي نشرته الصحيفة الفرنسية لا يسيئ للإسلام وحده وإنَّما يسئ للمسيحية أيضًا”.
- كما يرى البعض أنَّ الرسم المنشور لا ينطوي على رأي، ولا يُعبر عن موضوع قابل للنقاش، وإنَّما هو بمثابة تحرش عنصري وعداون مجاني معتمد على مواطنين فرنسيين وعلى عقائدهم الدينية. وإذا كانت حرية التعبير هى حق من حقوق الإنسان، فإنَّ نشر الصحيفة هذه الرسوم المسيئة يعتبر على هذا النحو، وفى حد ذاته أول من يسئ لحرية التعبير ويجردها من محتواها إذا تحولت إلى مطية أو غطاء للعدوان على الآخرين بلا مبرر واستفزازهم خاصة ًعلى من لا يملكوا القدرة على الرد.
- يجب أن يكون هناك تعاملًا واحدًا مع مختلف الأديان، فوزير الداخلية الفرنسي اعترض على السماح مثلًا بوجود أقسام خاصة بـ (الطعام الحلال) في المحلات بينما توجد مثلها محلات للطعام اليهودي (كوشير)، ثم أنَّ قانون (العداء للسامية) لا يسمح لأخر بالتشكيك فى محرقة اليهود منذ عام 1998 م. وقد أدانت المحكمة الفيلسوف (روجيه جارودي) بتهمة التشكيك فى هذه المحرقة في كتابة الأساطير (المؤسسة لدولة إسرائيل)، وصدر حكم بسجنه لمدة سنة، وفى نفس الوقت الذي تُقدس فيه الديانة الإسلامية كل الأنبياء والرُّسل ولا تُسِئ لأىّ منهم، فهي لا تقبل إهانة النبى موسى ولا يسوع المسيح عليه السلام، ومن هنا ألم يكن عمرو موسى محقًا حينما قال :”أن تكون اللاسامية جريمة بينما الإساءة للإسلام وجهة نظر” ووفق هذا المنطق فإنَّ الإساءة الرخيصة التي وُجّهت للإسلام بصوره مختلفة، وللدين الذي يعتنقه (1.5) مليار مسلم على وجه الأرض لا يكون له قيمة مساوية (أسامة الغزالي حرب – الأهرام 4/11/2020 م) . ويُذكّرنا الكاتب عبدالله الأسناوي بما سبق أن كتبه محمد حسنين هيكل في هذا الشأن بقوله: “أنَّ الهدف الأساسي من تكرار عملية الإساءة إلى الرموز الإسلامية هو استدراج العرب والمسلمين؛ لتثبيت الانكسار وتعميقه فى العقل وفى الإرادة لديهم، والسبيل إلى ذلك هو استثارتهم بين الحين والآخر مما يدفعهم أكثر فأكثر إلى عزلة البحر الميت وملوحة مياهه ومرارتها، فقد اكتشفوا أنَّه يكفيهم أن يلمسوا الثقافة العربية الإسلامية فى عزيزٍ عليهم، فإذا هي تستثار وتغضب، ثم تتراجع وتتباعد بحيث تعزل نفسها وتتنازل أكثر فأكثر عن نصيبها فى شراكة الحضارة (الشروق 19/11/2020 م)
5-خطاب الرئيس الفرنسي ماكرون بشأن الأزمة الراهنة وما أثاره:
قام الرئيس الفرنسي بتوجيه خطاب للشعب الفرنسى دعا فيه إلى الحرص على القيم التى تقوم على أساسها الجمهورية الفرنسية، وهاجم فيه ما أسماه بالانفصالية الإسلامية، بمعنى قيام البعض باستخدام الإسلام للانفصال عن مبادئ وقيم الجمهورية.
وعرض ماكرون إستراتيجية شاملة للتعامل مع هذه الظاهرة تقوم على عدة محاور منها إجراءات تستهدف حياد جهاز الخدمة العامة ومنع استخدامه لنشر الفكر المتطرف، والحد من استخدام الجمعيات الأهلية التى تقدم أنشطة رياضية أو ثقافية أو فنية أو غيرها كستار لنشر الفكر المتطرف، وزيادة الرقابة على المدارس؛ لتحقيق التزامها بالمبادئ المدنية، وإنهاء نظام أئمة المساجد المعارين من الخارج والبدء فى تدريب الأئمة بفرنسا، وتشديد الرقابة المالية على المساجد (وهو ما سنعود إليه لاحقًا).
وصدرت من ماكرون الكثير من العبارات في هذا السياق التى اعتبرها البعض مسيئة للدين الإسلامي وتمثل استفزازًا لعموم المسلمين، ففى خطابه المشار إليه وصف الإسلام بأنَّه يواجه أزمة فى جميع أنحاء العالم، وفى أكتوبر وخلال احتفالية التأبين الوطني التي أقيمت للمدرس الذي تم اغتياله، قال ماكرون :” أنَّ فرنسا ستدافع عن الحرية وستروج للعلمانية ولن تتخلى عن الكاريكاتور والرسومات حتى وإن تراجع البعض”. وقد أثارت هذه العبارات موجة ضخمة من الانتقادات بين العديد من المسلمين فى جميع أنحاء العالم، وتَبنِي بعض الدول الإسلامية دعوات لمقاطعة السلع الفرنسية.
فقام الرئيس الفرنسي فى مقابلة لقناة الجزيرة بمحاولة لمراجعة الذات، أَوضح فيها عدة نقاط من بينها أنَّ المسلمين ينتمون بصيغه مطلقة للمجتمع الفرنسي وأنَّ كلامه جرى تحريفه، وأنَّه ليس مؤيدًا للرسوم المسيئة، وأنَّ ما يمارس بسم الإسلام هو آفة للمسلمين بالعالم، وأنَّ أكثر من ثمانين بالمئة من ضحايا الإرهاب هم من المسلمين.
وقد حاول الرئيس الفرنسي بخطابه توجيه رسالة للعالم الإسلامي يعالج بها الانطباعات السلبية لخطابه في حفل تأبين المدرس الذي اغتيل، ولكنَّه لم يذهب بعيدًا في خطابه لمحاذير سياسيه. فالأحزاب اليمينية والشعبوية، تزايدت شعبيتها، وموضوع كـ(قضايا المهاجرين المسلمين في الدول الأوربية)، موضوع له حساسياته وحساباته والتي تجعل رجل السياسة الأوروبية يميل لأساليب المناورات السياسية، أو السياسة المسيّسة المتسمة بالحذر والابتعاد أحيانًا عن حقائق الموقف، لاسيما أنَّ بعض هذه الأحزاب الأوروبية تولت الحكم في بلدها، كالنمسا مثلًا، والبعض الآخر أصبح قريبًا من هذا الوضع
6-الإسلاموفوبيا وتأثيرها على اندماج المهاجرين:
إنَّ ظاهرة الإسلاموفوبيا، تُعَدُ من أخطر الإشكاليات التي تواجه المهاجرين المسلمين في الدول الأوروبية خاصةً بعد أحداث (11 سبتمبر 2001 م)؛ بسبب ما نتج عنها من تعامل مع هؤلاء المهاجرين بأساليب تتسم بالكراهية، وترسيخ صوره سلبية للمسلمين، وظهور اتجاه يحاول إثبات كيف أنَّ الجهاد والعنف، وحتى التفجيرات الانتحارية لها جذور عميقة في الدين الإسلامي؟ وقد عمَّم الغرب ما أسماه (الأصولية الثقافية الإسلامية) التي تُعني رفض المسلم كل جديد، والتمسك بالقديم وممارسة العنف في الداخل والخارج، وتكفير المجتمعات الأخرى.
في الوقت الذي حاول فيه بعض الكتاب الغربيين نفي هذه السمات التي يحاول البعض لصقها بالإسلام والمسلمين من ذك قول الباحث الفرنسي (أوليفير) روي في كتابه (الإسلام المتعولم) :”أنَّ الجماعات المتطرفة ليست نتاج فرعي لشيء موروث أو أساسي في الإسلام أو النظام الثقافي الذي أنتجه هذا الدين، وتجدر الإشارة هنا إلى تأثر المهاجرين بمواقف دول المهجر من القضايا العربية، كالقضية الفلسطينية، والأحداث التي رافقت الاحتلال الأمريكي للعراق (2003 م) ،والأحداث الجارية حاليًا في سوريا، وقيام بعض المهاجرين المقيمين في الدول الأوروبية، بالسفر إلى مناطق النزاع والمشاركة فيهاــ كما في الحالة السوريةــ وهو ما تحاول مؤخرًا بعض الدول الأوروبية منعه، وأصبحت تعاني من تداعياته، فضلًا عن أنَّ بعضها أحتضن عناصر منسوبة لتيار الإسلام السياسي ومنحها حق اللُّجوء.
وفى الواقع فإنَّ مسلمي فرنسا يجدون أنفسهم في موقف صعب، بين إتباع الطريق الأكثر أمانًا المترتب على قانون صون العلمانية، وضرورة الإنصهار فى قيم الجمهورية، وبين محاولات شريحة من الأصوليين ــ وهم أقلية محدودة ولكنَّها ذات صوتٍ عالٍ ــ فرض وصايتها على الجاليات الإسلامية بوسائل متعددة منها: الضغط المستمر المسَّلط على النساء فى الشارع وفى أحيائهن وداخل أسرهم وخاصةً وسط تربة تتغذى من خلالها الأفكار الأصولية وفى مقدمتها: تدهور أوضاع الضواحي التى تعيش فيها الجاليات الإسلامية، فهى التي ولَّدت مشاعر الإحباط ويستغلها الأصوليون باقتراحهم بدائل، تتمثل في العودة إلى ما يدعونه قيم الإسلام، ويرى بعض الباحثين أنَّ السبب الرئيسي لانجذاب المسلمين إلى التنظيمات الأصولية يعود فى الواقع إلى قضايا العنصرية وإلى الإقصاء والبطالة، وممارسات قوات الأمن الفرنسية ضد المهاجرين، وهذه هي الظروف التي دفعت بهؤلاء إلى أن يقيموا مجتمعًا خاصًا بهم بعيدًا عن المجتمع الفرنسي.
وليس معنى ذلك أن نعلق أخطاءنا على شماعة الإسلاموفوبيا فهناك سلوكيات وتصرفات يقوم بها بعض المهاجرين المسلمين تُسئ للإسلام والمسلمين وهنا يجئ دور الأئمة والمثقفين فى توعيتهم للابتعاد عن هذه المساوئ.
وبالمقابل يلاحظ تزايد حدة ما يسمى بـ (ظاهرة الإيروفوبيا) التى تربط بين الإرهاب والإسلام، لا سيما من جانب الأحزاب والجمعيات الأوروبية اليمنية، وهي التى جعلت أحد أبرز أهدافها طرد المسلمين من المجتمعات الأوروبية وقد أسهم ذلك فى زيادة مظاهر التضييق على المسلمين الأوروبيين فى حياتهم اليومية، ومناسباتهم الدينية، وزادت حدة مظاهر المشاعر العدائية فى وسائل الإعلام إزاء الجاليات الإسلامية، حيث تعمد بعض الصحف والقنوات التلفزيونية تقديم صورة الإسلام بشكلٍ يشوه بعض الرموز الإسلامية وبصورةٍ غير مطابقة لواقع وحقيقة الإسلام.
7-في تشديد الرقابة على اختيار الأئمة ومعاييره:
لا تَشعر بعض دول المهجرـــ كفرنسا مثلًاــ بالارتياح من تنافس الأطراف الإسلامية الخارجية ذات العلاقة (ببناء المساجد)، فضلًا عن التنافس على تعيين الأئمة، ومصدر القلق الفرنسي يرتبط بما يروجه هؤلاء الأئمة من مفاهيم وفتاوي قد تكون متطرفة، وتترك تداعياتها السلبية على الداخل الفرنسي، وقد وجدت السلطات الفرنسية أنَّ استمرار هذا الوضع يتعارض مع مفهوم (الاستيعاب) بل ويعرقله، فقررت أن تتدخل في حلقة اختيار الأئمة بالحد من الاستعانة بأئمة يأتون من الخارج، للحيلولة دون اختيار أئمة قد يتسمون بمواقف متطرفة في اجتهاداتهم في تفسير بعض الآيات أو فتاويهم، وذهبت إلى أبعد من ذلك بإعداد برامج للأئمة الذين يعينون من الداخل؛ لتأهيلهم في معاهد فرنسية قبل السماح لهم بمزاولة عملهم.
إنَّ التعامل مع هذه الأزمة يتطلب الموازنة بين الضغوط الناجمة عنها ورشادة القرار، وبدوره فإنَّ صُنع القرار في مثل هذه الأزمة يرتبط بعنصرين: الأول ذو طبيعة إدراكية هو تعرُّف صانع القرار على الحقائق المرتبطة بها، والآخر تنظيمي وهو يتعلق بوضع الأسس والآليات المناسبة للتعامل معها. وقد ركز الرئيس ماكرون على الإطار التنظيمي بقدر أكبر من اهتمامه بأوضاع المهاجرين المسلمين وأحيائهم، وهو الجانب الأهم في تقديرنا.
ويرجع الاهتمام بخطباء المساجد في فرنسا إلى ترديد ما يناسب ميولهم السياسية عندما يدلون بخطبهم تكون أعين بعضهم أحيانًا مسدده على الاستحسان التجييشي الذي ستلقاه كلماتهم عند السامعين، دون الشعور بوخز ضمائرهم لمشاركتهم بوعي أو بغير وعي في موجة التطرف ودون الاهتمام بالتوعية والنقد الذاتي والسعي للإرتقاء بمضمون هذه الخطب إلى أفق إنساني واسع بتشجيع الاندماج، مما يساهم في هدم جدران (الجيتو) الاختياري لبعض أفراد هذه الجاليات، وإدراك أن واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس دعوة للفوضى، ويمكن الرجوع قدر الإمكان لما يتيحه (فقه الأقلية) من تيسيرات للمهاجرين المقيمين في دول غير إسلامية. وبالمقابل يجب مراجعة المواد التعليمية والإعلامية الفرنسية التي تشوه صورة الإسلام والمسلمين، بهدف تذويب حالة (الاستقطاب غير السوي) وخلق حالة إيجابية جديدة، تقلل الإحساس بالغربة، فضلًا عن بذل مزيد من الاهتمام بأوضاع المسلمين المعيشية من الجانب الفرنسي، باعتبار هذا الجانب يمثل جوهر المشكلة.
وضمن هذا الإطار جاء بحث الرئيس ماكرون مؤخرًا (الخطوط العريضة لتشكيل مجلس وطني للأئمة يكون مسئولًا عن إصدار الاعتمادات لرجال الدين المسلمين في البلاد أو سحبها منهم)، وتضمَّن بعض التوجهات بينها: أنَّ الإسلام في فرنسا هو دين وليس حركة سياسية، وأنَّه يجب النص على إنهاء التدخل أو الإنتماء لدولة أجنبية، وإعتمادًا على دور الأئمة، سيتعين على كل إمام الإلمام باللغة الفرنسية، وحيازة شهادات دراسية يمكن أن تصل إلى المستوى الجامعي، هذا فضلًا عن اجتيازهم لدورة تأهيلية. وحدد ماكرون مدة أربع سنوات لإنتهاء وجود مئتي إمام أجنبي في فرنسا (مبعوثين) من تركيا والمغرب والجزائر.
ما هو الحل؟
من الطبيعي أن نتساءل في ختام هذه الدراسة عن الحلول المقترحة لحل هذه الأزمة. من المؤكد أنَّ قتل المدرس عمل إجرامي مدان وترفضه القيم الإنسانية المشتركة والقوانين والأعراف والمواثيق الدولية ويتعارض مع قيم الإسلام الداعية إلى منع العنف وقتل الناس، كما أن مقتل (2) وذبح امرأة بحادث طعن في كنيسة بمدينة نيس الفرنسية، هو عمل إرهابي مشين، استنكرته كل الأوساط الإسلامية.
وفي بحثنا عن الحلول لهذه الأزمة وجدنا في الواقع أنَّها أزمة سياسية، تستوجب البحث عن حل سياسي ملائم لها. فأزمة الرسوم المسيئة والتي تثور بين الحين والآخر، بل وتتجدد بشكلٍ أسوأ نتيجة لغياب الإرادة السياسية لحلها بحجة عدم المساس بحرية الرأي والتعبير، والسياسة في أحد معانيها تعتمد في أحيانٍ كثيرة على أحكام قيمية وأخلاقية وثيقة الصلة بالفلسفة السياسية السائدة في الدولة والحرية والمساواة والأخوة، هو شعار الجمهورية الفرنسية الموروث من عصر التنوير خلال الثورة الفرنسية إلى أن تم إدراجه في دستور عام 1958 م؛ ليمثل اليوم جزءًا أساسيًا من تراث فرنسا الوطني.
وللسعي لإيجاد حل ينهي هذه الأزمة ينبغي أن يبدأ بتوصيفها. فنحن أمام مشكلة اجتماعية ترتبط أساسًا بثقافة الهجرة، وثقافة المجتمع والقرار السليم بشأنها هو الذي يتم على أساس معطيات واضحة، يمكن في ضوئها تحديد عناصر الحل بعيدًا عن حسابات أنانية تستهدف مصالح انتخابية عابرة.
وعلى ضوء ما تقدم، نظن أنَّ حل هذه الأزمة التي ترتبط أساسًا بأوضاع داخلية، أصبح لها بعدًا خارجيًّا، يتمثل في ردود الفعل الشعبية الغاضبة في معظم الدول الإسلامية.
وعلينا الحذر والانتباه إلى أهمية عنصر الوقت في حلها، فمثل هذه القضايا تشبه كرة الثلج التي إذا تركت تتدحرج، دون السعي لإيقافها، فإنَّها تكبر وتكبر، وقد يؤدي ذلك إلى تحولها من ظاهرة عارضة إلى مشكلة بنيوية (structural) وتصبح مشكلة أكثر تعقيدًا، بعد أن يتشكل لها دعائم داخلية راسخة وركائز ذاتية تتمثل في مواقع الأحزاب اليمينية والشعبوية المعادية للأجانب، وسعيها لزيادة حدتها وتوسيع نطاقها.
قد لا تكون أزمة الرسوم الكاريكاتيرية سوى مجرد بداية لسلسله من أزمات أخرى أكثر خطورة إذ ظلَّت الأمور كما هي وزاد تصلب كل طرف إزاء الآخر، وعند ذلك ستتحقق نبوءة صامويل هنتنجتون وتتجه الساحة لصدام الحضارات الأوسع على طول الخطوط بين الغرب والإسلام.
والحل المناسب والحاسم يتوفر في اقتراح الإمام الأكبر شيخ الأزهر الشريف في صياغة تشريع عالمي يحرم الإساءة للأديان ورموزها ومقدَّساتها، وقادر على ردع المعتدين على الأديان وهنا يأتي دور منظمة التعاون الإسلامي بالتنسيق مع الأزهر الشريف والجامعة العربية، بطلب عقد اجتماع لمجلس الأمن؛ لبحث هذه المشكلة واستصدار القرار المطلوب.