العلاقة بين الفن والمجتمع علاقة أزلية لا يمكن فصلها بأي حال، فكل مجتمع يفرز الفنون الخاصة به معبرًا عن طموحاته وأحلامه ومشاكله، وأيًّا ما كان الهدف من هذه الفنون فلن تلقى نجاحًا أو استمرار في مجتمع ما إلا عندما تمس هذه الفنون هذا المجتمع في خصوصيته الإنسانية والاجتماعية.
لقد قسم المتخصصون في الثقافة أنواع الثقافة إلى: أولًا، الثقافة الرسمية والتي تمثل الدول والحكومات وتحمل شكلًا رصينًا تدعمه الحكومات، وبالتالي يعبر عنها ويحمل آراءها وتوجهاتها، والشكل الآخر هو الشكل الشعبي والثقافة الشعبية التي تخرج من رحم المجتمع وتلمس قضاياه وتطرح وجهة نظر وتحل بعض المشاكل سواء بطرح وجهات النظر أو حتى في الخيال والحلم. ولا يمنع هذا التصنيف وجود تداخلات وتماس بين كلتا الثقافتين، وقد تصل هذه التداخلات أحيانًا إلى درجة التطابق أو الاتفاق التام في بعض الأحيان، ولكنها أيضًا قد تتنافر أو تتصارع في أحيان أخرى.
والفن بوصفه منتجًا يعبر عن ثقافة ويحمل وجهة نظر ويحقق تواصل بين (المبدع والمتلقي، الفنان والجمهور) من خلال رسالة ما، هو الوسيلة الأكثر تعبيرًا والأكثر تأثيرًا في نفس الوقت. حتى في بعض الأزمنة عندما ظهر مصطلح “الفن للفن” فإن هذا المصطلح لم يدُم طويلًا بل سرعان ما تلاشى ولاقى استهجانًا من الفنانين أنفسهم ليحل محله مقولة “الفن في خدمة المجتمع”.
وفي الحقيقة إن ذلك قد يكون شيئًا لا إراديًّا، فالفنان بشكل عام هو ابن مجتمعه وبيئته، تكونت ثقافته أو أيديولوجيته من خلال معطيات هذا المجتمع، يحمل همومه ويشعر بقضاياه ومشاكله ويعاني مما يعاني منه هذا المجتمع، حتى وإن وصل أعلى مراتب التعليم أو التثقيف، وحتى إن درس خارج هذا المجتمع واطلع على ثقافات أخرى مغايرة. الفنان ابن مجتمعه وبيئته، تسهم ثقافة الأسرة والمدرسة والشارع والإعلام والدين في تشكيل وجدانه وعقله، ومن ثم فالفنان يحمل هم مجتمعه ويسعى للتعبير عن هذه الهموم وصولًا في النهاية للرغبة في تطوير هذا المجتمع والارتقاء به وحل مشاكله حتى لو تمرد عليه أو هاجمه بغرض الإصلاح والتغيير.
وتلعب الفنون الدرامية دورًا كبيرًا في التعبير عن المجتمعات وطرح تصوراتها وتوجهاتها ومشاكلها وأحيانًا الحلول الممكنة أو تصورات لهذه الحلول، أو حتى تقديم رؤية نقدية للمجتمع تحثه على التغيير والتطور والسعي نحو الأفضل.
وينطبق هذا على الأشكال الدرامية المختلفة سواء تراجيديًّا أو كوميديًّا على السواء؛ فالسخرية من أشخاص أو مواقف أو أحداث معينة وبهدف الإضحاك يتجاوز حد الضحك ليصل إلى إثارة التفكير حول الشخص أو المشكلة، وكما يطلق البعض عليه فكرة ” تعرية مشاكل المجتمع والسخرية منها لمواجهتها”.
لقد قامت الفنون الدرامية العربية بدور كبير في طرح مشاكل المجتمع منذ نشأتها وحتى وقتنا هذا مرورًا بلحظات تألق وازدهار وأحيانًا بلحظات توتر وابتعاد عن المأمول، ولكن الثابت أن الفنون الدرامية العربية في (المسرح، التليفزيون، والسينما) كانت على تواصل واحتكاك دائم بالقضايا والهموم التي تمس المواطن العربي ومجتمعه.
وإذا تجاوزنا الدراما التليفزيونية باعتبارها تهدف أساسًا إلى تناول القضايا الاجتماعية وبوصفها تحمل الشكل الرسمي الرصين للدولة ومن ثم فإن الحكومات تضع نصب عينيها الارتقاء بالمجتمع وطرح مشاكله التي لا تتعارض مع مصالحه بالقطع، وسنركز اهتمامنا هنا على المسرح والسينما، بوصفهما أكثر تحررًا من الشكل الرسمي ويمنحان الفنان حرية أكبر في التعبير والطرح. ويختلف المسرح عن السينما في العديد من النواحي؛ فالمسرح يعتبر ظاهرة ثقافية في الأساس يجمع بين (الترفيه، المتعة، والفكر الجاد) في نفس الوقت، والنص المسرحي المكتوب غالبًا ما يكون منشورًا ويمكن قراءته، إلى جانب العرض المسرحي الذي يعتبر تناولًا لهذا النص من خلال رؤية إخراجية تحدد الأهداف والتوجهات وعمل جماعي لتحقيق هذه الرؤية.
وإذا كنا سندرس مدى تعبير المسرح العربي عن القضايا الاجتماعية، فإننا سندرس النص المؤلف، كما سنتناول العرض المسرحي أيضًا.
فلا شك أنه منذ بدايات المسرح العربي كانت القضايا الاجتماعية ويتم تناولها بنسب متفاوتة، فلقد مر النص المسرحي العربي بمراحل الترجمة ثم التعريب والاقتباس، ثم بدأت مراحل التأليف تنمو تدريجًا، ولا شك أن المؤلفين قد تأثروا بالنصوص الأوروبية التي قرؤوها وترجموها أو اقتبسوا منها، وهي موضوعات كانت بعيدة عن هموم المجتمعات العربية، ثم جاءت أعمال المؤلفين الأوائل مستمدة من التاريخ العربي مثل: نصوص على أحمد باكثير، أحمد شوقي، عزيز أباظة،… وغيرهم من المؤلفين الذين استمدوا موضوعاتهم من البطولات العربية أو المصرية في بعض الأحيان . ومما لا شك فيه أن هذه الأعمال كان لها بُعدًا مهمًّا في إذكاء الروح الوطنية في فترة كان الاستعمار مسيطرًا على المنطقة العربية كلها.
وهناك بُعدًا آخر لا يمكن إغفاله، وهو المسرحيات الكوميدية التي كانت تقدمها الفرقة المسرحية مثل: عروض فرقة علي الكسار، نجيب الريحاني، وعزيز عيد، حيث ظهرت أشكال وأنماط مسرحية مثل: البربري الوحيد الساخر الذي ينقد المجتمع والشخصيات المحيطة به، ومثل شخصية “كشكش بك” التي قدمها الريحاني كنموذج للرجل الذي يأتي من الريف وينفق أمواله في الملاهي، ويتعرض للكثير من المشاكل. وكتب توفيق الحكيم العديد من المسرحيات لتلك الفرق ثم اتجه للكتابة من التاريخ بعد سفره إلى فرنسا، متناولًا أفكارًا فلسفية. مع ظهور الواقعية في الفن اتجه المسرح بشكل عام للاحتكاك بالمجتمع، فتغيرت الموضوعات من التاريخ إلى الموضوعات الحياتية العادية، وتحولت اللغة من الشعر إلى النثر، واتجه الكتاب إلى اللهجات المحلية الدارجة، وتناولت النصوص بشرًا عاديين من الشارع يقدمون مشاكلهم وقضاياهم وأحلامهم البسيطة، حتى قصص الحب والغرام أصبحت تحمل همًّا اجتماعيًّا، وتعددت الموضوعات لتشمل قضايا: الجهل، الفقر، صراعات الطبقات الاجتماعية، البطالة والظلم، قضايا المرأة وحريتها، تعليم المرأة، الفساد وأثره على المجتمع، والظلم الاجتماعي.
وإذا كانت الواقعية، على المستوى العالمي، قد حققت طفرة نوعية أدت إلى ظهور مدارس فنية أخرى، فإن المسرح العربي ارتبط بشكل كبير بهذه المدرسة بوصفه مجتمعًا ناميًا، وزاد هذا الارتباط بعد التحرر من الاستعمار؛ حيث كانت الرغبة الأصيلة في تطوير المجتمع العربي وإذكاء الروح الوطنية القومية، وانعكس ذلك على أعمال: توفيق الحكيم، سعد الدين وهبه، نعمان عاشور، نجيب سرور، عبد الرحمن الشرقاوي، ألفريد فرج، ميخائيل رومان، وسعد الله ونوس.
لقد انقسم المسرح العربي من حيث العروض المسرحية إلى نوعين: العروض الرسمية، والتي تكفلها الدولة سواء كانت تراجيدية أو كوميدية، وقد اكتسبت طابعًا رصينًا وجادًا يميل إلى استخدام الرمز والإسقاطات السياسية وتناول قضايا المجتمع بشكل غير مباشر.
والمسرحيات التجارية الخاصة: وهي ذات طابع كوميدي استعراضي، وهذه الأخيرة اكتسبت طابعًا نقديًّا يميل للسخرية وإثارة الضحك من القضايا المجتمعية والأنماط البشرية التي تعوق تقدم المجتمعات.
فالمسرح كان وسيظل الحامل الأصيل للتعبير عن قضايا الإنسان والواقع، وصاحب الدور الأكبر في بناء الثقافة وتحقيق الأهداف المرجوة من الحب والخير والعدل والجمال.
لقد مر المسرح العربي بلحظات ضعف وقوة، ازدهار وأفول، يمكننا أن نلاحظ ما يلي على المسرح العربي في علاقته بالقضايا الاجتماعية:-
- أهم القضايا التي تناولها المسرح العربي هي: الحرية، الظلم الاجتماعي، قضايا المرأة، التعليم في مقابل الجهل، والسلوكيات التي تضر بالمجتمع.
- لجأ الكتاب العرب إلى الرمز بشكل كبير هربًا من الرقابة للحصول على مسافة أكبر في مناقشة القضايا التي تُظهر المجتمع، خاصة تلك التي قد تمس جوانب سياسية أو تابوهات اجتماعية.
- جاءت القضية الفلسطينية مسيطرة على عقل ووجدان الفنان العربي خاصة في المسرح الجاد، وارتبطت فترات ازدهار المسرح، في الستينيات على وجه الخصوص، بتلك القضية إلى جانب التوجهات الاجتماعية والقومية.
- في السبعينيات من القرن الماضي، ازدهر المسرح التجاري الخاص وقدمت العديد من المسرحيات الكوميدية التي تتجول في أنحاء الوطن العربي ولمعت أسماء مثل: عادل أمام، سمير غانم، دريد لحام، عبد الحسين عبد الرضا، غانم السليطي، … وغيرهم من الفنانين العرب. وتفاوتت قيمة العروض المقدمة ولكنها غالبًا ما كانت تتناول قضايا اجتماعية بسيطة وشخصيات كاريكاتيرية، ولكنها كانت لا تخلو من التلميحات والمقولات التي تهدف إلى خدمة المجتمع وتطويره، وإن كان هدفها الأول هو الإضحاك والتسلية وهو نوع من الترفيه يحتاجه المجتمع للتنفيس عن همومه.
- ظهرت في السبعينيات والثمانينيات فكرة المسرحيات المعدة للتليفزيون، وإن كان التليفزيون قد ساهم في إنشاء العديد من الفرق المسرحية بهدف ملء ساعات الإرسال إلا أن الاحتياج الشديد لهذه الساعات أضر بالمسرح؛ حيث أصبحت المسرحيات تُكتب وتُعرض في زمن قياسي دون أن تأخذ حقها من التدريب والعمل، فجاء الاهتمام بالكم على حساب الكيف، وهو ما يعيد إلى الأذهان تجربة ” مسرح مصر” والفنان/ أشرف عبد الباقي، حيث بدأت العروض جيدة ومتميزة ولكن مع الوقت وانشغال النجوم وسيطرة العنصر المادي، أصبحت الموضوعات مكررة وتعتمد على الارتجال اللفظي وغير ناضجة مما أدى إلى احباط التجربة وفشلها تقريبًا.
- في العقد الأخير من القرن الماضي، تعرض المسرح العربي لعدد من المشاكل مثله مثل المسرح العالمي، واستمر الحال كذلك في بدايات القرن 21، وتقلص عدد العروض المقدمة على مسارح الدولة، وتوقف القطاع الخاص التجاري تقريبًا عن تقديم عروضه ماعدا بعض المحاولات البسيطة من حين لآخر، وبقي اتجاهان: الأول، العروض التي تنتجها الدولة وتدعمها وتخدم أهدافها، اتجاه المهرجانات وخاصة التجريبي منها بهدف محاولة التجديد والتطوير، ولكن هذه العروض انفصلت عن المجتمع وابتعدت عن قضاياه، واهتمت بفلسفات وجماليات لغات أخرى غير اللغة المنطوقة “لغة الصورة” والابتعاد عن الكلمات.
- تنبهت الحكومات والدول العربية إلى أهمية المسرح كوسيلة فنية وثقافية في العشرين سنة الماضية، ورصدت ميزانيات كبيرة للمسرح، وأقامت مسابقات تنافسية ومهرجانات نوعية، واهتمت بالمسرح الجامعي وتدريس الفنون وبرزت جهود: المملكة العربية السعودية، الكويت، مصر، دولة الإمارات العربية المتحدة، تونس، والمغرب. مما ينبئ بظهور جيل من المسرحيين (كتابًا، خرجين، وممثلين) وأصبح الاهتمام يجذب الجمهور مرة أخرى إلى المسرح من خلال تنوع الأشكال الفنية؛ حيث أصبحت هناك عروضًا جادة تبحث في التراث العربي والبيئة الشعبية لكل بلد، وهناك عروضًا كوميدية تنتقد الأخطاء وتسخر من المشاكل وتعريها بهدف إصلاحها، وظهر واضحًا الاهتمام بالموسيقى والغناء وفنون الاستعراض داخل العروض المسرحية إلى جانب الاتجاه التجريبي الذي يوظف كل عناصر العرض لخدمة الفكر والمجتمع، وأصبحت القضايا المطروحة تعبر عن حرية الفرد في المجتمع، المرأة وقضاياها.
- إن أسماء عديدة من الكتاب المسرحيين العرب الذين حملوا لواء التغيير عن مجتمعاتهم مثل: فهد ردة الحارثي وسامي الجمعان في السعودية، إسماعيل عبد الله بالإمارات، هزاع البراري في الأردن، محمد الحديني وسعيد حجاج وغيرهم في مصر؛ ليكملوا مسيرة سابقيهم من الكتاب والمؤلفين العرب أمثال: سعد الله ونوس، عبد الكريم الرشيد، ممدوح عدوان، والكتاب المؤلفين المصريين الذين ذكرناهم سابقًا، كما ظهر جيل جديد أيضًا من المخرجين المسرحيين أمثال: خالد جلال، هشام عطوة ، إسلام إمام، … وغيرهم، والذين استفادوا جميعًا من الدراسة الأكاديمية في المعاهد والكليات المتخصصة.
- إلى جانب المهرجانات وظهور الكتاب والمخرجين والفنانين الجدد، اهتمت الدول العربية بتدريس فنون المسرح والاستفادة من الخبرات والتجارب العالمية فأنشأت كليات وأكاديميات ومعاهد متخصصة مثل “أكاديمية الشارقة للفنون الأدبية” وأصبحت هناك كليات تدرس فنون المسرح في معظم الجامعات العربية تقريبًا، وهذا قد انعكس بدوره على تخريج أجيال جديدة في كافة التخصصات: التأليف، التمثيل، الديكور، الإخراج، ……إلخ، إلى جانب حتمية ربط المسرح العربي بهموم المواطن العربي وقضاياه، وفي الوقت نفسه ربطه بالحركة الإنسانية العالمية مما يعظم من تفاعل المواطن العربي مع محيطه العالمي وزيادة وعيه بخصوصيته الثقافية والحضارية، التي تشارك في تطور البشرية وتعبر عن نفسها في المحيط الإنساني.
- تناول المسرحيون العرب أهم القضايا الاجتماعية التي تواجه الفرد؛ حيث هدف المسرح إلى زيادة الوعي الاجتماعي وتشجيع الحوار حول المشاكل التي تعتبر عقبة في سبيل تطور المجتمعات العربية ومحاولة تغيير وجهات نظر المجتمع تجاه بعض القضايا مثل: تعليم المرأة، الطلاق، العنوسة، الظلم الاجتماعي، الجهل، الحرية، البطالة وسوء استخدام السلطة، الفساد الإداري، والقانون والسلطة، وقد قدمت هذه العروض في أشكال درامية مختلفة منها: الكوميدي والنقد الاجتماعي، ومنها التراجيدي، وبنسب متفاوتة الظلم الاجتماعي والطبقات الاجتماعية، الفساد بأشكاله وألوانه، الجهل والخرافة في مقابل العلم والتطور، التمرد عند الشباب، الأسرة وصداع الأجيال، ثقافتنا في مواجهة الثقافات الأخرى.
إذا كان المسرح يرتبط بالنص المكتوب الذي يتم نشره وتوثيقه إلى جانب إمكانية تقديمه عشرات المرات في عروض مسرحية وبرؤى إخراجية مختلفة، فإن السينما أكثر توثيقًا وخلودًا لإمكانية عرض الفيلم في كل الأوقات وفي عدد كبير من الأماكن، كما أن الفيلم يرتبط أيضًا باسم المخرج ويرجع ذلك إلى إمكانية مشاركة المخرج في كتابة السيناريو، وأن السيناريو يعتمد على التكنيك في الكتابة، وقد يكون السيناريو مأخوذًا عن قصة أو رواية أو شكل أدبي لمؤلف آخر.
ولقد بدأت السينما العربية في مصر على يد الأجانب، ولكن التنظير للسينما العربية والمصرية يبدأ من أفلام محمد كريم في ثلاثينيات القرن العشرين؛ حيث قدم أفلام: ليلى وقبلة في الصحراء 1927، زينب 1930، أولاد الذوات، الوردة البيضا، يحيا الحب.
وقد جاءت هذه الأفلام تتناول في معظمها أولاد الذوات والطبقة الأرستقراطية، وتضمن بعضها أفلامًا غنائية، وباستثناء فيلم “زينب” تلاحظ أن هناك انحياز للطبقات العليا، ويرجع المتخصصون ذلك إلى أسباب أهمها الرغبة في تحسين صورة الدولة، والدور الذي كانت تلعبه الرقابة التي ترفض ظهور أسرة مصرية تجلس على طبلية في أحد الأفلام التسجيلية التي أخرجها “محمد بيومي” والرغبة في إظهار المجتمع والبلد بشكل مثالي لدرجة غسل الأشجار قبل التصوير في الشوارع.
لقد ناقشت السينما مبكرًا عدة مشاكل اجتماعية كمشكلة “البطالة” ولكن يمكن الحديث عن اتجاه الواقعية ومعالجة قضايا المجتمع بداية من فيلم “العزيمة” لكمال سليم؛ حيث تناول قضية البطالة وخروج المرأة للعمل والصراعات الطبقية وانعكاسها على المجتمع.
شهدت السينما المصرية في الخمسينيات والستينيات ظهور موجة جديدة في السينما المصرية تميزت بظهور جيل جديد من المخرجين أمثال: حسين كمال، يوسف شاهين، صلاح أبو سيف، حسن الإمام، توفيق صالح، وتميزت هذه الأفلام بانحيازها للطبقات المهمشة والغوص في قاع المجتمع، وتناولت اهتمامات وقضايا المواطن العادي. واستثمرت السينما روايات: نجيب محفوظ، إحسان عبد القدوس، يوسف السباعي، بعض أعمال توفيق الحكيم، … وغيرهم من المؤلفين لتقدم في أفلام سينمائية أبرز سماتها هو المد الاشتراكي والانحياز لطبقات العمال والفلاحين، وتقديم نماذج وقضايا المجتمع المصري بشكل كبير.
إن أفلام مثل: الأسطى حسن، شباب امرأة، الفتوة، الزوجة الثانية، شيء من الخوف، لا أنام، زقاق المدق، قنديل أم هاشم، الثلاثية، درب المهابيل، صراع في الوادي، الأيدي الناعمة، شروق وغروب، يوميات نائب في الأرياف، باب الحديد، … وغيرها من الأفلام السينمائية العظيمة التي تناولت قضايا المجتمع المصري وهمومه (الاجتماعية، الاقتصادية، والسياسية) إلى جانب القضية الفلسطينية، قد وضعت السينما المصرية في مصاف السينما العالمية وبدعم من الدولة أيضًا وإن كان هذا لا يعني إنتاج المئات من الأفلام التي لم يُكتب لها النجاح أو الخلود؛ ربما لابتعادها عن اهتمامات المواطن والمجتمع أو لظروف إنتاجية وفنية أخرى أو لطبيعتها التجارية البحتة أيضًا، وهذا ما نلمسه في فترة السبعينيات؛ حيث تعرضت السينما والمسرح لعدة مشاكل بعضها رقابي وبعضها بسبب سيطرة الفكر التجاري وهجرة عدد كبير من الفنانين المصريين إلى لبنان، واتسم الإنتاج بصفة السرعة والتكلفة البسيطة والموضوعات الكوميدية والغنائية البعيدة عن قضايا المجتمع. ورغم انعكاس ذلك على فترة السبعينيات والثمانينيات في السينما المصرية إلا أن ظهور مجموعة من المخرجين أمثال: محمد خان، عاطف الطيب، خيري بشارة، داوود عبد السيد، رأفت الميهي، … وغيرهم من المخرجين قد أعاد للسينما المصرية قيمتها من خلال استخدامهم للرمز.
فيما يمكن أن نطلق عليه الواقعية الرمزية للهروب من المحاذير الثلاثة (الدين، السياسة، والجنس) فجاءت أفلام مثل: أريد حلًّا، البحث عن سيد مرزوق، الصعاليك، الحريف، الرغبة، زوجة رجل مهم، طائر على الطريق، الثأر، ضربة شمس، موعد على العشاء، خرج ولم يعد، سواق الأوتوبيس، التخشيبة، الحب فوق هضبة الهرم، البريء، الهروب، ضد الحكومة، العوامة 70، الطوق والأسورة، يوم حلو ويوم مر، كابوريا. ورغم أن السينما المصرية قد مرت بمراحل عديدة ارتفاعًا وهبوطًا بداية من السبعينيات وحتى اليوم وكذلك تذبذبًا واضحًا في عدد الأفلام المنتجة يمكننا ملاحظة ما يلي:-
- ارتبطت السينما المصرية بأهم القضايا التي تهم المجتمع المصري والعربي، لدرجة أنها أدت في بعض الأحيان إلى إصدار قوانين مثلما حدث في فيلم “أريد حلًّا” الذي تناول قضايا المرأة والطلاق وقوانين الأحوال الشخصية، وكذلك لعبت السينما دورًا في التعريف بالتغيرات الهامة في الطبقات الاجتماعية مثل: فيلم “انتبهوا أيها السادة”.
- سيطر الرمز على السينما للهروب من سطوة الرقيب، ولتناول موضوعات سياسية في الغالب وأهمها الظلم الاجتماعي والفساد مثل: فيلم (على من نطلق الرصاص، كتيبة الإعدام، البريء).
- نالت المرأة اهتمامًا كبيرًا في السينما المصرية والعربية مثل: الطوق والأسورة، أفواه وأرانب، يوم حلو ويوم مر، زوجة رجل مهم، آسفة أرفض هذا الطلاق، ليلة في العمر.
- تميزت السينما المصرية بتناول أعمال أدبية عظيمة لكتاب وروائيين أمثال: نجيب محفوظ، إحسان عبد القدوس، يحيى حقي، يوسف السباعي، يوسف إدريس.
- أفرزت السينما المصرية عددًا كبيرًا من الفنانين؛ حيث يمكن التنظير لهم بجيل الستينيات، السبعينيات، الثمانينيات، التسعينيات؛ حيث ظهرت موجة جديدة من نجوم السينما أمثال: عادل إمام، نور الشريف، محمود عبد العزيز، أحمد زكي، يسرا، ليلى علوي، إلهام شاهين، … وغيرهم. وفي التسعينيات أصبح حتميًّا ظهور نجوم جدد وأفرزت السينما المصرية: أحمد السقا، كريم عبد العزيز، منى زكي، فتحي عبد الوهاب، خالد النبوي، محمد هنيدي، علاء ولي الدين، أحمد حلمي، ومن المخرجين ظهر: شريف عرفة، رضوان الكاشف، سعيد حامد؛ لتظهر موجة جديدة أُطلق عليها اسم “السينما الشبابية” بدأت منذ فيلم (إسماعيلية رايح جاي، صعيدي في الجامعة الأمريكية، همام في أمستردام، أفريكانو، تيتو) ورغم تقلص الإنتاج السينمائي من حيث العدد في التسعينيات وحتى اليوم فإن هناك ثلاثة اتجاهات أساسية يمكن ملاحظتها:-
الأول: الكوميديا، حيث قدمت أفلامًا كوميدية تنتقد المجتمع بنسب متفاوتة خاصة فيما يتعلق بأحلام الشباب وطموحاتهم وعلاقاتهم، وفكرة الهجرة والرغبة في تجاوز الطبقات الاجتماعية.
الثاني: الأكشن، حيث تأثرت السينما المصرية بموجات السينما العالمية خاصة مع تطور أجهزة التصوير والمعدات والمؤثرات، وظهرت فكرة التصوير خارج مصر بشكل كبير وقدمت أفلامًا مثل: مافيا، ملاكي إسكندرية، واحد من الناس، عريس من جهة أمنية، جاءنا البيان التالي.
الثالث: الأفلام التي تحمل طابعًا اجتماعيًّا ورموزًا سياسية، وهذه انقسمت إلى نوعين: الأول، فكرة مهاجمة الإرهاب والتطرف بداية من أفلام عادل إمام (الإرهاب والكباب، طيور الظلام، النوم في العسل، حسن ومرقص). أما النوع الثاني: وهو أقرب ما يكون للكوميديا السوداء وتتناول فكرة الهجرة وآثارها وتدهور الأوضاع الاجتماعية مثل: فيلم “عسل أسود”. وقد غابت عن السينما المصرية أفلام الخيال العلمي، والأشكال الموسيقية والغنائية ما عدا تجارب قليلة لم تلقَ النجاح الكافي.
الرابع: أفلام الرومانسية، والتي شهدت اهتمامًا كبيرًا من الشباب بداية من فيلم (أنت عمري، شورت وفانلة وكاب، عن العشق والهوى، سهر الليالي، أحلى الأوقات).
السينما الإنتاج العربي المشترك.
شهدت السينما تعاونًا كبيرًا بين بعض الدول العربية؛ فمنذ البدايات كان هناك تعاون بين جهات إنتاج وممولين عرب وشركات إنتاج سينمائية، فعلى سبيل المثال: قدم توفيق صالح فيلم “المخدوعون” من إنتاج مؤسسة السينما السورية 1972، وقدم اللبناني برهان علويه فيلم “كفر قاسم” عام 1974، وشهدت فترة السبعينيات على وجه الخصوص هجرة العديد من الكفاءات الفنية في كافة التخصصات إلى لبنان، وكذلك تم إنتاج العديد من الأفلام برأسمال عربي مشترك، وجاءت معظم هذه الأفلام ترفيهية في الغالب وتضمنت في بعض الأحيان جرأة في تناول بعض الموضوعات خاصة “الجنسية” مثل: فيلم (سيدة الأقمار السوداء 1971، وذئاب لا تأكل اللحم) وانتهت هذه الموجه بدخول لبنان في الحرب الأهلية؛ حيث بدأ الفنانون اللبنانيون في تقديم أفلام تعبر عن معاناة الإنسان والمواطن اللبناني في الحرب وتأثير الحرب الأهلية والكراهية والانقسام على المجتمع والإنسان، وظهرت أفلام مثل: بيروت الغربية 1998 لزياد دويري، القضية 23، الذي ترشح للمشاركة في مسابقة الأوسكار باسم الإهانة “the insult ” لزياد دويري، ويتحدث عن مشاجرة بين ميكانيكي لبناني ومهندس فلسطيني ووجهة نظر كلٍ منهما، وقد فاز الممثل “كامل الباشا” بجائزة أفضل ممثل في هذا الفيلم في مهرجان فينيسيا السينمائي، وتعددت الأفلام اللبنانية التي تتناول الواقع اللبناني ومشاكله.
انقسمت السينما السورية كما ذكرنا سابقًا إلى نوعين:-
أفلام أنتجها القطاع الخاص، والتي سارت على نهج السينما التجارية اللبنانية ومادتها الضحك والكوميديا مثل: بعض أفلام صباح، دريد لحام، نهاد قلعي (سلسلة أفلام غوار الشهيرة).
النوع الثاني: الأفلام التي أنتجتها المؤسسة العامة للسينما السورية، وقد فازت أفلام عديدة من الأفلام السورية بجوائز عربية وعالمية مثل: أفلام أحلام مدينة 1984 إخراج محمد ملص، الحدود 1984 من تمثيل وإخراج دريد لحام، حادث النصف متر 1982 إخراج سمير زكري، كومبارس 1993 نبيل المالح، فيلم الليل 1992 محمد ملص. وفي الألفية الثانية شاركت السينما السورية في العديد من المهرجانات مثل: ماء الفضة 2011 إخراج أسامة محمد، إلي سما 2019 إخراج وعد الخطيب، والذي ترشح لجائزة الأوسكار، وثلاثية “مريم والأم وسوريين” وتتناول هذه الأفلام معاناة الأسرة السورية والنازحين والصراعات الإنسانية والاجتماعية في سوريا خاصة المرأة في زمن الحرب، وانعكاسات هذه الحرب على الإنسان والمجتمع.
مرت السينما التونسية مثلها مثل السينما العربية بالمراحل الأولى: مرحلة الكفاح ضد الاستعمار، ثم اتجهت بعد ذلك لتناول مشكلة الهجرة والمتغيرات التي طرأت على المدن التونسية وظهور أجيال جديدة وطبقات جديدة، والمرحلة الثالثة وهي الأهم ما أطلق عليه النقاد “مرحلة الذاكرة الوطنية” التي بدأت في ثمانينيات القرن الماضي بفيلم (صفائح من ذهب 1987 لنوري بوزيد، عصفور السطح 1990، صمت القصور 1994 مفيدة الثلاتلي) وتتصف هذه الأفلام بالجرأة خاصة في ملابس المرأة مما دفع النقاد التونسيون والعرب بشكل عام لانتقادها، ويرجع البعض ذلك إلى رغبة السينمائيين لتعرية الواقع وإلى اقتراب السينما التونسية من فرنسا لدرجة تقديم بعض الأفلام التجارية التي تطرح الشرق بصورة فولكلورية تحظى بإعجاب الفرنسيين، ويرجع البعض ذلك إلى فكرة التمويل والسوق؛ حيث إن القطاع العام في تونس يلعب دورًا محدودًا في دعم الفيلم مما يضطر المخرج التونسي إلى الاستعانة بالدعم الأجنبي الفرنسي والفرانكوفوني بشكل خاص والإنتاج المشترك في فرنسا، وتبقى السينما التونسية حائرة في اتجاهها للجمهور العربي أو الجمهور الأوروبي مما انعكس على قلة إنتاجها، ولكن الصفة الغالبة عليها هو سينما المرأة وظهور جيل من المخرجات وتناول قضايا تهم المرأة التونسية والعربية إلى جانب مشكلة الهجرة والفقر وتفاوت الطبقات الاجتماعية.
السينما المغربية.
رغم ظهور السينما في المغرب في ستينيات القرن الماضي إلا أنها بدأت في الإفصاح عن نفسها في الفترة الأخيرة، ووصل الإنتاج إلى عشرة أفلام في السنة وظهرت أسماء لمخرجين متميزين أمثال: حكيم نوري، سعد شرايبي، محمد عبد الرحمن النازي.
وشكلت قضايا المرأة المغربية الموضوع الرئيس للسينما المغربية ثم الاحتلال والرقابة الذاتية والثورة على التقاليد البالية، وفي عام 2023 حصل ثلاثة من المخرجين المغاربة على جوائز خارج المسابقة الرسمية وهم: أسماء المدير للفيلم الوثائقي “كذب أبيض”، كمال الأزرق لفيلم “عصابات”، وكلاهما يتناولان الأحياء المهمشة، وأحداثًا سياسية واجتماعية مغربية، “أيور- القمر الأمازيغي” ويتناول مرضًا وراثيًّا.
اتجهت السينما المغربية لعملية تنفيذ الإنتاج من خلال توفير متطلبات الإنتاج واللوجيستيات للأفلام الغربية والأمريكية وانعكس ذلك على تطور السينما المغربية، والتي اتجهت أيضًا للتعبير عن الواقع المغاربي بدلًا من الصورة التقليدية الفولكلورية فتناولت رغبة الشباب في الهجرة والأحياء الشعبية الفقيرة التي تحيط بالمدن.
وتناولت الأفلام موضوعات حساسة خاصة بعد تخفيف الرقابة على الصناعة، وأصبحت الدولة تدعم صناعة السينما أيضًا بإنشاء مدارس للسينما لتخريج أجيال جديدة من المخرجين رغم تناقص دور العرض السينمائي وإعلامها تدريجًا، ربما بسبب الإنتاج أو منافسة المنصات والمحطات الفضائية التليفزيونية.
السينما الخليجية والمجتمع.
رغم وجود عدة محاولات لتقديم أعمال سينمائية خليجية منذ الثمانينيات إلا أن السينما لم تجد نجاحًا كبيرًا، وأقبل الجمهور على مشاهدة الأفلام المصرية والسورية جنبًا والأفلام الهندية جنبًا آخر. ولكن لا يمكن إغفال بدايات السينما الكويتية: يا بحر 1976، عرس الزين 1977، شاهين 1986 للمخرج خالد الصديق، الصمت 1980 إخراج محمد هاشم. وفي قطر، قدم المخرج غافل فاضل “حارس الفنار”1983، والإماراتي علي العبدول فيلم “عابر سبيل” 1988، البحريني بسام الواوي “الحاجز” 1990، ولكن معظم المخرجين اتجهوا إلى الدراما التليفزيونية.
أما المملكة العربية السعودية فقد كان الاهتمام بالأفلام الوثائقية كبيرًا دون الروائية حتى تسعينيات القرن الماضي؛ ليظهر ما أُطلق عليه اسم “الجيل الثالث” في صناعة السينما السعودية، وتشكلت ظاهرة المجموعات السينمائية، والتي تميل في معظمها للموضوعات الاجتماعية الصادمة، وبرزت أسماء نسائية أيضًا تهتم بمهمة الإخراج، واهتمت المملكة بتطوير صناعة السينما في بدايات القرن الحالي، وظهر ذلك من خلال إقامة مهرجانات سينمائية؛ حيث بدأ مهرجان أفلام السعودية في الدمام عام 2009، وانتهت بمهرجان البحر الأحمر السينمائي، وبعد افتتاح عدد كبير من دور العرض -وبشكل عام- أعطت المملكة دعمًا كبيرًا للسينمائيين، وفتحت الباب أمام المبدعين لتطوير فنهم بالدراسة في الخارج، وبدأت الجامعات تهتم بفنون السينما والمسرح، وتمثلت أهم القضايا التي طرحها الفنانون السعوديون في الرغبة في التطوير والتخلص من بعض التقاليد القديمة التي تعوق حركة المجتمع وتطوره، كما طرحت قضايا المرأة بداية من فيلم “وجدة” 2012 لهيفاء المنصور، وتلاها عدد آخر من الأفلام، وقدم المخرج محمود صباغ “عمره والعرس الثاني” ليتناول واقع المجتمع السعودي والسلطة الذكورية ومشكله غياب الأب عن المشهد العائلي مما يؤدي إلى ضياع الأسرة فيما يشبه الكوميديا السوداء.
هكذا انحازت السينما السعودية لمشاكل المهمشين والبسطاء الذين لا يحصلون على حقوقهم بأحلامهم وطموحاتهم في الحياة مثل: فيلم عثمان 2022 لخالد زيدان، ويقدم الفنانون السعوديون فئة أُطلق عليها “سينما السعودية الجديدة” أحد عشر فيلمًا في مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي مما يبشر بتطور السينما في المملكة العربية السعودية ولعبها دورًا متناميًّا في التغيير بالمجتمع السعودي والعربي ومناقشة قضاياه وطموحاته وأحلامه. وفي الآونة الأخيرة أعلنت المملكة عن افتتاح بلاتوهات وأستوديوهات “الحصن” التي تسعى لاستقطاب المبدعين والسينمائيين من كل أنحاء العالم، كما بدأ إنتاج عدد من الأفلام العربية من إنتاج المملكة تضم عددًا كبيرًا من الفنانين العرب، مما سيكون له أثره المأمول في حدوث نقلة نوعية للسينما العربية.