2024العدد 197ملف دولى

المستفيدون من حرب غزة

بالنسبة للدول التي تدعم حق الشعب الفلسطيني في دولته المستقلة ذات السيادة وَفقًا لمقررات الشرعية الدولية، فإن الانتقام الوحشي الإسرائيلي ضد المدنيين الأبرياء في غزة والضفة الغربية منذ 7 أكتوبر 2023، هي قصة احتلال بغيض، اتسم بعقود من الإذلال والمهانة والحرمان، والعيش فيما يوصف بأنه أكبر سجن مفتوح في العالم في غزة، وعدم تكافؤ صارخ في القوة وانعدام الأفق السياسي. ويصدق ذلك بوضوح على دول مثل: روسيا الاتحادية، وريث الاتحاد السوفيتي الذي دعم حركات التحرر الوطني في (إفريقيا، وآسيا، وأمريكا اللاتينية)، والصين ذات التجربة المريرة مع الاستعمار والداعمة لحركات التحرر الوطني منذ حكم ماو تسي تونج، وأيضًا إيران اليوم، ربما ارتباطًا بأجندتها الإقليمية وأيديولوجية نظام الحكم فيها ومصالحها. ويجمع الدول الثلاثة، من المنظور الغربي على الأقل وبدرجات متفاوتة، كونها خصوم أو أعداء لما يسمى بـــ “النظام الدولي القائم على القواعد”، بقيادة الولايات المتحدة.

ومثل العديد من الدول الأخرى، رأت كل من (روسيا، والصين)، منذ بداية حرب غزة، ازدواجية المعايير في قرار الغرب إدانة الاحتلال غير القانوني في أوكرانيا، وفي الوقت ذاته الدعم الكامل لإسرائيل، وهي التي احتلت الضفة الغربية وقطاع غزة منذ عام 1967، وتحتفظ بالمستوطنات وتتوسع فيها بلا هوادة. ولا يَخفى أن الدولتين – ومعهما إيران – تجمعهما قناعة عميقة بأن عمليات صنع القرار العالمية، خاصة في القضايا الجيوسياسية ومنها الصراع الإسرائيلي / الفلسطيني، ظلت لفترة طويلة تحت هيمنة عدد محدود من القوى الغربية، وأن الدول الأخرى تستحق أن يكون لها قول في ذلك، خاصة في ظل حقيقة أن هذه القوى، مثل: الولايات المتحدة، وعلى الرغم من خطابها السياسي العالمي، غالبًا ما تطبق القواعد والمعايير العالمية بطريقة انتقائية.

والحال على ما تقدم، كان من الطبيعي أن تكون مواقف الدول الثلاثة من الحرب في غزة محل انتقادات، وإن بدرجات متفاوتة من قبل إسرائيل، بل واتهام بعضها، وتحديدًا كلًا من (إيران، وروسيا) بالتورط المباشر فيها.

ويتناول هذا المقال بصفة أساسية كيف استفادت الدول الثلاثة- من الناحية الجيوسياسية أساسًا- من هذا الصراع، وذلك دون التطرق لمواقف كل منها منه، إلا بالقدر الذي يخدم الموضوع.

أولًا: روسيا الاتحادية:

على صعيد الكاسبين والخاسرين من الحرب في غزة، يعتقد كُتاب غربيون – ومنهم أمريكيون مثل “ستيفن والت” أستاذ العلاقات الدولية والكاتب في دورية “فورن بوليسي” – أن روسيا كانت أبرز المستفيدين من حرب غزة. ويُشار في ذلك إلى ما يلي بصفة خاصة:

  1. استفادة روسيا من الحرب من زاوية أن هذا الصراع يمثل كارثة بالنسبة لأوكرانيا، وبالتالي يخدم مصالح روسيا؛ ذلك أن حرب غزة تهيمن على التغطية الإعلامية، وتجعل من الصعب حشد الدعم لحزمة مساعدات أمريكية جديدة؛ فالجمهوريون في مجلس النواب يرفضون بالفعل المزيد من الدعم لأوكرانيا. وقد أشارت تقارير غربية عديدة إلى امتعاض القادة الأوكرانيين من تراجع الموارد الأمريكية، وتحديدًا قذائف المدفعية من عيار 155 ملم، التي تشتد حاجة كييف إليها، واعترف الرئيس الأوكراني- في هذا السياق- علنًا وأكثر من مرة آخرها في خطابه أمام مؤتمر ميونخ للأمن في 17 فبراير 2024، بأن شحنات الذخيرة الغربية تباطأت بسبب حرب غزة.

وتشير تقديرات أوكرانية إلى أن موسكو انتهزت فرصة تراجع الدعم الغربي، وبدأت في الضغط العسكري شرقًا لحسم معارك “باخموت” بالكامل. وكان لافتًا في هذا السياق إصدار البيت البيض بيانًا، في 18 فبراير 2024، حمّل فيه الرئيس بايدن الكونجرس الأمريكي مسؤولية سيطرة روسيا على مدينة “أفدييفكا” في شرق أوكرانيا، حيث قال: “إن انسحاب كييف من المدينة جاء بعد أن اضطر الجيش الأوكراني إلى تقنين استخدام الذخيرة؛ بسبب تضاؤل الإمدادات نتيجة تقاعس الكونجرس، ما أدى إلى تحقيق روسيا مكاسب ملحوظة منذ أشهر”.

والحقيقة أن الصعوبات في مواصلة تأمين الدعم المالي والمادي الغربي لأوكرانيا كانت قد بدأت بالفعل قبل حرب غزة؛ حيث لا يزال البيت الأبيض يخوض معركة شاقة في إقناع الجمهوريين بالموافقة على حزم الدعم الأمريكي لكييف.

وإلى جانب الموارد المادية المتراجعة، يعتقد كتاب غربيون أن التركيز الغربي على أوكرانيا خلال عام 2022، كان وراء العديد من انتصارات كييف خلال ذلك العام، أما الآن فالوضع مختلف؛ حيث يتركز انتباه مسؤولي الأمن القومي والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على الحرب في غزة ومخاطر اتساع نطاقها.

  • ارتباطًا بما تقدم، يشير الكتاب الأمريكيون أيضًا، إلى أنه من بين مكاسب روسيا من الحرب في غزة هي أنها أشعلت الانقسامات الأوروبية من جديد؛ حيث تدعم بعض الدول إسرائيل دون تحفظ، بينما تُبدي دول أخرى المزيد من التعاطف مع الفلسطينيين. كما ظهر خلاف جدي بين رئيسة المفوضية الأوروبية الألمانية “أورسولا فون دير لاين”، ومفوض السياسة الخارجية والأمنية الإسباني “جوزيب بوريل”، ووقع نحو 800 من موظفي الاتحاد رسالة تنتقد فون دير لاين كونها “منحازة للغاية لصالح إسرائيل”. وكلما ازداد أمد الحرب، اتسعت هذه الشقوق والانقسامات التي هي دليل ضعف سياسي لأوروبا، إن لم يكن دليلًا على عدم أهميتها، وهو ” الأمر الذي يقوض الهدف الأوسع المتمثل في توحيد ديمقراطيات العالم في تحالف قوي وفعال قادر على هزيمة روسيا في أوكرانيا”.
  • استفادت روسيا من الحرب في غزة، وارتباطًا بازدواجية المعايير الغربية في التعامل معها بالمقارنة بالحرب في أوكرانيا؛ لتوجيه انتقادات للمواقف الغربية وتحميل الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين مسؤولية حالة عدم الاستقرار في الشرق الأوسط. وفي هذا السياق، حرصت روسيا على تقديم مشروعي قرار أمام مجلس الأمن أحدهما في 16 أكتوبر والآخر في 25 أكتوبر، يدعون إلى وقف إطلاق النار في غزة، وهي تعلم أن واشنطن ستستخدم الفيتو لمنع تمريرهما.

وقد وصف الرئيس بوتين الحرب في غزة بأنها بمثابة فشل للسياسة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط، وقال في بيان متلفز أمام اجتماع لأعضاء مجلس الأمن القومي والحكومة ورؤساء وكالات إنقاذ القانون في 31 أكتوبر 2023، أن ” النخب الحاكمة في الولايات المتحدة ومن يدورون في فلكها يقفون وراء قتل الفلسطينيين في قطاع غزة، وخلف الأحداث في أوكرانيا والعراق وسوريا، وأنهم يريدون استمرار الفوضى في منطقة الشرق الأوسط”. وأضاف أن واشنطن ” تبذل كل جهدها لتشويه سمعة الدول – بما فيها روسيا – التي تصر على وقف فوري لإطلاق النار في القطاع، ووقف إراقة الدماء”.

  • كان من بين محددات الموقف الروسي من الحرب، السعي للأفراج عن الأسرى الروس الذين يحملون الجنسيتين (الروسية، والإسرائيلية)؛ إذ تم بحث هذا الأمر خلال زيارة “موسى أبو مرزوق” نائب رئيس المكتب السياسي لحماس لموسكو خلال الأسبوع الأخير من أكتوبر 2023، فقد صرح الأخير لوكالة أنباء “ريا نوفوستي” في 27 أكتوبر الماضي، بأن حركة حماس تتعامل مع طلب موسكو بشأن الرهائن الروس بإيجابية واهتمام أكثر من طلبات الدول الأخرى، مرجعًا ذلك إلى العلاقات الطيبة بين موسكو والحركة، وارتباطًا بذلك نقلت وكالة “معًا” الإخبارية الفلسطينية عن رئيس الوزراء الفلسطيني “محمد أشتيه” قوله، في 18 فبراير 2024 أمام مؤتمر ميونخ للأمن: “أن روسيا دعت جميع الفصائل الفلسطينية إلى اجتماع في موسكو يوم 26 فبراير الجاري … ونحن مستعدون للمناقشة مع حماس، حماس جزء لا يتجزأ من الساحة الفلسطينية”.

ثانيًا: الصين:

تُعد الصين من بين الدول الرئيسة الداعمة لحق الشعب الفلسطيني في دولة المستقلة ذات السيادة وفقًا لمقررات الشرعية الدولية، وهي ومعها روسيا، الدولتان الوحيدتان دائمتا العضوية في مجلس الأمن الدولي، اللتان اعترفتا بفلسطين كدولة.

ويمكن القول بأن الصين حققت بدورها بعض المكاسب الجيوسياسية من الحرب في غزة، لعل أبرزها:

  1. على حين كانت الحرب بمثابة خبر سيئ للغرب، إلا أنه من وجهة نظر بكين، فإن أي شيء يصرف انتباه الولايات المتحدة عن شرق آسيا والمحيط الهادئ عمومًا، هو بمثابة أخبار جيدة للصين.
  2. أعطت الحرب الصين، مثلما أعطت روسيا، حجة سهلة إضافية تدعم تمسك البلدين بضرورة قيام عالم متعدد الأقطاب تدافعان عنه منذ فترة طويلة، يحل محل النظام الدولي الليبرالي. وفيما يخص الصين بصفة خاصة، فقد تقدمت بعدد من المبادرات الدولية، منذ وصول الرئيس شي جينبينج الحكم عام 2013، التي تستهدف تفادي عيوب النظام الدولي الحالي، خاصة في جوانبه الاقتصادية والأمنية، ومن بين هذه المبادرات: المبادرة بإنشاء البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية (AIIB)، والذي يضم نحو 110 دولة عضو اليوم، مبادرة التنمية العالمية، ومبادرة الأمن العالمي.

ووفقًا لستيفن والت، فإن كل ما تحتاج إليه الصين ارتباطًا بالمقاربة الأمريكية للحرب في غزة، مثلها في ذلك مثل روسيا، هو إبراز أن السياسة الخارجية للولايات المتحدة، وهي القوة العظمى المهيمنة في الشرق الأوسط على مدى العقود الثلاث الماضية، قادت إلى نتائج كارثية في العراق، وقدرة نووية كامنة في إيران، وظهور تنظيم الدولة الإسلامية في (العراق، والشام)، وكارثة إنسانية في اليمن، والفوضى في ليبيا، وفشل عملية أوسلو للسلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين.

ويضيف والت أنه من غير المستغرب أن تستخدم الحملات الإعلامية الصينية والروسية الحرب في غزة لتسجيل نقاط ضد “الأمة التي لا غنى عنها”؛ فقد أدى الرد المبالغ فيه وغير المتناسب من قبل إسرائيل على هجمات حماس إلى توسيع الهوة بين أمريكا وبلدان الجنوب العالمي، وأنه لا يمكن تجاهل أن هناك تعاطفًا أكبر بكثير، من قبل هذه البلدان، مع محنة الشعب الفلسطيني، بالمقارنة بالولايات المتحدة وأوروبا، وسيزداد هذا التعاطف كلما طال أمد الحرب، وقتل المزيد من المدنيين الفلسطينيين، خاصة مع الانحياز الأمريكي الكامل وبعض بلدان أوروبا إلى جانب إسرائيل.

من ناحية أخرى، يشير والت إلى أنه لا يجب على الولايات المتحدة أن تتوقع من بلدان الجنوب العالمي إيلاء اهتمام يذكر لما يردده الأمريكيون، وغيرهم من الحلفاء، حول “المعايير، والقواعد، وحقوق الإنسان، … وغير ذلك”، كما “لا يجب أن تفاجأ واشنطن من تعاظم إعجاب هذه الدول بالصين ورؤيتها لها كقوة موازنة لواشنطن”.

وفي تقدير “تونج تشاو” الباحث بمركز كارنيجي الصين، فإنه مع تطور الحرب في غزة، “استفادت الصين من البقاء على الهامش والحفاظ على صورة الحياد والاستحواذ على الأرضية الأخلاقية، على النقيض من الولايات المتحدة، التي تكبدت تكاليف باهظة وواجهت انتقادات دولية، بجانب الانقسام الداخلي حول الآثار الإنسانية للصراع”.

ويضيف “تونج تشاو” أن موقف بكين مدفوع إلى حد كبير بنية النيل من سمعة وشرعية نفوذ الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، ويضيف أن الرئيس الصيني ألقى كلمة أمام قمة خاصة وغير مسبوقة مخصصة لمجموعة البريكس، عقدت لمناقشة الأزمة. مشيرًا إلى أن لدى بكين شكوكًا واسعة النطاق في أن الاتفاقيات الإبراهيمية التي تدعمها الولايات المتحدة يمكن أن تعيد إشعال التوترات العربية الإيرانية وتعزيز التحالفات الأمنية التي تقودها واشنطن، مما قد يؤدي إلى تحالف شبيه بحلف شمال الأطلسي في الشرق الأوسط.

ثالثًا: إيران:

 تعاملت إيران مع الحرب في غزة بمنطق المصالح، بمعنى أنه إن لم تستطع الحصول على مكاسب من ورائها، فعلى أقل تقدير تتجنب استنزاف قدراتها في مواجهات عسكرية بين إسرائيل وفصائل المقاومة الفلسطينية. وفي هذا السياق، تجنبت إيران التدخل المباشر في الحرب، لأسباب تتعلق بتوقيتها غير المواتي بالنسبة لها؛ فإيران تسعى منذ فترة إلى إتمام صفقة مع الولايات المتحدة تشمل تبادل سجناء، وأيضًا الحصول على أموالها المجمدة الموجودة حاليًّا في قطر (6 مليار دولار)، وبينما يمارس الكونجرس ضغوطًا للإبقاء على عملية تجميد هذه الأموال خشية استثمارها من قبل إيران في دعم الميليشيات التابعة لها، تسعى طهران إلى استمرار التفاهمات مع الولايات المتحدة حول هذه الصفقة، والتي تشمل أيضًا عدم التصعيد بشأن البرنامج النووي الإيراني مقابل عدم فرض عقوبات أشد عليها وعدم تهديدها عسكريًّا. وفي هذا السياق، حرصت إيران على تأكيد عدم ضلوعها في عملية طوفان الأقصى ونفي علمها بها، ولم يصدر عن الولايات المتحدة أو إسرائيل أيُّ ردود فعل واضحة تدحض ذلك، كذلك تمسكت إيران بأن قرارات الانخراط العسكري للميليشيات الشيعية المسلحة الموجودة في (سوريا، والعراق، واليمن)، هي قرارات تخصها واتخذت بعيدًا عنها.

وفي التقدير فإن حرب غزة والموقف الأمريكي منها، صب في خدمة المصالح الإيرانية في المنطقة، من عدة نواحٍ:

  1. تراجع زخم عملية التطبيع مع إسرائيل، وهو ما تسعى طهران إلى إجهاضه منذ فترة على أساس أنها المعنية بذلك في المقام الأول، إدراكًا منها بأن معظم الدول المطبعة لديها خلافات مع إيران وترغب في الاستقواء بإسرائيل، التي ترى أن إيران هي مصدر التهديد الرئيس لها، وقد جاءت عملية طوفان الأقصى لتكشف عن ضعف إسرائيل، وأنها ليست بالحليف القوي الذي يمكن الاعتماد عليه.
  2. أكدت الحرب تعزيز الحضور الإيراني في المنطقة، وكان من مظاهر ذلك مشاركة الرئيس الإيراني في القمة العربية الإسلامية الطارئة، التي عُقدت في الرياض في 11 نوفمبر 2023، لمناقشة تطورات الحرب، وكانت هذه هي الزيارة الأولى للرئيس إلى الرياض بعد توقيع اتفاق استئناف العلاقات الدبلوماسية بين البلدين برعاية صينية في 10 مارس 2023، وقد وفرت هذه المشاركة فرصة للرئيس الإيراني لعقد لقاءات مع قادة دول عربية وإسلامية منهم الرئيس المصري “عبد الفتاح السيسي”، والسوري “بشار الأسد” ورئيس وزراء ماليزيا، بجانب ولي العهد السعودي الأمير “محمد بن سلمان”.

من ناحية أخرى، طالب العديد من الدول الغربية إيران بالعمل على كبح جماح الميليشيات الموالية لها لتجنب توسيع نطاق الحرب في المنطقة، بما في ذلك الولايات المتحدة نفسها التي وجهت رسائل إلى طهران تدعوها إلى عدم توسيع نطاق الحرب، كما طالبت الصين بالضغط عليها للقيام بذلك.

  • كما هو الحال بالنسبة لروسيا والصين، استفادت إيران من المقاربة الأمنية للأزمة من قبل الولايات المتحدة، والتي انطوت على فشل ذريع مثلما حدث في أزمات مماثلة في منطقة الشرق الأوسط، بل إن واشنطن عجزت عن إقناع إسرائيل أو الضغط عليها لإدخال المزيد من المساعدات الإنسانية لقطاع غزة، مما كشف مدى تراجع تأثير واشطن في المنطقة بشكل عام. وفي هذا السياق، يعتقد الكاتب “سيمون تيسدال”، في مقال له بجريدة الجارديان في 13 يناير 2024، أنه من منظور الفائزين والخاسرين في هذه الحرب، تأتي إيران في المقدمة؛ حيث أنها الآن “على مقعد القيادة”، إذ قامت بتجميع تحالف، يتم التحكم فيه عن بعد، من الراغبين في الصمود بعد الولايات المتحدة، مشيرًا في ذلك إلى أن لدى الملالي ثلاثة أهداف رئيسة للسياسة الخارجية هي: إخراج الولايات المتحدة من الشرق الأوسط، الحفاظ على التفوق الإقليمي، تعزيز التحالفات الرئيسة مع (الصين، وروسيا)، وأخيرًا تدمير إسرائيل. ويضيف أن فشل الولايات المتحدة في وقت إطلاق النار في غزة، فضلًا عن فشلها في وقت الحرب الأهلية المستمرة منذ فترة طويلة في اليمن، من المرجح أن يؤدي إلى تغذية خطاب المقاومة الإيراني المناهض للغرب ولإسرائيل على مستوى المنطقة. ويقدر تيسدال أن الدور الأكثر أهمية الذي تلعبه إيران اليوم في المنطقة يقوم بالأساس على شراكاتها مع كل من (الصين، وروسيا)، الأمر الذي جعلها قوة لا يستهان بها. وفي هذا الصدد، يؤكد تيسدال على مركزية إيران في خطط الرئيس الصيني المستقبلية ودور بكين العالمي القادم، خاصة بعد توقيع البلدين اتفاقية إستراتيجية للاستثمار والطاقة في عام 2021، مدتها 25 عامًا، ثم انضمام إيران- برعاية صينية- إلى مجموعة البريكس ومنظمة شنغهاي للتعاون. أما مع روسيا، فكل شيء يتعلق بالأسلحة؛ حيث تزود إيران موسكو بطائرات بدون طيار مسلحة تحارب بها في أوكرانيا، كما تزدهر الصادرات العسكرية الروسية إلى إيران.

ويخلص تيسدال إلى القول بأن “روسيا والصين لم تعد في صف واحد؛ حيث تعد إيران جزءًا من هذا الاصطفاف، وهو ما يمثل كابوسًا بالنسبة لإسرائيل”.

وختامًا: كانت الحرب في غزة بمثابة خبر سيئ للغرب، بينما كانت العكس لكل من (روسيا، والصين)، ففضلًا عن أنها صرفت انتباه الولايات المتحدة، ولو مؤقتًا، عن كل من (أوكرانيا، وشرق آسيا)، أعطت الحرب البلدين حجة إضافية لتمسكهما بضرورة التخلي عن الهيمنة الأمريكية على مقدرات العالم لصالح نظام متعدد الأقطاب يدافعان عنه منذ عقود. ومن خلال اتهام الولايات المتحدة بتأجيج الفوضى في الشرق الأوسط، ارتباطًا بمقاربتها الأمنية للحرب وانخراطها فيها بشكل مباشر، يعزز رئيسا البلدين روايتهما بأن السياسة الغربية هي مصدر الكوارث في مختلف أنحاء العالم، ويرَيَا البلدين في تنامي موجة المشاعر المعادية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، ارتباطًا بالحرب في غزة، فرصة سانحة لقلب هذه الموجة لصالحهما وتعزيز نفوذهما في المنطقة كقوتين عالميتين تدافعان عن قواعد القانون الدولي ومبادئ وأهداف ميثاق الأمم المتحدة. وفي هذا السياق، يسعى البلدان إلى توازن دقيق بين الدعم التاريخي للقضية الفلسطينية، وحماية مصالحهما الإقليمية، ومواءمتها مع دول الجنوب العالمي ومكانة البلدين الإستراتيجية في النظام العالمي الناشئ.

أما بالنسبة لإيران، فقد استفادت من علاقاتها الوثيقة بكل من (روسيا، والصين) في دعم مكانتها الإقليمية في المنطقة؛ حيث اعتبرت الحرب دليلًا على الفشل الذريع للسياسة الخارجية الأمريكية في المنطقة، وأن موجة التطبيع مع عدد من بلدان المنطقة وإسرائيل لن تحقق الاستقرار والأمن. ومن الطبيعي أن توظف طهران الأزمة بأبعادها المتشابكة، لخدمة مصالحها السياسية وأجندتها الإقليمية.

اظهر المزيد

د.عزت سعد

سفير مصر السابق في موسكو ومدير المجلس المصري للشئون الخارجية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى