مع انتخاب دونالد ترامب ليكون رئيسًا للولايات المتحدة الأميركية في شهر نوفمبر 2016 واستلامه مفاتيح البيت الأبيض في الشهر الأول من سنة 2017، شهد العالم الغربي صدمة سياسية لم تكن متوقعة. وشعر الأوروبيون خصوصًا بأنهم في بدايات عصرٍ جديدٍ من العلاقات مع القارة الجديدة لم يكن لهم عهدٌ بها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية سنة 1945. ومن خلال المدة القصيرة نسبيًا التي مرّت على وصول ترامب للتحكم بزمام الأمور، تأكد الغربيون عمومًا وأهل القارة العجوز الأوروبية خصوصًا بأنهم مقدمون على عصر علاقات جديد وغريب وغير متوقع ومُحبط مع القطب الأميركي.
في الاجتماع السنوي للسفراء الفرنسيين في العالم والذي تتحدد من خلاله أهم محاور السياسة الخارجية الفرنسية، ألقى الرئيس إيمانويل ماكرون يوم 27 أغسطس / آب الماضي، خطابًا شاملاً تحدث من خلاله عن خياراته في توجهات السياسة الخارجية لبلاده في المستقبل القريب. وعلى الرغم من وجود استمرارية تقليدية في مجمل المحاور التي عالجها الخطاب، إلا أنه قد بدا واضحًا وجليًا بأن العلاقات مع أميركا خرجت في تحليلها ووضع الآفاق السياسية لتطويرها من الموقف التقليدي إلى موقف مفاجئ يُنبئ بمواجهة سياسية صامتة ستشهدها سنوات مكوث دونالد ترامب في البيت الأبيض. في هذا الخطاب الطويل نسبيًا، تحدث ماكرون بوضوح عن مسألة خطيرة وحساسة لطالما تحاشى الرؤساء الغربيون التطرق إليها وهي تتعرّض أساسًا وبروحٍ إنذارية إلى ضرورة إعادة النظر في سياسة الاعتماد على الحليف الأميركي في رسم وتحديد أهم قواعد السياسة الدفاعية الأوروبية، وذلك للمرة الأولى منذ نهاية الحرب مع ألمانيا النازية. وقد بدا واضحًا في خطابه التوجيهي في التعبير عن حتمية حصول تغيير جذري في السياسة الدفاعية الأوروبية، مُشيرًا إلى أنه يجدر بأوروبا أن تنحو باتجاه محاولة البحث الجاد والمستعجل عن استراتيجيات دفاعية ذاتية تعتمد على مخزوناتها الاستراتيجية وعلى التنسيق المحكم بين أعضائها. استراتيجية مستنبطة من انطواء الحامي الأميركي الذي ما فتئت سياساته الدفاعية تحمي أو تدعي حماية أوروبا من الأعداء المشتركين أثناء الحرب الباردة.
موقفٌ متوقع من فرنسا التي تحاول، ومنذ وصول إيمانويل ماكرون إلى قصر الأليزيه في مايو / أيار من عام 2017، أن تجد لها موقعًا مناسبًا – أو تسترجعه – في مسرح العلاقات الدولية بعيدًا عن التوافق الذي وصل أحيانًا إلى مستوى “التبعية” التاريخية مع السياسات الأميركية. وقد سعى ماكرون من خلال استراتيجيته الجديدة إلى تعزيز حضور فرنسا السياسي والعسكري في بعض مناطق النزاعات الساخنة كما في مالي، دون الاعتماد على دعم أو موافقة الحليف الأميركي. إضافة إلى ذلك، فهو قد نادى بضرورة التفكير بأفضل الوسائل لتعزيز منظومة عسكرية حمائية أوروبية تستقل شيئًا فشيئًا عن عرّابها الأميركي.
بعد عودة القطب الروسي برئاسة فلاديمير بوتين لاحتلال موقع هام في مشهد إدارة الأزمات الدولية – أو اختلاقها – شهدت الساحة الأميركية تراجعًا ملحوظًا عن تبني السياسة التدخلية العنفية التي ما فتئت تُميّز الأداء الخارجي لواشنطن طوال العقود الماضية. وعلى الرغم من التهالك البنيوي للاقتصاد الروسي المستند إلى تحالف المافيات المنبثقة عن الطبقات المنتفعة سابقًا من الإدارة الشيوعية للبلاد، إلا أن اجتراع المعارك الخارجية كما الأعداء من كل الجهات، ما زال يُعتبر عاملاً أساسيًا في استقرار نظام الكرملين كما يُشير إلى ذلك أكثر من خبير روسي في السياسات المحلية. وبوجود إدارة باراك أوباما (2009-2017) المُلتفتة إلى الداخل الأميركي والراغبة في الانفكاك عن الخارج بعد المغامرة العراقية المدمرة، صارت موسكو تمسك بزمام الكثير من الملفات وتُهدّد أوروبا مباشرة عبر احتلالها لجزيرة القرم وتدخلّها العسكري في شرق أوكرانيا موقعة الآلاف من الضحايا، كما من خلال تهديداتها المستمرة للجمهوريات الثلاث في منطقة البلطيق، إستونيا وليتوانيا ولاتفيا، والتي لم تهضم موسكو انفصالها عنها حتى اليوم. وتوّجت هيمنتها العسكرية، التي تعتمد أساسًا على تخاذل القطب الغربي، بالتدخل المباشر في سوريا في أيلول/سبتمبر 2015 ووضع القطر السوري تحت الانتداب المباشر لرجال الكرملين من سياسيين وعسكريين.
أثناء زيارة دونالد ترامب الأخيرة إلى أوروبا في يوليو/تموز المنصرم، بدا للمراقبين بأن أوروبا صارت “عدوًا” اقتصاديًا على أقل تقدير، للولايات المتحدة الأميركية. وسيبقى الأسبوع الممتد من 9 إلى 13 من الشهر نفسه معلمًا تاريخيًا في ملف العلاقات الأوروبية والأميركية. فلقد توضح من خلال استعراض مجرياته أن هناك قطيعة أو فجوة ثقة عميقة متبادلة في أدنى التقديرات. ولأول مرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، يزور رئيسٌ أميركيٌ أوروبا كعدو أو كمشروع عدو يتم التحضير له. وبمناسبة مروره بالمقر الرئيسي لحلف الأطلسي في بروكسل، كما بمروره السريع بالعاصمة البريطانية لندن فيما بعد، فقد أكد عداؤه القاطع لمؤسستين أساسيتين في لبنة التكوين الأوروبي الغربي وهما حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي.
بعض المتفائلين سياسيًا بمستقبل العلاقات الأوروبية/الأميركية، وهم قلّة، يميلون إلى الاعتقاد بأن التصريح بهذا الموقف لا يعدو كونه كلامًا يخرج على لسان ممثل في تلفزيون الواقع عميق الجهل بالمعارف التاريخية والتي لا تتعدى تواريخ مسابقات أميركا في لعبة الغولف والفائزين فيها. لكنهم غالبًا على خطأ، فترامب أطلق من خلال هذا التصريح مسار عملية تغيير جذري في التعامل مع الحلفاء الأوروبيين. وهو يُعلن بوضوح بداية مرحلة تاريخية جديدة ويجب بالتالي أخذ هذه التصريحات السلبية على محمل الجد.
لقد كان المشروع الأوروبي جزءًا من التصور الأميركي للقارة العجوز، كما للعالم وللعلاقات الثنائية فيه، بعد نهاية الحرب الثانية. وقد ساندت واشنطن مبادرات مؤسس “أوروبا المنظمة” الفرنسي جان مونيه كما هي وافقت على فكرة مشروع التقارب الفرنسي – الألماني، حيث تم أولاً في حقل الفحم والصلب، بهدف إخراج أوروبا من دوامة الحروب المتعاقبة. وبعد تمكن الأوروبيين، بدءًا من المجموعة الأوروبية ووصولاً إلى الاتحاد الأوروبي، من تشكيل قوة اقتصادية منافسة، شعرت أميركا فعلاً بالضغط التنافسي دون أن يؤدي هذا البتة إلى وضع المشروع الأوروبي موضع الشك من قبل كل القادة الأميركيين منذ هاري ترومان وصولاً إلى باراك أوباما. ومع ذلك، فقد حاولت أميركا أحيانًا إضعاف المشروع نسبيًا فقامت بتشجيع توسيع الاتحاد الأوروبي وضم أعضاء جدد من شرق أوروبا حديثة العهد بالديمقراطية بعد طول الهيمنة السوفيتية، ظنًا منها، وربما عن حق، بأن هذا سيُضعف الاتحاد. كما أن واشنطن عارضت بخجل صك عملة أوروبية موحدة تشكل تهديدًا لهيمنة الدولار الأميركي في التعاملات النقدية الدولية.
في المقابل، ما قام به ترامب عبر تصريحاته ومواقفه شديدة اللهجة تجاه المشروع الأوروبي مؤخرًا، هو تصريح علني بسعيه إلى إضعاف – قدر الإمكان – مؤسسات الاتحاد الأوروبي والوصول إلى تحطيمه. وهو يُعيد – أو يحاول – كتابة التاريخ مستندًا إلى مزيج من الرُهاب من الآخر والجهل المدقع بالعالم، والذي يتميّز به بنيويًا. لدرجة أنه، وقبل سفره إلى أوروبا، صرّح للشعب الأميركي بأن الاتحاد الأوروبي قد شُكِّل للإيقاع بالولايات المتحدة الأميركية. وبوصوله إلى لندن يوم 12 يوليو/تموز، وفي الوقت الذي كانت رئيسة الوزراء تيريزا ماي تخوض عراكًا سياسيًا مع الجناح المتشدد في حزبها لتحقيق خروج هادئ من الاتحاد الأوروبي دون القطيعة الكاملة، أدلى الرئيس ترامب بتصريح مطوّل إلى جريدة “الصن” والتي يملكها المحافظ المتشدد روبيرت مردوخ المعادي الشرس للاتحاد الأوروبي. صحيفة تعتمد في رواجها على مزيج من الجنس والتشدد القومي وكرة القدم. وخلال المقابلة، وقف ترامب بقوة إلى جانب خصوم السيدة ماي ودافع عن رغبتهم في تحقيق انقطاع راديكالي عن أوروبا وصولاً إلى ابتزاز لندن بالقول: “إن لم تقطعوا بشكل حاسم مع بروكسل (مقر الاتحاد الأوروبي) فلن يمكنكم الاعتماد على اتفاق ثنائي لحرية التجارة مع الولايات المتحدة الأميركية”. وشدد على دعمه لوزير الخارجية المستقيل بوريس جونسون المعارض بشدة لتساهل ماي في إدارة ملف البريكيست. ولم ينس أن يهاجم عمدة لندن صادق خان بسبب أنه مسلم (…).
إبان الحرب الباردة، جرت تدخلات أميركية – غير مباشرة وخجولة – عدة في الشؤون الداخلية للدول الأوروبية. مع ترامب، صارت هذه التدخلات مباشرة ووقحة. وبنفس المنطلق، دعم ترامب موقف اليميني الألماني المحافظ هورست سيهوفر (وزير الداخلية الألماني) ضد المستشارة إنجيلا ميركل في خلافهما بشأن مسألة إدارة ملف الهجرة. سياسة تدعم توجهات يمين اليمين الأوروبي وصولاً إلى تحفيز الأحزاب اليمينية المتطرفة على المضي قدمًا في سياساتها المعادية للأجانب والمعارضة لتعليمات الاتحاد الأوروبي فيما يتعلّق خصوصًا بسياسات اللجوء. وتحظى كل الأحزاب الشعبوية والأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا بنظرة الرضا – والدعم – من قبل دونالد ترامب وإدارته، خصوصًا منها تلك التي تتقدم في انتخابات دول شرق أوروبا كما في المجر، أو غربها كما في النمسا وإيطاليا.
وعند التطرق إلى ضرورة تخفيض المساهمة المالية الأميركية في الملف الدفاعي الأوروبي، يُعبّر ترامب إما عن سوء نية أو عن جهل أو كليهما معا. فمن 700 مليار مخصصة للدفاع، تساهم أميركا بمبلغ ضئيل جدًا في الدفاع الأوروبي.
كراهية الرئيس ترامب للاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي تتأتى من رفضه لمبدأ الأحلاف والسعي إلى تعزيز العلاقات الثنائية حفظًا لمصالح الولايات المتحدة كما يدّعي وابتعادًا عن المفاوضات الجماعية التي يمكن أن تُضعف من حظوظه في فرض خطة الطريق، خصوصًا في الملفات الاقتصادية والمالية. فبعد أن كان التعاون الأميركي / الأوروبي قائمًا على الانتماء المشترك إلى الديمقراطية الليبرالية، فإن الرئيس الرابع والأربعين لأميركا قد كرّر في أكثر من مناسبة إعجابه بالديمقراطيين غير الليبراليين وحتى بمن يسميهم “الرجال الأقوياء” غير الديمقراطيين. وفي هذا تغيير عميق في السياسة الأميركية سيُميّز هذه الحقبة التاريخية.
إذًا، وقبل أشهر قليلة من الانتخابات التشريعية الأميركية في 6 نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، يستعمل ترامب الخطاب الديماجوجي الذي يجذب ناخبيه مُدّعيًا بأنه “إن لم يبق لديكم مال ترسلون به أولادكم إلى المدرسة أو الجامعة، فالسبب هو مشاركتنا في الدفع لحماية الأوروبيين. الذين هم بالمقابل شركاء تجاريون غير موثوقين”. وبهذا الخطاب الذي يحتوي على مغالطات موصوفة، إضافة إلى خطابات أخرى يُركّز من خلالها على التخويف من مسألة الهجرة، يتمكن ترامب – أو هكذا يعتقد – من تعزيز حظوظه الانتخابية.
من الخطأ تبسيط المسألة واعتبار شخصية دونالد ترامب هي المسؤول الوحيد عن هذا التوجه، وبالتالي المراهنة على خروجه من المسرح الرئاسي. إنه من الضروري الوصول إلى الاقتناع بحصول تغيير عميق في المجتمع الأميركي وأدواته السياسية، وهو ما ينعكس من خلال السياسة الخارجية الجديدة هذه التي يُعبّر عنها رئيسهم وتدفع بهم إلى إعادة النظر في القواعد الناظمة لهذه السياسة والتي تأسست غداة الحرب العالمية الثانية والعمل على تغييرها جذريًا باتجاه سلبي وانطوائي.
من جهتهم يسعى الأوروبيون إلى احتواء هذه الموجة وانتظار انقضاء الفترة الرئاسية الترامبية على أمل العودة إلى “العلاقات الطبيعية”. وقد صرّح رئيس مجلس أوروبا دونالد توسك في 25 مايو/أيار الماضي من بروكسل بعد لقاء جمعه مع ترامب بأن “المهمة الأكبر هي في تعزيز التفاف العالم الحر حول القيم، وليس فقط حول المصالح. القيم والمبادئ أولاً، وهذا ما يجب على أوروبا والولايات المتحدة أن يعملا عليه”. ولكن الطرفين عاجزان عن الاستناد إلى القيم والمبادئ، خصوصًا بوجود ترامب على الطرف الآخر من الأطلسي. فالحليفان الأوروبي والأميركي قد فقدا معنى المصلحة المشتركة، كما الهمّ في المحافظة على المؤسسات المشتركة الجامعة والتي سمحت لهم حتى اليوم بتجاوز خلافاتهم كحلف شمال الأطلسي مثلاً. وقد أضاف في هذا الصدد رئيس مجلس أوروبا قائلاً بأنه “كان على اتفاق مع الرئيس الأميركي حول عدد من الأمور وأهمها محاربة الإرهاب، كما أن هناك بعض نقاط الخلاف التي ما زالت مفتوحة، كالتجارة والمناخ”.
وفي حربٍ شبه مفتوحة مع ألمانيا، هاجم ترامب النجاح التجاري الألماني في التبادلات مع بلاده والتي انبثق عنها 58 مليار يورو فائضًا تجاريًا لصالح برلين في المبادلات مع واشنطن. فألمانيا كما يقول “سيئة، سيئة جدًا” كما أشارت إليه مجلة دير شبيجل نقلاً عنه. في اليوم التالي، اعتبر رئيس اللجنة الأوروبية جان كلود يونكر بأن الأمر محصور في خطأ في الترجمة أدى إلى سوء الفهم لتصريح الرئيس الأميركي، وبالطبع، لم يتبن أحد هذا الشرح.
وفي المجال الدفاعي، امتنع الرئيس ترامب عن تجديد التزامه باحترام البند الخامس من اتفاقية شمال الأطلسي والتي من خلالها يتوجب على الحلفاء الغربيين تبادل المساعدة في حالة التعرّض للهجوم. كما أن الانسحاب الأميركي في قمة السبعة الكبار من التزاماتها المناخية عمّق من حجم الهوة بينها وبين حلفائها الأوروبيين. مما دفع المستشارة ميركل للقول “بأن الزمن الذي كنا فيه نعتمد بشكل كامل أحدنا على الآخر قد تغيّر”.
إن التغير الجذري في الموقف الأميركي تجاه الحلفاء الأوروبيين يجب أن يؤخذ على محمل الجد. إنه تحول جيوسياسي أساسي. إن رفض التصديق على البند الخامس في اتفاقية حلف شمال الأطلسي، يطوي صفحة 65 سنة من العلاقات المتبادلة بين أميركا وأوروبا. فالتحالف مع واشنطن لم يعد غير مشروط. وهو لا يضمن بشكل تلقائي أمن المشاركين في التحالف. لقد تزحزح موقف ترامب من عدد من الملفات كما الصين وسوريا أو حتى في مسائل مجتمعية داخلية. ولكن هناك ملفان لديه حولهما رأي ثابت وجامد منذ سنوات، وهما التجارة الدولية والقول بأن أعضاء حلف شمال الأطلسي لا يدفعون ما يكفي للحفاظ على سياسة الحلف الدفاعية والتي تؤمنها لها الولايات المتحدة كما يُحب أن يُكرّر بشكل لا ملل فيه. وهو بهذا الموقف يُشجع بعض أعضاء الحلف الأطلسي، كفيكتور أوربان المجري، على رفع مستوى علاقاتهم مع موسكو. وبالتالي، فمن الطبيعي فهم القلق الذي يُبديه قادة أوروبيون آخرون كالبولنديين ودول البلطيق مثلاً من هذا التغير في العلاقات مع موسكو التي تشكل لهم خطرًا عسكريًا وتهديدًا أمنيًا جديًا من خلال سياساتها العدائية التي لا لبس فيها والتي ما فتئت تكرر التصريح بها قولاً وفعلاً.
في الآونة الأخيرة، تراكمت الخلافات حول ملفات عدة ومتنوعة، ويُعتبر ملف الاتفاق النووي مع إيران الذي انسحبت منه الولايات المتحدة في سابقة دبلوماسية غير معهودة، هو من أهم الخسائر التي سببتها سياسة التعنت الترامبية للاقتصاديات الأوروبية والتي اعتبرت بأن الاستثمار في إيران هو جنّة المنفعة والربح. كما برز على السطح ملف الحديد والصلب الأوروبي والرسوم المرتفعة للغاية التي فرضتها إدارة ترامب على استيراده من القارة الأوروبية دافعة كل دولة بمفردها إلى السعي للتفاوض الثنائي بعيدًا عن السياسة الاقتصادية الأوروبية المشتركة.
أخيرًا، يبدو للمراقب بأن التقارب الروسي مع الإدارة الأميركية، والذي بدا واضحًا من خلال التأثير في مجريات الانتخابات التي أفضت إلى وصول ترامب إلى البيت الأبيض، والذي ينهمك القضاء الأميركي في الذهاب بعيدًا في التحقيق بخصوص وقائع شبه ثابتة مرتبطة، له أثر سلبي أيضًا على الموقف الأميركي من ملفات دولية عدة وخصوصًا فيما يتعلق بالعلاقة مع أوروبا. فرغبة الانتقام البوتينية المتوارثة منذ انهيار الاتحاد السوفييتي واضحة على “العالم الحر” الذي ساهم بشقه الأوروبي الغربي في هذا الانهيار. وهذا يدفعه من دون تردد ظاهر، إلى السعي إلى تفكيك الاتحاد الأوروبي من خلال عدة وسائل.
فموسكو تدعم جُلّ الحركات اليمينية واليسارية المتطرفة في دول أوروبا. كما أنها تحاول – إعلاميًا على الأقل – التأثير في مجريات انتخابات بعض الدول الأوروبية كما حصل في فرنسا عبر قناة روسيا اليوم ووكالة سبوتنيك. كما أن موسكو تسعى إلى التقارب مع كل التوجهات الشعبوية في أوروبا التي تماثل في عقيدتها طريقة الحكم البوتيني المعتمدة على نظرية المؤامرة والتخويف من الآخر. إضافة إلى هذا كله، نجد بأن الكرملين يتقرّب بنجاح أحيانًا وبفشل في أحيان أخرى من جُلّ الحركات الانفصالية التي ترتفع أسهمها في بعض الدول الأوروبية. ومن جهته، يبدو دونالد ترامب من اتباع هذه السياسات، فهو يدعم التفتت الأوروبي ويتقرّب من الأحزاب المتطرفة والمحافظة، كما أن شعبويته الناجحة في أميركا ترميه في أحضان أشباهه في أوروبا وهم يتكاثرون يومًا بعد يوم.
لدى أوروبا تحديات كبرى فيما يتعلق بعلاقاتها السياسية والاقتصادية والدفاعية، وحتى الوجودية، مع الولايات المتحدة الأميركية تحت حكم دونالد ترامب. والاكتفاء، كما سبق ذكره، بانتظار مرور الوقت والمراهنة على خروج هذا التيار الأميركي المحافظ والشعبوي من سدة الرئاسة هو رهان خطير وربما يكون خاسرًا. وخسارته ستودي بعديد من مشاريع العالم الليبرالي إلى دروب الفشل، كما ستُعزّز من قدرات موسكو، رغم تهلهلها الاقتصادي، على احتواء الكثير من الملفات الإقليمية والدولية الحساسة، والتعامل من موقع القوة والسيطرة مع الكثير من الملفات الأوروبية الداخلية. وما صعود اليمين المتطرف والأحزاب الشعبوية المعادية للأجانب في كثير من البلدان إلا نتيجة واضحة للتحالف الترامبي – البوتيني غير المعلن. إن تعزيز التلاحم الأوروبي من خلال إجراء الإصلاحات الضرورية في عمل مؤسسات الاتحاد الأوروبي وتعزيز دور البرلمان الأوروبي المهدد هو بدوره بسيطرة اليمين المتطرف في الانتخابات القريبة المقبلة، يجب أن يكون عملاً مبدئيًا لأعضائه المؤمنين برسالته الأولى التي نمت عبر جان مونيه ورينيه كاسان ولا يجب عليهم التخلي عن الحلم الأوروبي بوحدة حضارية تستند إلى المصالح المتبادلة وتدعمها بمجموعة من القيم والمبادئ.