يُعد الفريق “سعد الدين الشاذلي” رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية في أثناء حرب أكتوبر 1973، أحد أبرز القادة العسكريين العرب في التاريخ الحديث، امتدت حياته إلى تسعين عامًا تقاطعت فيها أحداث كثيرة في المنطقة العربية في القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين.
بين دفتي هذا الكتاب شهادات شخصية ومهنية عن الفريق الشاذلي، في أثناء مراحل حياته (العسكرية، السياسية والدبلوماسية) بِدءًا من مشاركته حروب مصر الكبرى على مدار 25 عامًا وأفكاره التي قدمها إلى القوات المسلحة، أيضًا في أثناء مرحلة التخطيط لحرب أكتوبر، وكذلك عمله الدبلوماسي سفيرًا لمصر في لندن ولشبونة، ثم إعلان معارضته لاتفاقية ” السلام ” ولجوئه السياسي إلى الجزائر لمدة 14 عامًا وإنشاء الجبهة الوطنية المصرية.
أما الكتاب فمقسَّم إلى ثلاثة أبواب: الباب الأول منه، يشير الكاتب فيه إلى سطوع نجاح اللواء سعد الشاذلي بعد حرب 1967 مباشرة على مستوى القوات المسلحة المصرية، وحتى على المستوى الشعبي أيضًا، وهناك إشارة إلى أن جزءًا كبيرًا من الحكايات التي رُويت عن شجاعته الجمة في أثناء حرب 1967، رويت بشيء من المبالغة، لكن المسؤولين وقتها تركوا هذه الحكايات تنتشر بهدف رفع الروح المعنوية للشعب المصري بعد الهزيمة.
هذا وكُلِّف الشاذلي بعد النكسة بدمج قوات الصاعقة مع المظلات تحت قيادته وسُميت بالقوات الخاصة، إلا أنه بسبب بعض الحساسيات بين قوات الصاعقة والمظلات أدى إلى صدور قرار بفصلهما مرة أخرى حتى لا تتأثر العلاقة بينهما، فكان من أولويات القوات المسلحة آنذاك هو التوافق بين فصائل الجيش، وكُلف الشاذلي بعد ذلك بقيادة منطقة البحر الأحمر العسكرية، وفي هذه الجزئية يقول الكاتب جمال الغيطاني: ” قبل قدوم الشاذلي كانت هذه المنطقة، وهي أكثر من 1200 كيلو متر، قد نفذت فيها قوات إسرائيلية عملية إنزال وتمكنت من فك جهاز رادار متقدم جدًا كان يُسمى (ب12) ونقلته إلى إسرائيل ومثلت هذه العملية إهانة كبيرة للجيش المصري، وصدر قرار بتعيين الشاذلي قائدًا لمنطقة البحر الأحمر لإيقاف عملية الإغارة والتسلل على امتداد هذه الجبهة العريضة، وخلال شهرين قطع الطرق أمام كل تلك التسللات بسبب إستراتيجيته في التعامل مع تلك المواقف العسكرية”.
ثم يقول الكاتب الغيطاني رأيه في الشاذلي: “فعندما عُيِّن الشاذلي رئيسًا لأركان حرب القوات المسلحة استطاع خلال الحقبة التي تولى فيها رئاسة الأركان أن يغير كثيرًا من المفاهيم في القوات المسلحة نفسها، وفي نفس الوقت يمكن القول إنه من أهم قادة حرب أكتوبر، بمعنى أنه هو الذي قام بإعداد وتجهيز القوات، صحيح أنه كانت هناك خبرة موجودة ومتراكمة خلال حروب الاستنزاف، لكنه هو الذي قام بإعداد القوات للعبور”.
أما الباب الثاني من الكتاب فعنوانه الشاذلي دبلوماسيًّا، فبعد حرب أكتوبر، والذي كان فيها الشاذلي كما ذكر قبل ذلك رئيسًا لأركان حرب القوات المسلحة مع الفريق أحمد إسماعيل الذي أصبح مُشيرًا فيما بعد، على أية حال، اسم الفريق الشاذلي أصبح معروفًا على مستوى العالم ببطولاته وإستراتيجيته في الحرب وذلك بعد انتهاء حرب أكتوبر حتى تم وصفه بأحسن الكلمات على أغلفة المجلات العالمية، مثل المجلة الفرنسية الشهيرة “باري ماتش” وعلى غلاف مجلة الحوادث العربية الشهيرة في لندن، إلا أن الاتهامات بدأت تُوجَّه للشاذلي من كل جانب على أساس أنه المسؤول عن الثغرة التي حدثت في أثناء الحرب ووضعت القوات المسلحة في موقف صعب للغاية.
وترك الشاذلي القوات المسلحة وعُين سفيرًا لمصر في إنجلترا، وهنا استقبلت الدوائر الصهيونية المؤثرة في القرار السياسي البريطاني هذا التعيين بمحاولات ضغط عليه عن طريق الحملات الإعلامية الشرسة التي تتهمه بأنه أصدر أوامر بقتل الأسرى في الحرب، وهذا بالطبع ما لا يفعله المصريون وقيل أنه محاربٌ شرس، ومقاتلٌ معادي لإسرائيل، وبمرور الوقت استطاع أن يقيم جسور الاتصال مع شخصيات بريطانية كثيرة، وأن يظهر للرأي العام وتتغير صورته لدى كل من عرفه.
وقد عُرض على الشاذلي المشاركة في مناظرة تليفزيونية أمام السفير الإسرائيلي في لندن بحيث يجلس كل منهما في ستوديو منفصل عن الآخر، وافق الشاذلي وجرت المناظرة التي كانت من أوائل المناظرات بين مسؤول عربي وآخر إسرائيلي وكان الشاذلي يقظًا جدًا في هذه المناظرة التي نالت إعجاب كل عربي من سلاسة كلامه وحُجته في الرد على كل شيء يخص الجيش المصري والقوات المسلحة وكان دائمًا يستخدم كلمة “THE AGGRESSOR” أي المعتدي في الإشارة إلى الإسرائيليين في كل عباراته، وخرج الناس وقتها بانطباع مختلف تمامًا عن مصر والعرب بخلاف ما كان يروجه الإعلام الإسرائيلي في تلك المرحلة .
إلا أن الرئيس السادات كان دائمًا قلقًا من فعاليات الشاذلي في لندن وكان يرسل البرقيات للفت النظر لبعض الأشياء مثل “علمًا أنكم سوف تلقون محاضرة في مجلس العموم عن قناة السويس يرجى الامتناع” وغير ذلك من تلك التوجيهات والنصائح والإشارات، وهي أمور سببت للشاذلي بعض المضايقات ولكنه كان يفعل ما يريده في النهاية، وهو ما تسبب في استدعائه أكثر من مرة إلى مصر، إلى أن بدأت إرهاصات زيارة الرئيس أنور السادات إلى القدس وكان الإحساس لدى الرئيس السادات وإدارته أن وجود الشاذلي في العاصمة البريطانية سيصبح مصدرًا للقلق، فجرى نقله إلى لشبونة عاصمة البرتغال.
وهنا يستشهد الكاتب برأي السفيرة “مي أبو الدهب” مساعد وزير الخارجية سابقًا في السفير سعد الشاذلي حيث تقول: “إن من أهم ملامح شخصية الفريق سعد الدين الشاذلي هو تفكيره الإستراتيجي والدائم في التوصل لحل المشكلات، فقد تلقى العلوم العسكرية في الاتحاد السوفيتي وفي الولايات المتحدة، وكانا قطبين مختلفين والجمع بين النقيضين يوسع مدارك الإنسان بشكل كبير، فكانت لديه حلول لكل مشكلة فعلًا أيَّا كانت”.
إلا أنه بعد ذلك قرر الفريق الشاذلي الابتعاد عن الحياة الدبلوماسية بعد ترك الحياة العسكرية وذهب للعيش في الجزائر وتم استقباله استقبال الأبطال، إلى درجة قيام السلطات الجزائرية بإرسال طائرة خاصة لنقله، كما عرضت دول كثيرة عربية أن يأتي لها معزَّزًا مكرَّمًا، لكنه اختار الجزائر لأسباب تتعلق بأن القيادة الجزائرية لا تضغط على أي لاجئ سياسي أو تعرض عليه أية شروط نظير الإقامة فيها، وبمرور الوقت أنشأ الشاذلي جبهة معارضة باسم “الجبهة الوطنية المصرية” وكان منزل الشاذلي مُلتقَى كبار الزعماء السياسيين من العرب والأجانب، الذين حرصوا للالتقاء به عند زيارتهم للجزائر ويُذكر منهم: ياسر عرفات، جورج حبش، وعلي نايف حواتمة؛ إذ كان للفصائل الفلسطينية وجود قوي في الجزائر حينذاك إضافة إلى “نبيه بري” رئيس مجلس النواب اللبناني الأسبق.
وبعد أن بدأت القلاقل والاضطرابات في الجزائر بعد فوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ بالمرحلة الأولى من انتخابات البرلمان وتدخل الجيش وقيامه بإلغاء النتيجة لتندلع بعدها أحداث عنف استمرت طوال التسعينيات، فأصبحت الحياة في الجزائر وقتها في منتهى الصعوبة، وعاد الشاذلي إلى مصر التي كان متشوقًا للعودة إليها في بداية التسعينيات أي في عام 1992، وأُلقي القبض عليه في المطار لتنفيذ حكم المحكمة العسكرية الصادر ضده غيابيًّا، ويمكن أن يكون من أسباب عودة الشاذلي إلى مصر أيضًا هو اندلاع حرب الخليج الثانية؛ لأنها أدت إلى تغيير معاملة الشعب الجزائري للمصريين هناك؛ بسبب مشاركة الجيش المصري في قوات التحالف المكلفة بالمشاركة في حرب العراق من الكويت، فشعر الشاذلي وقتها بالغربة في الجزائر خاصة مع قلة أعداد المصريين، إضافة إلى تغير نظام الحكم في الجزائر، وتغير حزب جبهة التحرير، ووصول نظام جديد إلى السلطة يرغب في إعادة العلاقات مع مصر، فلم يُرِد الشاذلي أن يسبب لهم أي إحراج ففضل العودة إلى مصر ومواجهة مصيره الذي ينتظره هناك.
وعن تجربة الشاذلي في السجن، فيحكي أنه لم يكن سجنًا حربيًّا بالمعنى المفهوم ولكن كان مستشفى تم تخصيص جزءًا كبيرًا منه لإقامته، حيث صدر قرار عفو عام عنه بعد ذلك.
أما الباب الثالث، فقد وضع الكاتب عنوان له وهو “الشاذلي سجينًا”، حيث يستشهد الكاتب بكلام السيد “عادل حربي” رئيس تحرير موقع مصر العربية ورئيس تحرير بوابة الوفد سابقًا، أن خلاف الشاذلي مع السادات حول الثغرة لم يكن سوى بداية انشقاق خطير في وقت عصيب أثارت خلافاته مع السادات جدلًا واسعًا تناولته أقلام الكتاب والمحللين، فمنذ انتصارات أكتوبر إلى الآن لم تستطع جبهة محايدة أن تضع الحقيقة أمام الجيل الحالي والتاريخ، في الوقت الذي تحدى فيه الشاذلي أن تُشكَّل جهة قضائية محايدة لتقييم سلبيات وإيجابيات الحرب؛ لنتعلم منها ونصنع العبر للجيل القادم.
وهنا يذكر أن الشاذلي كانت لديه رؤى سياسية وعسكرية، ويظهر ذلك عندما سُئل في حديث لصحيفة ” الوفد دلتا ” عن التصور في الحرب القادمة بين العرب وإسرائيل في ظل ردع نووي إسرائيلي خطير وتفكك عربي وقوة دولية واحدة منفردة بالقرار السياسي العالمي مستمرة حتى بعد 2025؟
ويجيب الشاذلي إنه ” في ظل التفكك العربي، وانفراد الولايات المتحدة بالديكتاتورية الدولية، تعتبر الحرب ضد إسرائيل عملية غير واردة، ويعد من الخطأ أن نبدأ الحرب ضد إسرائيل في الوقت الراهن، ولكن انفراد أمريكا بالقرار الدولي لن يطول أكثر من عشر سنوات؛ حيث سيكون لأوروبا دور اقتصادي مهم، وأكيد سيقع خلاف اقتصادي، الذي يُعد مقدمة للصراعات السياسية، كما ستظهر الصين وتستعيد روسيا دورها كدولة عظمى رأسمالية؛ لأنها تمتلك مقومات الدول العظمى من إمكانيات: اقتصادية، علمية، سكانية، ومساحة تمكنها من العودة إلى حلبة التحدي مع أمريكا”.
وعلى المستوى الإقليمي، سنسير في خط ديمقراطي نتيجة لانفتاح العالم وسرعة الاتصال بين المواطنين والعالم الخارجي.
وعن الخطأ في أننا وافقنا على معاهدة حظر الأسلحة النووية، ونكتفي بأننا نطالب بإخلاء المنطقة من الأسلحة النووية، فيقول: “إن الهند وباكستان استطاعا أن ينتجا السلاح النووي وفرض شروطهما لحظر وتدمير السلاح النووي، والقيادة السياسية مسؤولة عن اتخاذ القرار بإقامة السلاح النووي على مستوى دولة أو في بلاد عربية منفردة، فالمستقبل في صالح العرب، هذه الحقيقة تعلمها إسرائيل وأمريكا جيدًا، لذا يريدون استغلال ظروف التفكك العربي الحالي؛ للتوقيع على اتفاقيات مع إسرائيل.
وحول سؤال هل تستبعد حرب عالمية ثالثة في ظل التوتر الدولي الراهن؟
فيجيب “إن الحرب العالمية الثالثة بمفهوم اشتراك الدول العظمى فيها أمر مستبعد تمامًا في الوقت الحاضر؛ لوجود قوة عظمى واحدة تمتلك أسلحة نووية ضخمة، والقوة الثانية التي كانت تواجهه أضعف بكثير عما كانت عليه من قبل، ولا يوجد شيئًا يدعو إلى هذا الخلاف، ولكن سيحدث نوع من اختفاء القطبية الواحدة خلال عشر سنوات، وخلافات اقتصادية التي تكون دائمًا مقدمة للصراع السياسي، ومن المتعذَّر قيام حرب كونية خلال 20 عامًا على الأقل، ولكن الحروب ستأتي عن طريقة الحروب بالوكالة”.
ويذكر السيد “كريم أكرم” حفيد الفريق الشاذلي أن الدروس المستفادة من سيرة جده، هي المقدرة الفائقة على التفكير الإستراتيجي، فكان يستطيع تحليل أي نقاط قوة وضعف عن أي شخص وعن أعدائه، وكان لديه قدرة فائقة على تحديد إمكاناته وقدراته (كالتسليح، … وغيرها) فعندما يفكر في إمكاناته وقدراته يستطيع أن يكون صريحًا مع إستراتيجيته وما يستطيع أن يفعله على أرض الواقع، فشخصية الشاذلي انعكست على أرض الواقع في أثناء عملية إعداد القوات المسلحة للحرب، وذلك من جانبيين مهمين (الخططي، الفني). من الناحية الخططية، ظهر ذلك في وضع خطط محددة تتبعها وقفة تعبوية مثل استكمال المرحلة الثانية من الخطة، التي قد تأتي سريعًا أو بعد مرحلة قصيرة أو طويلة قد تمتد إلى سنوات، لكن المهم أن الجزء الأول من الخطة أُنجز على الوجه المراد، وهو عبور القناة وخط بارليف، وقد وُضعت الخطة بناءً على الهدف الذي تم تحديده في حدود الإمكانات المتاحة، وبعد ذلك تمت عملية العبور بمنتهى السلاسة وعلى أنجح صورة ممكنة.
ثم يكمل حفيد السيد الشاذلي حديثه ويقول: “عند مرض الفريق الشاذلي في أواخر أيامه كان لدى العائلة سؤال يشغل بالها عند وفاته كيف ستكون جنازة ذلك الرجل الذي ضحى بكل شيء من أجل بلده؟
هل سيكون هناك شيء تذكاري تخليدًا لذكراه؟ يا تُرى من سيحضر جنازته؟ هل سيحضر رئيس الجمهورية الجنازة؟ أم سيحضر وزير الدفاع؟
وعندما اشتد المرض عليه كان هناك حظر تجوُّل في البلد إثر ثورة 25 يناير، لكن شاء الله أن يموت الفريق الشاذلي في ذروة أوقات الثورة، يوم الخميس 10 فبراير فصلى عليه الملايين في ميدان التحرير، وأقيمت له جنازة عسكرية، ولم تسنح الفرصة لمبارك أن يحضر جنازته”.
وفي النهاية، فالذي يؤمن بقضية ويعمل بأمانة وكفاح، فإن الله سيعطيه أجره في حياته أو بعد وفاته، وفي ختام الموضوع أذكر كلمة الفريق الشاذلي أن “كل الحقائق سيأتي لها يوم وتظهر، وكل من عمل لبلده سيكافئه الله”.
عماد حلمي عبد الفتاح
الأمانة العامة لجامعة الدول العربية