مقدّمة
إنّ الأسئلة في العلوم الموسيقيّة لا تنتهي، ومهما كانت بساطتها-في الظاهر- أو درجة عمقها في طرح الإشكاليّات، فهي على غاية من الأهمّيّة ومركزيّة أحيانا في فهم موضوعات متعلّقة بمجالات معرفيّة أخرى (التاريخ والأنتروبولوجيا وعلم النفس والسياسة والاقتصاد أحيانا…). ومن بين الأسئلة التي يمكن طرحها ونقف أمامها بدون إجابات شافية في ظل ما يحوم حولها من تباين في الرّأي نتيجة اختلاف الرؤى والمستويات الثقافية للمتكلّمين في الموضوع، تلك المتعلّقة بمفهومين أساسيين هما “العالمي” و”المحلّي” في الموسيقى، إذ كيف يمكن أن تكون موسيقى ما “عالميّة”؟ ومتى نكتفي بنعتها بأنّها محلّيّة؟ وما هي مقاييس العالمية؟ وهل أنّ ما هو غير عالمي بالمعايير “المتفق عليها” -والتي سنتحدّث عنها تباعا-لا يحمل العناصر التي بها يكون عالميّا؟ ثمّ ألا تكفي الموسيقى وهي على حالتها التي نشأت فيها أن تكون عالميّة بعناصرها المحلّيّة؟ ألا يكفي امتداد النظام المقامي مثلا في جغرافيّات موسيقية لا نقدر على حصرها – والذي تدخل الموسيقى العربية في تمثّلاته- بأن نقول بأنّها حتما عالميّة؟ أليست هنالك عوامل أخرى غير موسيقية أصبحت تتدخّل بقوّة في تحديد عالميّة الموسيقى من دونها؟ كل هذه الأسئلة سنسعى للإجابة عنها في هذه الورقة بمنهج تحليلي تدريجي ينطلق من مسائل متعلقة بالمصطلح نحو الحديث عن تجربة موسيقية عربية معاصرة تدعم رأينا في إحدى أهمّ قضايا الموسيقى العربية.
1- مفهوم “العالمي” في المجال الموسيقي وموقع الموسيقى العربية فيه
لا يخفى أنّ كلّ دراسة علميّة في أيّ مجال كانت وفي أيّ موضوع يُطرح، تعمل في البداية على بسط مسألة المصطلحات والمفاهيم الرئيسية المتعلّقة بمجال بحثها وتوضيح سياقاتها بما لا يُخرج سيرورة الاستدلال والحجاج صُلبها من إطارها المنهجي العام. وبالتالي الابتعاد عن كلّ تضارب أو تناقض في الرّأي أو خلط فادح في المفاهيم.
ولقد ارتأينا في البداية أن نقوم بمحاولة لبسط إحدى أهمّ مصطلحات هذه الورقة ونقد طرق توظيفها واستعمالها في دراساتنا وحواراتنا العلمية صُلب الاختصاص الموسيقي، وفهم مدلولاتها باعتماد منهاج حجاجي يعوّل على نماذج ودعائم من المدوّنة الموسيقية الحديثة. فبعد قراءتي المتأنّية لعدد من الدّراسات المتقاطعة مع محتوى ورقتي هذه، قدّرتُ أن يكون العنصر الأوّل حول مصطلح ضبابيّ متكرّر في أغلب تلك الدراسات الموسيقية وهو “العالمية” كمصطلح دارج في أدبيّات المشهد الثقافي والموسيقي العام، إضافة إلى أنّه أساسيّ في الورقة التي اخترتُ تقديمها; وذلك بمحاولة نقد طرق توظيفه واستعماله في دراساتنا وحواراتنا، وفهمنا لمدلولاته.
1-1 “العالميّة”: المفهوم المتحرّك
تساءل المفكّر “هشام جعيّط” في مطلع أحد أهمّ كتبه الذي وضع له عنوانا انبثقت منه إشكاليات هامّة وحسّاسة وهو”أوروبا والإسلام” قائلا: “كيف يمكن تبرير دراسة تقارن بين مفهومين، أحدهما ذو أصل جغرافي بحت، والثاني ذو أصل ديني بحت؟”(…) لكنّ أوروبا حاليّا قد امتدّت خارج مساحتها. إنّها تشكّل من وجهة النظر هذه، المرجع التاريخي لأمريكا واستراليا وحتى لروسيا”([1]). ولقد وضع الرجل إصبعه على قضية رئيسية ذات أبعاد أيديولوجية وسياسية وحضارية وثقافية وربّما نفسيّة أحيانا. إذ أنّ مثل هذه المقارنات أصبحت دارجة في العديد من البحوث والمقاربات التّحليلية وفي المؤتمرات والملتقيات العلمية، ولكن يغيب عنها التّفكيك والتّبرير الذي ذهب إليه المفكّر “هشام جعيّط” في مقاربته التّأريخية النّقدية.
وهو ما دفعني إلى إعادة طرح سؤاله بما يتماشى مع إشكالية المبحث الذي أتناوله بالطّرح في هذه الدّراسة:
كيف يمكن تبرير دراسة تقارن بين مفهومين، أحدهما ذو أصل عرقي-لغوي بينما لا تضبط الثاني أيّ محدّدات جغرافية ولا لغوية ولا دينية”(“عالمي”). فكأنّ المقارنة هنا بين العالم كلّه من جهة وجزء محدّد منه (أي العربي) من جهة ثانية، وهو ما يموقع الجزء الثاني في المقارنة -ظاهريّا- أصغر وأقلّ قيمة وربّما أقلّ قدرا من حيث الإنتاج والإبداع.
بينما يعرف كلّ العالم أنّ تلك الرّقعة العربية التي نتحدّث عنها هي إحدى أغنى الفضاءات الجغرافية في العالم بأجمعه ، وحولها تدور أغلب الصّراعات والحروب في العالم. فالمجال العربي هو مجال “عالمي” على مستوى الخيرات الماديّة والباطنيّة، غير أنّ المصطلح بهذا المعنى غير مستعمل ولا نراه حاضرا إلاّ عندما يتّصل بالشعوب المنتصرة والمتقدّمة علميّا وتقنيّا واقتصاديّا في الوقت الحالي، إذ لا يفترض المنطق أن يمتدح “الغالب” “المغلوب”([2]) أو يصفه بنعوت تُعلي من شأنه.
لذلك فإنّ مصطلح “عالميّ” متحرّك بتحرّك القوى العسكرية والاقتصادية والعلمية عبر التاريخ. ألم تكن الحضارة العربية بهذا المعنى في زمن الانتصارات العسكرية والفتوحات حضارة عالميّة قويّة بكلّ المقاييس(عسكريّا وثقافيّا وعلميّا ونفسيّا)؟
ولقد أدّى تحرّك هذا المصطلح في علاقته بالتّحصيل التقني والعسكري والعلمي والاقتصادي اِلتصاقه -نتيجة لذلك-بعبارات ومصطلحات ذات مدلول ثقافي إبداعي، وهو ما زاد في تعقيد الأمور في ظلّ ما يشهده العالم من تسارع في مظاهر الحداثة وفي تغيّر الثوابت عند بعض المجتمعات. وبالتالي أصبح الإبداع عالميّا لمجرّد أنّه يولد في مجال جغرافي “عالميّ” بمقاييس القوّة العسكرية والتقنية والماديّة! وخاصّة إذا كان الإبداع فنّيّا أو موسيقيّا بالتّحديد، حتّى أنّ تلك المقاييس(مقاييس القوة) أصبحت معيارا معتمدا حتّى لدى من يمتلك جزءا منها فقط مثل الشركات العملاقة(كقوّة مادّيّة) التي “لا يشغلها نبل رسالة الموسيقى، فشغلها الشاغل هو فرض الأوضاع والأنواع الموسيقيّة التي تدرّ عليها أرباحًا فلكيّة”([3])فتسعى إلى ترويجها وتوزيعها بما يضمن ذلك تحت عنوان “العالمية”.
كل ذلك دفع بنا إلى طرح السؤال التالي:
1-2 هل توجد موسيقى عالمية وأخرى غير عالميّة؟
يجب أن نقتنع أنّ هذا السّؤال لا يمكن طرحه دون التّعرّض للقضيّة التي أدّت إلى طرحه أصلا، وهي قضيّة “الهويّة” و”الغيرية”. هما مصطلحان تتفتّق عنهما جلّ مشاكل الأمّة العربية في علاقتها بنفسها وبالآخر في أغلب مجالات المعرفة والفنون، وهي مشاكل تتلخّص في كيفيّة فهم هذه الأمّة لماضيها وحاضرها وكذلك في قدرتها على خلق علاقات ثقافية مع محيطها وجيرانها سواءٌ في أوروبا أو آسيا أو إفريقيا أو أمريكا الجنوبية.
في الحقيقة، كلّ ثقافة تحاول-ونحن في زمن ما بعد الحداثة- فرض حضورها عبر كلّ الوسائط الممكنة، غير أنّ ما يُكبّل الثقافة العربية هو علاقة الإبداع الفني فيها والموسيقي تحديدا بمسألة “الهوية والأصالة”. وحتّى لا نعمّم، فإنّ هناك شقًّا يرى أنّ العمل الموسيقي في عالمنا العربي لا يولد ولادة طبيعية بل يخضع قسرا لولادة قيصرية تتحكّم فيه ضوابط يمليها على المبدع ذلك “الماضي الأصيل”، فيظهر المولود في الغالب مريضا منكسرا -شأنه شأن عديد المحطّات التاريخية في الماضي القريب على الأقلّ-لا علاقة له بالحاضر إلاّ الفترة الزمنية التي أنجز فيها. وهكذا تكوّنت أرصدة موسيقية لا تعبّر عن حاضرها بل تكتفي باستدعاء الماضي قريبا كان أو سحيقا، نتيجة عقليّة نخبويّة أوعامّة لا ترى في التثاقف وفي الآخر بل حتّى في “الحداثة” سوى اعتداء على هُويّتها، فلا تسعى إلى مدّ الجسور مع الثقافات الأخرى”([4])
المشكل هنا، أنّ التواصل الثقافي أصبح منذ سنوات يتّخذ بفضل مظاهر الحداثة التقنية في مستوى الصورة والصوت والتواصل المعلوماتي خطوات عملاقة نحو تقريب شعوب الكون بعضها إلى بعض لدرجة أنّ ذلك قد يساهم في تنميط الثقافات عوضا عن أن ينهل بعضها من بعض. وبالتّالي فإنّ الشّقّ الآخر يدخل هنا على الخطّ ليبدي رأيه قائلا إنّ “المعركة الحقيقية الآن، هي معركة فكرية وحضارية بالأساس، وهي لا تقلّ أهمّيّة عن المعركة الاقتصاديّة أو المعركة المسلّحة-إن لم تكن أساسها-وإن الهزيمة المعاصرة هي في جوهرها هزيمة عقلية كما أنّها هزيمة عسكرية. فالخطر الدّاهم الآن ليس هو فقط ضياع الأرض بل قتل الروح وإماتتها إلى الأبد.”([5])
وهذا القول كما بيّنه صاحبه “محمود قطاط” ليس متصلّبا في الاتجاه الذي يرفض التثاقف الموسيقي بين الشعوب والحضارات لكي تستمرّ وتتواصل ببصمة الحاضر، ولكنّه ينبّه إلى مركزية أوروبية مرجعية لكلّ شعوب شمال الكرة الأرضية، نتيجة تطوّر منظومات العدالة والحقوق والمعرفة والحرّية والفنون، جعلت العقل الأوروبي لا يقتنع بحضور هذه المنظومات بالطّريقة التي تمّ التّأسيس إليها خارج الرّقعة الأوروبية أو الفضاءات الجغرافية التي تمثل لها مرجعيّة تاريخية، وهو موقف “ينفي مسبقا قيام أيّ حوار، لأنّه يفرض على الغير اتباع طريق الحداثة الغربية وإلاّ فلا مستقبل له ولا حوار مُجْدٍ معه”([6])
وبين منغلق على نفسه رافض للآخر خوفا على ثوابته وأصالته(العرب) وبين سالب للآخر ورافض للحوار والتثاقف معه من منطلق القوّة والأفضلية الآنيّة(أوروبا)، بدأ يطفو-حسب تقديرنا-مصطلح “عالمي” في علاقته بمجالات المعرفة والفنون المختلفة، وذلك باعتبار كلّ إنتاج أوربي في الأدب والفنون هو إبداع عالمي و”يجب” على العرب النسج على منواله لتكون إنتاجاتهم “عالميّة”، ولا نقصد هنا الاستنقاص من الأعمال والإبداعات الأوروبية التي أثبتت الدراسات والبحوث والتاريخ نفسه جدارتها بأن تُنعَتَ كذلك.
غير أنّ المشكل قد يكمن في “المغلوب” الذي يتأثّر أيّما تأثير بغالبه، لدرجة أنّ هذا التّأثّر قد يصل أحيانا إلى الذوبان والاغتراب نتيجة اللهث وراء “العالمية” التي زعمتها “أوروبا” بمنطق “الأفضليّة” والقوة الاقتصادية والعسكرية والماديّة. وبالتالي أصبحنا إزاء عالميّة شبه مزيّفة تعود بنا مُجدّدا إلى مربّع “الهويّة والأصالة”، لأنّها لم تنبع من تجربة الذات وتفاعلها مع الماضي والحاضر بل استمدّت حضورها من تقليد أعمى للآخر باستحضار منظوماته الفكرية وإسقاطها على الذات.
ومن هذا المنطلق نعود للمسألة من وجهة نظر فلسفيّة بوقفة نطرح فيها ما يلي:
إذا قال أحدنا “أنا هو أنا” معرّفا بنفسه فإنّ “الأنا الأولى” التي تعّرف “الأنا الثانية” قيلت حتما في زمان غير الذي قيلت فيه “الأنا الثانية”: “فالأنا الأولى” هي زمان أوّل يمثّل جملة من التداخلات الحضارية والتاريخية والأنتروبولوجية التي ساهمت في نحتها، أمّا “الأنا الثانية” وهي زمان ثانٍ تمثّل الحاضر أو زمن القول بالذات. وبالتالي أن ينجز المبدع عملا ما ليقول هذا “أنا” فيجب على العمل الإبداعي الذي سيعرّف “الأنا” أن يكون من منطلق فلسفي فكري حاملا لجملة من التداخلات الحضارية والتاريخية والفكرية الماضية والحاضرة مترجمَة في عمله حتّى تكون قادرة على بسط تعريف يليق “بالأنا” التي يعرّفها.
بناء على ذلك، نتساءل هل توجد حقّا موسيقات “عالميّة” وأخرى “غير عالميّة”؟ أم أنّ هذا المعيار الغربي الأوروبي مجرّد وهمٍ خُلق من أجل تكوين “مبدعين” منصاعين لمبادئ العولمة، محقّرين لذواتهم أو قل لكلّ ما ينبع خارج تلك المنظومة ولا يستعمل أدواتها(إعلاميّا وصورةً وصوتًا وطابعا صوتيّا وآلات وترويجا وذوقا…)؟ ألا تبدو عقليّة الغزو بهذا المعنى “متمركزة في أفكارنا وأعمالنا وسلوكنا، نفتح لها الأبواب ونرتمي في أحضانها ونسخّر لها الإمكانات ونستميت في الذّود عنها”؟ وبالتالي “العيب يكمن فينا وليس في الغير الذي من حقه فرض ثقافته ونشرها واعتبار ذلك واجبا مقدّسا…وهو في هذه المسألة بالذات حريّ بأن يكون قدوة وعبرة”([7])
بدأنا نثبت الآن شيئا فشيئا أن لا وجود لموسيقى بمعايير عالمية(إيقاعا ولحنا وتصوّرا فنّيّا) وإنّما هي “عالميّة” قائمة على القوّة السياسية والإعلامية وعلى فرض نمطيّة ثقافية يُرادُ ترويجها تحت هذا العنوان لطمس التنوّع والثّراء الثقافي العالمي. وفي هذا الاتجاه يُفترض أن تكون أغلب موسيقات العالم “عالميّة” بما تتيحه لها عناصرها الموسيقية الأصليّة، ومنها الموسيقى العربية -طبعًا- التي تجتمع فيها منظومات مقامية وسُلّميّة ثريّة بثراء المكوّنات البشرية للفضاءات الحضرية والسّاحليّة والجبليّة والصحراوية الشرقية والمغاربية. ألا يكفي امتداد النظام المقامي مثلا في جغرافيّات موسيقيّة لا نقدر حتّى على حصرها – والذي تدخل الموسيقى العربية في تمثّلاته- بأن نقول بأنّ مختلف الأنماط الموسيقية المقامية هي حتما عالميّة؟ أم أنّه يجب على هذه الموسيقات أن:
* تُتاح لها فرصة الظهور على شاشات الفضائيات الأوروبية والمهرجانات الدّوليّة الغربية حتّى تكون كذلك(أي عالميّة)؟
*تُوظِّف آليات الموسيقى الغربية الكلاسيكية(التوافقات والهارموني) أو الموسيقات الحديثة كالجاز والروك والـRNB وغيرها حتّى تكون أهلا لتلك التسمية “الزائفة” (“عالميّة”) وتستعمل الآلات الموسيقية الغربية عوضا عن إظهار الطّابع الصّوتي الحيّ للآلات الموسيقية المحلّيّة؟
سنحاول الإجابة عن هذه التساؤلات من خلال التّأمّل والقراءة في إحدى التجارب الموسيقية العربية الحديثة وبالاستئناس والمقارنة مع تجارب موسيقية من ثقافات مختلفة غاية التقييم وأخذ العبرة، وهو ما سنركّز عليه من خلال تجربة الموسيقي والمنشد والملحّن والعازف التونسي “ظافر يوسف”.
2- تجارب موسيقية عربية بين “المحلّيّة” و”العالميّة”: “ظافر يوسف” أنموذجا
2-1 من هو ظافر يوسف؟ ([8])
هو عازف على آلة العود ومنشد وملحّن تونسي منحدر من عائلة بسيطة في منطقة طبلبة. عُرف أجداده بأداء الأذان، لذلك يُعتبر إتقان الأداء الصّوتي تقليدا عائليّا تراثيّا عريقا فيها. تربّى في طفولته المبكرة على قراءة القرآن بحرص من والده، وبدأ يكتشف في الأثناء (منذ سنّ السّادسة) مساحة صوته العريضة، فأصبح يوظّف ذلك ترديد الأغاني التي كان يستمع إليها من خلال المذياع.
ولقد انبهر بصوته مؤذّن الجامع المحلّي بمسقط رأسه آنذاك فشجّعه على تسجيل النّداء للصّلاة، فكانت تلك أوّل تجربة له تصافح فيها صوته مع الناس. ثمّ انضمّ إلى فرقة للإنشاد الديني بجهته ولكن سرعان ما انقطعت هذه المحطّة نظرا لما لاحظه من تسييس متزايد في أنشطة هذه المجموعة. بعد ذلك بدأ ظافر يتعلّم آلة العود بتردّده على “دار الشباب” في طبلبة وهناك تعرّف على آلات موسيقية أخرى مثل الغيتار الإلكتروني، وقد قاده ذلك إلى ممارسة الموسيقى في الأفراح الخاصّة.
وفي فترة لاحقة تمّت دعوته إلى المجموعة الصّوتية في فرقة راديو المنستير”. ولفتح أفق جديدة في مسيرته اِلتحق بالمعهد الوطني للموسيقى بتونس العاصمة(نهج زرقون) غير أنّه سرعان ما اكتشف أنّه غير راضٍ على طريقة التعلّم الموسيقي هناك، فهاجر إلى “النّمسا” ليخضع لتدريبات موسيقية من نوع جديد علّه ينفتح هناك على أفق جديدة وآفاق للتّألق والإبداع.
بالإضافة إلى ذلك ابتدأ مسيرة في البحث في العلوم الموسيقية ولكنّه انتبه إلى كون طريق “الموسيقى الأكاديميّة” ليس من أولويّاته وقرّر أن لا يعود إليها مجدّدا ويتفرّغ للموسيقى العمليّة.
كان يعشق موسيقى “الجاز” ومتأثّرا بموسيقات أخرى من العالم مثل الموسيقى الهنديّة. ابتدأ مشواره بالعزف في الفضاءات العامّة ومع فرق مختلفة إلى أن أسّس مجموعته الخاصّة “زرياب” مع عازفين من النمسا وكان له أن بعث أوّل ألبوم موسيقي خاصّ سمّاه “مسافر”The traveler سنة 1996 لقي نجاحا جيّدا بما خوّل له القيام بحفلات شهرية بأحد النوادي الثقافية المشهورة في النّمسا.
شيئا فشيئا بدأ في ملاقاة عازفين مختلفين من “إيطاليا” و”فرنسا” و”الفيتنام” ودول أخرى فبدأت تتفتّق قريحته في الإبداع والإنتاج الموسيقي أكثر فأكثر، وزاد عدد ألبوماته كالتالي:
– ألبوم ملاك(Malak)/1998)
-ألبوم electric sufi(2001)
– ألبوم Digital prophecy(2003)
– ألبوم Divine shadows (2005)
– ألبوم Abu Nawas Rhabsody(2010)
– ألبوم DIWAN OF BEUTY AND ODD( 2016)
كما خاض تجربة طريفة في الفترة التي بين 2011 إلى 2014 بالمشاركة في موسيقى الأفلام مع ملحّنين معروفين مثل “جايمس هورنر”JAMES HORNER وغيره.
2-2 ما يُميّز تجربة “ظافر يوسف” في السّياق “العربي”
عُرف “ظافر يوسف” بعد تراكم تجاربه الموسيقيّة وإنتاجاته الخاصّة المختلفة والمتنوّعة، بكونه أكثر عازفي آلة العود في العالم دعوة في المهرجانات الكبرى نظرا لما يتمتّع به من ريادة في دمج إبداعه كأحسن ما يكون ضمن تيارات الموسيقى المعاصرة اليوم بتوظيف التقنيات الحديثة ودعوة عازفين من ثقافات مختلفة والتفاعل معهم والتعاطي مع فرق موسيقية مختلفة باختلاف الرؤية الموسيقية التي يحدّدها في عروضه، وكذلك-وهذا الأهمّ- باستعمال حنجرته السّاحرة التي لا ينفكّ يخصّص لها حيّزا هامّا في أغلب القطع الموسيقية التي يلحّنها نظرا لما يُميّز مساحة صوته العريضة التي تتجاوز أحيانا كثيرة الديوان الثالث من درجة الارتكاز الخاصّة بالعمل الفني.
تُستهلّ جلّ أعمال “ظافر يوسف” الموسيقية بركيزتين أساسيّتين لا يتخلّى عنهما، فإمّا كلاهما باعتماد التتالي في الأدوار أو إحداهما، ونقصد هنا آلة العود والأداء الصّوتي، ويحرص “ظافر” على توظيف الخطاب المقامي بتناول مقامات مشرقية أو السّلالم ذات الأبعاد المنفصلة كالتي نجدها في الفضاء المغاربي-الصّحراوي والإفريقي. إذ أنّ كلّ معزوفاته تنحو في اتجاه إبراز الخطاب المقامي العربي كركيزة لها، وهو يستعمل في ذلك الحركات اللحنية لمقامات مختلفة مثل “النهاوند” و”الكردي” و”الحجاز” والعجم والبياتي”… ويستأثر بهذا الخطاب المقامي لنفسه كمنشد وكعازف عود عربي، بينما لا يتبقّى لباقي العازفين المصاحبين له من ثقافات أخرى(مثل عازفي الإيقاع والكنترباص والبيانو والغيتار…) سوى المصاحبة بالارتجال والتفاعل الآني مع الجملة الموسيقية المحورية للعمل التي تدور كلّ الموسيقى المصاحبة حولها. وبالتالي ينجح “ظافر يوسف” في هذا المستوى في جعل الخطاب المقامي قادرا على “ابتلاع” المشهد الموسيقي بأكمله صُلب العرض واستقطاب المستمع(خاصّة إذا كان الأمر يتعلّق بعرض في مهرجان موسيقى الجاز) لصالح إبراز عناصر الموسيقى العربية، وهو عكس بعض التجارب الأخرى التي لا تستأنس بالموسيقى العربية إلاّ لتجعلها تذوب في التيّار الموسيقي الذي تعمل عليه ليصبح هذا التيّار أو ذاك هو المسيطر على الخطاب الموسيقي المقامي وليس العكس، أي أنّ “ظافر يوسف” في هذا الاتجاه يكسب الرّهان غالبا في جعل النّظام التونالي-رغم أهمّيته القصوى في إعطاء ثوب هرموني مميّز للعمل- يسير جنبا إلى جنب ومسايرا فقط للفكرة اللحنية المقامية الأساسية:
* مثال قطعة “رياح وظلال” winds and shadows(10 دق و25 ثانية) الرّابط الإلكتروني: https://www.youtube.com/watch?v=u5fVq9keLnA | |||
مراحل العمل | الآلات المستعملة | الحّيز الزمني للخطاب المقامي والتونالي | المقام أو النظام السلمي |
1-عزف جماعي أركسترالي | 1-الكمنجات والتشيلوات والبيانو | 1- من البداية إلى51 ثانية(تونالي) | سلم مي بيمول صغير |
2- ارتجال صوتي | 2- الحنجرة + تدخلات للأوركسترا في آخر الارتجال | 2- من ث.52 إلى دق3و12ث(مقامي) | النهاوند |
3- عزف جماعي أوركسترالي | 3- الأوركسترا + الكنترباص | 3- دق3و13ث إلى دق 3و53ث(تونالي) | سلم مي بيمول صغير |
4- عزف فردي مصاحب بالأوركسترا | 4- آلة العود+الأوركسترا | 4- دق3و54ث إلى دق6 و47(خطاب مقامي + استعمال السلم ذي الأبعاد المنفصلة) | – مقام النهاوند – سلم الأبعاد المنفصلة |
5- عزف ثنائي مصاحب بالأوركسترا | 5- آلة الغيتار + آلة العود + الأوركسترا | 5- دق6و48ث إلى دق8و31ث(مقامي) | – مقام النهاوند |
6- عزف جماعي أوركسترالي | 6-الكمنجات والتشيلوات والبيانو + العود | 6-دق8و32ث إلى دق10و25ث(تونالي) | -سلم مي بيمول صغير |
الحصيلة | الخطاب المقامي: 8دق و57ث | ||
الخطاب التونالي:1دق و28ث |
86% |
14% |
خطاب تونالي |
خطاب مقامي |
نسبة تداول الخطاب المقامي والتونالي في قطعة WINDS AND SHADOWS
يلاحظ المطّلع هذا الجدول بعد الاستماع طبعا والتّأمل في العمل الموسيقي أنّ الخطابان الموسيقيّان التّونالي والهارموني مصاحبان لكلّ العمل الموسيقي من بدايته إلى نهايته ولكنّ هُويّة العمل الموسيقي في نهاية الأمر هويّة مقاميّة بالأساس تجمع بين العربي وبين التّأثيرات الهنديّة والتّركيّة والإيرانية والموسيقى الصّوفية التي نشأ بين أحضانها “ظافر يوسف” بالإضافة إلى الخطاب المقامي الصحراوي-المغاربي الإفريقي، وهي تأثيرات موجودة في الموسيقى العربية نتيجة عوامل تاريخية وحضارية لا يمكن نكرانها، بيّنها “ظافر يوسف” بطريقته الخاصّة. وليس أدلّ على وجود تلك التّأثيرات في سياق الموسيقى التونسية، مثلا، من وجود نوبة مالوف بأكملها مثلا تحت مسمّى “رصد العبيدي” في تونس كإشارة لالتصاق العنصر الإفريقي بثقافة الحضر والمدن، أو كذلك نوبة “الأصفهان” كإشارة لوجود تأثيرات فارسية على الموسيقى في تونس.
هي تأثيرات قد نذهب في اتجاه أنّ ظافر يوسف” نجح نسبيّا في استغلالها تعبيريّا ومقاميّا في إيصال جزء منها للمستمع الأوروبي بينما قبع الخطاب الموسيقي الكلاسيكي-المحلّي عاجزا عن إيصالها نظرا لوجود حلقة مفقودة قد تكون تقوقعه على الذات وقد تكون عدم أخذه بأسباب الحداثة ولكن قد تكون كذلك عدم استجابته لرغبات هذا “العالمي” والذوبان الكلي في منظومته الموسيقية ورغبته أن تكون عالميّته منطلقة من أصالته.
3- استنتاجات
أختم هذه الورقة بتساؤل لا أظنّه يغادر صدر القارئ بعد أن عرضت عليه جزءا ضئيلا من “تجربة” ظافر يوسف” وبعد التّأمّل في كلّ تجربة موسيقية ناجحة عرفت اتصالا بأوروبا أو كما يُصطلح عليه في العنوان الكبير للمؤتمر بـ”العالميّ”:
هل كان ظافر يوسف لينحت اسمه ويظهر إشعاعه بهذا المستوى لو بقي في تونس؟ نفس الشيء يمكن أن نطرحه لو تعلّق الأمر كذلك بعازف العود التونسي ذائع الصّيت في أوروبا وأمريكا “أنور براهم”، وقس على ذلك مع أغلب العازفين والموسيقيين الملحنين في العالم العربي الذين تحوّلوا للعيش خارج بلدانهم الأصليّة ويتعاقدون حاليّا مع دور لطبع أقراصهم وألبوماتهم، ماذا لو بقى كل هؤلاء في فضائهم العربي المشرقي أو المغاربي، هل كانوا لينحتوا لأنفسهم هذا النّجاح؟
طبعا لستُ هنا لأجيب بالقطع نفيا أو تأكيدا، ولكنّي أقول:
إنّ بلداننا العربية تنقصها حلقات كثيرة حتّى يمكن لها أن تستقطب مبدعيها وتحتفظ عليهم، وهذه الحلقات جلّها يتعلّق بالجانب الفكري وموقع الثقافة داخل المنظومة السياسية والاجتماعية.
لا يمكن أن ينتعش الإبداع الموسيقي داخل مجتمعات مازالت تتناقش مسألة تحليل وتحريم الموسيقى.
لا يمكن أن يكون الموسيقي “عالميّا” بالمعنى الذي يجعله قادرا على طرح إبداعه في الأسواق العالميّة لا بالمعنى التقني لشروط “العالمية” المجحفة، إلاّ إذا كانت الدّولة تحترم مبدعيها وتسعى لدعمهم وتضع استراتيجية لنشر الثقافة المحليّة لغايتين:
- تسويق صورة الثقافة المحليّة في صورة لائقة لاستقطاب الآخر وجعله يسعى للتبادل الثقافي.
- ضمان نشبة من الأرباح التي تضمن استمرار تلك الاستراتيجية.
المراجع:
- جعيّط(هشام)، أوروبا والإسلام: صدام الثقافة والحداثة، بيروت، دار الطليعة، الطبعة الثانية، ماي 2001، ص.5.
- الخولي(سمحة)، الموسيقى والعولمة(ترجمة وتقديم كتاب سايمون ماندي)، الطبعة الأولى، القاهرة، المجلس الأعلى للثقافة، 2003، ص.7.
- بشة(سمير)، الهوية والأصالة في الموسيقى العربيّة، تونس، منشورات كارم الشريف، مراجعة وتقديم: أ.د. منير السعيداني، الطبعة الأولى، 2012، ص.62.
- قطاط(محمود)، واقع الموسيقى العربية وتحدّيّات العصر، المجلة العربية للثقافة، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، السنة24، العدد48، 2005، ص14.
مواقع الواب:
([1]) جعيّط (هشام)، أوروبا والإسلام: صدام الثقافة والحداثة، بيروت، دار الطليعة، الطبعة الثانية، ماي 2001، ص.5.
([2]) مصطلحات استعملها “ابن خلدون” في مقدّمته في حديثه عن مبادئ العمران البشري.
([3]) الخولي(سمحة)، الموسيقى والعولمة(ترجمة وتقديم كتاب سايمون ماندي)، الطبعة الأولى، القاهرة، المجلس الأعلى للثقافة، 2003، ص.7.
([4]) بشة (سمير)، الهوية والأصالة في الموسيقى العربيّة، تونس، منشورات كارم الشريف، مراجعة وتقديم: أ.د. منير السعيداني، الطبعة الأولى، 2012، ص.62.
([5]) قطاط(محمود)، واقع الموسيقى العربية وتحدّيّات العصر، المجلة العربية للثقافة، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، السنة24، العدد48، 2005، ص14.
([6]) بشة(سمير)، المرجع نفسه، ص.63.
([7]) قطاط(محمود)، المرجع نفسه، ص26.
([8]) تمّت صياغة هذا العنصر بالاستئناس بوثيقة من موقع world music هي عبارة عن سيرة ذاتية لظافر يوسف يمكن الاطلاع عليها من خلال الرّابط الإلكتروني التالي: