مقدمة:
في 16 يونيو 2021 عُقدت في مدينة جنيف قمة أمريكية / روسية بين الرئيسين “جوبايدن” و”فلاديمير بوتين”، هي الأولى منذ تولي الأول مهام منصبه في يناير الماضي، تناولت قضايا الاستقرار الاستراتيجي والعلاقات التجارية والأمن السيبراني والإقليمي، ولا يجب النظر إلى القمة في سياق ثنائي فقط، حيث تمت في ختام أول زيارة رئاسية لبايدن خارج الولايات المتحدة إلى أوروبا استغرقت الفترة من 9 إلى 16 يونيو الماضي، شارك خلالها في قمتي (مجموعة السبع، وحلف شمال الأطلنطي)، والتقي بقادة الاتحاد الأوروبي قبيل لقائه ببوتين، وذلك في إطار اهتمام الإدارة بتعبئة وحشد الحلفاء للاصطفاف معها من أجل التصدي للقضية الرئيسية في سياستها الخارجية، وهي الصين- الخصم الأول لأمريكا اليوم- بجانب صياغة نهج مشترك مع الحلفاء تجاه روسيا. ومن المنطقي، والحال كذلك، أن يُثار التساؤل عن ما إذا كان العامل الصيني هو أحد الاعتبارات وراء دعوة بايدن بوتين للقائه. وكانت القيادة الروسية قد حددت لنفسها أهدافًا من القمة على رأسها شرح ما تعتبره خطوطًا حمراء، بينما تحدث بايدن عن أن رحلته تستهدف “تحقيق التزام أمريكا المتجدد تجاه حلفائها وشركائها وإظهار قدرة الديمقراطيات على مواجهة التحديات وردع تهديدات هذه المرحلة الجديدة”.
وقد صدر عن القمة بيان رئاسي تضمن بعض التفاهمات، كما عكست تصريحات الرئيسين قدرًا من التفاؤل بشأن إمكانية استئناف الحوار بينهما حول بعض القضايا ذات الاهتمام المشترك.
أولًا: أهمية القمة:
هناك توافق بين العديد من الخبراء الأمريكيين حول تبني الإدارات الأمريكية المتعاقبة طوال العقود الثلاثة الماضية سياسات غير واقعية تجاه روسيا ساهمت في فشل علاقات الولايات المتحدة بها، ويشار في ذلك إلى أن هذه السياسات تجاهلت إلى حد كبير عوامل حاسمة مثل: (تاريخ روسيا، ثقافتها، جغرافيتها، ومتطلباتها الأمنية)، كما تراها موسكو. وفي هذا السياق يشير الخبراء إلى اعتبارين على درجة كبيرة من الأهمية:
الأول: يتمثل في رفض قبول روسيا كما هي، وهو ما يتضح من المبادرات الأمريكية المتكررة لإصلاح نظامها السياسي وإعادة تشكيله، رغم رفض الكريلمين ذلك والنظر إليه على أنه تهديد للاستقرار الداخلي.
أما الاعتبار الثاني: فيتمثل في الإصرار على توسيع عضوية حلف شمال الأطلسي؛ ليشمل كل دول الفضاء السوفيتي السابق، الأمر الذي تعتبره موسكو تهديدًا لأمنها القومي.
ويقدر هؤلاء الخبراء ضرورة الاحتفاظ بعلاقات طبيعية مع روسيا بعد أن عادت لتصبح قوة عالمية بشكل متزايد، مشيرين في ذلك إلى أن علاقات واشنطن بموسكو – سواء كانت معادية أو تعاونية – هي علاقات مهمة من منظور المصالح الأمريكية، خاصة في ضوء الآتي:
- تظل روسيا قوة نووية عظمى، وهي الدولة الوحيدة التي تشكل تهديدًا وجوديًّا للولايات المتحدة وحلفائها.
- لدى روسيا موارد طبيعية هائلة، عملت على استخدامها لتحقيق أهدافها السياسية في أوروبا بصفة خاصة.
- لدى روسيا حق النقض في مجلس الأمن الدولي، والذي كثيرًا ما يُستخدم لإحباط المبادرات التي تدعمها الولايات المتحدة ضد دول مثل سوريا وفنزويلا وكوريا الشمالية.
- تمتلك روسيا القدرة على استعراض قوتها العسكرية واستخدامها خارج حدودها سعيًا وراء رؤية متنافسة للنظام العالمي، كما أن لديها طموحات كبرى في تعظيم قوتها العسكرية.
- تسعى روسيا وراء طموحات جيوسياسية تتصادم مع مصالح الولايات المتحدة- خاصة خلق مجال حصري من النفوذ في الفضاء السوفيتي السابق- والتصدي لحلف الأطلسي وللجهود الأمريكية للحفاظ على نظام دولي ليبرالي يسعى الغرب بقيادة أمريكا للحفاظ عليه.
ويخلص هؤلاء مما تقدم إلى التأكيد على أن العلاقة الأكثر تعاونًا بين الولايات المتحدة وروسيا، يمكن أن تساعد الأولى في مواجهة التهديدات التي يتعرض لها الأمن القومي الأمريكي وتحديات أخرى لا يمكن للولايات المتحدة التصدي لها بمفردها على نحو فعال، مثل التهديدات العابرة للحدود الوطنية كـالحركات الإرهابية والمنظمات الإجرامية والصراعات الإقليمية والانتشار النووي والفضاء الإلكتروني والفضاء الخارجي، بل وحتى الحد من صعود النفوذ الصيني.
في السياق عالية، بدا بايدن مهتمًا بالتواصل مع موسكو بعد تنصيبه مباشرة، عندما قام بتمديد العمل بالمعاهدة الجديدة لخفض الأسلحة الإستراتيجية مع روسيا، وفي أبريل اتصل ببوتين مرة أخرى لمناقشة مجموعة من القضايا، وأعقب ذلك اقتراحه في 15 أبريل “أن يجتمع الرئيسان في أوروبا لمناقشة خفض تصعيد التوترات والدخول في حوار استراتيجي للاستقرار لمتابعة التعاون بين الجانبين في مجال ضبط التسلح والأمن”. وللتدليل على أهمية القمة أيضًا، أشارت تقارير إلى رغبة واشنطن في التواصل مع روسيا سعيًا لتعاونها ارتباطًا بالتداعيات المحتملة للانسحاب الأمريكي من أفغانستان ونتائج ذلك على جوارها الجغرافي المباشر في آسيا الوسطي، حيث توجد لروسيا قواعد عسكرية.
ثانيًا: القمة في معادلة العلاقات الأمريكية الصينية:
من المفترض أن يكون الرئيس بوتين قد لاحظ أن نظيره الأمريكي سعى إلى عقد قمة معه قبل أن يعرض الأمر نفسه على الرئيس الصيني “شي جينبينج”. وقد لقيت القمة اهتمام المراقبين من منظور مستقبل العلاقات الأمريكية الصينية في ظل التنافس المحتدم بين البلدين منذ الإدارة الأمريكية السابقة، حيث أُثير التساؤل حول ما إذا كانت القمة بداية تطبيع بين موسكو وواشنطن، لابد وأن تكون على حساب الصين.
وتقدر الولايات المتحدة أن الشراكة الروسية مع الصين تشكل مضاعفًا لا يُحصى للقوة بالنسبة لروسيا أكثر مما هي عليه بالنسبة للصين، وأنها تمثل حتمية استراتيجية لموسكو باعتبارها الطرف الأضعف في هذه العلاقة التي كثيرًا ما توصف بغير المتكافئة في ظل حقيقة أن الاقتصاد الصيني يبلغ عشرة أضعاف نظيره الروسي، والتفوق التكنولوجي الصيني الكبير. وكثيرًا ما طالب كتاب أمريكيون بضرورة تبني مقاربة مع روسيا يمكن من خلالها إضعاف شراكتها مع الصين، خاصة وأن واشنطن لن تستطيع إيقاف صعود الأخيرة، وإنما فقط الحد من نفوذها من خلال محاولة إبعادها عن المتعاون الرئيس معها. وجادل مسؤولون كبار في إدارة ترامب، بمن فيهم وزير الخارجية “بومبيو”، بأنه بدلًا من التنافس مع روسيا والصين في وقت واحد، يجب على الولايات المتحدة استغلال مخاوف الأولى بشأن الثانية؛ لتقويض شراكتهما لحملها على الوقوف إلى جانب الولايات المتحدة ضد الصين.
وينطلق هؤلاء من حقيقة أن الشراكة الصينية / الروسية تزيد إلى حد كبير من التحدي الذي يشكله صعود الصين على الولايات المتحدة، كما أن العمل الجماعي بين (بكين وموسكو) يضخم طموح الصين، وتسمح القوة المتنامية للصين لروسيا بتعزيز ثقل الأخيرة على الساحة العالمية، وتنشيط حملتها لتقويض الحكم الديمقراطي في أوروبا والولايات المتحدة، حسبما تؤكد النخبة السياسية في الغرب. ويعتقد البلدان أن علاقاتهما الثنائية نموذج لعلاقات القوى الكبرى في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، ومثال للثقة الاستراتيجية المتبادلة وضامن للاستقرار الدولي وقوة مهمة لردع الأعمال الأمريكية أحادية الجانب.
ويعتقد بعض الكتاب الأمريكيين (يوجين رومر، وريتشارد سوكولسكي، الباحثون ببرنامج روسيا وأوراسيا بمؤسسة كارنيجي) أن محاولة تكرار المناورة الدبلوماسية التي قام بها هنري كيسنجر في السبعينات لشق الصف الصيني السوفيتي تنطوي على سوء فهم للحاضر، فقد نجحت دبلوماسية كيسنجر لسببين: أولهما لأن الخلاف بين القوتين الشيوعيتين بعد صراعهما الحدودي عام 1969 كان قائمًا بالفعل، ولم ينشئه كيسنجر، حيث كان الانقسام متجذرًا في خلافاتهما الأيديولوجية وطموحاتهما الجيوسياسية، وثانيهما أن موسكو أرادت انفراجة في علاقاتها مع واشنطن؛ للتخفيف من العبء الناجم عن سباق التسلح مع الولايات المتحدة والمواجهة مع الصين.
ويقدر هؤلاء الخبراء أن هذين السببين غير قائمين اليوم، كما أن الفكرة القائلة بأن الولايات المتحدة قادرة على إغراء موسكو بالتحالف مع واشنطن بنجاح بدلًا من بكين، تتجاهل الدوافع التي تعزز الشراكة الصينية الروسية، والتي تقوم بالأساس على العداء العميق للولايات المتحدة والرغبة في إحباط طموحاتها في الهيمنة برفع شعار الديمقراطية والاستخدام الأحادي للقوة العسكرية، ويكمل البلدان الآخر اقتصاديًا وتجاريًا. أما بالنسبة لما قدمته الولايات المتحدة لروسيا، فلا توجد سوى العقوبات الاقتصادية والمالية مع تصاعد الخلافات الأيديولوجية والجيوسياسية.
وفي تقييم بعض الخبراء – الروس والأمريكيين على السواء – فإنه مع استمرار بوتين في حكم روسيا، وشي جينبينج في بكين، من غير المرجح أن تواجه العلاقة بين البلدين أي تهديد. غير أنه في المدى البعيد، تحتاج روسيا إلى موازنة علاقاتها مع جارتها العملاقة سريعة النمو؛ وذلك لحماية سيادتها وتجنب أن تصبح مجرد جارة مهمشة.
ثالثًا: نتائج القمة:
وفقًا لما أُعلن في المؤتمرين الصحفيين للرئيسين، ناقش الجانبان قضايا الاستقرار الإستراتيجي والعلاقات التجارية ومستقبل الأوضاع في أفغانستان بعد الانسحاب الأمريكي والأوضاع في أوكرانيا، والأمن السيبراني وتغير المناخ. ويمكن القول بأن النتائج الواضحة للقمة، كانت كالتالي:
- بيان رئاسي مشترك حول الاستقرار الإستراتيجي، أكد مجددًا ما سبق للرئيسين ريجان وجوربا تشوف تأكيده عام 1985 بأن “الحرب النووية لا يمكن كسبها، ولا ينبغي أبدًا شنَّها”. وتعهد الجانبان بالعمل معًا على إطلاق حوار إستراتيجي في المستقبل القريب يشمل تحديث اتفاقات ضبط التسلح، حيث سينتهي بمعاهدة خفض الأسلحة الإستراتيجية، وهي الاتفاق الثنائي الوحيد الباقي في مجال ضبط التسلح النووي، في 2026. وجرت بالفعل جلستا محادثات رفيعة المستوي بين البلدين – على مستوى نائبي وزير الخارجية – في 20 و28 يوليو الماضي في جنيف، ذكر المتحدث باسم الخارجية الأمريكية في ختامها: “أن الوفد الأمريكي ناقش أولويات السياسة الأمريكية، والبيئة الأمنية الحالية والتصورات الوطنية لتهديدات الاستقرار الإستراتيجي، وآفاق تحديد الأسلحة النووية الجديدة، وشكل جلسات حوار الاستقرار الإستراتيجي في المستقبل”. ومن جانبها علقت الخارجية الروسية في بيان بأن البلدين “أجريا مناقشة شاملة لنهج الجانبين في الحفاظ على الاستقرار الإستراتيجي، وآفاق ضبط التسلح، والتدابير الرامية إلى الحد من المخاطر”. واتفق الجانبان على عقد جولة حوار في سبتمبر القادم.
- ناقش الجانبان مسألة الأمن السيبراني؛ ووفقًا للبيان الأمريكي، تحدث بايدن وبوتين بالتفصيل عن قضايا الأمن السيبراني بما في ذلك إطار تفاهم متبادل بأخذ الهجمات على أهداف مثل البنية التحتية الحيوية على محمل الجد من قبل كلا البلدين. وشدد بايدن على أن بعض البنية التحتية الحيوية يجب أن تكون “محظورة” على الهجوم الالكتروني، مقدمًا لبوتين قائمة بستة عشر كيانًا محددًا تم تعريفها على أنها بنية تحتية حيوية.
- الاتفاق على عودة سفيري البلدين، واللذين كانا قد تم استدعائهما في مارس الماضي بدءًا بالسفير الأمريكي الذي غادر موسكو بعد موافقة بايدن – في لقاء تلفزيوني – على تقييم يقول إن بوتين “قاتل”، وتبع ذلك سحب روسيا سفيرها من واشنطن بعد إعلان بايدن عن حزمة جديدة من العقوبات الأمريكية شملت طرد 10 من الدبلوماسيين الروس من واشنطن بما فيهم ممثلين لأجهزة المخابرات، وردت موسكو بعقوبات مماثلة.
- بالنسبة للقضايا الإقليمية، لم تكشف القمة عن خلافات ذات بال فيما يتعلق بالملف النووي الإيراني والأزمة السورية، وقد لوحظ في اليوم التالي للقمة بدء التنسيق بين الوفدين الروسي والأمريكي في مفاوضات فيينا الخاصة بعودة واشنطن للاتفاق النووي، كما كانت هناك تفاهمات بشأن سوريا، إذ وافقت روسيا – بعد تهديدات باستخدام حق النقض – على قرار لمجلس الأمن (القرار 2585) صدر في 9 يوليو بتمديد التفويض الممنوح للأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية من أجل مواصلة عمليات إيصال المساعدات الإنسانية -عبر معبر وحيد هو باب الهوى الحدودي مع تركيا – إلى أكثر من ثلاثة ملايين سوريًّا في شمال غرب سوريا، وأعلن البيت الأبيض أن الرئيسين (بايدن وبوتين) نوّها لعمل فريقيهما حول سوريا بعد القمة.
- حافظ كل طرف على موقفه بشأن وضع المعارض “نافالني” والملف الأوكراني، ولوحظ حرص الطرفين على الإبقاء على هذه الخلافات تحت السيطرة.
رابعًا: تقييم لنتائج القمة:
أشار الرئيس بوتين في مؤتمره الصحفي إلى أن “مناقشاته مع نظيره الأمريكي كانت مثمرة و بناءة”، مع عدم وجود عداء بين الاثنين. ومن جانبه وافق بايدن على هذا التقييم، مشيرًا إلى أن “المحادثات كانت إيجابية”، وأنه أنجز ما جاء من أجله، وكأنه يخاطب الداخل. وأعرب الجانبان عن قدر معين من التقدير الشخصي لبعضهما البعض، وبغض النظر عن هذه الرسائل المختلفة بشكل كبير عن ذي قبل، وما بدا من مناخ إيجابي خلال القمة، فإن مقاربة واقعية وموضوعية لنتائجها توضح تواضعها وهو ما يستفاد من الآتي:
- كشفت تصريحات الجانبين ارتباطًا بمحادثاتهما حول قضايا الاستقرار الإستراتيجي، انخفاضًا واضحًا في سقف توقعاتهما المنتظرة من المحادثات، والتشكيك في إمكانية أن تقود إلى تحسين العلاقات الثنائية، ولم تؤثر تلك المحادثات على أجواء التوتر بين البلدين على جبهات عدة، فقد توعدت الولايات المتحدة روسيا باتخاذ تدابير إذا لم تضع حدًا لموجة الهجمات الالكترونية.
ومن جانبه أكد السفير الروسي لدى واشنطن، في تصريحات له لوكالة الأنباء الروسية “سبوتنيك” في 2 أغسطس الجاري، بأن الحكومة الأمريكية طلبت من 24 دبلوماسيًا روسيًا مغادرة البلاد بحلول 3 سبتمبر القادم، مضيفًا أن “الوضع لا يتغير نحو الأفضل للأسف، لاتزال البعثات الدبلوماسية الروسية في الولايات المتحدة مجبرة على العمل في ظل قيود غير مسبوقة، يجري تصعيدها بغض النظر عن تصريحات إدارة بايدن بشأن الدور المهم للدبلوماسية والاستعداد لتطوير علاقات مستقرة مع روسيا، يمكن التنبؤ بها”.
وفي كل الأحوال يستبعد معظم الخبراء من الجانبين إمكانية موافقتهما على الالتزام بأي وثيقة دولية تغطي كل أنواع الأسلحة التي يتسابق البلدان على تطويرها وتحديثها، كذلك لا يبدو أن أي من الدولتين مستعد للقبول بأي أليِّة للتحقق المتبادل، خاصة مع التطور الكبير في التكنولوجيات الجديدة الخاصة بـ(الأسلحة السيبرانية وأسلحة الفضاء والتحديث النووي والذكاء الاصطناعي).
وفي تقدير هؤلاء الخبراء، لا يجب أخذ تصريحات مسؤولي الدولتين بشأن ضبط التسلح النووي على محمل الجد، فكلاهما في سباق محموم منذ عقود على تطوير وتحديث ترسانته النووية.
- في السياق عاليه، حققت القمة عددًا من الأهداف الرمزية أبرزها تهدئة مخاوف حلفاء الولايات المتحدة من مغبة تجاهل روسيا كقوة كبرى، وبرز بايدن كزعيم سياسي محنك. كذلك كشفت القمة عن أنه وإن كان هناك تنافس جيوإستراتيجي أمريكي روسي في قضايا عديدة دولية وإقليمية، إلا أن القمة كانت بمثابة رسالة من الجانبين على رغبتهما في تجنب المزيد من التدهور في العلاقات، حتى وإن ظلت مصالحهما متباعدة بشكل حاد، وبالمثل لن تكون هناك مساومات أو اختراقات كبرى بشأن القضايا الأكثر إثارة للجدل.
وكما ذكر ديمتري ترينين – مدير مركز مؤسسة كارنيجي في موسكو- “لا يبحث الكريملين عن إعادة ضبط أو حتى انفراج، كما لا يوجد أي احتمال لصفقة كبرى من النوع الذي اعتقد بعض الروس أنه يمكن القيام به في بداية رئاسة دونالد ترامب، كما لا توجد أوهام في موسكو؛ فالعلاقات العدائية مع واشنطن وجدت لتبقى”. ويضيف: “إن التنازلات الروسية الأحادية الجانب غير واردة في مواجهة القوة الأمريكية الموحدة والتنسيق الوثيق بين واشنطن وحلفائها، ولا يحتاج بوتين إلى الاجتماع ببايدن كدليل على أنه على قدم المساواة معه. فمن وجهة نظر الكريملين تعتمد الوضعية الدولية لروسيا ليس على لقاءات القمة، وإنما على القدرة على ردع القوة العسكرية الأمريكية بشكل موثوق، والصمود في وجه الضغوط الاقتصادية والمالية والقيود المتنوعة التي تفرضها واشنطن”.
- ارتباطًا بما تقدم، وبمجرد عودة السفير الروسي للعاصمة واشنطن، تنفيذًا لتفاهمات القمة، أعلن مستشار الأمن القومي الأمريكي “جاك سوليفان” عن “فرض حزمة من العقوبات الجديدة ضد روسيا ارتباطًا بقضية المعارض نافالني”. ويضاف إلى ذلك حادث المدمرة البريطانية “إتش إم إس ديفندر”، التي مرت في 23 يونيو الماضي – أي بعد أسبوع واحد من القمة – بين ميناءين على البحر الأسود عبر المياه، التي تدعي روسيا أنها بحرها الإقليمي بحكم وجودها قبالة شبه جزيرة القرم. وقد ذكرت تقارير بريطانية أن الحكومة كانت تعلم أن مهمة “ديفندر” ستكون بمثابة استفزاز لروسيا، وأن رئيس الوزراء “جونسون” وافق شخصيًّا على مسارها للتأكيد على أن المملكة المتحدة وبقية الدول الأعضاء في الناتو- تدعم موقف أوكرانيا باعتبار ضم شبه جزيرة القرم من قبل روسيا بمثابة انتهاك للقانون الدولي.
- 4. وما يهم في هذه الأزمة من المنظور الغربي التأكيد على رفض الخطوط الحمراء لروسيا، وذلك بالرغم من إدراك الغرب لواقع أن موسكو لن تتخلى عن سيادتها على شبه جزيرة القرم في المستقبل المنظور.
والخلاصة: هي أن قمة جنيف أعطت انطباعًا مفاده أن توجه واشنطن الآن هو التركيز على احتواء الصين كمهمة رئيسية، وأنه قبل الانتقال إلى هذه المهمة، من الحكمة حل المسألة الروسية بطريقة أو بأخرى، وبما أن محاولات إدماج روسيا في الهياكل الأورواطلنطية قد فشلت، فإن الخيار الوحيد المتبقي هو تحييدها. وبالنسبة لبوتين فالهدف هو ضرورة أن يتقبل الغرب روسيا كما هي وعدم تجاهلها.
ومنذ البداية، وضعت إدارة بايدن سياسة ذات مسارين تجاه موسكو، تجمع بين التصميم على رفض السلوك الروسي الذي تعتبره تهديدًا مع الاستعداد لاستكشاف مجالات التعاون المهمة لكلا البلدين. وفي الواقع، لا تختلف هذه السياسة كثيرًا عن تلك التي تبناها ترامب ومن قبله أوباما، غير أنه بسبب إسراع بايدن بتبني المسار المتشدد، يفترض معظم المراقبين أن يسود هذا المسار، بينما يظل المسار الآخر “الانفراجي”، إما خطابيًا إلى حد كبير أو أن يتم تقويضه؛ بسبب الأسلوب الذي تسير عليه الإدارة في تصديها للإجراءات الروسية التي تعتبرها مرفوضة أمريكيًا.
وبالرغم من أهمية القمة، كانت التوقعات بشأنها منخفضة منذ البداية، رغم تعدد المخاطر ووصول العلاقات بين البلدين إلى حافة الهاوية، ولا يبدو أن أي من البلدين يشعر بأي ضغط للتوصل إلى حلول وسط، حيث تفرض اعتبارات السياسة الداخلية على كل جانب تبني موقف متشدد تجاه الآخر.
ويمكن القول بأن “القمة كشفت عن حقيقة أن العلاقات الأمريكية الروسية تتسم برؤىً عالمية متنافسة من الناحية الجيوستراتيجية، والتي تتباين فيها مواقف البلدين في كل شيء من قضايا الاستقرار الإستراتيجي وأعمال الاختراق السيبراني إلى التدخل في الانتخابات ومن الشرق الأوسط إلى حقوق الانسان”.
ومع ذلك، ورغم أنها لم تؤدِّ إلى حل التناقضات الأساسية في علاقات البلدين، كما لم تؤدِّ إلى اختراقات أو إنجازات ذات بال في هذه العلاقات، إلا أن القمة كانت مؤشرًا على أن كلا الجانبين يعملان- في الوقت الراهن على الأقل- على تجنب المزيد من التدهور في العلاقات حتى عندما تتباعد مصالحهما بشكل حاد، وهو ما لا يعني أن المواجهة بينهما قد انتهت، وإنما هي تمضي في اتجاهات عديدة، وفي الوقت ذاته هناك فرص للتعاون البناء في اتجاهات أخرى.