2019العدد 178ملف عربي

التوتر الأمريكي الإيراني ضغوط متصاعدة وحرب مستبعدة

أجواء التوتر التي تظلل منطقة الخليج برعاية إيرانية – أمريكية لم نشهد لها مثيلاً منذ سنوات، فحادث الاعتداء والتخريب الغامض ضد الإمارات في منطقة الفجيرة، وتعرض أربع سفن لمحاولة تخريب بينهم ناقلتا بترول سعوديتان، تبعه استهداف مليشيا الحوثي منشأتين نفطيتين سعوديتين بطائرة من دون طيار، وقرار أمريكي بتحريك قطع عسكرية ضخمة بشكل غير معتاد مصحوبا بتحذيرات واضحة وتهديدات مباشرة من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ووزير الخارجية الأمريكية ضد إيران، وهي التصريحات والتهديدات التي وجدت رد فعل فوريا من قبل إيران التي خرجت منها أصوات تتحدث عن الرد الفوري وأصوات أخرى تتحدث عن حرب مفتوحة لن تنجو منها مصالح أمريكا في المنطقة.

هذا التصعيد الأمريكي الإيراني المتبادل لم ينحصر في البرنامج النووي فقط، وإنما يمتد أيضا إلى الملفات الخلافية الأخرى، على غرار برنامج الصواريخ الباليستية والأدوار التي تقوم بها إيران في المنطقة، وبدت مؤشرات ذلك جلية في اهتمام واشنطن بالعمليات التخريبية التي تعرضت لها السفن التجارية الأربعة في الإمارات، والتي لم توجه فيها اتهامات مباشرة لأي طرف حتى الآن بانتظار ما ستسفر عنه التحقيقات التي تجريها السلطات الإماراتية في الوقت الحالي، وبالتالي أصبحت السيناريوهات مفتوحة ما بين حرب كبرى تهدف لطحن إيران والإجهاز عليها، أو ضربات محدودة للتأديب أو حصار يهدف إلى تحقيق مكاسب على طاولة التفاوض والحوار، أو مناوشات معتادة بلا طائل ولكل سيناريو أسبابه، والتوتر يتضاعف مع مرور الوقت وله مبرراته.

أولاً: التصعيدات والتهديدات الأمريكية – الإيرانية

مرت العلاقات الأمريكية الإيرانية منذ اندلاع الثورة الإسلامية عام 1979 بمنعطفات حادة، كادت تصل بالدولتين إلى حافة الصدام المباشر، غير أن الطابع الصراعي لهذه العلاقة لم يحل دون إقدام الدولتين على إبرام صفقات تعاون اضطراري، أملته عقلية براغماتية تجلت في حالات كثيرة: صفقة سلاح سرية كشفت عنها “فضيحة إيران كونترا”، تسريب معلومات عسكرية لكل من إيران والعراق بهدف إطالة أمد الحرب المشتعلة بينهما، تسهيلات إيرانية عسكرية ودبلوماسية للتخلص من نظامي صدام حسين في العراق، وطالبان في أفغانستان، ولم يكن غريبا في سياق كهذا أن تصل العلاقة بين الطرفين تدريجيا إلى نقطة توازن جسدتها “حالة اللاسلم واللاحرب”، التي استقرت بينهما وصمدت في أحلك الأوقات، فالاتفاق النووي الذي تمكن أوباما من إبرامه إبان فترة ولايته الثانية، عكس نقطة التوازن هذه بوضوح تام، وبالتالي سوف تظهر الفترة القادمة ما إذا كان بمقدور ترامب كسر هذه المعادلة، عقب قراره الخروج من الاتفاق النووي، ثم حشد القطع البحرية في مياه الخليج لإجبار إيران على إبرام اتفاق إذعان جديد.

وترجع أسباب الوصول لحافة الصدام المباشر وتصاعد التهديدات الحالية بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران والمسيطرة الآن على أجواء منطقة الخليج، منذ إعلان الولايات المتحدة الأمريكية في 8 مايو 2018 انسحابها من الاتفاق النووي المبرم عام 2015، والذي يهدف إلى تحجيم أنشطة طهران النووية، واتهمت إيران بأنها تتحدث عن استخدام سلمي للطاقة النووية، بينما تشير الممارسات إلى سعي طهران لامتلاك قنابل نووية واعتبرت أن الأنشطة الإيرانية مثيرة للقلق، هذا الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي والذي لم يكن مفاجئا، رغم تحفظ مستشاري الرئيس ترامب وضغوط حلفائه الأوربيين، كان شرارة لاشتعال نار التوتر وعودة تصريحات التهديد والحصار والعقوبات بين إيران وأمريكا.

فقد بدأت واشنطن بحملة عقوبات جديدة ضد إيران، مما حمل نُذر التصعيد المتبادل بين الطرفين، ودخلت الحزمة الأولى من العقوبات ضد إيران حيز العمل، وركزت على القطاعات المالية والتجارية والصناعية، ومن ثم دخلت الحزمة الثانية من العقوبات، وشملت قطاع الطاقة وفرض عقوبات على البنك المركزي الإيراني وتعاملاته المالية، ثم اتجهت الولايات المتحدة إلى مسار أكثر تصعيدا حينما وضعت الحرس الثوري الإيراني على قائمة التنظيمات الإرهابية، ثم ألغت الإعفاءات التي كانت منحتها للدول المستوردة للنفط الإيراني، في محاولة لتصفير هذه الصادرات التي تشكل العمود الفقري للاقتصاد الإيراني، كما فرضت عقوبات أخرى على قطاعات الحديد والصلب والألمنيوم والنحاس الإيراني، التي يمكن أن تمول برنامج الأسلحة النووية الإيراني، على نحو قد ينتج تداعيات اقتصادية سلبية، منها حرمان طهران من أهم مصادر عائدات صادراتها غير النفطية، وإبطاء برنامجها التوسعي للقطاع، فضلاً عن قطع إمدادات المنتجات المعدنية عن القطاعات المدنية والعسكرية، وهو ما قد يؤدي في نهاية المطاف إلى زيادة الضغوط الاقتصادية على إيران من أجل دفعها إلى القبول بخيار التفاوض مع الولايات المتحدة.

وبالنسبة لإيران، يُعد فقدان عائدات النفط خيارا سيئا بما فيه الكفاية حتى في أكثر الأوقات استقرارا، لكن المشكلة الحقيقية أنه يأتي هذه المرة في ظل ظروف عاصفة غير مسبوقة، وضغوط بالغة على النظام الذي يعاني من محدودية الموازنة الحكومية والآثار المتزايدة لفاتورة الإنفاق على التدخلات الإيرانية الإقليمية، تزامنا مع احتجاجات شعبية متتالية من قبل الجمهور الإيراني لأسباب اقتصادية، وتراجع حاد للعملة المحلية، ما أضرَّ بالتجارة الخارجية ورفع معدل التضخم السنوي، وذلك في ضوء اعتماد إيران على مداخيل النفط كمصدر رئيسي للعملة الصعبة التي تحتاجها لاستيراد احتياجاتها من الأسواق الخارجية، وينذر تراجع تصدير النفط الإيراني بأزمة اقتصادية يشير إليها صندوق النقد الدولي أنها أدت إلى ارتفاع معدل التضخم إلى ما يقرب من 40%، وانكمش الناتج المحلي الإيراني، حسب تقديرات الصندوق الذي توقع أن ينكمش الاقتصاد الإيراني أيضا بنسبة 6% في عام 2019.

وقد توازت مع العقوبات المتتالية التي فرضتها الولايات المتحدة الأمريكية على إيران مع الحشد العسكري، فشهدت المنطقة تصعيدا خطيرا في تلك المواجهة الأمريكية – الإيرانية، حيث رفعت الولايات المتحدة الأمريكية مستوى وجودها العسكري في منطقة الشرق الأوسط عبر نقل حاملة الطائرات “أبراهام لنكولن” وسفينة “يو إس إس أرلينغتون” إلى جانب قاذفات “تي 52” ومنظومة صواريخ باتريوت، ورغم أنها بررت ذلك بالاستعداد لاحتمال تحرك إيران لاستهداف مصالحها في المنطقة إما مباشرة أو عبر الإيعاز للميليشيات الموالية لها للقيام بهذه المهمة.

هذا إلى جانب التصعيد المتبادل بين الطرفين حول البرنامج النووي الإيراني، بعد الإجراءات “العقابية” المتبادلة التي اتخذتها كل من واشنطن وطهران في الفترة الأخيرة، حيث فرضت الأولى عقوبات متتالية لتجفيف مصادر التمويل الإيرانية، وخفضت الثانية مستوى التزاماتها بالاتفاق النووي، خاصة ما يتعلق بالامتناع عن بيع الفائض من اليورانيوم المخصب بنسبة 3,67% والمياه الثقيلة في الأسواق الدولية، حيث أشار الرئيس حسن روحاني إلى أن إيران سوف تحتفظ بهذا الفائض، لكن الإجراء الأكثر خطورة يتمثل في احتمال رفع مستوى تخصيب اليورانيوم إلى أكثر من3,67% وربما إلى 20% على غرار ما كان قائما قبل الوصول للاتفاق النووي، وقد هددت إيران بالفعل باتخاذ تلك الخطوة في غضون شهرين في حالة إذا لم تبدأ القوى الدولية في رفع مستوى التعاملات التجارية والمصرفية معها وتجاوز العقبات التي تحول دون ذلك في الوقت الحالي.

لذلك، صعّدت واشنطن ضغوطاتها على إيران بالتدرج وأرادت أن تكون رسالتها إلى طهران واضحة، رسالة تؤكد بأن مخططات الاحتكاك غير المباشر عبر الوكلاء فقدت جدواها، ويعزز ذلك تصريحات مساعد وزير الدفاع الأمريكي الأسبق الجنرال مارك كيميت من أن الولايات المتحدة الأمريكية ليست بصدد إعلان حرب ضد إيران، والهدف هو الردع، والرد على أي تهور إيراني، خاصة أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية تمتلك قوة عسكرية كبيرة وجيشا يقدر تعداده بحوالي 550 ألف جندي، وترسانة صاروخية ضخمة، وعشرات السفن الصغيرة، التي تمثل واحدة من أكبر التهديدات العسكرية للقوات الأمريكية في الخليج، بخلاف مسارات النفوذ الإيرانية التي تمتد من بغداد إلى دمشق واليمن وبيروت.

ويمكن القول إن ثمة أربعة أهداف رئيسية سعت الإدارة الأمريكية إلى تحقيقها عبر الحشد العسكري الذي تقوم به في المنطقة خلال المرحلة الحالية، وتتمثل في:

أولاً: وضع النظام الإيراني أمام خيارات ضيقة وتقليص مساحة الحركة وهامش المناورة المتاح أمامه، عبر توجيه رسالة مباشرة له بأنها إلى جانب فرض عقوبات على الصادرات النفطية والتعاملات التجارية مع الخارج، فإن الولايات المتحدة لن تتوانى عن رفع مستوى وجودها العسكري بالقرب من حدود إيران، وربما استخدام القوة العسكرية في حال ما إذا تطلب الأمر ذلك، حيث إن اقتراب الآلة العسكرية الأمريكية من الحدود الإيرانية، يمكن أن يكون له تأثير كبير على صانع القرار الإيراني، وتفيد خبرة التعامل مع إيران على مدى العقود الأربعة الماضية أنها دائما ما تقوم بإجراء تغييرات في سياستها في حالة ما إذا كان هناك تصور عام داخل دوائر صنع القرار بأن ثمة خطرا يقترب من حدود إيران.

ثانيا: لم تعد تستبعد الإدارة الأمريكية اتجاه إيران إلى محاولة رفع كلفة الإجراءات العقابية التي تواصل واشنطن فرضها ضدها، ورغم أن التهديدات الإيرانية باستهداف المصالح والقواعد الأمريكية في المنطقة ليست جديدة، حيث غالبا ما تستند إليها طهران في حالة تصاعد حدة التوتر مع واشنطن، فإن الأخيرة لا يبدو أنها تتحرك من فراغ، حيث أشارت تقارير عديدة إلى أن إيران قد تقدم على الاستناد إلى هذا الخيار، وخاصة بعد أن صرح مسئول من هيئة الأركان المشتركة الأمريكية بمسئولية إيران عن العمليات التخريبية التي تعرضت لها بعض السفن التجارية في المياه الاقتصادية الإماراتية، لذلك فإن ردود الفعل الأمريكية تجاه هذا الحادث لم تكن بعيدة عن التوتر والتصعيد مع إيران.

ثالثا: أرادت السياسة الأمريكية دفع طهران للانسحاب من خطّة العمل الشاملة المشتركة وإجبارها على القبول باتّفاقية جديدة، للوصول إلى صفقة تستوعب كل مكامن الخلافات الحالية بين الطرفين، غير أنّ انسحاب إيران من هذه الخطّة لا يتحقّق سوى في ظروف خاصّة، مثل أن يؤدّي خرقٌ مادّي للاتّفاق إلى إلغاء قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتّحدة المعني بتعليق العقوبات الدولية، وبالتالي يُعاد فرض عقوبات الأمم المتّحدة فيما تخسر طهران دعم الشركاء المتبقّين لها في الاتّفاقية (الاتّحاد الأوروبي وروسيا والصين)، وهو ما أدركته إيران وحذرت منه عبر الرئيس الإيراني حسن روحاني، بقوله “هناك – رد صارم – إذا أحيل الملف النووي مرة أخرى إلى مجلس الأمن الدولي”.

رابعا: يوفر تصنيف الحرس الثوري الإيراني كمنظمة إرهابية غطاء قانونيا للإدارة الأمريكية لاستهداف قطاعات الحرس الثوري ومن يساندها بضربات عسكرية خصوصا قوات وقيادات الحرس الثوري المتمركزة خارج حدود إيران (في العراق وسوريا واليمن ولبنان وأفغانستان)، ورغم أن هذا الهدف غير مرجح في المرحلة الحالية، لكنه يبقى خيارا متاحا في حال قررت واشنطن استخدامه، والسيناريو المتوقع لهذه المرحلة هو أن توظف كل الأدوات القانونية والاقتصادية والدبلوماسية لعزل الحرس الثوري الإيراني عن أذرعه المسلحة خارج إيران من أجل تخفيف حدة الحروب التي تقودها الميليشيات في الشرق الأوسط، أو ما يصطلح عليه بالجيوش البديلة، خاصة بعد أن بدأت العقوبات الاقتصادية الأمريكية تأتي بنتائج ناجحة لجهة تمويل تلك الأذرع الإيرانية.

لكن في المجمل يمكن القول – من ناحية أخرى – إن تحقيق هذه الأهداف الأمريكية لا يبدو أنه سيكون مهمة سهلة، فقد اعتادت إيران على مدى العقود الأربعة الماضية التعرض لعقوبات أمريكية ودولية، وامتلكت خبرة لا يُستهان بها في التعامل معها واحتواء تداعياتها، لدرجة أنها نجحت في تحقيق قفزات كبيرة في برنامجها النووي خلال تلك الفترة، على نحو عزز قدرتها على الحصول على مكاسب مهمة في الاتفاق النووي الذي توصلت إليه مع مجموعة “5+1″، كما يبقى القول إن التوقعات المتفائلة للرئيس ترامب باقتراب موعد الاتصال مع الإيرانيين لا تتناسب مع المعطيات الموجودة على الأرض، التي تشير إلى أن إيران لن تقبل بسهولة بهذا الخيار، وأنها ستحاول تبني سياسة كسب الوقت إما انتظارا لموعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية القادمة على أمل أن تسفر عن وصول رئيس أمريكي جديد إلى البيت الأبيض، أو لتعزيز موقعها التفاوضي قبل أن تقرر بالفعل أن الوقت قد حان للعودة إلى طاولة المفاوضات مع “الشيطان الأكبر”.

ثانياً: رسائل الردع والتهديدات الأمريكية – الإيرانية

مع تصاعد العمليات التخريبية في المياه الإقليمية الإماراتية واستهداف المنشآت النفطية السعودية، يثار التساؤل حول طبيعة الدور الإيراني في الوقت الراهن، وما يخطط له بالفعل لهز الاستقرار بأكمله في الإقليم، خاصة أن ممارسات النظام الراهنة والسابقة في عدة دول عربية يشير وبعمق إلى تورطه في الكثير من الأحداث التي استهدفت حكومات ودولا وأنظمة في المنطقة وخارجها، ومن الطريف أن يصف المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية الحوادث التي تعرضت لها سفن قرب ساحل إمارة الفجيرة بدولة الإمارات بأنها مقلقة ومؤسفة، ومطالبته بتحقيق لكشف ملابساتها، ومطالبا دول المنطقة بتوخي الحذر من مؤامرات لزعزعة الاستقرار، فيما اعتبر رئيس لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في مجلس الشورى عملية التخريب بالقرب من الفجيرة تظهر أن الأمن في جنوب الخليج هش.

تاريخيا، فإن الحروب التي تختلط فيها دوافع سياسية واستراتيجية كبرى واعتبارات دينية، لا تستند دائما إلى تحركات عقلانية وحسابات دقيقة، فما جرى من استهداف للسفن التجارية وللمنشآت النفطية، تشكل بالفعل فعلاً خطيرا، ضد أهدافا مدنية في الإمارات والسعودية، وفي هذا رسالة بأن مصالح هاتين الدولتين باتتا مهددتين بشكل أو بآخر، كذلك مصالح العديد من الدول التي تعتمد على نفط الدول الخليجية، وأن ما حدث هو مجرد رسالة تحذير، وإذا ما ثبت أن جهة ما مرتبطة بإيران هي المسئولة عن هذا الفعل التخريبي فسُيعد تطورا نوعيا خطيرا، ويمثل قفزة نحو أوضاع أكثر خطورة في القريب العاجل، وفي هذه الحالة سيعطي مبررا قويا ومصداقية للحشد العسكري الأمريكي الكبير في الخليج، كما سيبرر أيضا أي ضربة عقابية أيا كان حجمها لأهداف مختارة في العمق الإيراني.

وبالتالي فقد أعدت إيران استراتيجية تصعيد بديلة تتسبب في زعزعة استقرار كل من سوق النفط العالمي والوضع الأمني في المنطقة، ولكن من دون القدرة على تحميلها المسؤولية المباشرة عن ذلك، وبالتالي فإن الهجمات الأخيرة قرب ميناء الفجيرة وعلى منشآت النفط السعودية تأتي في سياق هذه الاستراتيجية، بحيث إن إيران لم تتحفّظ في ترك العملية بلا توقيع، كما ظهر في بعض الوقائع وكذلك في التحليلات الأوليّة:

  1. حرصت طهران على أن يُعلن النبأ أولاً عبر أداة إعلامية تابعة لها ثم أوعزت إلى أدواتها الأخرى بفتح تغطية خاصة للحدث.
  2. على رغم أن الهدف كان سفنا تجارية في موقع يُفترض أنه آمن “دوليا” إلا أن التعليق الإيراني الأول حدّد الرسالة من الاعتداء وهي أن “أمن جنوب الخليج أشبه بالزجاج”.
  3. أما الرسالة الثانية فهي أن إغلاق مضيق هرمز ممكنٌ لكن ثمة بدائل موقنة عنه لتهديد سلامة الملاحة الدولية.
  4. أن عنصر المفاجأة في عملية التخريب هذه يرمي إلى تدشين نمط مواجهة مرشح لأن يتكرّر في هذه المنطقة الحسّاسة.
  5. أن إيران لن تبادر إلى استفزاز أمريكا أو مهاجمة أسطولها الضخم مباشرة، بل بأسلوب القرصنة وحرب العصابات ولن تلجأ إلى الميليشيات التابعة لها إلا في مرحلة تالية.

وبناء على ذلك، يمكن اعتبار عملية التخريب هذه إيذانا بأن المواجهة بدأت (بالنسبة إلى إيران) واختبارا أولاً لجعل منطقة الخليج مسرحا لهذه المواجهة، وفي هذا السياق، يمكن الإشارة إلى أوراق الضغط التي تمتلكها إيران على أرض الواقع، والتي قد تستند إليها في مواجهة الضغوط الأمريكية، ومن بين أبرز هذه الأوراق:

  1. القيام بعملية منتظمة من المضايقات للسفن التي تمر عبر المضيق، الأمر الذي قد يُسفر عن تجدد سيناريو مشابه لـ “حرب الناقلات”  التي وقعت أثناء حرب الخليج الأولى، أو بالطريقة التي تمت بها عمليتي الإمارات والسعودية، مما يؤدي إلى تراجع عدد السفن المارة، وزيادة أسعار البترول.
  2. شن هجمات سيبرانية متكررة على المؤسسات النفطية بدول الخليج العربي.
  3. دعم وتمويل هجمات إرهابية في الدول الحليفة للولايات المتحدة في المنطقة.
  4. استخدام وكلائها في شن هجمات والدفع بهم لزعزعة استقرار المنطقة (الصواريخ الباليستية، الطائرات بدون طيار).

وهذا ما يشير إلى أن إيران لن تتراجع عن توجهاتها بسهولة، ولن تقدم على خطوات فيها تنازل إلا من خلال ضغوط أمريكية حقيقية، وليس فقط القيام بحشود عسكرية، خاصة أن الجانب الأمريكي صعد نظريا في مواجهة الجانب الإيراني، فضلاً عن إعلان الرئيس الأمريكي إرسال تعزيزات أمريكية للمنطقة لردع التهديدات الإيرانية. ورغم رؤية البعض بأن ما تقوم به الإدارة الأمريكية من حشد عسكري يأتي في إطار الحرب النفسية، وأن الخيار العسكري مستبعد، لأن الرئيس ترامب غير ساع للقيام بأي مغامرات عسكرية بعد الخبرات الأمريكية السابقة في العراق وأفغانستان، ورهاناته بأن حلفاءه الإقليميين لن يتحركوا عسكريا بدون مشاركة أمريكية مباشرة، والأهم من ذلك وجود أطراف أوروبية وصينية وروسية في خلفية الأحداث، لكن على الرغم من هذا التصور المطروح، إلا أن تطورات الأوضاع في منطقة الخليج العربي واستمرار التهديدات الإيرانية وتكرار حوادث مشابهة قد يدفع بتصور آخر يدفع الجانب الأمريكي للتحرك، وهو ما يريده الصقور المسيطرون على إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في الوقت الراهن، رغم محاولات لكبح جماح المطالبين بالتصعيد.

ثالثاً: أمريكا وإيران: بين الضغوط العسكرية واحتمالات التفاوض

سياسة حافة الهاوية التي تنتهجها الولايات المتحدة الأمريكية وكذلك إيران، قوامها ببساطة مزيج من التهديدات القوية والاستعدادات العملية التي توحي بقرار حرب أو مواجهة عسكرية ذات شأن، بما يضع ضغوطًا هائلة على الطرف الآخر المُستهدف بتلك الإجراءات، ومن ثم يحدث التراجع التدريجي عن قرار الحرب والدخول في مفاوضات أو تهدئة تمهد لاحقا لتسويات سياسية للمشكلات التي تباعد بين الطرفين المعنيين.

فبالنسبة إلى الولايات المتحدة الأمريكية فقد عززت حضورها العسكري في المنطقة، ومسئولوها العسكريون والسياسيون يتحدثون كثيرا عن التهديدات الإيرانية للمصالح الأمريكية في المنطقة ولمصالح الحلفاء أيضا، لكنهم يربطون تلك التعزيزات بأنها لمنع التهديدات الإيرانية التي تجمعت معلومات موثقة عنها وفقًا لتقديراتهم، وبالتالي فهي لمنع الحرب وليست لخوضها، وفي الآن نفسه يؤكدون أن كل ما تفعله الولايات المتحدة من عقوبات وحصار خانق على إيران هو بهدف تعديل سلوكها السياسي وليس إسقاط النظام، ومحصلة كل هذه المواقف تصب شكلاً في التمهيد إلى مفاوضات تكون فيها إيران في أضعف حالاتها، وبالتالي تقبل بالشروط الأمريكية.

أما بالنسبة إلى إيران فإن موقفها بدوره معروف، وفيه عدة اتجاهات، أهمها:

أولاً: أن طهران لن تقدم على مفاوضات مع الولايات المتحدة في ظل هذه الظروف، وقد تقبل بها إذا ما تراجعت العقوبات الأمريكية وهو ما ألمح إليه وزير خارجية إيران، ولا يعني ذلك تجاهل احتمال أن تكون هناك اتصالات غير مباشرة عبر الأوربيين تمهد لمفاوضات حول القضايا الخلافية وتؤدي إلى اتفاق جديد ترضى به الولايات المتحدة وإيران، وثمة تقارير تتحدث عن اتصالات من خلال سويسرا، ولكن بدون أية تفاصيل.

ثانيا: أنهم لا يريدون الحرب ولن يبدؤوا بها، ولكنهم سيردون حال وقع هجوم عليهم وهو الأمر الذي يعكسه تصريح أحد قادة البحرية الإيرانية أن الوجود العسكري الأمريكي كان تهديدا والآن أصبح فرصة هي أوضح تعبير على أن إيران سوف تستهدف بقوة القطع البحرية الأمريكية في الخليج ومواقع تمركزها البرية لاسيما في العراق إذا فرُضت عليها الحرب، ويضيف الإيرانيون أيضا إسرائيل كهدف في أي حرب مقبلة من خلال صواريخهم بعيدة المدى، وعبر أطراف إقليمية ذات صلات قوية مع طهران. 

ثالثا: إنهم (الإيرانيون) لن يتراجعوا عن مطالبة الاتحاد الأوروبي وكل الدول الأخرى الداعمة للاتفاق النووي لتأمين المصالح الإيرانية حسب الاتفاق والالتفاف على العقوبات الأمريكية. 

وفي حقيقة الأمر، إن التصعيد الإيراني سواء على مستوى الخطاب السياسي أو على مستوى التحركات والتهديدات العسكرية، تعكس المأزق الكبير الذي يعانيه النظام الإيراني والخيارات المحدودة أمامه, فهذا النظام يئن تحت مطرقة الضغوط الداخلية وتزايد حدة التدهور الاقتصادي ودخول العقوبات الأمريكية مرحلة التأثير المباشر بعد إنهاء إعفاءات تصدير النفط, وتراجع قيمة العملة الإيرانية وهروب غالبية الاستثمارات الأجنبية خاصة الأوروبية, وهو ما يعني زيادة حدة الغليان الداخلي التي برزت مع الانتفاضات المتكررة خلال العام الماضي، وقام النظام بقمعها عبر الحرس الثوري وقوات الباسيج, كما أن النظام الإيراني مع تزايد حدة العقوبات وفشل الأطراف الأخرى خاصة الأوروبيين في تعويض تلك العقوبات وتعثر الآليات التي حاولوا تطويرها مثل آلية المقايضة للتحايل على العقوبات الأمريكية, فقد الميزة الأساسية للاتفاق النووي وهي الميزة الاقتصادية وتصدير النفط ورفع العقوبات وجذب الاستثمارات, ولذلك اتجه إلى تعليق بعض بنود الاتفاق، واستئناف التخصيب كمحاولة للهروب إلى الأمام والضغط على الأوروبيين.

لكن هذا التوجه الإيراني سيؤدي إلى تداعيات سلبية في المقابل، أهمها فقد تعاطف الجانب الأوروبي معه ودفاعه عن الاتفاق النووي, ومن ثم التقارب نحو الموقف الأمريكي، فضلاً عن أن استئناف إيران للتخصيب يعني عمليا انهيار الاتفاق النووي، وبالتالي عودة العقوبات الدولية التي فرضت من قبل مجلس الأمن، بل وربما وفرض عقوبات جديدة.

رابعاً: مجابهة تحديات التهديدات الدائمة في الخليج العربي وحوله

عاشت منطقة الخليج العربي على وقع توتر متصاعد مع إيران، في ظل تهديدات متبادلة بين طهران وواشنطن، ومع تزايد التوتر والتحذير من نشوب حرب دعت السعودية لقمتين طارئتين عربية وخليجية في 30 مايو 2019، وغداة القمتين عقدت الدورة الـ14 للقمة الإسلامية العادية لمنظمة التعاون الإسلامي في مكة 31 مايو 2019، حيث سعت السعودية إلى حشد الدعم “السياسي” الخليجي والعربي والإسلامي في مواجهة التهديدات الإيرانية وتشديد الضغوط على إيران في محاولة لإبعاد الأخطار الإيرانية المحتملة بعد الهجمات التي استهدفت الإمارات والسعودية، حيث اتهمت السعودية إيران بإصدار أوامر لجماعة أنصار الله (الحوثي) لتوجيه ضربات بالطائرات المسيرة التي أعلنت الجماعة رسميا المسؤولية عنها.

وفي المقابل، كثفت طهران مساعيها الدبلوماسية قبل انعقاد القمم الثلاث لفتح ثغرة في الجدار الخليجي، عبر تمرير رسائل إيجابية بعدة اتجاهات، لعلها تساعدها أولاً: على التخفيف من حدة الضغوط الأمريكية، وثانيا: في تجنب قرارات تدينها تصدر من خلال تلك القمم الثلاث، تخشى إيران أن تزيد من عزلتها الخليجية والعربية والإسلامية، حيث بادر وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف خلال زيارته للعراق إلى الإعلان “أن بلاده عرضت توقيع اتفاق عدم اعتداء مع جيرانها في منطقة الخليج”، والتي تزامنت مع إعلان طهران عن جولة خليجية لنائب وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي لثلاث دول خليجية وهي سلطنة عُمان والكويت وقطر.

وبالتالي، كان هدف التصريحات والزيارات الإيرانية قبل انعقاد تلك القمم واضحا، فمن جهة تنشط الدبلوماسية الإيرانية على جبهات متعددة لبناء شبكة علاقات دولية تساهم في تبريد التوتر مع الولايات المتحدة، ومن جهة أخرى يسعى النظام الإيراني لإحداث أكبر قدر من التصدع والانقسام بين الدول العربية خلال تلك القمم الثلاث، ومنع الوصول لأي توافق عربي وخليجي وإسلامي ضد النظام الإيراني.

ومع ذلك، فقد أكدت بيانات القمم الثلاث رفضهم للتهديدات التي تتعرض لها الدول العربية، وإدانتهم للتدخلات في شئونهم الداخلية، إلا أنه بات من الواضح أهمية تخلي الدول العربية عن سياسات رد الفعل التي تبلور المواقف تبعا لتحركات الآخرين، واتباع سياسات جديدة، استباقية، لا تنتظر أفعال طرف، أو رد طرف آخر بل تحدد رؤى استراتيجية عربية لإنهاء الصراع في المنطقة، ورسم سياسات تمزج بين الصلابة والمرونة، بعيدا عن التشنج والعاطفية والرفض المطلق. سياسة توحد الصف، وتربك العدو، وتظهر العرب بصورة إيجابية أمام المجتمع الدولي.

باختصار إن ما يصنع الفارق في هذه القمم الثلاث ويجعلها تخلق مرحلة مختلفة عما قبلها، ليس فقط قوة المواقف والقرارات التي تتخذها هذه الدول، وإنما أيضا مدى متابعتها وتطبيقها على أرض الواقع من طرف الدول المجتمعة، وعبر المنظمات المعنية الثلاث. هذا فضلا عن تفعيل آليات التعاون العربي المشترك في مجال مكافحة الإرهاب، وإعادة النظر في آليات الدفاع العربي المشترك.

خاتمة

وإذا كانت الدلائل والمعطيات تشير بأن التصعيد الأمريكي من خلال سياسة العصا الغليظة يستهدف إجبار النظام الإيراني على الدخول في حوار مع الولايات المتحدة يتم وفق شروطها الاثني عشر، وتوضح – من ناحية أخرى- أن إيران تستند بدورها على استبعاد خيار المواجهة الشاملة، وفق ترجيحها إحجام الرئيس الأمريكي عن شن حرب ضدها، واعتبار أن الحشد العسكري الأمريكي هو لمجرد الردع، فضلا عن استبعادها خيار الحوار بالشروط الأمريكية لتفادي التضحية بمكتسباتها الإقليمية وبرنامجها الصاروخي، فإن الشاهد أن حالة اللاسلم ستظل سائدة بين الجانبين مع استمرار الضغوط الأمريكية، والغالب أن النظام الإيراني لن يتجه إلى الحوار مع أمريكا إلا عندما يشعر أنه على وشك الانهيار بفعل العقوبات الأمريكية والضغوط الداخلية.

اظهر المزيد

شريف مبروك

باحث في الشؤون السياسية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى