يُرجع دارسو الأنثروبولوجيا الثقافية ذلك الشعور الطاغي لدى البعض بالحنين للماضي إلى “أسطورة العَود الأبدي”، تلك التي قدم فيلسوف الأديان “مرسيا إليادة” أكثر تفسيراتها عمقًا من زاوية العلاقة بين الإنسان والمقدس، واعتقاد الإنسان في وجود زمن أصلي هو زمن البدايات الذي فيه خُلق ومنه بدأ كل شيء(الكون، والطبيعة، والإنسانية)، ومن ثم احتفت الحضارات القديمة به، حتى أن احتفالاتها به كانت أعيادًا مقدسة، يستحضر الناس فيها ذكرى البدايات وأصول الحكايات التي تُروى عن لقاء الإنسان مع الكائنات القدسية/الآلهة التي يعتقد فيها ويُؤمن بها.
تعكس تلك الأسطورة جوهر النزعات الأصولية، التي تتخذ من أصل ديني مرجعًا أساسيًّا وسندًا مطلقًا في رؤيتها للوجود، ومن ثم تنبع أهم سماتها كـ(الجمود، والعجز) عن التكيف مع حركة الزمان، والانغلاق على الذات ورفض الآخر، فكما أن الشيء الجديد الذي يأتي به الزمان يلوث الأصل القديم النقي، فإن القيم المختلفة التي يجسدها الآخر إنما تلوث الذات الطهرانية. المشكلة هنا أن العقل الأصولي انتقائي بطبعه، لا يستعيد الأصل كله بتنوعاته، بل فقط السردية الأكثر شيوعًا عنه. هكذا يُختزل الدين في مذهب/ تفسير أحادي، رغم تاريخه الطويل الذي ينطوي على تجارب متعددة، ويستبطن تطبيقات تكون أحيانًا متناقضة لكل منها سياق ودلالة، تسعى القراءة الأصولية إلى إقصائها جميعًا، وهو ما تعكسه بكل وضوح الأصولية اليهودية.
رؤيتان نقيضتان للكتاب المقدس
يشي تاريخ اليهود، كما سجله التراث العبري أساسًا، بتكوين مملكتين سياسيتين في بداية الألف الأول ق. م، وممارسة نوع من الحكم الذاتي في عصر المكابيين (القوميين اليهود) في القرن الثاني ق.م، قبل أن ينتهي وجودهم المستقل بتحطم الهيكل الثاني على يدي القائد الروماني “تيتوس” عام70م، وبداية حقبة الشتات التي استمرت نحو ألفي عام، وهنا ينقسم الفكر اليهودي إلى تيارين أساسيين:
التيار الأول عنصري: لا يتوقف عن ندب حظوظه، والتحسر على الدولة المفقودة، داعيًا إلى استعادتها، بالتجمع والعودة إلى الأرض المقدسة، حيث يتحقق الوعد الإلهي، وهو الفهم الذي أفضى في النهاية إلى ميلاد الحركة الصهيونية قبل قرن وربع القرن، وتأسيس دولة إسرائيل قبل ثلاثة أرباع القرن. يستبطن هذا التيار مفهوم الاختيار، الذي ينهض بدوره على تصور قبلي للألوهية، يعتبر (إلوهيم/يهوه) خاصًا بالعبرانيين، خصوصًا أسباط يعقوب الاثني عشر؛ فالعرق هو باب اليهودية، وهو فهم ينطوي على تجاهل فج للتعددية العرقية واللونية التي يكفي لإثباتها يهود الفلاشا من الزنوج، على سبيل المثال لا الحصر. يتجذر مفهوم الخيرية فيما ورد في سفر التثنية من آيات تدعو إلى إبادة الأغيار المفتقرين لأي فضيلة، وما جاء في سفر الخروج من آيات تحض اليهود على التعامل الأخلاقي الانتقائي، بتوخي فضائل كالعدل والإحسان تجاه اليهود الآخرين، والتغاضي عنهما في مواجهة الأغيار، على منوال التحريض على سرقة المصريين قبل الخروج. وفي المقابل، يجري تجاهل ما ورد في الإصحاح الثامن من سفر التثنية، من أن الله لم يختر العبرانيين إلى الأبد، بل اختارهم كما اختار الكنعانيين قبلهم، عندما كانوا أحبارًا يخدمون الله بوازع ديني، ولكنه تخلى عنهم بسبب فساد عبادتهم وحبهم للشهوات؛ ولذا فقد حذرهم موسى “وإن نسيت الرب إلهك وذهبت وراء آلهة أخرى وعبدتها وسجدت لها، أشهد عليكم اليوم أنكم تبيدون لا محالة كالشعوب الذين يبيدهم الرب من أمامكم كذلك تبيدون؛ لأجل أنكم لم تسمعوا لقول الرب إلهكم” (تثنية، 8: 19- 20).
والتيار الثاني إنساني: يرى أن العودة إلى الأرض مسألة روحية، إلى الله وليس إلى الدولة، مؤكدًا على أن اليهود عندما كانوا يعيشون في ظل دولة مستقلة كانوا يجدون صعوبات كبرى في حفظ عقيدتهم نقية، حتى أن انهيارًا أخلاقيًّا ودينيًّا وقع في أثناء حكم يشوع الذي خلف موسى، كما تكرر بعد ذلك في أثناء حكم النبي/ الملك سليمان، وفي ظل حكام المملكتين (الشمالية، والجنوبية) الأقوياء، الذين تميزت أيامهم بالسلام والرخاء الاقتصادي، ففي كل مرة كان اليهود ينحرفون إلى عبادة آلهة الكنعانيين الوثنيين. وفي المقابل، بدا اليهود أكثر تدينًا وقربًا لله وهم تحت الحكم الأجنبي، فكانوا يطيعون الشريعة ويخافون الله بصورة واضحة، ومن ثم استخلص النبي “إرميا”، أحد أنبياء اليهود الكبار في القرن السادس قبل الميلاد، أن وجود دولة يهودية مستقلة من عمل إبليس وليس من عمل الله. هذا الفهم الإنساني هو الذي عبر عنه النبي “حزقيال”، زمن النفي، عندما بشر اليهود بأن الله سيعيدهم إليه، وليس إلى الأرض، ويجعلهم من جديد شعبًا له “وأعطيهم قلبًا واحدًا، وأجعل في داخلهم روحًا جديدة، وأنزع قلب الحجر من لحمهم وأعطيهم قلب لحم؛ لكي يسلكوا في فرائضي ويحفظوا أحكامي ويعملوا بها ويكونوا لي شعبًا فأكون لهم إلهًا” (حزقيال، 11: 19، 20). وهو الذي يتجسد في دعوة سفر المزامير إلى الإحسان وفعل الخير مع الجميع “الرب قريب من جميع دعاته الذين يدعونه بالحق” (مز، 144: 18). وأن “الرب صالح للجميع ومراحمه على كل صنائعه” (مز، 32: 15). وهكذا تصير أرض الميعاد الحقيقية هي الأرض بكاملها؛ إذ يتحقق فيها وعد الله بأن تتبارك بذرية إبراهيم، فتتحول جميع قبائل الأرض وشعوبها إلى شعب واحد لله يؤول تنوع عناصره لا إلى صراع واقتتال، بل إلى تناغم وتكامل.
بمجيء المسيح نبيًّا للرحمة وليس للقتال، ورفضه أن يكون ملِكًا مقدَّسًا لليهود، وفتحه باب شريعة موسى ودين الرب للأغيار/الأمم، مانحًا الخيرية لجميع المؤمنين المنتمين لإبراهيم بالروح لا الجسد، وبالعقيدة لا العرق، فقد انتصر للتيار الإنساني، وبرفعه/صلبه لم تعد المسيحية مجرد فرقة يهودية بل تأكد استقلالها دينًا جديدًا. وكما تجري السنن التاريخية، خضعت العلاقة بين الديانتين لنوع من الاضطراب، آل معه الوجود اليهودي في أوروبا المسيحية تدريجًا نحو العزلة وصولًا إلى عالم “الجيتو”، الذي تبلور أولًا في المدن الإيطالية مطلع القرن السادس عشر، وبلغ ذروته في بولندا نهاية القرن الثامن عشر؛ حيث أصبح عالمًا مغلقًا بإحكام، رسخ الشعور لدى اليهود بالاغتراب التاريخي.
من قلب عتمة الجيتو، وُلدت حركة تنوير يهودية “الهاسكالا”، كتجلي فرعي لفلسفة التنوير الأوروبي، حاولت أن تعيد الاعتبار إلى الفهم الإنساني للكتاب المقدس، والذي هُمِّش طويلًا ولم يتبلور أبدًا كتيار فكري رئيس، لقد حاولت تحرير العقل اليهودي من عقدة الاستعلاء الناجمة عن مقولة الاختيار العنصرية، ومشاعر الاضطهاد الناجمة عن طول تجربة الشتات، خصوصًا وقد صار عالم الجيتو المغلق متناقضًا مع المجتمع الرأسمالي الصاعد، والنزعة الفردية المتنامية في قلب الثقافة الحديثة. ولدت الهاسكالا في ألمانيا وامتدت منها إلى معظم أرجاء أوروبا الغربية، على يدي موسى مندلسون، تلميذ كانط، الذي حاول تقديم نقد جذري للمجتمع اليهودي الكلاسيكي، حيث صاغت نموذج اليهودي العلماني المندرج في تيار الوعي الإنساني، كما أثرت في العبادات اليهودية نفسها، وذلك في اتجاه يوازي تأثيرات حركة الإصلاح البروتستانتي في الكنيسة الكاثوليكية؛ حيث تم تبسيط الطقوس وإشاعة البهجة فصار الوعظ سريعًا وجيدًا، ودخلت الموسيقى والكورال إلى المجمع والكنيسة- وعندما تأسس المجمع العلمي اليهودي في برلين قدم كتابًا جديدًا للصلاة- كما حاربت الهاسكالا الظلم الاجتماعي تأثرًا بحركة لوثر التي لم تكن دينية فحسب، بل حركة تجديد شاملة لكل مكونات المجتمع، ومن ثم أخذ اليهود يشاركون في الحركات اليسارية، والتيارات التقدمية. كان مفترضًا في سياق الهاسكالا، أن يستحيل الفهم الإنساني متنًا عريضًا، وأن تحدث مصالحة بين اليهود والتاريخ على قاعدة التسوية النفسية بين عقدة الاختيار القديمة (الموروثة عن الفهم العنصري للأسفار الأولى من التوراة)، وبين عقدة الاضطهاد المستجدة (الموروثة من تجربة الشتات وعالم الجيتو)، وهو ما كان الحال يسير إليه في القرن التاسع عشر، غير أن المفاجأة الصادمة هي ميلاد الحركة الصهيونية في ثمانينات القرن نفسه تأثرًا بتصاعد الموجة القومية في أوروبا.
نظرت الصهيونية -منذ بدايتها- إلى المتنوريين اليهود على أنهم سُذَّجًا، واعتبرت أن النزعة الكونية للهاسكالا تنطوي على تناقض لابد وأن يفضي إلى هزيمة الذات اليهودية، حيث أن انعتاق اليهودي، وما يعنيه من اعتراف به كفرد يتمتع بحقوق وواجبات مساوية لكل فرد على المستوى الكوني، يعني في الوقت نفسه استحالة الانعتاق الجماعي، أي دون التخلي عن المشتركات الجماعية لليهود؛ ولذا بدا الصهاينة مُعجبين بصعود القوميات العضوية في أوروبا، خصوصًا (الألمانية، والبولونية، والأوكرانية)، حيث القومية تصنع الدولة. وفي المقابل تجاهلوا النموذج العكسي الذي تجسده فرنسا، حيث الدولة تخلق الأمة في سياق التطوير، والتحديث، والتحرر الفردي، وانتهاج قيم (المواطنة، والعدالة، والتكافؤ،… وغيرها) من قيم الحداثة السياسية. وفي سياق تجربة نادرة على صعيد بناء الدول، قامت دولة إسرائيل ككيان استيطاني عنصري، تطبيقًا للعقيدة الصهيونية التي نهضت على أساس أن (سوء النية، والعداء، والتربص) صفات أزلية أصيلة في غير اليهود تدفعهم إلى الفتك باليهودي والتنكيل به. وبالتالي يصبح حلَّ معضلة الوجود اليهودي مكوَّنًا من شقين: أولهما، أن يتخلى اليهودي عن موقفه المسالم؛ ليتسلح بالعنف ويبادر به كنوع من الوقاية التي تقطع الطريق على محاولة الآخرين السبق إلى اغتياله. وثانيهما، أن ينفصل اليهودي عن المجتمعات غير اليهودية ويتجمع مع سائر اليهود في مكان خاص، وحسب الوعد التوراتي، تصير الأرض الفلسطينية هي المكان الطبيعي لهذا التجمع، ويصير استيطانها بكل شراسة ممكنة هو غاية اليهودي ومغزى وجوده.
من الصهيونية العلمانية إلى الصهيونية الدينية:
عندما وصل الصهاينة الأوائل إلى فلسطين وجدوا اليهود التقليديين متعايشين مع المسيحيين والمسلمين منذ قرون، وهنا وقع الإنكار المتبادل؛ فالصهاينة من جانبهم نظروا إلى المتدينين اليهود باعتبارهم مجرد بقية من ماضٍ تخطاه الزمن، ينتظرون غيبًا قد لا يأتي، محكوم عليهم بالاندثار في خضم حركة الاستيطان التي يزمعون القيام بها. والتقليديين من جانبهم، رأوا في الصهاينة مجرد هراطقة، يريدون استبدال الخلاص الإلهي بخلاص إنساني، وينزلون العهد مع الله إلى مرتبة عقد سياسي، وعلى هذا كانوا يكرهون المستوطنين الصهاينة القادمين إلى فلسطين، ربما أكثر مما كان يكرههم العرب، وقد رفضوا طويلًا المساهمة في إنشاء الدولة الإسرائيلية، ولكن بنشأتها وقع بينهم انشقاق كبير بين فريقين: الفريق الأول، استمر على النهج المحافظ، الرافض للدولة، المعادي للصهيونية، والذي شكل تاليًا ظاهرة اليهود الأتقياء/الحريديم (تعني حرفيًّا المرتعشين خوفًا من الله)، وتعني اصطلاحًا (اليهود المتطرفين دينيًّا من غير الصهاينة). أما الفريق الثاني، فآثر الالتحاق بصفوف الحركة الصهيونية بهدف خوض المعركة ضد الاتجاهات العلمانية داخل الصهيونية نفسها، أي محاولة إصلاحها من داخلها، مشكلًا في الحقيقة صهيونية جديدة/دينية. انضم هؤلاء إلى الصهاينة العلمانيين في تشجيع الهجرة واستيطان الأرض وبناء المؤسسات، وشاركوا في الخدمة العسكرية، وعملوا تاليًا في الأجهزة الحكومية، كما باتوا ينشطون من الناحية الاقتصادية في المهن المختلفة، وإن حافظوا على نظام تعليمي منفصل عن المدارس الرسمية.
منذ السبعينيات، أخذت الصهيونية الدينية تسحب البساط من تحت أقدام الصهيونية العلمانية؛ الأمر الذي جعل الصراع السياسي داخل إسرائيل حول مستقبل الدولة، وطبيعة علاقاتها مع العرب والفلسطينيين يدور بين ثلاثة تيارات: أولها، التيار الرئيس ممثلًا في الصهيونية العلمانية. وثانيها: اليهود الحريديم ممثلين لليمين الديني الذي يعيش حياة تقليدية ويتبنى رؤى دينية شبه أسطورية للعالم. وثالثها: هو الصهيونية الدينية، التي تخلط بين الدوافع السياسية للصهيونية العلمانية، والتبريرات الأسطورية لليهود الأتقياء؛ لتخرج لنا المركب الأكثر خطورة من أساطير مسلحة، تحفز التوسع الاستيطاني في الضفة الغربية، وضم القدس، والهيمنة على المسجد الأقصى الواقع على قبة الصخرة في الإدراك الإسلامي، والتي هي جبل الهيكل في الإدراك اليهودي.
يعتقد الصهاينة المتهودون أن الحروب التي تشنها إسرائيل هي حرب مقدسة للدفاع عن أنفسهم ضد الجيوش العربية التي غزت أرض فلسطين لكي تبيد الشعب المقاتل من أجل حريته، وأن “إنشاء” جيش الدفاع الإسرائيلي والخدمة فيه من تشريعات التوراة الصحيحة. وقد أعلن الحاخام العسكري لإسرائيل “موشيه جورن” أن الحروب الثلاث التي جرت بين إسرائيل والعرب خلال السنوات (1948م، 1956م، 1967م)، في منزلة “الحروب المقدسة”؛ فأولها: لتحرير أرض إسرائيل، وثانيتها: لاستمرار دولة إسرائيل، أما الثالثة: فكانت لتحقيق نبوءات أنبياء إسرائيل. ويبلغ الخلط بين الأسطوري والتاريخي ذروته في توهم زعماء إسرائيل وجود استمرارية في التاريخ العسكري اليهودي منذ أيام “موسى”، و”يشوع” حتى الآن؛ فبن جوريون يسمح لنفسه بأن يتحدث عن أعداء دولة إسرائيل الصهيونية على أنهم (مصر، وبابل)، ويشير للعراقيين على أنهم أشوريون وبابليون، وإلى اللبنانيين على أنهم فينيقيون، بل إنه طالما عبر عن اعتقاده بأن إسرائيل كشعب كانت تواجه كل هذه الأمم على حدة خلال الأربعة آلاف سنة الماضية، ولكنها الآن ولأول مرة تواجههم مجتمعين. ومن شارون إلى الحاخام “مائير كاهانا”، تصبح الطريقة المُثلى في التعامل مع الفلسطينيين هي نفسها طريقة يشوع في سفر تثنية الاشتراع: “وإذا أدخلك الرب، إلهك الأرض التي أنت صائر إليها لترثها واستأصل أممًا كثيرة.. فأبسلهم إبسالًا” (تثنية، 7: 1-2). “فلا يقف أحد بين يديك حتى تفنيهم” (7: 24). بل إن طريقة يشوع هي نفسها مسيرة مناحم بيجين عندما قضى في 9 أبريل 1948م، ومعه جنود “الأرجون” على سكان دير ياسين، من الرجال والنساء والأطفال.
ولعل التمثيل الأبرز للصهيونية الدينية الآن يتمثل في جماعة جوش إمونيم (كتلة المؤمنين)، والتي شكلها الحاخام “كوك” الأكبر منذ عام 1974م من الحاخامات والشباب الذين خدموا في جيش الدفاع وحاربوا من أجل إسرائيل، لا بهدف أن تصبح حزبًا سياسيًّا يتنافس على مقاعد الكنيست، بل مجموعة ضغط تعمل على تحقيق اليقظة العظمى للشعب اليهودي والخلاص الكامل لإسرائيل والعالم أجمع، وعلى حين أزاح الصهاينة العلمانيون واليساريون الدين جانبًا، أصر أعضاء الجوش على تجذير حركتهم في اليهودية، حيث تؤمن جوش إمونيم بأن فكرة شعب الله المختار تلغي سائر القوانين التي تتحكم في العلاقات السائدة بين سائر الشعوب، فيرى الحاخام “شلوو أفنيرى” الذي يعد من أبرز منظريها، أن الوصايا الإلهية للشعب اليهودي تسمو على الأفكار الإنسانية، وحينما يطلب الله من سائر الأمم الخضوع للقوانين الأخرى المجردة الخاصة بالعدل والفضيلة، فإن هذه القوانين لا تنطبق على اليهود لأن الله يتكلم مع شعبه، أي شعب إسرائيل مباشرة. ومن ثم تقدم الصهيونية الدينية إطارًا متطرفًا وعنيفًا للصهيونية العلمانية؛ إذ ُينظر أنصارها إلى إسرائيل الحالية كمجرد رافعة للسيطرة على أرض إسرائيل التوراتية، فأرض الأجداد هي الهدف النهائي والدولة الحالية مجرد أداة. من هنا يمكننا اعتبارها نوعًا من قومية رومانسية، تقترب من النزعة العرقية المؤسسة للنازية؛ إذ تستهدف إعادة عصر المجد اليهودي، وتسعى إلى إعادة بناء الهيكل الثالث، الذي يكاد يماثل (الرايخ الثالث) على أنقاض الحرم القدسي، بل يجهزون كوادرهم كي يعملون حاخامات هناك عندما يحين الوقت، رغم أنهم لا يزالون يختلفون حول سبل تحقيق ذلك الهدف.
وقد أسهمت الأزمات السياسية والعسكرية التي واجهتها إسرائيل منذ السبعينيات- علي منوال حرب أكتوبر مثلًا، والانتكاسة التي حدثت في جنوب لبنان- في تغذية الصهيونية الدينية، التي حاولت قراءة هذه الأزمات في ضوء الكتاب المقدس وأساطير الوعد والاختيار بقصد التثبت بها والتيقن من وجود مستقبل للدولة الإسرائيلية، حيث ركز أتباع الحاخامين (كوك، وشاس) على الأجزاء الأكثر عدوانية في الكتاب المقدس، والتي أمر فيها الرب بني إسرائيل بطرد السكان الأصليين لأرض الميعاد، وعدم عقد معاهدات معهم، وتدمير رموزهم المقدسة، وإبادتهم. وتجادل شلومو أفينير بأن تعليمات الرب بشأن غزو الأرض أهم من “الاعتبارات الإنسانية والأخلاقية والحقوق القومية للأغيار في أرضنا”. واقترح معظم أتباع الحاخام “كوك” أن يسمح للعرب بالبقاء في أرض إسرائيل “فقط” كمقيمين أجانب يعاملون معاملة حسنة ما احترموا دولة إسرائيل، دون أن يصبحوا مواطنين أو يحصلوا على حقوق سياسية. وقد أنكر آخرون على الفلسطينيين هذا القدر من الاعتبار، ومارسوا الضغوط عليهم كي يهاجروا، واقترحت أقلية منهم الإبادة، واستشهدوا بالسابقة التي وردت في التوراة عن العماليق الذين كانوا قومًا عتاة أمر الله بني إسرائيل أن يذبحوهم دون رحمة. وفي عام 1980م، نشر الحاخام “إسرائيل هس” مقالًا بعنوان “الإبادة أمر توراتي” في مجلة جامعة بار – إيلان الرسمية، جادل فيها قائلًا: “إن الفلسطينيين بالنسبة لليهود كالظلام بالنسبة للنور، وأنهم يستحقون نفس مصير العماليق”. هكذا يصبح المنطق الأسطوري لسفر التكوين برنامجًا سياسيًّا حديثًا للتطهير العرقي.
تدعَّمت الصهيونية اليهودية بحركة الهجرة المستمرة إلى داخل إسرائيل، وخاصة تلك الموجة التي وصلت إلى نحو مليون مهاجر روسي إلى إسرائيل عقب الانهيار السوفيتي، والتي تميزت بكثافتها وعمق تأثيرها، فمن المعروف أن المهاجر الجديد إلى أي مجتمع، خصوصًا إذا كان مجتمعًا استيطانيًّا، ودولة عنصرية تقوم على رؤية دينية للعالم كإسرائيل، إنما ينزع إلى التشدد في تبني أساطيرها والمزايدة على المستوطنين الأقدم منه، تأكيدًا لولائه لمجتمعه الجديد، وربما كسبًا للمنافع التي قد يولدها ذلك الانتماء المتطرف، فضلًا عن كونه يمثل إشباعًا للهُوية لديه؛ حيث تعاني الذات المغتربة عادة من عدم إشباع نتيجة افتقادها لمجتمعها القديم (السوفيتي) بكل ذكرياته وشجونه وطرائقه في العيش، وانتقالها إلى مجتمع جديد له طرائقه المختلفة، يتطلب التكيف معه تبني بعض أساطيره ومعتقداته التي تعمل كغضاريف ومفاصل قادرة على الربط والدمج بين الذات الفردية للمهاجر والوطن الجديد. ومن ثم أدت ضخامة هذه الموجة من الهجرة التي مثلت نسبة عالية من المجتمع الإسرائيلي (نحو 20%) إلى دفع المزاج العام للشخصية الإسرائيلية نحو التطرف، الأمر الذي أَنتج تدريجًا بعد ثلاثة عقود حكومة تسيطر على الصهاينة المتدينين.
ميلاد وأفول ما بعد الصهيونية:
في موازاة الصعود الساحق للصهيونية الدينية، ولدت مخاوف عميقة لدى أصوات ليبرالية ويسارية ذات توجه إنساني عبرت عن قلقها العميق إزاء تنامي الجماعات المتطرفة في اليهودية، كان ضمنها الأديب المرموق “عاموس عوز”، الذي اعتبر تلك الجماعات بمثابة أركان مظلمة في الديانة اليهودية، تفتقر للإحساس وتهدد بتدمير كل ما هو مقدس وعزيز على الإنسان، عندما تسعى إلى فرض ديانة متوحشة ودموية. ومن ثم حذر الرجل جميع من يظنون بأن هذه الجماعات تعمل من أجل الحفاظ على الخليل ونابلس، أو أن هدفها هو مجرد إسرائيل الكبرى، محذرًا من أن شعار “أرض إسرائيل” ليس إلا غطاءً لهدف خفي هو السيطرة على دولة إسرائيل نفسها، وإذا كانت هذه الجماعات تحاول طرد العرب فمن أجل أن تخضع اليهود بعد ذلك، بل ذهب إلى القول بأن تحت القناع الخارجي الوطني لهذه الجماعة يختفي حزب الله يهودي، قاسٍ ومعادٍ للحرية.
تندرج تلك الأصوات الليبرالية واليسارية في سياق النزعة الإنسانية العلمانية، وتتجذر في حركة الاستنارة اليهودية، ولذا فإنها ترفض منطق الصهيونية التقليدية، وتقاوم تطرف الصهيونية الدينية، وتطرح خيار “ما بعد الصهيونية”، وجوهره أن السلام مع العرب ممكن بل هو الحل الوحيد المنطقي، تأسيسًا لا على منطق القوة وتوازناتها، وإنما على أخلاق القوة وإلهام التاريخ بحدودها، وضرورة تكيفها في النهاية مع مقتضيات المشروعية عند نقطة لابد منها ليبدأ عندها التاريخ في السير سيرًا طبيعيًّا، ليس هادئًا تمامًا، ولا خاليًا من التناقضات، ولكنها تلك التناقضات العادية التي تنتجها الممارسة العادية لأي وجود تاريخي، وليست تلك الاستثنائية التي تثيرها الأسئلة المركبة والصعبة التي تدور أصلًا حول شرعية الوجود.
تبلورت نواة هذا الخيار من حركة أطلقت على نفسها “هناك حد”، برزت كرد فعل على غزو لبنان واحتلال بيروت عام 1982م، وتشكلت أساسًا من ضباط وجنود احتياط رفضوا الخدمة في الأراضي اللبنانية والفلسطينية المحتلة باعتبار أن دور الجيش هو الدفاع وليس القمع، ورغم أن الحركة تميزت بالصغر فإن مبادئ العصيان المدني التي طرحتها آنذاك حظيت بالقبول من جانب قطاع كبير من السكان يُعنى أساسًا بحقوق الإنسان أكثر من القومية العرقية، وسرعان ما تحولت الحركة إلى تيار أوسع نسبيًّا اجتذب الطبقة الوسطى الجديدة التي توسعت كثيرًا حتى انتشرت في المناطق الساحلية، خصوصًا في مدينة تل أبيب وضواحيها، حيث يعيش ربع السكان على الأقل، بهدف التركيز على الحقوق الفردية وليس الحقوق الجماعية التي مجدتها الصهيونية التقليدية ثم الدينية، حيث اعتبرت أن الكيان الجمعي مجرد أداة لتوفير الرفاهية للفرد، ما يجسد نزعة ليبرالية بالمعنى الغربي.
سعى تيار ما بعد الصهيونية، مستندًا إلى حركة “المؤرخين الجدد” إلى تقديم قراءة للتاريخ اليهودي أثارت الشك في السرديات الكبيرة، المفتعلة أحيانًا والمزيفة أحيانًا أخرى، حول الوجود الإسرائيلي من قبيل الهوية القومية، والشعب العبري، والتاريخ اليهودي؛ بهدف اختلاق كيان كلي موحد وشمولي عن شعب أو قومية أو دين يتسم بهوية تاريخية ثابتة وأبدية، تبرر منطق استعادتها، ومن ثم ضرورة بناء الدولة، فلا كيان جمعيًّا من دون وعي جمعي؛ ولأن الكيان مُختَلقٌ أساسًا فلابد أن يكون الوعي مزيفًا حتمًا، أو على الأقل مصطنعًا. كان يساهم في تشكيل الرواية الرسمية عن إسرائيل المؤرخون جنبًا إلى جنب مع الكتاب، والشعراء، والرسامين، والنحاتين، والصحفيين، والمعلمين، والفنانين، وحتى علماء الاجتماع. وكان طبيعيًّا ألا يلتزم الأكاديميون بالروح العلمية الصارمة باعتبارهم جزءًا لا يتجزأ من المشروع القومي، استمروا حتى النصف الثاني من الثمانينات يحاولون إضفاء شرعية متخيَّلة على الذاكرة الجمعية التي تطلبتها الهوية القومية الآخذة في التشكل، وذلك حسب المنهج التاريخي المسيطر الذي أسسته مدرسة الإحياء القومي، وأبرز روادها “بن صهيون دينو”، كما تأسس النموذج الاجتماعي المسيطر على مقولات دعمتها مدرسة بناء الأمة وأبرز روادها “س.ن. أيزنشتاد”. وهكذا خُلقت رابطة وثيقة بين السلطة والمعرفة في إسرائيل، وتم التعاطي مع مفهوم “الأمة” باعتباره معطىً نهائيًّا، يقينيًّا في ذاته وليس موضوعًا قابلًا للدراسة أو الشك، وهو أمر يذكرنا بأيديولوجية المركزية الثقافية الغربية، فالهيمنة الإستراتيجية غالبًا ما تؤسس- ولو في مرحلة تالية- لثقافتها الخاصة أو تبريراتها الأخلاقية، التي تسعى لإدامتها أطول فترة ممكنة، ولتخفيض تكلفتها إلى أدنى حد ممكن.
كان طبيعيًّا أن تتناقض رواية المؤرخين الجدد عن تاريخ إسرائيل مع تلك الرواية الرسمية، وأن يتم الكشف بدرجة أو أخرى عن وقائع الرواية المهمشة، أو التي تم طمسها، فيتبدَّى كيف أن إسرائيل تتحمل مسؤولية كبيرة عن خلق مشكلة اللاجئين الفلسطينيين على النحو الذي كشف عنه المؤرخ “بني موريس”، مؤكدًا ما حدث إبان حرب 1948م من إقدام قادة عسكريين إسرائيليين كبار، بتشجيع ضمني من ديفيد بن جوريون، على طرد مئات آلاف الفلسطينيين من أراضيهم إلى خارج حدود الدولة، هذا بينما كان التوجه الأكاديمي العام، والمؤرخون المحترفون، وكذلك الروايات الشعبية والكتب المدرسية، تشير باختصار إلى لجوء هؤلاء باعتباره موجة عربية من “الهروب الجماعي”. وقد أدى هذا التأريخ الجديد، بتأثير الأدلة التي ساقها بني موريس، إلى ظهور حقائق من الصعب التشكيك فيها، أعادت الجدل حول الملابسات التي تم فيها طرد الفلسطينيين، وما جرى في عام 1948م وما قبله وما بعده، ومن جانبهم طبق علماء الاجتماع النقديون تحليلًا مماثلًا على الاستيطان اليهودي في فلسطين مع نهاية القرن التاسع عشر والعقود الأولى من القرن العشرين، استخدموا فيه مصطلحات أكثر رصانة، فاعتبروا أن الاستيطان الصهيوني مشروع استعماري شمل: احتلال الأراضي، وخنق أسواق العمل، وطرد الفلاحين العرب أصحاب الأرض الأصليين، رافضين ما ذهب إليه علم الاجتماع الإسرائيلي المسيطر من تصور عن العلاقات الإسرائيلية – العربية يرى أن كلًّا منهما تطور في مسار منفصل عن الآخر.
حاول تيار “ما بعد الصهيونية” التوفيق بين روايتين متناقضتين للتاريخ، الأولى: فلسطينية تملك الصدق وتفتقر للقوة، والثانية: صهيونية تمتلك القوة وتفتقر للصدق. ومن ثم سعى جل رموزه إلى تقدير الرواية الفلسطينية، ولكن من دون أن يكذبوا الرواية الإسرائيلية. وبهذا المعنى تبقى رواية المؤرخين الجدد داخل إطار الصهيونية؛ لأنها تعترف بمقولاتها عن الذات اليهودية الجمعية، وعن التاريخ اليهودي المشترك، بل وأيضًا تعترف بإنجازاتها وجهودها لترسيخ الدولة الإسرائيلية، ولكنها توصف بـ (المابعد)؛ لأنها تعترف بوجود الآخر العربي، كما ذهب رموز هذا التيار: “آفي شلايم”، و “جرسون شافير”، و “باروخ كمرلنج”، و”توم سيجيف”، فضلًا عن “بني موريس”، لكن يظل “إيلان بابيه” أكثرهم شجاعة في صياغة أفكاره والدفاع عنها وفي المعارك السياسية والقانونية التي ترتبت عليها.
ورغم الصعود النسبي لتيار ما بعد الصهيونية في الفترة الممتدة بين ثمانينيات القرن العشرين ومطلع الحادي والعشرين، بفعل دفق العولمة والخطابات الفكرية المثالية حول النظام الكوكبي الجديد، وفي ظل اتفاقات أوسلو في التسعينيات، فقد صار اليوم بالغ الهشاشة، مجرد هامش نحيف على متن عريض. وهنا يمكن الادعاء بأن اغتيال رابين مثَّل لحظة حاسمة في الصراع بين معسكر ما بعد الصهيونية والصهيونية الدينية الجديدة، مالت بالكفة إلى المعسكر الديني سواء على صعيد تركيبة نظام الحكم هناك؛ حيث تحول حزب العمل بعدها من المركز إلى الهامش، فلم يعد يقبض على مقاليد الحكم تقريبًا، بل إنه لم يعد الطرف الأساسي في المعارضة، بفعل هيمنة اليمين السياسي وعلى رأسه الليكود، تحت قيادة أرييل شارون ثم بنيامين نتنياهو، وصعود اليمين الديني إلى موقع المعارضة الرئيس_ أو على صعيد العلاقات مع العرب؛ حيث تجمدت تمامًا عملية أوسلو التي دشنها رابين وتبناها اليسار العلماني واستهدفت الوصول إلى حل الدولتين إلى درجة يمكن القول معها إنها قد انتهت فعليًّا دون إعلان وفاة رسمي، وانطلق مسار التطبيع بين إسرائيل وعدد من الدول العربية، قفزًا على قضية الاحتلال، وإهدارًا لحق الفلسطينيين في دولة مستقلة.
هذا الواقع هو ما حاولت حركة المقاومة الفلسطينية بشقيها (حماس، والجهاد) أن تتحدياه بعملية “طوفان الأقصى”، التي استلهمت حرب أكتوبر 1973م في ذكراها الخمسين، سواء في التاريخ أو في المفاجأة الإستراتيجية، فنالت من أرواح العدو ما لم يحدث منذ 1973 (1400 قتيل، وثلاثة آلاف جريح تقريبًا)، بل إنها تمنَّت من نقل الحرب إلى أرضه لأول مرة، ما أثار الذعر في مواطنيه وأربك قياداته السياسية والأمنية إلى أقصى مدى. كان متوقعًا أن يأتي الرد الإسرائيلي انتقاميًّا وعنيفًا على نحو ما رأينا، لا يركز على مقاتلي المقاومة، ولا يتورع عن صيد المدنيين، دونما اكتراث بأية قيم أخلاقية؛ حيث جرى الحصار الكامل لغزة، وقذفها بالصواريخ والطائرات والقنابل الفسفورية دون هوادة، وارتكاب مجازر بشرية في حق العديد من المشافي والمدارس وتجمعات النازحين ترقى جميعها إلى جرائم الحرب؛ ولذا وصل عدد الشهداء الفلسطينيين إلى اثني عشر ألفًا ونحو ثلاثين ألف جريح حتى كتابة هذه السطور، الأمر الذي جدد ذاكرة العداء ومشاعر الكراهية العميقة لدى الشعوب العربية تجاه إسرائيل، وأعاد طرح سؤال المصير حول طبيعة ومستقبل وجودها في تلك المنطقة بالعالم، بعد هيمنة الصهيونية الدينية الحالمة بالتوسع وفرض السيطرة على الجوار العربي، وتمكنها من حصار التوجهات الأكثر عقلانية الكامنة، سواء في الصهيونية التقليدية التي أسست للدولة العلمانية، أو فيما بعد الصهيونية التي حاولت تصحيح مسار تلك الدولة نحو التعايش الطبيعي مع محيطها.