2024العدد 198ملف ثقافي

انحدار الغرب وأفول العصر الأمريكي

اعتاد الخطاب الثقافي العربي على نقد المعايير الغربية المزدوجة؛ حيث جرى الكيل بمكيالين في عشرات المواقف والقضايا، بحسب الدول الأطراف الفاعلة فيها أو المتأثرة بها، والمجالات الإستراتيجية التي تندرج في سياقها، وقد حاول الغرب كثيرًا التغطية على تلك الازدواجية بنجاح واضح حينًا وإخفاق شامل أحيانًا، حتى وقع حدثان قصما ظهر البعير، وجعلا من تلك التغطية مهمة مستحيلة:

الحدث الأول: تمثل في الحرب الروسية – الأوكرانية في 2022م، والتي كشفت عن تهاوي قيم ومرجعيات عدة، فضد احترام الملكية الخاصة إلى درجة التقديس سارعت دول الغرب إلى تجميد أصول الأفراد والشركات الروسية على أراضيها من: أندية كرة القدم، إلى العقارات الخاصة، إلى شركات عاملة في قطاعات مختلفة، ناهيك عن تجميد الكثير من الأموال السائلة في البنوك. هذه العقوبات لا يمكن أن تصدر إلا ردًا على خطأ محقق أكدته أحكام قضائية، ما يعني أن تلك الدول نصَّبت نفسها حكمًا في صراع هي أصلًا طرف فيه، فأدانت روسيا، وحتى لو كان ثمة خطأ روسي يستحق العقاب، فما هو ذنب المستثمرين ورجال الأعمال الذين وثقوا بتلك الدول، ومارسوا أنشطتهم فيها؟ خصوصًا وأن أغلبهم ضد الحرب، والمؤكد أنهم لم يستشاروا فيها. وضد قاعدة الفصل بين الرياضة والسياسة التي لاكها الغرب كثيرًا، سارعت الاتحادات الأوروبية والدولية في جل الألعاب إلى إصدار إجراءات عقابية ضد الرياضيين الروس، تمنعهم من المشاركة في مسابقاتها، حتى أولئك الذين أعلنوا إنهم ضد الحرب، كما تم حرمان روسيا كدولة من حق تنظيم أية مناسبات رياضية كانت أسندت إليها، بل من التنافس على المشاركة في مونديال الكرة الأخير بقطر؛ حدث ذلك لأن تلك الدول تسيطر فعليًّا على جل الاتحادات الرياضية، ناهيك عن اللجنة الأوليمبية الدولية، وتستضيف معظم مقراتها الأساسية ولذا اندفعت إلى تحطيم القواعد والأعراف التي تفرضها على الآخرين. الأمر نفسه جرى في المجال الفني؛ حيث قاطعت كل المسارح والمهرجانات الفنانين الروس وتوقفت عن عرض أعمالهم أو مساهماتهم في نشاطها، بل إن بعض المنتديات الثقافية والجامعية أعلنت عن نيتها التوقف عن تدريس أو الاحتفاء بأعمال الأدباء الروس العظام وعلى رأسهم (ليو تولستوي، وديستوفيسكي)، في نوع من العقاب الجماعي الذي لا يبالي بالخطوط الفاصلة بين السياسة وغيرها، ولا حتى بين الحياة والموت.

فضلًا عن ذلك جرت وقائع عدة نالت من النزعة الإنسانية التي تمجد حقوق وحريات البشر بصفتهم المجردة بعيدًا عن أي انتماءات عرقية أو دينية أو قومية، أول تلك الوقائع تمثل في: إجلاء الرعايا الأوكرانيين إلى بلدان مجاورة؛ حيث جرى تمييز البيض الأرثوذكس منهم على حساب الملونين والمسلمين، سواء عند نقلهم أو استقبالهم، ونوعية الإقامة التي مُنحت لهم، والحقوق التي يتمتعون بها. كما تناثرت أقوال مواطنين عموم ومعلقين تبرر منسوب التعاطف المرتفع مع عذابات الأوكرانيين وآلامهم بأنهم يشبهونهم، بيض وشقر مثلهم، وليسوا شرق أوسطيين، عربًا أو مسلمين.  

أما الحدث الثاني: فتمثل في عملية السيوف الحديدية التي ردت بها إسرائيل على عملية طوفان الأقصى، العملية الأولى: قامت بها حماس؛ دفاعًا عن اضطهاد استمر لعقود، وحصار خانق حوَّل قطاع غزة إلى سجن بالمعنى الحقيقي لا المجازي، وهي في كل الأحوال استهدفت جنود المحتل في حزام استيطاني غير شرعي، وإن جرى أسر وقتل بعض المدنيين على سبيل الاستثناء والخطأ. أما العملية الثانية: فجاءت بالغة الوحشية، أسقطت على نحو منهجي مدبر نحو خمسة وعشرين ألفًا من المدنيين وثلاثة أضعافهم من الجرحى، جلهم من الأطفال والنساء، وأفضت إلى تدمير البنية التحتية للقطاع وعلى رأسها المشافي والمدارس. ورغم ذلك كان رد الفعل الغربي الرسمي على العمليتين بمثابة المفارقة؛ فضد الأولي كانت الإدانة واضحة والعقاب فوريًّا ورد الفعل عمليًّا بتحريك البوارج وحاملات الطائرات وفتح مخازن السلاح دعمًا لإسرائيل. وعلى الثانية لم تكن ثمة إدانة، بل مجرد تحفظات، جاءت متأخرة إلى ما بعد تدمير جل المشافي وهدم بعض المدارس والمساجد والكنائس وما صاحب ذلك من مجازر، ولم يصاحبها إجراءات عملية سواء عسكرية أو حتى سياسية من قبيل المطالبة بوقف إطلاق النار؛ إذ لم تزد أكثر الأصوات تعاطفًا عن الدعوة إلى هدنة إنسانية وإدخال المساعدات، وحتى عندما أصدر مجلس الأمن قرارًا بوقف إنساني لإطلاق النار، بعد مرور ستة أشهر من التدمير، وسمحت الولايات المتحدة بتمريره بالامتناع عن التصويت ضده، فلم يحدد المجلس آلية ملزمة لتنفيذه؛ كونه صدر تحت الفصل السادس وليس السابع من ميثاق الأمم المتحدة، الأمر سمح باستمرار بل تصاعد الحرب الوحشية على سكان غزة العزل.

صعود وهبوط المركزية الأوروبية:

رغم فشل الحملات الصليبية على المشرق العربي في تحقيق انتصارات نهائية أو ترك آثار أبدية، فقد ألقت في الضمير الأوروبي بذرة خبيثة سوف تنتج بعد قليل ثمرة مرة، تتمثل في استخدام القوة العسكرية بذريعة القداسة الدينية؛ حيث القتل والتدمير في سبيل القيم المسيحية يصبح بمثابة الحق والواجب، على نحو تبدَّى سريعًا في حروب الاسترداد الإسبانية (الأندلس)، وفي حركة الكشوف الجغرافية واستعمار الأمريكتين؛ تبشيرًا للوثنيين هناك.

بقوة دفع الثورات (العلمية، والصناعية، والسياسية)، تطورت الحداثة الغربية إلى درجة بات معها الغرب الأورو- أمريكي، بمثابة المركز الذي يتحكم في شؤون العالم سياسيًّا وعسكريًا على قاعدة اقتصاد رأسمالي واسع يتسم بالديناميكية، بل إنه وضع يده على الكرة الأرضية بأشكال تتجاوز السيطرة المالية والتجارية والاستغلال الإنتاجي إلى ما يشبه السيطرة الشاملة التي اتخذت بنيات هيكلية تمتد من الاقتصاد إلى المعرفة والتنظيم السياسي. وبعد أن كان العالم- في ظل الحقبة التقليدية- يشهد إمبراطوريات تقوم وتنهار سريعًا، تتوسع وتضمحل فجأة، غزاة وفاتحين يمرون سريعًا كالشهاب من الإسكندر الأكبر إلى تيمور لنك إلى محمد الفاتح، من دون أن ينشأ عن ذلك كله نظام عالمي واسع أو ترتيب راسخ للعلاقات الدولية_ أخذ هذا النظام في التشكل والاستقرار على نحو بدا وكأنه لا رجعة عنه. نعم شهد هذا النظام تحولات داخلية في جغرافيته، تغير معها اسم الدولة التي تقوده بفعل تراكم أو تقلص عوامل القوة، سواء لدوافع داخلية تخص الدولة نفسها، أو خارجية كالصعود الكبير في قوة الدول الأخرى، ولكن في إطار العالم الغربي على العموم، ومن ثم شهد النظام العالمي الحديث ما نسميه بظاهرة “الدول المحفزة للتاريخ”، التي أجادت اغتنام الأفكار الجديدة في دعم جاذبيتها وقدرتها على قيادة النمط السائد للتفاعل الدولي، وهو أمر تنهض به الدولة غالبًا في لحظات صعودها أعقاب فورات كبرى قومية أو سياسية تمكنها من تجاوز أوضاعها العادية “المألوفة”، وتزيد من شعورها بالسيطرة على مصيرها، وتُوِّلد لديها رؤى طوباوية للتاريخ تشعر معها بأنها تتصرف حسب خطته، وأنها الأكثر فهمًا لمنطقه، والسير من ثم، باعتبارها وكيل له، نحو تغيير العالم من حولها بدءًا بالخارج “القريب”.

في هذا السياق، يمكننا الحديث عن عدة دول: أولها، هولندا التي انسلخت من سيطرة آل هابسبورج النمساوية أواخر القرن السادس عشر؛ لتقود حركة التجارة العالمية الواسعة على قاعدة النزعة المركنتيلية الأكثر تطورًا قياسًا إلى الإقطاع، حيث كانت أول دولة إقليمية حديثة تقدم مبررًا لوجودها على أساس الاقتصاد وليس على السياسة والحرب ومجد الحاكم، الأمر الذي أسهم، مع حركة الإصلاح الديني، في تكريس‏ مفهوم الدولة القومية الحديثة. وثانيها: فرنسا، التي لعبت دور الأمة المحفزة- معظم فترات القرن الثامن عشر- بإلهام الثورة الفرنسية التي جسدت روح التنوير والمثل العليا كـ (الحرية، والإخاء، والمساواة)، التي حاولت فرنسا من خلالها أن تغير الآخرين، ومن ثم دخلت تحت قيادة نابليون في صراع حول حق تفسير التاريخ وقيادته‏ ‏مع‏ ‏أغلب‏ ‏الملكيات‏ ‏الأوروبية‏ ‏المحافظة لنحو ثلث القرن، انتهت بهزيمة الرجل ونفيه وتوقيع معاهدة واترلو 1815م، التي أنهت دورة القيادة الفرنسية. وثالثتها: بريطانيا العظمى، التي ارتادت آفاق الثورة الصناعية الأولى، ولعبت من خلالها دور اللاعب الأهم في السياسة الدولية في معظم فترات القرن التاسع عشر ومطلع العشرين؛ باعتبارها القوة الأكثر هيمنة فيما يتعلق بالاقتصاد والمال ومن ثم التجارة العالمية، حيث مكنتها سطوتها الاقتصادية من الهيمنة العسكرية على البحار والمحيطات، وأتاحت لها ممارسة تأثير حاسم على القارة الأوروبية من خلال إستراتيجيّتي(التحالفات المرنة، والعزلة العظيمة)، ناهيك عن الهيمنة الاستعمارية على شرق العالم وجنوبه، حتى أخذت هيمنتها في الأفول مع نهاية الحرب العالمية الثانية. أما الرابعة: فهي الولايات المتحدة، التي لعبت- بامتياز- دور الدولة المحفزة طيلة القرن العشرين بوحي الحلم الأمريكي الذي ألهم أجيالًا عدة في كل أنحاء الأرض حتى منتصف القرن العشرين، وبقدرتها على الإشراف بفعالية على جل أشكال الحوار والتفاعل الدولي، وضمنه إنتاج المعارف والتكنولوجيات الجديدة، ومن ثم قادت الثورة الصناعية الثانية وضمنها الصناعات النووية والأسلحة المتقدمة -خصوصًا الطيران- وكذلك على حجم هائل من الإنتاج الثقافي والفكري ومن أشكال الترفيه التليفزيوني والسينمائي، على النحو الذي جعل الكثيرين يتهمونها بـ”الإمبريالية الثقافية”، وخصوصًا بعد أن ارتبطت الأخيرة بإمبريالية اقتصادية جسدتها “العولمة”.

وفي موازاة تلك الهيمنة الإستراتيجية الغربية، تنامت نزعة ثقافية نرجسية، هدفها الأساسي تبرير الهيمنة العسكرية بدوافع عرقية ودينية وأخلاقية، تحدثت عن فكر أوروبي يتسم بالوحدة والتماسك والاطراد، وكذلك بالفرادة والكونية، يصلح لكل زمان ومكان، كما يقول السلفيون الإسلاميون عندنا، ويدعى التجذر في تجربة أصلية هي الفلسفة اليونانية، التي تأخذ هنا مكان التجربة النبوية في المدينة المنورة. وعلى هذا تصبح الحضارة الأوروبية/الغربية مطلقة النقاء، خالية تمامًا من الشوائب، كالهوية الإسلامية في الإدراك السلفي، وعن آخر حضاري متخلف بقدر ما هو مختلف، كما يتصور السلفيون غربًا منحلًّا، مفتقدًا للفضائل الأخلاقية. غير أن المشابهة بين النرجسيتين تتوقف عند هذا الحد؛ لتنفرد النرجسية الأوروبية (الحديثة، والفعالة) بالغزو والاقتحام بذريعة النقائص الكامنة في الآخر، فإن لم تكن تلك النقائص موجودة فعلًا حاولت أن تخلقها لديه.

      ففي خمسينيات القرن التاسع عشر كان “جون هنري نيومان” يقول: “إن الحضارة الأوروبية متميزة في طبيعتها، جليلة في رواجها، وليس لها منافس على وجه الأرض”، ما يبرر حملها لقب “المجتمع الإنساني” وحمل حضارتها ذلك المصطلح المجرد “الحضارة”. أما “هنري توماس باكل” فكان يؤكد على أن التقدم الذي أنجزته أوروبا من البربرية إلى الحضارة يرجع بكامله إلى تنامي معرفة الإنسان الأوروبي، وأن “الحضارة” و “أوروبا الحديثة” ليسا إلا مترادفين. أما “آرثر دو جوبينيو“، منظِّر العنصرية العرقية الأشهر، فقدم في الأجزاء الثلاث الأخيرة من كتابه “فصل المقال في لا تساوي الأجناس”، مسحًا للحضارات التي صنعها الدم الأوروبي، فإن لم تكن جميعها نتجت مباشرة عن الجنس الأبيض، فهي مستمدة منه، أو على الأقل تأثرت بإسهامه. ولدى “هيجل” الفيلسوف المثالي، فإن الشرقيين لم يتوصلوا بعد إلى معرفة الروح، ولم يدركوا قيمة الإنسان بما هو كائن حر، أما الأمم الجرمانية- بتأثير المسيحية- فقد وصلت إلى الوعي بأن الإنسان، بما هو إنسان، كائن حر، وأن حرية الروح هي التي تؤلف ماهيته. وهكذا وقع انقسام في الفكر الإنساني بين عرق أوروبي منح التفوق والرفعة والسمو، واحتكر الحقيقة بكل أبعادها، وأعراق أخرى خارج أوروبا نُظر إليها بوصفها بدائية، خاضعة لعلاقات اجتماعية تحتاج إلى تهشيم قبل أن يتم نشر الفضيلة والأخلاق والعقل فيها، وكان الاحتلال هو أبسط طرق تهشيمها. أما “أرنست رينان”، فأصدر تعميمات كاسحة عن “عقول ضيقة” لمن يعيشون في الشرق وإفريقيا، ويمثلون جنسًا عقيمًا فكريًّا؛ بسبب تمسكهم بالإسلام واللغة العربية، قياسًا إلى الأوروبي المسيحي المتحضر، واسع الآفاق. وعندما واجه رينان تحديًا لمنطقه يتمثل في ازدهار العالم الإسلامي طيلة القرون الوسطى، كان تفسيره أكثر استفزازًا، وهو أن العرب، كالساميين الآخرين، لم يكونوا قادرين على تطوير العلم، وإن الخلافة العباسية كانت أساسًا فارسية، أي هندو- أوروبية، حتى وإن استخدمت اللغة العربية، ومن ثم فإن الآريين هم المسؤولون الحقيقيون عن ازدهار العلم عندهم.

بلغت نزعة التمركز هذه أوجها عشية الحرب العالمية الأولى، فصار الجميع خاضعين لها، وحتى عندما كان مفكرون من خارج الغرب يجادلون ضدها، فلم يكن باستطاعتهم نفي التفوق الأوروبي من الأساس، بل كانوا فقط يفسرونه بدوافع مختلفة عن تلك الدوافع العنصرية التي يرتكز إليها، حتى لا يظل رهينة لانتماء عرقي أو اعتقاد ديني، أو تراكم ثقافي داخل التاريخ الغربي وحده، بل يصبح نتاجًا للتراكم الحضاري عبر مسيرة التاريخ البشري. هذه النزعة المتمركزة مثلت مسرح الوعي الذي جرت عليها وقائع الحرب الأوروبية الكبرى قبل مئة عام بين دول المحور بقيادة ألمانيا ومن خلفها الإمبراطوريتان (النمسوية المجرية، والعثمانية)، وبين دول التحالف وعلى رأسها (فرنسا، وبريطانيا)، ومن خلفهما (إيطاليا، وبلجيكا)؛ لتخلف لنا عشرة ملايين من القتلى، ناهيك عن أضعافهم من الجرحى والمصابين بعاهات مستديمة وأزمات نفسية، في دراما كونية كانت هي الأكثر بربرية طوال التاريخ حتى هذه اللحظة، فلم تتفوق عليها سوى الحرب الكبرى الثانية، التي خلَّفت الحرب ستين مليونًا من القتلى، وهي حرب أوروبية أيضًا، لكنها حملت وصف العالمية كسابقتها؛ لأن أوروبا منحت نفسها حق الحديث باسم الإنسانية كلها، وبانتهائها سقطت الإمبراطوريات العتيقة خصوصًا (الفرنسية، والبريطانية)، وصعد القطبان الإستراتيجيان: الاتحاد السوفيتي، والولايات المتحدة التي دخلت الحرب متأخرة لتحسمها بضربة نووية دون أن تُمس أراضيها، بل خرجت من الحرب عملاقًا يرتاد أفق الثورة الصناعية الثانية، يستحوذ على 40% من الاقتصاد العالمي.

صعود وهبوط الولايات المتحدة :

في كتابه “النبوءات” تصور كريستوف كولومبس أن اكتشاف أمريكا هو بداية مسيرة الخلاص باعتناق الوثنيين للمسيحية، والقضاء على المسيح الدجال، وعندما بلغ شواطئها اعتقد أنه قارب الفردوس الأرضي، وأن التيارات المائية العذبة التي صادفها هناك إنما تنبع من الأنهار الأربع التي تروى جنة عدن. أما المستعمرون الإنجليز فاعتبروا أنفسهم مصطفين لبناء (مدينة على جبل) تكون بمثابة مثل يُحتذى لأوروبا، يتجاوز آفات الاضطهاد والعبودية في مجتمعاتها الإقطاعية، بل إنهم رأوا في بقاء أمريكا محجوبة عن أوروبا حتى زمن الإصلاح الديني آية من آيات العناية الإلهية؛ كي تبدأ الحياة فيها من أرقى نقطة وصل إليها الأوروبيون. ومع إعلان الاستقلال الأمريكي، تحدث الرئيس المؤسس “جورج واشنطن” عن الولايات المتحدة كبلد قادته يد الله، أما خليفته “جون آدمز” فعبّر، في سيرته الذاتية، عن اعتقاده بأن تأسيس أمريكا ليس إلا المشيئة الإلهية لتعليم وتحرير قطاع كبير من البشرية لا يزال خاضعًا للرق.

غير أن مسيرة حياة أمريكا، للمفارقة، سوف تولد من رحم القمع والعبودية، حسب المؤرخ الأمريكي الراحل “هوارد زن”، وتتمدد فوق رقاب الهنود الحمر وعلى أجساد الأفارقة السمر. كان الهنود شديدي المحبة والتسامح في تعاملهم مع المستكشفين الأوائل، يستقبلونهم بترحاب ويدلونهم على ما يملكونه من الحبوب والذهب، ولا يترددون في اقتسامه معهم، لكن الضيوف استداروا إليهم بالسيوف قتلًا وإبادة، أما السود فكانوا الأسوأ حظًا، جلبهم من إفريقيا وسطاء وسماسرة محترفون على سفن رثة، أوصلت منهم خمسة عشر مليونًا وأغرقت أضعافهم.

أخيرًا ولدت أمريكا كدولة، على الشاطئ الشمالي الشرقي للأطلسي، لكنها استمرت في التوسع السياسي والصعود الاقتصادي طيلة القرنين (الثامن عشر، والتاسع عشر) داخل القارة الأمريكية نفسها؛ حيث تشكل عقلها السياسي من نزعتين متكاملتين: الأولى، دينية تتمثل في المذهب البيوريتاني، الذي استلهم الأخلاق الكالفينية وتصورها عن المسيحي الجديد/النشيط، الذي يؤمن بمبدأ الربح والفائدة، مثلما يؤمن بالله. والثانية، فلسفية تتمثل في المذهب البرجماتي، الذي صاغ معالمه وليم جيمس؛ ليحرر السلوك من أية كوابح أخلاقية مسبقة، فأخلاقية الفعل تعتمد على نتيجته العملية؛ حيث الغاية الأساسية للفاعل هي السعادة، والسعادة تعني النجاح والثروة. ومن جماع النزعتين (البيوريتانية، والبرجماتية)، جرى طلاء إرادة الهيمنة الاقتصادية كغاية جوهرية بقشرة مثالية أخلاقية ودينية؛ لتذوب المسيحية في الرأسمالية، وتولد الحضارة الأمريكية.

في النصف الأول من القرن العشرين، نجحت أمريكا في إقناع الآخرين بأنها قوة أخلاقية، خصوصًا بعد أن طرح الرئيس “ودرو ويلسون” مبدأه الشهير حول حق تقرير المصير، الذي أسهم بنصيب في تدشين ديناميكية عصر التحرر الوطني، التي أنهت الحقبة الاستعمارية بعد ذلك بربع قرن. في الموازاة بدأ الحديث عن الحلم الأمريكي كأفق مثالي يتصور الولايات المتحدة وطنًا بالفكرة أكثر مما هي بالجغرافيا‏، ويرى أن الأمريكيين ليسوا مجرد القاطنين ما بين الساحل الشرقي والغربي‏، وما بين الحدود الكندية والمكسيكية‏، بل هم جميع الحالمين بالعدل والهاربين من الظلم والعنصرية. غير أن النصف الثاني للقرن نفسه شهد تحولها إلى قوة إمبريالية، تدخلت في عشرات الدول في شتى أرجاء العالم، خصوصًا في (أمريكا اللاتينية، وإفريقيا، وآسيا) ضد النظم التقدمية والوطنية، ولصالح النظم الرجعية والعميلة، بغض النظر عن ديمقراطيتها أو شموليتها، حتى إنها تحالفت مع قلب الدين “حكمتيار” زعيم الحزب الإسلامي في أفغانستان، فيما كان أتباعه يلقون الحمض على وجوه النساء اللاتي رفضن ارتداء الحجاب.

بنهاية الحرب الباردة، انفردت الولايات المتحدة بالهيمنة العالمية، تحت مظلة خطاب كوكبي مثل آنذاك قفزة في الفراغ؛ إذ بُشر بعالم جديد يسع الجميع ظاهرًا لكنه يخضع لقيادة الطرف المنتصر جوهريًّا، ميزة هذا الخطاب أنه يجنب الطرف المنتصر مخاطر استفزاز الخصوم القدامى والمنافسين الجدد. مارست الولايات المتحدة هيمنتها باسم هذا الخطاب ‏عبر مبدأ “حق التدخل الإنساني”، الذي جرى تطبيقه بانحياز ظالم ومراوغة مطلقة، وقد ثبت سريعًا عندما وقعت العمليتان العدوانيتان المتشابهتان (غزو بنما، واحتلال الكويت)، الأول أُعتبر حدثًا عاديًّا؛ لأن الفاعل هو أمريكا، أما الثاني فاُعتبر كارثيًّا، يستدعى حشد العالم كله حتى لا يتهدد السلام العالمي؛ لأن الفاعل هو العراق. وعبر ثلاثة عقود ونيف، كانت أمريكا تنحرف باضطراد نحو (النرجسية، والفردية، والهيمنة) بفعل الطفرة الكبيرة في قوتها الشاملة أعقاب انهيار القطب الثاني في النظام العالمي، وتدني التحدي الإستراتيجي لها من القوى التالية له‏، فاحتفظت لنفسها بحق تعريف ما هو شرعي وما هو غير شرعي، ومنحت لنفسها الحق المطلق في تفسير ماهية الاعتبارات الإنسانية، بل في عقاب الخارجين على معاييرها بعيدًا حتى عن الشركاء الأوروبيين. وعندما وقعت أحداث ‏11‏ سبتمبر، تصاعد اليمين المحافظ وتفجرت نزعة إمبريالية جديدة، واكبها العقل الأمريكي بصياغة خطاب شرعي اتسم بالنرجسية، بدا وكأنه نزعة تمركز حول الذات الأمريكية، اعتمد خليطًا ثلاثيًّا من المصطلحات الميتافيزيقية كـ (العدالة المطلقة، الحرية اللانهائية، والحرب العادلة)، والمفاهيم المانوية (ثنائية الخير والشر، من معنا ومن ضدنا)، والخطابات الصراعية كـ (نهاية التاريخ، وصدام الحضارات). إنها القيادة التاريخية وقد هرمت فعليًّا، فأخذت تبرر مظاهر عجزها وانحرافها.

وعلى الرغم من ذلك الإرث الإمبريالي الطويل الذي لا مراء فيه، ثمة جديد يحدث الآن، يمثل منعطفًا في تاريخ الإمبراطورية الأمريكية، يتعلق باستثنائية المجزرة التي تدور وقائعها في غزة، بدعم عسكري واقتصادي وسياسي أمريكي غير محدود، يحول دون وقفها.  نعم استخدمت أمريكا الفيتو كثيرًا في الماضي دون وجه حق، خصوصًا في الصراع العربي الإسرائيلي للحول دون إدانة إسرائيل أو حصول العرب على أية حقوق، لكن ذلك كله جرى في ظروف شبه طبيعية، وضمن ملابسات سياسية تسمح بالضغط والمساومة وليس في ظروف بالغة الاستثنائية تشهد وقائع جريمة الإبادة الجماعية مصورة على الهواء مباشرة، يراها الناس في العالم كله، ويدينها أغلبهم حتى الأمريكيون أنفسهم، لكن النظام الأمريكي وحده يدعمها جوهريًّا، سواء كان عن رؤية غير إستراتيجية ولا أخلاقية، أو عن عجز مريب في مواجهة يمين إسرائيلي متطرف، ورئيس حكومة لا يرى ملاذًا أمنًا لشخصه سوى استمرار الجريمة. وإذ يحدث ذلك كله بسلاح أمريكي، وفي ظل حصار بحري أمريكي لشواطئ غزة، يضمن لإسرائيل القتل والإبادة على مهل، يبدو الجرم الأمريكي استثنائيًّا ليس لحجمه فقط بل لنوعه؛ فأمريكا التي اعتدنا أن ندينها كفاعل قوي، يلعب دور الفتوة في العالم والإقليم، صرنا ملزمين باحتقارها كنائب فاعل، مثل قواد يضع نفسه في خدمة سيده، ويجعل من نفسه أسيرًا لأهوائه ونزقه، وذلك هو الانحدار بعينه.

تدهور أنماط القادة:

أفضت نهاية الحرب الباردة وتواري التيارات المناهضة للرأسمالية، إلى غياب الصراعات الإيديولوجية “الكبيرة” حول أشكال تنظيم العالم، وما تستثيره من جسارة وخيال، فانفتح المجال واسعًا للصراعات “الصغيرة” حول الحسابات المادية والمشاكل التقنية حول طرائق التجارة والاستهلاك والمنفعة العارية من أي قيم إنسانية، خصوصًا بعد أن تحول اليسار السياسي الأوروبي عن أحلامه الكبيرة في تغيير مجتمعاته نحو قيم العدالة والإنصاف، وتواضعت مطالباته إلى الحد الذي جعله نفعيًّا وعمليًّا، يكاد يعلن الاستسلام باسم الواقعية. كما انطوى اليسار الأوروبي “الثقافي” على نفسه مع تراجع مدرسة فرانكفورت برحيل المؤسسين الكبار: أدورنو، وهوركهايمر، وماركوزا حتى بدا يورجن هابرماس- من الجيل الثاني لها- عصفورًا وحيدًا لا يكاد يصنع ربيعًا حقيقيًّا. لقد انتهي عصر الأفكار الخلاقة التي تدعو إلى إعادة بناء العالم، فانفتح الباب أمام الأفكار التفكيكية، ومع اختفاء الأفكار اليسارية ويوتوبيا المساواة الإنسانية صعدت الأصوليات الدينية كمعول لتمزيق النزعة الإنسانية، ومع انكفاء الجيش الأحمر والتحدي الإستراتيجي السوفيتي ولد تنظيم القاعدة وتحدى الإرهاب الغادر، وبدلًا من عصر الحروب النظامية الكبرى سادت تكتيكات حرب العصابات بدءًا من أفغانستان وصولًا إلى داعش، وبديلًا عن الرعب الستاليني صار هناك عبثية بن لادن، وعدمية أبو بكر البغدادي.

كان الأدب السياسي الحديث قد ولد من رحم عصر (العقل)، واستبطن مُثل الحداثة؛ ولذا دار الجدل السياسي/ الأيديولوجي طويلًا حول “الإنتلجنسيا”، أي الطبقة المثقفة، ودورها في نشر الوعي الثوري. كما ولدت التنظيمات الطليعية/ الحزبية القادرة على تسلم السلطة حال نجاح الثورة، كما كان اليعاقبة إبان الثورة الفرنسية، أو البلاشفة إبان الثورة الشيوعية، لكن ومنذ السبعينيات، أصبحنا في عصر (الصورة)، ولم تعد الثقافة والأفكار الكبرى مهمين للسياسي، فالمهم هو مهارته في عرض وترويج الأفكار الصغرى، ومنذئذ صار عالم السياسة مسطحًا، يزداد اتساعًا دون عمق، يُجرى فيه طلب السلطة والتنافس عليها بوسائل تفتقد القدرة على الإلهام والإبداع، وتُعوِّل بدلًا من ذلك على الإيهام والتحايل؛ فلم يعد مطلوبًا من الزعيم السياسي صوغ إستراتيجيات معقدة لا يستسيغها الجمهور العريض أو خطط معمقة لا يستوعبها العقل البسيط، بل يكفيه الإيماء بوعود براقة، يفضل أن تكون مبهمة.

وفي العقدين الماضيين، حيث هيمنت وسائط التواصل الاجتماعي، فلم يعد ثمة مراكز إرسال معرفي مؤكدة ولا مراكز تلقِّي واضحة، بل حالة شبكية تتسم بالتجانس والتأثير الانعكاسي، بدا العقل السياسي في حال ضمور، فمؤلف النص السياسي/ الإيديولوجي مات إكلينيكيًّا، بينما أخذ القارئ/ الناخب يصعد تدريجًا على جسده. تراجعت القيادات وتقدمت الجماهير؛ ولأن الجماهير الغفيرة لا تكترث بالأفكار، صارت المشهدية سيدة الموقف، حتى باتت السياسة منفصلة تمامًا عن القيمة. هذا الواقع هو ما كان أدركه الرئيس ترامب، وأجاد اغتنامه سواء في رحلة صعوده إلى سدة البيت الأبيض عام 2017، عندما صاغ مواقف شعبوية عبر عنها بطريقة مستفزة ودرامية، تخيلنا أن استفزازيتها سوف تهزمه في النهاية، فإذا بدراميتها تنتصر له، أو في ممارسة السلطة على نحو بدائي، انطلاقًا من عقل غريزي يقوم بأفعال شرطية تنتمي إلى عالم الذهن بأكثر مما تنتمي إلى عالم العقل، ويدوس كل ما هو رمزي وأخلاقي، طالما كان ذلك ممكنًا لا تحول دونه قوة صلبة. وعلى هذا يصير ترامب تجسيدًا لذلك النوع السيئ والخطير من القادة الذين أخضعوا التاريخ لغريزة القوة وأعادونا إلى حالة الطبيعة، التي كان فيلسوف السياسة الإنجليزي “توماس هوبز” أجاد في وصفها؛ حيث يبدو الإنسان فيها ذئبًا لأخيه الإنسان، وتبدو أصول العلاقة بين الجماعات والأعراق والدول مجرد انعكاس لقوانين الحياة الحيوانية.

واليوم، تتبدى لنا حالة الطبيعة كأوضح ما يكون في العدوان الإسرائيلي الهمجي على غزة، وفي مواقف الرئيس الأمريكي “جو بايدن”، أقوى رجل في العالم، الكاشفة لمدى ضعف حساسيته السياسية، وهزال تكوينه الثقافي، لقد بدى الرجل متورطًا بمنحه إسرائيل صكًا بحرية رد الفعل على طوفان الأقصى، خارج كل الأعراف والقوانين، كما بدت تصريحاته مشبعة بالتحيز والعنصرية، مدعيًا أن حماس تغتصب النساء وتقتل الأطفال، وأنها قطعت رأس أربعين طفلًا دونما تدقيق، وهو ما ثبت كذبه بالمطلق، وأن حماس تفعل ذلك لأنها تكره اليهود وتعادي السامية كالنازية، وقد رتب على ذلك ضرورة معاملتها كتنظيم إرهابي على منوال داعش، وهنا يخلط الرجل بين اليهودية كدين والصهيونية كحركة استيطانية، وبين اليهودية كدين وإسرائيل كدولة استعمارية مثل أي صهيوني شعبوي، ويتغافل عن الفارق بين داعش كتنظيم عبثي يحارب جواره ومجتمعه وبين حماس كحركة مقاومة وطنية/ إسلامية، تدافع عن أرضها ضد محتل غاصب، كأي متطرف إسرائيلي.

لقد تحدث عن عدوان شنته حماس على إسرائيل فجأة وكأن حماس دولة، وإسرائيل دولة جارة وادعة، ليست محتلة ولا معتدية على المقدسات، أو كأن الصراع بدأ للتو بمبادرة من حماس، متناسيًا قرنًا من التوسع الاستيطاني، وثلاثة أرباع القرن من عمر إسرائيل كدولة لم تتوقف خلالها عن ارتكاب المجازر والاغتيالات في حق الفلسطينيين قبل نشأة حماس نفسها بعقود طويلة. تجاهل الرجل ما يعترف به الإسرائيليون ذوو الضمائر الحية من مجازر (دير ياسين، والطنطورة، وأبو شوشة، وكفر قاسم، وتل الزعتر، وصابرا، وشاتيلا، والأقصى، والحرم الإبراهيمي.. إلخ)، والتي استهدفت تهجير المدنيين العزل من أراضيهم، كما نسي جميع قرارات الأمم المتحدة التي لم تنصع إسرائيل لها طيلة العقود السبع الماضية، حتى قرار التقسيم الذي نشأت بموجبه، حيث انتقت منه فقط ما يبرر شرعيتها المغتصبة. ونسي كذلك كل اتفاقيات السلام: بدءًا من مؤتمر مدريد، مرورًا بأوسلو، واتفاق القاهرة، والخليل، وكامب ديفيد الثانية، وخريطة الطريق، بالإضافة إلى مبادرات السلام العربية من فاس إلى بيروت. نسى بايدن كل هذا أو تناساه لأنه صهيوني، وليس هذا اتهامًا له بل اعتراف موثق منه في فيديو شهير يتحدث فيه كعضو مجلس نواب، ورئيس للجنة الشؤون الخارجية في يونيو 1986، يبدي فيه اعتزازه بأنه صهيوني، ويطالب كل يهودي بأن يكون صهيونيًّا، مؤكدًا  أن إسرائيل ضرورة للوجود الأمريكي، وأنها لو لم تكن حقيقة قائمة لكان مُحتَّمًا اختراعها، الأمر الذي يكشف عن أحد أسرار عالمنا المضطرب، وهو خُلُوِّه من القادة الكبار، ووقوعه في أسر نخب دون مستوى تحدياته، ولا تنتمي بأي وجه لعصر العقل الأمريكي كما تمثله (توماس بين، وبنيامين فرانكلين)، أو لتقاليد المقعد الرئاسي الذي شغله (جورج واشنطن، وتوماس جيفرسون)، وصولًا إلى (أبراهام لنكولن، ودوايت إيزنهاور).

اظهر المزيد

صلاح سالم

كــاتب ومفــكر بجريدة الأهرام

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى