2022العدد 192ملف ثقافي

القصة العربية القصيرة .. فن بديع مظلوم

وقع على فن القصة القصيرة العربية ظلم كبير في السنوات الأخيرة، بعد أن رُفعت لافتة “زمن الرواية”، لتلحق في هذا الظلم بفن الشعر، الذي كان في زمن بعيد ديوان العرب، وكذلك فن المسرح، حيث صار أغلبه مطبوعًا على ورق لا تقرؤه إلا القلة من الذين لا يزالون شغوفين بهذا الفن، أو من يُقدِمون على تمثيله على الخشبات الباهتة، أو هم أصلًا كتَّاب هذا الفن ويتبادلون أعمالهم بانتظام، ومعها الصبر والسلوان.

ورغم أن فن القصة كان في طليعة الأنواع التي بدأ بها الأدب العربي الحديث رحلته بعد قرون طويلة من تداعي الشعر والنثر، فإن القصة، وعقب سنوات طاول فيه فن الرواية والمسرح أيام مجده، لم يلبث أن سلك رحلة التراجع وبشكل مفجع؛ لأسباب لا تعود في أغلبها إلى قلة كتاب هذا النوع، إنما لأن هناك نوعًا آخر تم التركيز عليه، وتشجيع إبداعه، ودفعه إلى الأمام، وإثارة الجدل حوله، ومنحه فرصًا هائلة، فصار أشبه بـ “عصا موسى” التي ابتلعت كل ما هي دونها.

ولا أقصد بـ “دون” هنا أن فن القصة القصيرة أقل شأنًا أو أقصر قامة من فن الرواية، بل إن في القصة من الإحكام والتكثيف والغنائية ما يجعله أكثر عذوبة، لكن لفظ “دون” هو وصف للمرتبة التي تحتلها القصة في اهتمام دور النشر والقراء ومانحي الجوائز الأدبية السخية.

وفي الحياة الأدبية العربية هناك ستة أصناف من الساردين إن كنا بصدد رسم خريطة للإبداع القصصي، هم:

  1. كُتاب القصة القصيرة: وهم الذين أخلصوا لهذا الفن فقط، ولم يبرحوه أو يغادروه إلى غيره، وظلوا مرابطين عنده عن طيب خاطر أو اقتناع تام، وقد عمل بعضهم على إجادة القصة وتطويرها، ودفعها إلى الأمام، أو على الأقل الإبقاء على جذوتها الأدبية مشتعلة بين ألوان أخرى تتكاثر وتطغى. والمثال الأبرز على هذا هم المصريون (يحيى الطاهر عبد الله، ومحمد حافظ رجب، ومحمد المخزنجي، وسعيد الكفراوي، والسوريان إبراهيم صموئيل، وزكريا تامر)، ولا يعني هذا أن هؤلاء عجزوا عن كتابة الرواية، فقصص بعضهم فيها تكثيف إن استطال واستعرض التفاصيل يمكن أن يصنع رواية، لكنهم وجدوا هذا الفن كافيًا كي يمثلهم، ويقيمهم أدباء لهم شأن، أو هو يشبه شخصياتهم الإبداعية ويعبر عنها تعبيرًا دقيقًا أو كافيًا.
  2. كُتاب القصة إلى جانب الرواية: وهؤلاء كُثُر، لاسيما في الأجيال الأدبية السابقة، حيث كان هناك حرص واضح على أن تبقى القصة جنبًا إلى جنب مع الرواية في إبداعهم المتوالي. والمثل الأبرز في هذا هو نجيب محفوظ، الذي يعد الباني الأكبر لأعمدة الرواية العربية المعاصرة، ومع هذا فقد كتب خمسة عشر مجموعة قصصية إلى جانب خمس وثلاثين رواية.
  3. كُتاب الرواية فقط: وقد زاد عدد هؤلاء في الفترة الأخيرة بشكلٍ لافت، إذ لم يجد أدباء شباب أنفسهم في حاجة إلى أن يبدؤوا رحلتهم الأدبية بكتابة القصة، إنما دخلوا إلى ساحة الرواية مباشرة، مقتنعين أنها الفن الذي يستوعب تجاربهم، أو منجذبين إلى الإغراءات التي تقدم للروائيين، سواء من دور النشر، أو المؤسسات المانحة لجوائز سخية.
  4. المتدربون في القصة ابتغاء الرواية: كان بعض الأدباء الكبار والنقاد ينصحون الساردين الشباب بأن يبدأوا بالقصة القصيرة؛ لأنها تحتاج إلى جهد أقل، وقريحة إبداعية لحظية إلى حد ما، يجب أن يمتلكها الأديب في أول الطريق، ثم يعمل على تجويدها وتطويرها، فيطول نفسه الإبداعي، ويزيد جهده في الكتابة، وتتسع تجربته، ويصبح قلمه أكثر دُربة ومهارة، ومن ثم يمكنه أن يمضي إلى الرواية، ويا حبذا لو مر بمرحلة “القصة الطويلة” أو الرواية القصيرة أو “النوفيللا”.
  5. من كتبوا أنواعًا عدة لكن القصة هي مجال تميزهم: والمثل الأبرز في هذا هو يوسف إدريس، الذي كتب الرواية والمسرح والمقال السردي لكن تظل قصصه هي التي تحمله عاليًا في سماء الأدب، وتصنع له موقعه الفريد أو المتميز، حتى أن البعض يصفه بـ “أمير القصة العربية”.
  6. المتوسلون بالقصة في كتابة عابرة للأنواع: إذ تحل القصة في كثير من ألوان الكتابة، فهناك المقال القصصي، والحكايات التاريخية، الشفهية منها والمكتوبة، والقصة الخبرية، والرواية المشهدية، والكتابة العلمية  … إلخ. ويمكن أن نضرب مثلًا دالًا بقوة على هذا بالكاتب صلاح عيسى، إذ كان يتناول وقائع التاريخ بشكلٍ قصصي، وكذلك كانت بعض مقالاته الصحفية. كما كتب هذا الصنف من المقالات أيضًا المصريان (محمد المخزنجي،  وإبراهيم أصلان)، والإماراتية “عائشة سلطان”، كأمثلة معبرة.

هؤلاء جميعًا يؤكدون أمرين: الأول، هو أن فن القصة لم يمت تمامًا، ولن يموت؛ لأنه يحمل في باطنه عوامل بقائه. والثاني، أنه فن قادر على التجدد والتمدد، إذ يتجدد في حد ذاته، حتى وهو ينكفئ على نفسه، ويتمدد إلى ألوان أخرى من الكتابة فيسكنها، وتسكنه، ويتحدان معًا ليؤديا الغرض المطلوب، دون التواء ولا تثاقل على القارئ أو المتلقي.

لكن هذا الحضور، الذي يقاوم الغياب أو التغييب، لا ينفي أبدًا أن القصة القصيرة صارت فنًّا مظلومًا، أـو سِيقت إلى أزمة شديدة، يصنعها تجاهلُها، أو الزعم بأنها درجة متأخرة عن الرواية في فن الكتابة السردية، أو هي دونها اعتبارًا وقيمة.

وهذا التأخر له مظاهره الواضحة، فإبداع القصة يقل عددًا عن الرواية؛ لأنها صارت أقل في جلب الشهرة أو الذيوع، وأقل في تحصيل العائد المادي، ويتعامل البعض معها أحيانًا على أنها مجرد مرحلة يتدرب فيها الأديب على الكتابة، فإن ارتقى ينتقل إلى الرواية، كما أن المتابعة النقدية لها أبطأ كثيرًا، والدراسات والأطروحات الجامعية حولها أندر.

وليست القصة، كفن قديم، مسؤولة عن كل التبريرات السابقة، بل إن هذا التبرير يبدو مجرد ذرائع للتنصل من مسؤولية الأدباء حيال رعاية هذا اللون من الكتابة. وهذه المسؤولية لا تعني إجبار الأقلام على كتابة القصص، فهذا ليس مستساغًا، ولا يمكنه أن يصنع قصصًا جيدة، إنما المقصود هنا هو أن تتوفر الظروف المشجعة  على وجود هذا الفن، وتؤدي إلى غزارة إنتاجه، وامتلاك مقومات إتقانه، وتجويده المستمر، وظهور رموزه أو نجومه.

وخلق الظروف المواتية لتحفيز هذا الفن هي مسألة عرفها من سبقونا إليه. ففي وقت من الأوقات ظهرت دوريات أدبية عديدة في أوروبا، فانجذب الأدباء إلى كتابة القصة القصيرة، فأي دورية لا يمكنها نشر رواية كاملة، إنما تنشر قصصًا لعدة أدباء في العدد الواحد، كتمثيل معتبر للسرد. وكانت هذه الدوريات تدفع مكافآت مجزية للكتاب، وتعرض قصصهم بشكلٍ جيد، وتفتح الباب للنقاد لدراستها، فصار كل شيء يدفع في اتجاه انتعاش هذا الفن البديع.

وتُظلم القصة القصيرة ظلمًا بيّنًا إن نُظر إليها على أنها مجرد مرحلة في حياة السارد، عليه أن يتخطاها إلى سردٍ عَرِم واسع ذي بنية أكثر تعقيدًا، فقد يكون العكس هو الصحيح تمامًا. فالقصة بما فيها من تكثيف واختزال وغنائية تقربها من الشعر أحيانًا وما تنطوي عليه من مفارقات وتضمين، تحتاج إلى قدرة خاصة في البناء والإبانة، وفي المزاوجة بين الجمال والمعنى، وكأنها تشير، من زاوية مختلفة وربما بعيدة، عما فعله الزعيم الأمريكي “إبراهام لينكولن” حين ختم إحدى خطبه قائلًا: “أعتذر على الإطالة، فلم يكن لدي وقت للاختصار”.

إن القصة القصيرة هي “الغرفة الأنيقة التي تحتاج إلى ذوق رفيع وحساسية مرهفة لتأثيثها بعناية فائقة، وهي شكل من أشكال التعبير الأدبي القادر على التطور والتجديد”، حسبما يقول زكريا تامر، ولا يجب أن تُظلم من تكون هذه خصائصها، ولا يُهضم حقها، ولا ينظر إلى من يبدعونها على أن أنفاسهم السردية قصيرة، وقريحتهم الإبداعية خاطفة ومتذبذبة وقلقة، فهناك قصة تشبع عن رواية، ومجموعة قصصية أجلى وأطلى وأعمق فنيًّا من حزمة روايات.

وإذا كانت بعض وسائل التحفيز ليست بأيدينا- فهي تعود إلى القراء والناشرين ومانحي الجوائز- فإن هناك حافزًا مهمًّا يقع في أيدي نقاد الأدب، لاسيما من أولئك الذين يستثقلون أو يستصعبون نقد مجموعات قصصية. فعلى قدر اليسر الذي يمكن أن نلقاه في قراءة هذه المجموعات مقارنة بالروايات الضخمة في عدد صفحاتها فإن تقديم نقد متكامل للقصص يبدو أصعب مما نواجهه مع الرواية، فالأخيرة هي في النهاية، ومهما بلغ حجمها، حكاية واحدة لفكرة وحيدة مركزية، أما أي مجموعة فهي نثار من حكايات وشخصيات وعوالم وقضايا وأفكار ورؤى ومسارات، تتعدد فيه الأمكنة والأزمنة، وقد تتباين الأساليب من قصة إلى أخرى، قصد الكاتب هذا أو جاء الأمر عفو الخاطر.

وأحاول في هذا المقام أن أجد طريقة أو مدخلًا للنقاد يسهل عليهم هذه المهمة؛ لنشجع الكتابة حول المجموعات القصصية، خاصة إن لم يكن الكاتب قد قصد دوران قصص مجموعته حول موضوع أو مضمون واحد، وهو يجري أحيانًا على قلته، فإننا نكون في أغلب الأوقات أمام تنوع وتوالي العناصر والعوامل والأسباب التي تجعل من الضروري أن نبحث عن عنصر حاكم أو مسار واحد لقراءة مجموعة قصصية ونقدها، وهذه العناصر تفصيلًا هي:

  • تعدد العوالم: فكل قصة في المجموعة أو بعض من قصصها قد ينتمي إلى عالم أو فضاء اجتماعي وإنساني مختلف عن البقية، سواء قصد الكاتب أن يصنع هذا التعدد، أو إنه انساق خلفه، مستجيبًا لكل ما يجذبه إلى مسار صنعته مخيلته أو فرضته شروط الفن.
  • تنوع الحكايات: إذ أن كل قصة في المجموعة حكاية غير أختها من القصص، وتتابع الحكايات متدفقة، ولكل منها مسارها الذي تشقه، ومصيرها الذي تنتهي إليه.
  • اختلاف الأساليب: يمكن للكاتب أن ينوع طريقته في الكتابة بين قصة وأختها، وقد يكون قاصدًا هذا أو يطاوع ذائقته ومخيلته وحالته ومساره، بحيث نجد أنفسنا مع الصفحة الأخيرة في المجموعة أمام أساليب وطرائق عدة في السرد والبناء.
  • تغير الحالات: التي مر بها الكاتب، أو الأجواء النفسية التي عبرها في أثناء كتابة القصص، بين أمل مجنح وقنوط مقبض، وبين رغبة عارمة في تغيير العالم ونكوص عن هذا، وربما عدول وكفر به، وبين إقبال على الفعل وإحجام إلى السكون. ولا أقول أن هذا يجري بالضرورة لدى كل كاتب، مع كل مجموعة كتبها، لكنه على الأرجح هو الذي تصير الأمور إليه.
  • سخاء التجارب: فالمجموعة القصصية الواحدة لدى بعض الكتاب قد تقف خلفها تجارب متعددة، يكتسبها الكاتب عبر زمن الكتابة من حصيلة تأمله فيما كتبه، وما يقرأه عند آخرين سبقوه على الدرب، أو مطالعته لأعمال نقدية في فن القصة القصيرة.
  • تبدل الأزمنة والأمكنة: ففي المجموعة الواحدة نجد أنفسنا أمام أزمنة وأمكنة عدة ومتفاوتة، وهذا أمر طبيعي، إذ يمكن للكاتب أن يضم فيها قصصًا تدور في أكثر من مكان، وتتعاقب على أزمنة متتابعة.
  • تباين الشخصيات: ففي المجموعة الواحدة نجد أنفسنا، في الغالب الأعم، أمام شخصيات متباينة أو متنافرة بل متناقضة، لكل منها منهله ومشربه ومذهبه في الحياة وأهدافه ومسعاه، ومن دون شك فإن هذا يجعل تحليل القصص في سطور معدودات مسألة غاية في الصعوبة.
  • الكتابة المشتركة: وهذا لون آخر من الكتابة القصصية ظهر في السنوات الأخيرة نتيجة لظهور ما يسمى بالورش، أو اقتراب مجموعة أدباء من بعضهم البعض إما لشعورهم بالانتماء إلى اتجاه واحد في الكتابة، أو لرغبتهم في التغلب على صعوبة النشر بتمويل كتابهم شراكة بينهم.
  • مختارات كاتب: وهو اتجاه شاع أيضًا، إذ تقبل بعض دور النشر على إعادة نشر مختارات لكاتب واحد  من عدة مجموعات قصصية في كتاب. وتكون هذه المجموعات وقصصها قد كتبت على فترات متباعدة، ما يعني أن كل ما سبق من تباينات قد ينطبق عليها.
  • قصد المؤلف: حيث يتوافر دومًا احتمال أن يكون  الكاتب حريصًا على التنوع، فيعمد في مجموعة واحدة إلى عرض قدراته وانشغالاته وطرائقه في السرد والتعبير.

من أجل هذا فإن أغلب من تناولوا مجموعة قصصية بالنقد- لاسيما أولئك الذين كانت محددة لهم مساحة الكتابة في الصحف والمجلات- لم يستطع أي منهم أن يوفي أي منها حقها، فاكتفى بعرض الفكرة أو الموضوع الذي تدور حوله كل قصة، مع الإتيان سريعًا على بعض الخصائص الفنية.

وقد حضرت بالفعل حديثًا بين أدباء كانوا يقولون إن الناقد لم يفعل شيئًا في مقاله سوى عرض القصص، ولم يكن غير قلة منهم تدرك أن السبب يعود إلى أن قصصهم ممتدة فنًا وموضوعًا إلى ما هو أبعد من أن يحيط به كاملًا مقال أو دراسة قصيرة. وربما هذا يجعل من الضروري أن نبحث عما يمكن أن يؤدي الغرض، أو المقبول منه، في نقد مجموعة قصصية، ولا ينهي ما يعيبه الأدباء على النقاد تمامًا، إنما على الأقل يقلل منه إلى حدٍ مقبول.

من أجل هذا تولد ضرورة التفكير في طريقة منضبطة، علميًّا وفنيًّا، للتعامل الحصيف الواعي مع أشتات من القصص، ولا يعني هذا الانضباط بالضرورة التعبير الكامل عن كل ما ورد في هذه القصص من تفاصيل الحكايات ومواقف الشخصيات ونفسياتها، ومضمون الأفكار واتجاهاتها، ومسارها الفني أو بنائها، إنما يعني بالقطع البحث عن نقطة التقاء، أو مرجع انتهاء لكل قصص المجموعة على توزعها وتفرقها وتشتتها، سواء تعمد كاتبها هذا أو أنها أتت على ذلك النحو دون قصد منه.

إن كثيرًا من الأفكار والتصورات النقدية المهمة الهائمة طالما تاقت إلى نقطة مركزية تنطلق منها أو إطار مرجعي تنتهي إليه، وعند الحد الأدنى سعت إلى ما تعارف عليه الناس بأنه “قواسم مشتركة”، وإن كان كل هذا يرد إلى عالم الأفكار والمعارف أكثر من ارتداده إلى عالم الفن، لكن منذ متى كانت الأبواب مغلقة تمامًا بين ما هو معرفي وما هو فني؟

إن النقد الأدبي وإن تعلق بالأساس بتتبع وسبر أغوار وكشف أبعاد فن يتسم بالمراوغة والتمرد والهيام، فإنه يريد في أدنى محاولاته أن يروض المراوغ، ويهيئ المتمرد للانسجام مع تصورات يقررها التفكير العقلاني، الذي لا تعني عقلانيته- بأي حال من الأحوال- مجافاة شروط الفن، إنما تفهمها وتقديرها وعدم الجور عليها.

وهذه “الفنية” أو “الأدبية” هي التي يجب أن تكون أصل أو أساس أي تصور أو تفكير يتعلق بالبحث عن “النقطة المركزية” أو “الإطار المحال إليه”، وهي مسألة قد تكون مستقرة في لاشعور الكاتب وهو يبدع قصصه، فهي وإن تنوعت عوالمها بنت قلم واحد يعبر عن شعور واحد، ولاشعور واحد أيضًا، حتى وإن ارتقى ذهن الكاتب من مرحلة إلى أخرى، وتطورت كتاباته بقدر تعدد تجاربه، واتساع مطالعاته، ورغبته في تجويد نصه.

وبذا فإن الانطلاق من نقطة ما، أو الانتهاء إلى إطار معين في التعامل مع أشتات من القصص لا يعني بالضرورة جورًا على أدبية الأدب، أو إجبار الفن على الخضوع إلى افتراضات العلم وتصورات الفلسفة، إنما هو امتثال للتعامل الطبيعي مع نص واحد لكاتب واحد، مهما تعاقبت خبراته وتعددت رغباته في الانتقال من عالم فني إلى آخر.

بناء على هذا أعتقد أن بوسعنا أن نقرأ كل مجموعة قصصية في إمعان وتركيز شديدين، ثم نجلس لنتأمل نقطة البداية التي ينطلق منها النقد، أو الإحالة التي يعود إليها، لكن هذا يتطلب التمهل في التفكير الذي يعقب القراءة، موضوعًا وفنًّا، أو محتوى وشكلًا، وعندها قد نضع أيدينا على ما يجب أن نبدأ منه أو نخلص إليه، وهو الذي يجعل بمقدورنا أن ننظم القصص كافة على اختلاف عوالمها وتعدد شخصياتها وزمانها ومكانها في مسرب واحد، لا يزعم بالضرورة أنه يمثل كل تفاصيلها، إنما بوسعه القول إن قد وضع يده على الصورة الكلية، أو المعنى الجامع، الذي يشغل الكاتب في شعوره أو لا شعوره.

لا يعني هذا أن رؤية نقدية من هذا القبيل بمكنتها أن تحيط وعيًا ونقدًا بكل تفاصيل القصص التي تحويها المجموعة، لكنها على الأقل تقدم مفتاحًا مهمًا لقراءتها وإدراك معانيها ومراميها، وبالتالي يمكن البناء عليها في فهم التطور الذي ارتآه الكاتب في مسيرته، أو اللبنة التي وضعها في مسار السرد القصصي برمته.

وقد يحال هذا المفتاح إلى نوعٍ أو جنس من قبيل المرأة والرجل، أو قيمة إنسانية مثل: الحرية والعدل والمساواة والانتماء، وحالة كالأمل والرجاء واليأس والفرح والحزن، ومجتمع نعرفه كالحضر والبداوة والقرية والمدينة، وموقف فني وفلسفي مثل: العبث والتحقق والغياب والحضور والموت والحياة والتجديد والتقليد، أو تنصرف إلى أشياء ومعان وحالات أخرى يوزعها الكتاب والنقاد والعارفون إلى مسارات متعددة.

لا يعني هذا أن نحدد قيمة أو نوع أو حالة ما، ثم نجبر القصص على السير نحوها قسرًا، إنما علينا أن ندع القصص نفسها تبوح لنا بمكنون سرها، وعلينا أن نصبر حتى نصل إليه أو نقترب منه، وعندها بوسعنا أن نبدأ في النقد، أو إن صح التعبير، نشرع في الفهم والتعبير والتقريب والتصوير والتحليل، حتى لا تقل أو تتضاءل مزاعمنا حول إمكان نقد قصص مجموعة كاملة، تتعدد قصصها من مختلف الزوايا وإن كان كاتبها بالطبع شخص واحد.

اظهر المزيد

د. عمار على حسن

روائي وباحث في علم الاجتماع السياسي - القاهرة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى