في ضوء تنامي التوترات الجيوسياسية في منطقة الشرق الأوسط، تشهد الأسواق العالمية للنفط والغاز الخوف من التعرض لنقص الإمدادات النفطية وسلاسل الإمداد؛ وذلك نتيجة استمرار الصراع بمنطقة الشرق الأوسط والحرب الإسرائيلية بقطاع غزة، والتي بدأت تلقي بظلالها على أسعار النفط، والتي شهدت ارتفاعات خلال الفترة الماضية، فضلًا عن تأثيرها على أمن الطاقة بشكل مباشر على قدرة الدول المجاورة على تلبية احتياجاتها من الطاقة وتشغيل قطاعاتها الاقتصادية، وانعكاساتها على تأجيل الاتفاقيات والتعاون الدولي في مجال الطاقة، مما يزيد من التحديات التي تواجه عمليات الإنتاج والتوزيع.
حيث تُعد منطقة الشرق الأوسط مرتكزًا مهمًّا في سوق الطاقة العالمي، ولاسيما إنها تمتلك جزءًا كبيرًا من احتياطيات العالم من النفط، وتقوم بدور حاسم في أسواق الطاقة العالمية باعتبارها مصدرًا رئيسًا للنفط والغاز الطبيعي، فهي تمثل 31 % من إنتاج النفط العالمي، و18 % من إنتاج الغاز، و48 % من احتياطيات النفط المؤكدة، و40% من احتياطيات الغاز، ومن ثم فعدم الاستقرار في المنطقة من شأنه أن يؤدي إلى انقطاع إمدادات الطاقة، الأمر الذي يؤدي إلى تقلبات في أسعار الطاقة في مختلف أنحاء العالم، وهذا يؤكد أهمية المنطقة في دعم الاستقرار في سوق الطاقة العالمية.
وفي هذا الإطار أصدر صندوق النقد الدولي مؤخرًا تحديثًا لتوقعاته لنمو اقتصاد أسواق الطاقة العالمية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لعامي (2024 و2025)، حاملًا معه أنباءً أقل تفاؤلًا مقارنةً بالتوقعات السابقة، فقد خفض الصندوق توقعاته للنمو في عام 2024 إلى 2.9%؛ وذلك بسبب استمرار الصراع في المنطقة وتراجع إنتاج النفط، ويمثل هذا التعديل انخفاضًا بنصف نقطة مئوية عن التوقعات السابقة التي صدرت في أكتوبر 2023، والتي كانت 3.4%، ويُعزى هذا التراجع في النمو إلى جملة من العوامل المُتداخلة؛ حيث يؤثر الصراع في غزة “صدمة” جديدة للاقتصادات الإقليمية، مما أدى إلى “معاناة إنسانية هائلة”، وفاقم من التحديات القائمة أصلًا في المنطقة. ولذلك، شدد الصندوق الدولي على ضرورة اتخاذ خطواتٍ حاسمة لوقف الصراع وحله بشكلٍ سلمي.
المحور الأول: الاعتداءات الإسرائيلية على غزة:
مع بدء أحداث 7 أكتوبر 2023، وما ترتب عليه من حرب دائرة بين حركة حماس وإسرائيل، حيث كشف تقرير مشترك للبنك الدولي والأمم المتحدة صدر مؤخرًا عن حجم الدمار الهائل الذي لحق بقطاع غزة جرَّاء الصراع الأخير؛ حيث قُدرت تكلفة الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية الحيوية بنحو 18.5 مليار دولار، وهو ما يعادل 97% من إجمالي الناتج المحلي للضفة الغربية وقطاع غزة معًا عام 2022. وشملت الأضرار جميع قطاعات الاقتصاد؛ حيث لحقت بالمباني السكنية 72% من التكلفة، بينما تضررت البنية التحتية للخدمات العامة مثل: (المياه، والصحة، والتعليم) بنسبة 19%، كما تضررت المباني التجارية والصناعية بنسبة 9%، وتشير التقديرات إلى أن معدل الأضرار قد وصل إلى حد الثبات في العديد من القطاعات، مع توقع صعوبة إعادة تأهيلها، وخلف الدمار كمية هائلة من الحطام والأنقاض تقدر بنحو 26 مليون طن، مما قد يستغرق سنوات لإزالتها والتخلص منها.
وقد تأثرت شبكات الكهرباء وأنظمة إنتاج الطاقة الشمسية بشكلٍ كبير، مما أدى إلى انقطاع التيار الكهربائي بشكل شبه كامل منذ الأسبوع الأول للصراع، كما تم تدمير أو تعطيل 92% من الطرق الرئيسة، وتدهورت البنية التحتية للاتصالات، مما جعل إيصال المساعدات الإنسانية صعبًا للغاية، وأدى الصراع إلى فقدان حوالي 90% من الوظائف في القطاع الخاص، و15% من الوظائف في القطاع العام، فضلًا عن خسارة وظائف جميع العمال من غزة، الذين كانوا يعملون في الاقتصاد الإسرائيلي. وكان أكثر القطاعات تأثرًا بفقدان الوظائف في غزة هو قطاع البناء؛ حيث سجل التراجع الأكبر بنسبة حوالي 96% في الربع الرابع من عام 2023 مقارنة بنفس الفترة من عام 2022، يليه قطاع الزراعة بنسبة حوالي 93%، وقطاع الصناعة بنسبة 92%، وقطاع الخدمات بحوالي 77% في الربع الأخير من 2023، كما أوضح تقرير المنظمة أن الخسائر التي لحقت بسوق العمل في قطاع غزة تُرِجمت إلى خسائر يومية في الدخل وصلت إلى 4.4 مليون دولار حتى نهاية يناير.
كما أفادت وزارة الصحة الفلسطينية في 18 يونيو 2024، بارتفاع عدد ضحايا العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة إلى 37372 شهيدًا و85452 مصابًا منذ 7 أكتوبر، نجم معظمها عن الاستخدام العشوائي للأسلحة المتفجرة ذات التأثير الواسع، بما في ذلك قذائف المدفعية الثقيلة والصواريخ والقنابل.
الانعكاسات البيئية:
تسببت القوات الإسرائيلية أيضًا في دمار بيئي واسع النطاق؛ حيث تؤدي الانفجارات والحرائق إلى تلويث الهواء المحيط بالغازات السامة والجسيمات، وأيضًا يؤدي تدمير المنشآت الصناعية إلى تلويث المياه والتربة بمواد كيميائية خطرة؛ حيث وفقًا لسلطة جودة البيئة الفلسطينية، إن العدوان الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة لا يشكل كارثة إنسانية فحسب، بل يدمر جميع مكونات التنوع البيولوجي (الحيوي) من نبات وكائنات حية دقيقة. كما أن مكونات الحياة البرية، من تنوع (نباتي، وحيواني) على اليابسة وفي عرض بحر القطاع، تعرضت لأقوى أشكال التدمير على مر العصور، نتيجة استخدام أنواع من المتفجرات والأسلحة، ما أدى إلى تدمير موائل الحيوانات البرية وقتلها وحرق كل أشكال الحياة النباتية، بما في ذلك: الأشجار، والشجيرات، والأعشاب، التي منها ما هو متوطن في ظروف البيئة الساحلية وشبه الساحلية، وهذا الأمر الذي أدى ويؤدي إلى خسارة أنواع بعينها وحتى اختفائها بشكل دائم، الأمر الذي يُعرف بالانقراض.
كما أشارت تقارير إلى المستويات المقلقة من التلوث في البحر والأرض وطبقة المياه الجوفية، وارتفاع نسبة التلوث البيئي لدرجة أن 97% من مياه غزة غير صالحة للشرب، بعدما منعت قوات الاحتلال الماء عن القطاع، ودمرت خزانات المياه، كما حذرت منظمة الصحة العالمية من تردي الأوضاع البيئية إثر العدوان.
إجمالًا، أدى العدوان الإسرائيلي على غزة إلى العديد من الانتهاكات الموثقة لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني من قبل القوات الإسرائيلية، ويترتب على انتهاك الاحتلال الإسرائيلي لقواعد وأحكام القانون الدولي العام والقانون الدولي الإنساني، فضلًا عن انطباق مدلول أحكام وقواعد القانون الدولي لجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية على الممارسات والانتهاكات السالفة للعدوان الإسرائيلي_ إثارة المسؤولية الدولية لدولة الاحتلال عن هذه الجرائم والانتهاكات.
المحور الثاني: أمن الطاقة في الشرق الأوسط:
يعد أمن الطاقة قضية جوهرية للبلدان في جميع أنحاء العالم؛ لتأثيره على النمو الاقتصادي والأمن القومي ورفاهية المواطنين؛ حيث تواجه الدول العربية عددًا من التحدِّيات على مستوى أمن الطاقة والتحول إلى مصادر أكثر استدامة، ولمواجهة هذه التحديات يحتاج العالم إلى اعتماد نهج شامل ومتكامل لأمن الطاقة يأخذ في الاعتبار الحاجة إلى زيادة كفاءة الطاقة، وتطوير الطاقة المتجددة، وحماية البنية التحتية للطاقة الحيوية، والعمل على التقليل من الانبعاثات الكربونية المضرة بالبيئة.
وقد أدى الصراع الجديد في الشرق الأوسط إلى “إعادة تركيز الاهتمام” على أمن الطاقة؛ حيث أصبح أحد المفاهيم الأمنية التي بدأت تتشكل وتأخذ مكانتها العلمية والعملية ضمن العديد من المتغيرات التي تلت حقبة ما بعد الحرب الباردة، وأصبح شأنه شأن العديد من المحددات التي تشكل مضمون الأمن القومي؛ حيث تحتل الطاقة مكانًا بارزًا في العلاقات الدولية، كونها المحرك الأساسي للاقتصاد؛ خاصة بسبب ازدياد الحاجة الشديدة لها، فلم يعد من الممكن الاستغناء عنها لأنها المحرك الأساسي للاقتصاديات العالمية؛ حيث تؤثر مصادر الطاقة كمورد إستراتيجي على إتباع سياسة خارجية نشطة من عدمها وعلى مكانة الدولة وموقعها في النظام الدولي، فالدول المتطورة صناعيًّا تولي اهتمامًا بالغًا بقضية تأمين متطلباتها حتى لا تتأثر صناعتها ونموها الداخلي، في حين تعمل الدول المصدرة على كيفية استغلال تلك الميزة لتحقيق هامش من المناورة.
حيث تقوم مصادر الطاقة بدور رئيس في توازن القوى والمصالح الإقليمية والدولية في منطقة الشرق الأوسط، وهو ما يخلق مجالًا ومحفزًا للتنافس على هذه المصادر، وعلى وجه الخصوص (النفط، والغاز الطبيعي)، وخاصة في المواقع التي تتقاطع عندها المصالح والأهداف الإقليمية والدولية، ومن ثم يمكن للصراع في الشرق الأوسط أن يتسبب في اهتزاز سوق الطاقة العالمية؛ نظرًا إلى كونه موردًا حيويًّا للطاقة وممر شحن رئيسًا؛ لذا يخشى المحللون من تبِعات استمرار الحرب وما يترتب عليها من عدم استقرار أمني واسع، أن تدفع نحو قلقلة استقرار أمن الطاقة العالمي.
بالإضافة إلى ذلك، تفرض الأحداث في غزة ضغوطًا اقتصادية إضافية على الدول المجاورة؛ حيث تتطلب إدارة الأزمات استثمارات إضافية لضمان استمرارية إمدادات الطاقة وتحقيق الاستقرار الاقتصادي، فبينما كان سوق الطاقة العالمي لا يزال يتكيف مع تخفيضات الإمدادات من قبل “أوبك +” وتداعيات الغزو الروسي لأوكرانيا، فإن تصاعد التوترات الجيوسياسية في الشرق الأوسط أدى إلى إبقاء الأسواق في حالة من التوتر منذ 7 أكتوبر 2023. وبجانب التأثير على صناعة الغاز الطبيعي في إسرائيل، التي أضحت خلال العقد الماضي ركيزة لاقتصادها وأمنها الطاقوي، فإن الحرب تهدد كذلك برفع أسعار النفط، وتعطيل التدفق المنتظم للنفط من المنطقة، وعرقلة الشحن الدولي في مضيق هرمز الحيوي، إذا صارت إيران طرفًا مباشرًا في الصراع، وهو ما قد يسفر عنه تأجج التقلبات في أسواق الطاقة العالمية.
ارتفاع أسعار النفط والغاز:
في 30 أكتوبر، حذر البنك الدولي من أن أسعار النفط قد تصل إلى 150 دولارًا في عام 2024؛ بسبب عواقب الحرب التي أدت إلى مزيد من انقطاع إمدادات النفط، كما صرح “أيهان كوس” نائب كبير الاقتصاديين في البنك الدولي ومدير مجموعة التوقعات: إن ارتفاع أسعار النفط- إذا استمر- يعني حتمًا ارتفاع أسعار المواد الغذائية، وإذا حدثت صدمة حادة في أسعار النفط، فإنها ستؤدي إلى ارتفاع تضخم أسعار المواد الغذائية، الذي ارتفع بالفعل في العديد من البلدان النامية، ومن شأن تصعيد الصراع الأخير أن يؤدي إلى تفاقم انعدام الأمن الغذائي، ليس فقط داخل المنطقة ولكن أيضًا في جميع أنحاء العالم.
وفي حين أن ارتفاعَ أسعار النفط والغاز المفترض يعود بالفائدة للدول الشرق أوسطية المنتجة والمصدرة لهذه الموارد من خلال زيادة إيراداتها وتقليل العجز، إلا أنه يترافق مع مجموعة من التحديات في أثناء الأزمات. الصراعات المستمرة في المنطقة تؤدي إلى التضخم، خصوصًا في تكاليف النقل، وتخلق بيئة غير مواتية للاستثمارات، وسينعكس هذا إلى هروب رؤوس الأموال إلى المناطق الآمنة، بعيدًا عن مناطق النزاع ومحيطها. علاوةً على ذلك، تنخفض قيم العملات الإقليمية، وتصبح الفرص الاستثمارية التي تعزز النمو والتنمية نادرة، على الرغم من أنه قد يكون مبكرًا التنبؤ بتفاصيل دقيقة، فإن المؤشرات الأخيرة تطلق إنذارًا حول المخاطر الاقتصادية التي تواجهها منطقة الشرق الأوسط بسبب طبيعة النزاع الطويل الأمد.
لذا فإنّ حركة الاقتصاد في الشرق الأوسط قد تدفع ثمنًا كبيرًا في حالة تنامي الصراع واتساع رقعته خارج قطاع غزة؛ حيث سيسبب ذلك ضررًا في إمدادات الوقود والغاز، قد يكون له تأثيرات كبيرة على تضخم الأسعار بشكل عام، خاصة أن هناك صدمةً في أسعار الطاقة منذ حرب روسيا وأوكرانيا، ومع بدء التعافي وقع الصراع بقطاع غزة، الأمر الذي قد يؤثر بصورة كبيرة على أسعار الغذاء والمنتجات المرتفعة فعليًّا، وقد يتأثر الطلب، ومن ثم تضرر الشركات المنتجة، والوضع الراهن لا يتحمل مثل هذه التأثيرات.
ومن منظور اقتصادي عالمي، تعتبر الطاقة القضية الأكثر أهمية في المدى القصير. كانت أسعار النفط مرتفعة بالفعل مع بدء أحداث 7 أكتوبر 2023، وتلك التطورات تزيد من احتمالية حدوث انقطاعات في الإمدادات (خاصة إذا تورطت إيران في الأزمة أو إذا أثرت الاضطرابات على الإنتاج في العراق)، وتزيد من التوتر السوقي بشكل عام. لقد ارتفعت أسعار النفط بمقدار حوالي 5 دولارات للبرميل في أول 15 يوم من الأحداث، على الرغم من أن الإنتاج النفطي لا يبدو أنه تأثر. ستؤدي صدمات الإمدادات النفطية إلى تقليل النشاط الاقتصادي في البلدان المستوردة للطاقة وفي الاقتصاد العالمي بشكل عام، مع تقديرات صندوق النقد الدولي التي تشير إلى أن زيادة بنسبة 10% في أسعار النفط قد تثقل على النمو العالمي بمقدار 0.15 نقطة في المئة. يواجه عدد من مستوردي النفط في العالم النامي، مثل باكستان، توقعات اقتصادية صعبة بالفعل، من الممكن أيضًا حدوث انقطاعات في إمدادات الغاز (كانت هناك بعض التوقفات في إنتاج حقل تامار الإسرائيلي)، ولقد شهدنا ضغطًا صعوديًّا على أسعار الغاز الأوروبي، يمكن أن تنعكس التوترات المتزايدة في الشرق الأوسط أيضًا على إمدادات الغاز الأوروبي من الدول في المنطقة.
قبل أحداث 7 أكتوبر، كانت اكتشافات الغاز الطبيعي في شرق البحر الأبيض المتوسط توفر آفاقًا جذابة، ومع زيادة إسرائيل إنتاجها من الغاز من 16.11 مليار متر مكعب في عام 2020 إلى 21.92 مليار متر مكعب في عام 2022، قامت بتوسيع تعاونها في مجال الطاقة مع مصر. وفي غضون ذلك، توسطت واشنطن في اتفاق حدود بحرية تاريخي بين إسرائيل ولبنان يسمح للطرفين بالبدء بالتنقيب عن الغاز وحفر الآبار في المياه التي كان متنازعًا عليها سابقًا. وظاهريًّا، بدا أن المنطقة تدخل مرحلة من التعاون في مجال الطاقة والأمن، ثم جاءت أحداث 7 أكتوبر 2023.
التأثير على واردات إسرائيل النفطية:
توقفت واردات إسرائيل من النفط الخام بعد إغلاقها لميناء عسقلان، وتشير بيانات شركة “كبلر” لبيانات الشحن العالمية إلى أنه في شهر سبتمبر 2023، جاء 179ألف برميل يوميًّا من واردات إسرائيل من النفط الخام البالغة 205 ألف برميل يوميًّا عبر عسقلان والباقي عبر ميناء حيفا. ومنذ إغلاق عسقلان، تم استيراد شحنة نفط خام واحدة على الأقل عبر ميناء إيلات على البحر الأحمر؛ ونظرًا لأن معظم واردات إسرائيل تأتي من البحر الأبيض المتوسط والبحر الأسود، فقد ترغم الحرب المطولة المزيد من الناقلات على الإبحار في مسار أطول – عبر قناة السويس إلى إيلات بدلًا من عسقلان- مما يضيف حوالي أربعة أيام إلى الرحلة ويرفع تكاليف الشحن. ومع ذلك، فوفقًا لشركة “كبلر”، كان لدى إسرائيل حوالي 10.72 مليون برميل من النفط الخام في مخزوناتها حتى 27 أكتوبر، والتي يمكنها السحب منها إذا لزم الأمر.
وهذه هي المرة الثانية التي تشهد فيها واردات النفط الإسرائيلية انقطاعًا في عام 2023، ففي مارس 2023، توقفت تدفقات النفط الخام الكردي من العراق، من ميناء جيهان التركي؛ بسبب النزاع المستمر بين (بغداد، وأربيل، وأنقرة). ونتيجة لذلك، اضطرت إسرائيل إلى زيادة وارداتها من النفط الخام من مصادر أخرى، وخاصة أذربيجان (التي يتم تحميل شحناتها إلى إسرائيل في ميناء جيهان)، وكازاخستان (التي يتم نقل تدفقاتها من الخام عن طريق نظام “تحالف خط أنابيب بحر قزوين”، ويتم تحميلها في محطة يوزنايا أوزيريفكا على البحر الأسود بالقرب من نوفوروسيسك، روسيا)، لكن استبدال أنواع النفط الخام ليس مهمة سهلة دائمًا؛ نظرًا لأن الجودة تختلف من مورّد إلى آخر، ويمكن أن يؤدي التحول إلى ارتفاع تكاليف الشحن.
إنتاج النفط الخام في الشرق الأوسط:
من ناحية أخرى، إن استمرار الأزمة في الشرق الأوسط تؤدي إلى نشر حالة من التوجس من إمكانية حدوث ضرر مباشر لمرافق إنتاج النفط الخام في الشرق الأوسط، البالغ نحو 33.3 مليون برميل يوميًا، والتي تمثل نحو 32.8% من إجمالي الإنتاج العالمي، البالغ 101 مليون برميل يوميًّا، كما تهدد الحرب، في حال اتساعها، حركة الملاحة عبر الممرات المائية في المنطقة. ونتيجة لذلك، كان التصعيد الراهن سببًا في قفزة سريعة وكبيرة في أسعار النفط العالمية، التي ارتفعت بنحو 7.3% خلال الأسبوع الأول من الحرب، ليتخطى سعر نفط برنت مستوى 91 دولارًا للبرميل، بعدما كان يدور حول 85 دولارًا للبرميل قبيل الأحداث الحالية.
في نفس الاتجاه، فإن اتساع نطاق الحرب- في حال حدوثه- سيكون إيذانًا باتساع حالة الهلع في أسواق النفط، ويدفع الأسعار إلى بلوغ مستوى 100 دولار للبرميل، وفق تقديرات العديد من المؤسسات الدولية، بل إنه في حال تسببت الحرب في تدمير بعض مرافق إنتاج ونقل النفط بالمنطقة، فإن ذلك سيدفع الأسعار إلى مستويات قياسية، أعلى بكثير عن 100 دولار للبرميل خلال فترة وجيزة، وهو ما سيكون سببًا في اضطراب وتعثر الاقتصاد العالمي؛ لأنه سيزيد مستوى الضغوط التضخمية بشكل قياسي، بما يرفع احتمالات دخول الاقتصاد في حالة ركود تضخمي معقدة، وخاصة مع تزامن ارتفاع أسعار الغاز وأسعار النفط معًا، وفي حال بقائهما مرتفعين لفترة طويلة.
توقف حقل “تمار”:
في 9 أكتوبر، بعد يومين من هجوم حماس المفاجئ، علقت إسرائيل الإنتاج من حقل “تمار”، ثاني أكبر حقل للغاز لديها؛ بسبب مخاوف متعلقة بالسلامة، ويلقي هذا الأمر بظلال من عدم اليقين على صادرات الغاز إلى مصر، التي تعاني من زيادة الاستهلاك المحلي. وفي وقت لاحق، تم إغلاق محطة النفط الإسرائيلية في عسقلان أمام السفن وسط الهجمات الصاروخية، وإذا اتسع الصراع ليشمل “حزب الله”، فسيؤدي إلى تفاقم أزمة الطاقة الحادة أساسًا في لبنان.
بالإضافة إلى أن الاشتباكات- وفي ظل زيادة وتيرة الصراع -من الممكن أن تؤثر بشكل كبير على قدرة إسرائيل على تصدير الغاز لدول الجوار من حيث انقطاع إمدادات الطاقة أو انخفاض ثقة المستثمرين؛ وذلك لأنه في حالة تعرض البنية التحتية للغاز، أو إذا كانت هناك مخاوف أمنية تؤثر على سلامة العاملين في مجال الغاز، فهذا يؤدي إلى انقطاع إمدادات الغاز الطبيعي بشكل عام، وقد يؤدي اتساع رقعة الصراع إلى صعوبة قيام إسرائيل بجذب شركات الطاقة الدولية الأخرى للاستثمار في قطاع الغاز الطبيعي لديها، وبالتالي فإن تباطؤ الاستثمار في قطاع الغاز الطبيعي الإسرائيلي سيكون بمثابة ضربة للطموحات الإسرائيلية في أن تصبح مركزًا لتصدير الغاز الطبيعي إلى أوروبا وأماكن أخرى.
وتُظهر الأرقام الرسمية الصادرة عن الحكومة الإسرائيلية، أنه في عام 2022، صدرت حوالي 63 في المئة من إجمالي صادراتها من الغاز إلى مصر، و37 في المئة إلى الأردن، وتتزايد الصادرات إلى مصر، التي يتم نقلها من عسقلان إلى العريش، منذ عام 2020. وفي العام 2022، زادت تدفقات الغاز الإسرائيلي إلى مصر عبر خط أنابيب شركة “غاز شرق المتوسط” (EMG) إلى 5.81 مليار متر مكعب، من 4.23 مليار متر مكعب في عام 2021 و2.16 مليار متر مكعب في عام 2020.
وبينما تنتج مصر الغاز الخاص بها وتطمح إلى أن تصبح مركزًا إقليميًّا لهذا القطاع، إلّا أنها شهدت انخفاضًا في الإنتاج في السنوات الأخيرة، مما أثر على قدرتها على تلبية الطلب المحلي وتصدير الغاز الطبيعي المسال. ووفقًا لـ “مبادرة بيانات المنظمات المشتركة”، بلغ إنتاج مصر من النفط خلال الأشهر السبعة الأولى من عام 2023 ما يقدَر بـ 5.076 مليار متر مكعب، بانخفاض حوالي 12 في المئة بالمقارنة مع الفترة ذاتها من عام 2021. وفي غضون ذلك، انخفضت صادرات مصر من الغاز الطبيعي المسال في عام 2023؛ بسبب تزايد الاستهلاك المحلي، وفي ظل ارتفاع الطلب المحلي على الغاز في صيف عام 2022، اعتمدت مصر بشكل كبير على الواردات الإسرائيلية، خاصة لتزويد الوقود للمحطات التي تعمل بالغاز، والتي تمثل حوالي ثلاثة أرباع إمداداتها من الطاقة، وقد أثر ذلك على قدرتها على الحفاظ على صادراتها من الغاز الطبيعي المسال. ولسد هذه الفجوة، اتخذت مصر تدابير لزيادة واردات الغاز من حقل “تمار” في أغسطس من ذلك العام. وفي 29 أكتوبر 2023، أعلنت مصر أن تدفقات الغاز من إسرائيل قد توقفت.
وفي هذا الإطار، تتوقع وكالة الطاقة الدولية نمو الطلب العالمي على الغاز الطبيعي في العام الجاري (2024)، لكنها حذرت من تقلبات الأسعار جراء التوترات الجيوسياسية في الشرق الأوسط؛ حيث توفر مستويات المخزونات المرتفعة إلى جانب تحسن توقعات المعروض بعض الطمأنينة لأسواق الغاز خلال 2024، إلا أن عدم اليقين الجيوسياسي يمثل خطرًا رئيسًا، ولاسيما في ظل استمرار الغزو الروسي لأوكرانيا، والتوترات المتصاعدة في الشرق الأوسط، والقيود المتزايدة على الشحن، وتأخير مشروعات الغاز الطبيعي المسال، والظروف الجوية السيئة بصفتها عوامل يمكن أن تحدث تقلبات في الأسواق خلال 2024 ، حيث يتجه الطلب على الغاز عالميًّا للنمو بنحو 2.5% أو ما يعادل 100 مليار متر مكعب، وتتوقع وكالة الطاقة الدولية نمو إمدادات الغاز المسال بنسبة 3.5% هذا العام، أي أقل بكثير من معدل النمو البالغ 8% بين عامي (2016 و2020)، مشيرةً إلى أن تأخير محطات الإسالة الجديدة والمشكلات المحيطة بتوافر غاز التغذية -الغاز المُسلَّم لمحطات الإسالة- في المشروعات القائمة قد يؤدي إلى تأجيل نمو المعروض إلى عام 2025، وقد حذرت وكالة الطاقة الدولية من أن تصاعد الصراع في الشرق الأوسط يمكن أن يؤثر بصورة كبيرة في تدفقات الغاز الطبيعي المسال، خاصة وأن قطر تمثل خمس إمدادات الغاز المسال العالمية،
الانعكاسات الاقتصادية:
وفيما يتعلق بالآثار الاقتصادية على منطقة الشرق الأوسط، أدى استمرار الحرب على غزة وامتدادها لأشهر طويلة والتوسع إقليميًّا إلى تأثيرات اقتصادية كبرى على المنطقة العربية ولاسيما لارتباطها بقطاع النفط بشكل مباشر، وفي مقدمتها، تراجع كبير في حركة الاستثمار الخارجي والسياحة؛ لأنها أصبحت منطقة توتر وعدم استقرار، وكانت في مقدمة الدول التي تضررت هي مصر؛ إذ تضررت بشكل مضاعف عن أية دولة أخرى في المنطقة، خاصة بعد استهداف الحوثيين للسفن في البحر الأحمر، إضافة إلى الصواريخ التي يطلقونها تجاه إيلات، وهذا الأمر أدى إلى تراجع حركة الملاحة في قناة السويس، علاوة على تراجع الاستثمار الداخلي وسلاسل الإمداد وصولًا للمواد الخام والسلع المصنعة، فضلًا عن ارتفاع أسعار العملات الأجنبية، على خلفية الارتفاع الحاد لسعر الدولار في مصر، كما طال التأثير كذلك لبنان وبعض الدول الأخرى التي اضطرت إلى دفع تكاليف أكبر للنفط عن الفترات السابقة، إضافة إلى تراجع الاستثمارات التي أدت إلى خسائر كبيرة في اقتصادات الإقليم وعلى رأسها مصر.
حيث تسبب الاستهداف الحوثي للسفن التجارية وناقلات النفط في تزايد المخاطر التشغيلية بمنطقة البحر الأحمر والتأثير على نحو مباشر على تكاليف الشحن العالمية، وقد دفعت تلك الهجمات بعض شركات الشحن العالمية إلى تغيير مسار سفنها لتجنب تلك المنطقة، وهو ما ترتب عليه زيادة وقت السفر والتكاليف المرتبطة بالشحن، ولاسيما أن قناة السويس تربط البحر الأحمر بالبحر الأبيض المتوسط، وهي أسرع وسيلة لشحن الوقود والمواد الغذائية والسلع الاستهلاكية من آسيا والشرق الأوسط إلى أوروبا، حيث استخدمت شركات الشحن هذا الطريق لنقل ما يصل إلى ثلث إجمالي شحنات الحاويات العالمية.
ولهذا أسفر الصراع الدائر علي زيادة معدلات التضخم، حيث تُؤدي الصراعات إلى ارتفاع تكاليف النقل بشكلٍ هائل، مما يُساهم بدوره في زيادة معدلات التضخم خاصةً في السلع الأساسية.
ومن ثم يُلقي تراجع إنتاج النفط بثقله على آفاق النمو في المنطقة؛ فمع تقلص الإنتاج، تُواجه الدول المصدرة للنفط انخفاضًا في إيراداتها، مما يُعيق قدرتها على دعم النمو الاقتصادي، وتُضاف إلى هذه العوامل تحديات أخرى، مثل: اضطرابات الشحن في البحر الأحمر، مما يُؤثر سلبًا على التجارة الإقليمية.
الأمن الغذائي :
من المتوقع أن يُؤدي الارتفاع في أسعار الطاقة، بالإضافة إلى اضطرابات سلاسل الإمداد، إلى زيادة أسعار الغذاء بشكلٍ كبير في منطقة الشرق الأوسط، مما يُهدد الأمن الغذائي للمنطقة ويُفاقم من معاناة السكان، هذا الارتفاع في أسعار الغذاء يُهدد بحرمان ملايين الأشخاص من احتياجاتهم الأساسية، ويُؤدي إلى تفاقم حالات الفقر والمجاعة، وقد يُؤدي ارتفاع الأسعار وانخفاض القوة الشرائية إلى تراجع الطلب على السلع والخدمات، مما قد يُلحق الضرر بالشركات المنتجة، وسينعكس إلى تسريح الموظفين. هذا التراجع في الطلب يُعيق النشاط الاقتصادي ويُؤدي إلى تفاقم معدلات البطالة، مما يُهدد بانهيار الاقتصادات المحلية، كما أن هناك انخفاض ملحوظ في حركة السياحة نتيجةً للمخاوف الأمنية وعدم الاستقرار في المنطقة، هذا التراجع في السياحة يُؤدي إلى تراجع في إيرادات الدول، مما يُؤثر سلبًا على اقتصاداتها المحلية ويُعيق تحقيق النمو.
ومن ثم، يتضح أن تأثير أحداث غزة على أمن الطاقة في الشرق الأوسط أسفر عن تحديات عديدة، وسيؤثر على إمدادات الطاقة واقتصاد الدول المجاورة، فضلًا عن زيادة التوترات الجيوسياسية في المنطقة مما يؤثر على الاستقرار الإقليمي وقدرة الدول على التعاون في مجال الطاقة وتبادل الموارد، وتدهور إمدادات الوقود، وهو عنصر أساسي في إنتاج الكهرباء وتشغيل المرافق الصناعية والتجارية، وهذا يعرض الدول المجاورة لخطر انقطاع الطاقة، وتعطيل البنية التحتية الطاقوية بما في ذلك: محطات توليد الكهرباء، وشبكات النقل والتوزيع، فضلًا عن الانعكاسات الاقتصادية؛ حيث يؤدي الصراع في غزة إلى زيادة التكاليف الاقتصادية لدول المنطقة، سواء من خلال دعم إمدادات الطاقة البديلة أو إجراءات الأمن والاستجابة للأزمات.
ومن المتوقع، إذا تفاقم عدم الاستقرار الإقليمي، لكن دون تأثير مباشر على مصادر أو طرق النفط الرئيسة، فربما تشهد سوق الطاقة العالمية في تلك الحالة تحولات مضاربة، ما يدفع أوبك إلى النظر في زيادة الإنتاج من أجل استقرار الأسعار، أما إذا تعرضت إمدادات النفط لمخاطر واسعة، وامتد الصراع إلى بلدان أخرى أو أثر بدوره على ممرات مهمة كمضيق هرمز، فإن ذلك قد يتطلب من منظمة الأوبك زيادة الإنتاج، أو العمل مع منتجي النفط من خارج أوبك للحفاظ على استقرار السوق. وكلما تفاقمت حدة الصراع ليشمل -على سبيل المثال- حزب الله أو إيران، فإن تدخلات أوبك ستكون أكثر أهمية وإلحاحًا؛ لأن ذلك قد يكون مصحوبًا أيضًا بعقوبات أمريكية أكثر صرامةً على صادرات النفط الإيرانية.