2024العدد 200دراسات

تداعيات الحرب على الداخل الإسرائيلي

مقدمة

حتى أعوام قليلة مضت، كان النقاش العام في إسرائيل مستمرًا حول التأثير المتواصل لحرب يونيو 1967 على السياسة والمجتمع بعد مرور أكثر من نصف قرن على هذه الحرب.([1])ربما قد يستغرق الأمر وقتًا مماثلًا قبل الوقوف بعمق على حجم ومدى التأثيرات، التي أحدثتها عملية “طوفان الأقصى” في أكتوبر 2023، وتُحدِثها الآن الحرب الإسرائيلية التي تلتها في المنطقة، على إسرائيل الدولة والمجتمع، وإن كان ذلك يستتبع أهمية متابعة هذه التأثيرات سعيًا لرصد تطورها وتمهيدًا لتوقع تداعياتها لاحقًا على القضية الفلسطينية والصراع في الشرق الأوسط.

لا يتسع المقال لتناول هذا الموضوع الواسع والمتشعب بشكل مفصَّل، وبالتالي تقتصر هذه السطور على ثلاثة بنود رئيسة هي: طبيعة استجابة المجتمع الإسرائيلي لواقع الحرب، وصعود شعبوية اليمين، والتغير في نظرية الأمن الإسرائيلية.  يتناول المقال كل بند من خلال استعراض عناصر أساسية للتغيرات التي طرأت عليه، يلي ذلك مناقشة للتأثيرات/التغيرات، التي عرضتها أطروحات المقاومة مسبقًا كنتائج لشن الحرب من جانب إسرائيل، يختتم المقال بخلاصة تشير إلى مغزى هذه التغيرات فيما يخص مراجعة التوقعات المفترضة من إسرائيل.

أولًا: طبيعة استجابة المجتمع الإسرائيلي لواقع الحرب.

يواجه المجتمع المنخرط في الحرب – سواءً كانت بلاده البادئة بالعدوان أو ضحيته–تحديات فيما يخص التكيف مع ضغوط مشاعر الخوف وعدم اليقين الناتجة عن تعرض أفراده وأراضيه لأخطار الهجمات والخسائر. مقاومة ذلك بالمرونة أو الصمود المجتمعي societal resilience يعني “قدرة النظام أو المجتمع المحلي أو المجتمع المعرض للأخطار على مقاومة آثار الأخطار واستيعابها والتكيف معها وتحويلها والتعافي منها في الوقت المناسب وبطريقة فعَّالة”. ([2])

أوضحت الدراسات السابقة لحالات أعمال التفجيرات عام 1994، والانتفاضة الفلسطينية الثانية (2000-2004) وحرب لبنان 2006، أن المجتمع الإسرائيلي يظهر قدرةً ملموسة على المرونة أو الصمود في مواجهة العمل المسلح.([3]) ووفقًا لدراسات الحرب الحالية، فقد أظهر المجتمع الإسرائيلي قدرةً مماثلة في مواجهة واقع الحرب الذي يشمل صدمة الفشل في 7 أكتوبر، ثم التعرض لهجمات الصواريخ والمسيرات على الأراضي الإسرائيلية، واستمرار الخسائر البشرية في القوات الإسرائيلية في قطاع غزة وجنوب لبنان.

يوضح الجدول التالي نتائج استطلاعات الرأي التي أجراها معهد دراسات الأمن القومي بجامعة تل أبيب، ومفادها أن المجتمع الإسرائيلي (بالنسبة للمواطنين اليهود فقط) أظهر خلال الفترة من مايو إلى نوفمبر 2024، مؤشرات إيجابية بغالبية المقاييس: الثقة في مؤسسة الجيش، قدرته على تحقيق النصر، الشعور بالأمن الشخصي، الشعور بتضامن المجتمع، والتفاؤل بقدرة المجتمع على تجاوز الأزمة. مع وجود مؤشرات سلبية فيما يخص مقاييس: الثقة في مؤسسات الدولة، أداء المسؤولين، والقلق بشأن المجتمع فيما بعد الحرب. ويلاحظ أن استطلاع شهر أكتوبر 2024، شهد تحسنًا في كافة المؤشرات، خاصةً عدم القلق على المجتمع، ربما تأثرًا بالنجاحات الميدانية لإسرائيل مؤخرًا.

 مايويونيويوليوأغسطسسبتمبرأكتوبرنوفمبر
الثقة في الحكومة22%25%18%20%22%25%25%
الثقة في رئيس الوزراء28%33%29%31%30%33%34%
الثقة في الجيش82%82%78%78%76%85%85%
الثقة في رئيس الأركان52%53%45%49%46%56%57%
الاعتقاد بأن الجيش سينتصر في غزة61%63%68%70%66%76%76%
الاعتقاد بأن الجيش سينتصر في لبنان83.5%
الشعور بأن تضامن المجتمع ثابت أو أقوى63%61%63%62%53%74%52.5%
الشعور بالأمن الشخصي72%75%71%74%72%76%74%
التفاؤل بقدرة المجتمع على تجاوز الأزمة64%64%61%65%63%69%67%
عدم القلق بشأن المجتمع بعد الحرب30%31%31%30%24%85%85%

Institute for National Security Studies, “Swords of Iron Survey Results” – May, June, August, October and November 2024.

أضف إلى ذلك مؤشرين هامين، أولهما: الوضع الاقتصادي؛ كبَّدت الحرب إسرائيل نفقات هائلة، ويقدر بنك إسرائيل مبدئيًّا أن تكاليف الحرب على الميزانية قد تصل إلى حوالي 60 مليار دولار خلال الأعوام (2023-2025).([4]) تشير تقارير دولية إلى أن معدل النمو الاقتصادي انخفض بشكل حاد من 2% عام 2023 إلى 0.3% عام 2024، كما يتوقع ارتفاع نسبة الدين العام إلى الناتج الإجمالي من 60.2% عام 2023 إلى 67.2% بنهاية عام 2024. في الوقت نفسه، يوضح الجدول التالي أن هذه المؤشرات نفسها، وغيرها من مؤشرات الاقتصاد الكلي، خلال عامي (2023-2024) والتوقعات بشأنها حتى عام 2027، تشير إلى أن الاقتصاد الإسرائيلي في طريقه للتعافي من الأزمة:

 20232024202520262027
معدل النمو2%0.3%2.9%4.1%3.9%
معدل التضخم4.2%3.2%3.2%2.3%1.9%
معدل البطالة3.4%3.1%3.5%3.4%3.4%
نسبة عجز الموازنة 4.1%7.3%3.5%3.9%3.3%
نسبة الدين العام للناتج الإجمالي60.2%67.2%67.1%65.9%64.3%
سعر صرف العملة (مقابل الدولار الأمريكي)3.693.713.673.583.53

Economist Intelligence Unit, “EIU Viewpoint, One-Click Report: Israel,” Nov. 6, 2024.

أما المؤشر الثاني: فيتمثل في مدى “الرغبة في العيش في إسرائيل”. صحيح أن معدلات الهجرة من إسرائيل قد زادت في الفترة التي أعقبت نشوب الحرب مباشرةً (أكتوبر/ نوفمبر 2023)، إلا أنها ما لبثت أن استقرت إلى أن عاودت الانخفاض؛ حيث غادر البلاد 30 ألف شخص خلال الفترة من نوفمبر 2023 إلى مارس 2024، بما يمثل 14% انخفاضًا في معدلات الهجرة من إسرائيل خلال الفترة المقابلة من العام الماضي.([5]) في الوقت نفسه، هناك زيادة في معدلات هجرة اليهود إلى إسرائيل، التي هي إحدى ركائز الصهيونية خلال عام الحرب، وبحسب البيانات حتى منتصف نوفمبر 2024، فإن حوالي 31 ألف شخص هاجروا إلى إسرائيل خلال العام المنصرم من عشرات الدول، بالإضافة إلى عدد 11700 طلب لليهود الأمريكيين للهجرة إلى إسرائيل منذ 7 أكتوبر 2023 (حوالي ضعف عدد الطلبات في العام السابق)، وكذلك عدد 6040 طلب مماثل لليهود الفرنسيين(أكثر من أربعة أضعاف الطلبات خلال الفترة المقابلة في العام السابق).([6])

ثانيًا: صعود شعبوية اليمين.  

أصبح صعود اليمين القومي وانزواء اليسار في إسرائيل خلال عام الحرب واقعًا، وأركز هنا على الشعبوية في تيار اليمين، باعتبار هذا الجانب نادرًا ما يُناقش، وكذلك بحكم التأثيرات الهيكلية التي يمكن لهذه الشعبوية إحداثها على الدولة وتوجهات المجتمع في إسرائيل. التعريف السائد للشعبوية – التي لا تقتصر على اليمين وقد تكون يسارية أيضًا– هي أنها “أيديولوجية تنظر للمجتمع على أنه ينقسم في نهاية المطاف إلى مجموعتين متجانستين ومتناحرتين، وهما: الشعب الخالص والنخبة الفاسدة”، وتفترض أن السياسة ينبغي أن تكون تعبيرًا عن الإرادة العامة للشعب.([7]) ارتبطت الشعبوية بفكرة الزعيم القوي والعداء للآخر، سواءً كانوا الأجانب أو المخالفين من المواطنين، ومناهضة النخبوية والليبرالية والمؤسسات والهوس بالأمن وخطاب يتبنى حلولًا بسيطة، إن لم تكن سطحية، للمشكلات المُركبة والمجاهرة بالآراء المستفزة إلى حد العنصرية.

ليست الشعبوية في تيار اليمين في إسرائيل بالجديد، التي تزخر من الأصل بالانقسامات، سواءً العرقية أو الدينية، بخلاف هويتها كـ “دولة يهودية ديمقراطية” التي تناقض نفسها، حتى قيل أنها “ديمقراطية لليهود”، و”يهودية للعرب”. يرجع البعض الشعبوية في إسرائيل إلى حزب الليكود بزعامة “مناحم بيجن”، والتي انتقلت بالتدريج إلى حزب “إسرائيل بيتنا” بزعامة “أفيجدور ليبرمان”، قبل أن تعود بقوة لليكود بزعامة “نتنياهو” وصحبه من أمثال: “ميري ريجيف” و”دانى دانون”. خلص مؤتمر لمعهد “شموئيل نئمان” حول الشعبوية والديمقراطية في إسرائيل إلى أن “طوفان الأقصى”، لما مثله من تهديد خارجي خطير، قد تسبب ليس فقط في “الاصطفاف تحت العلم”، وتفادي سيناريوات الانقسام الحاد في ضوء الاحتجاجات على خطط حكومة نتنياهو للإصلاح القضائي، وإنما أيضًا إلى دعم التضامن داخل المجتمع الإسرائيلي، وإن كان ذلك قد يكون مؤقتًا قبل أن يعود المجتمع لانقساماته السابقة.([8])

أتاح “طوفان الأقصى” لحجج الشعبوية – التي تستند إلى إثارة المشاعر– أن تتضخم، وانخرط بعض أنصار نتنياهو، ومنهم نجله “يائير” في نظريات للمؤامرة، بزعم أن عناصر داخل الدولة العميقة في إسرائيل والجيش “سمحت” بوقوع هجمات حماس لكي تطيح بحكومة نتنياهو.([9]) ونجح الأخير في ترميم شعبيته واستعادة التأييد له تدريجيًّا رغم كارثة التقصير الفادح في 7 أكتوبر.([10]) وعلى سبيل المثال: يظهر تحليل تغريدات نتنياهو عبر منصة “إكس” (تويتر سابقًا) خلال الفترة من مايو 2021 إلى أكتوبر 2024 تحول خطابه من قبل 7 أكتوبر لما بعده؛ حيث استغل الحدث باستخدام الخوف كأداة لتقديم نفسه بوصفه القائد الوحيد القادر على حماية إسرائيل مع التأكيد على أن مواجهة التهديدات تتطلب التضحية والالتفاف حول القيادة لتحقيق “النصر المطلق”، مع مراعاة إثارة مشاعر القلق لمخاطبة الحس الجمعي المتطرف.([11])

تفسِّر الشعبوية، جزئيًّا على الأقل ولاسيما فيما يخص نزع الإنسانية عن الفلسطينيين، لامبالاة الغالبية من الإسرائيليين تجاه مأساة قتل المدنيين ومعاناتهم في قطاع غزة، لاسيما الأطفال والنساء، على يد أفراد جيشهم، ما حدا بالمحكمة الجنائية الدولية لإصدار مذكرات اعتقال بحق كل من: نتنياهو، ووزير الدفاع السابق “جالانت” بتهم ارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب.

ثالثًا: التغير في نظرية الأمن الإسرائيلية.

قامت نظرية الأمن الإسرائيلية، التي وضعها رئيس الوزراء المؤسس “بن جوريون” على افتراض أن رفض المحيط العربي لإسرائيل سوف يظل قائمًا، وبالتالي فعليها أن تستعد دومًا لتجدد المواجهة العسكرية. ولما كانت إسرائيل لا يمكنها، بسبب ضآلة الموارد الاقتصادية والبشرية قياسًا بأعدائها، حشد جيش عامل ضخم لمواجهة خطر هجوم مفاجئ، فهي تحتفظ بجيش عامل محدود وتُبقي الجزء الأكبر في الاحتياط، على أن تعوض ذلك بتوفير إنذار مبكر عن تطور قدرات العدو (لبدء حرب وقائية) أو عن شن هجوم وشيك (لبدء حرب استباقية)، بحيث تنتهي كل حرب بالحسم في ميدان المعركة، ويقصد به “القدرة على إنهاء القتال في أراضي العدو، بعد تدمير حجم كبير من قواته”، من أجل استعادة الردع وإطالة فترات الهدوء بين الحروب.([12]) استتبع ذلك أن تُطبق العقيدة العسكرية الإسرائيلية الحرب الخاطفة لتحقيق الحسم في وقت قصير؛ لأن إطالة أمد الحرب من شأنها استمرار التعبئة لفترة طويلة بما يعيق النشاط الاقتصادي ويزيد نزيف الخسائر البشرية التي يخشاها المجتمع الإسرائيلي لدرجة وصفها البعض بـ “الخوف المرضي”.

غنيٌّ عن البيان، أن “طوفان الأقصى” قد زعزع ركيزتين من هذه الركائز التقليدية الثلاثة (الإنذار المبكر، الحسم، والردع) بمعنى فشل المخابرات الإسرائيلية في توفير إنذار مبكر عن الهجوم المُدبر لحركة حماس، التي حقَّقت مفاجأة كاملةً، وكذلك خطأ الاعتقاد بأن حركة حماس مرتدعة عن شن هجمات لمعرفتها المسبقة بالتفوق العسكري لإسرائيل. كما أن فرض المواجهة على إسرائيل في قطاع غزة قد وضع ركيزة “الحسم”– التي تستهدف القضاء على جلِّ القدرات العسكرية للعدو بشكل سريع– أمام تحدٍ مركب يتصل بمواجهة تنظيم عسكري كفء ومستعد، خاصةً منظومة الأنفاق، في مناطق حضرية مأهولة بالكثافة السكانية الأكبر في العالم.

بدأت إسرائيل الغزو البري لقطاع غزة بأحد أكبر الحشود العسكرية في تاريخها، أي حوالي 360 ألف جندي.([13]) كما صارت الحرب هي الأطول لإسرائيل منذ عام 1948، وإحدى أكثر الحروب التي كبَّدتها خسائر بشرية، فبخلاف مقتل 800 من المدنيين الإسرائيليين، قُتل 800 من العسكريين منذ 7/10/2023 (منهم 377 فرد منذ بداية العملية البرية في 27/10/2023)، وذلك وفقًا لتحديث الجيش الإسرائيلي بتاريخ 20/11/2024.([14]) وللمقارنة، فإن هذا العدد يماثل عدد قتلى إسرائيل في حرب يونيو 1967، من 750 إلى 800 جندي، وأكثر من عدد قتلاها في أثناء فترة احتلالها لجنوب لبنان لثمانية عشر عامًا (1982-2000) والذي بلغ 727 جنديًّا، ومن عدد قتلاها في حرب لبنان 1982، والذي بلغ 650 جنديًّا، علمًا بأن الخسائر البشرية الأكبر كانت في حرب فلسطين 1948 (6800 فرد) تليها حرب أكتوبر 1973 (2500-3000 جنديًّا).([15])

الحال أنه بعد مرور أكثر من عام على الحرب على قطاع غزة بل وامتدادها إلى لبنان بخلاف الضربات الإسرائيلية ضد إيران، فإن إسرائيل تخلت عن الحرب الخاطفة وانتقلت إلى مفهوم الحرب الطويلة وتقبل خسائر بشرية جسيمة لم تكن لتقبلها سابقًا. يرجع ذلك بالأساس إلى صدمة “طوفان الأقصى”، بالإضافة إلى منظور جديد يعتبر أن إسرائيل في مواجهة التنظيمات المسلحة – بعكس الجيوش التقليدية – هي “الجانب الثقيل” الذي لديه عُمق لوجيستي، وقدرة على الاستمرارية وتكثيف العمل العسكري لفترة زمنية طويلة كفيلة بالتدمير المنهجي لقدرات العدو. المغزى، أن التضحية بالخسائر البشرية والاقتصادية، واللامبالاة غير المسبوقة من جانب الحكومة والمجتمع لمصير الأسرى الإسرائيليين في قطاع غزة، هي أمور ليست فقط مُستحَقة وإنما أيضًا ذات جدوى للقضاء على ما تم تصويره على أنه “تهديد وجودي” لإسرائيل.([16])

رابعاً: نقاش حول الواقع والمتصور.

تدرك حركات المقاومة التفوق العسكري الإسرائيلي، وبالتالي أسست نهجها على الالتفاف حول هذا التفوق، استنادًا إلى ما افترضته نقاط ضعف لإسرائيل، سواءً البنيوية: الحساسية المفرطة للخسائر البشرية والقدرة المحدودة اقتصاديًّا على إطالة أمد الحرب والتعبئة، أو تلك المكتسبة: كون أن المجتمع الإسرائيلي صار “أوهن من بيت العنكبوت” وأن العمق الإسرائيلي مكشوف أمام الهجوم بالصواريخ. نتائج هذه الفرضيات أن إسرائيل، ردًّا على “طوفان الأقصى”، سوف ترتدع عن شن هجوم بري واسع على قطاع غزة، وتقدم التنازلات المناسبة لاستعادة أسراها، وأن مجتمعها لن يقوى على مواجهة تبعات الحرب.

يتضح من العرض السابق، لطبيعة استجابة المجتمع الإسرائيلي لواقع الحرب وصعود شعبوية اليمين والتغير في نظرية الأمن الإسرائيلية، أن ما جرى خلال العام المنصرم أثبت أن إسرائيل الدولة والمجتمع لم تعمل مثلما توقع منها منظرو فرضيات العمل المسلح ضدها. وقد يرى البعض أن ذلك كان نتيجة اختلاف طبيعة “طوفان الأقصى” عما سبقه من عمليات ضد إسرائيل، وهذا حقيقي جزئيًّا، وإن كان لا ينفي أن هذه الفرضيات لا تختلف عن تلك السائدة منذ نهاية الستينيات من القرن العشرين وحتى الأعوام التي سبقت “طوفان الأقصى”.

وفي هذا الصدد، يُشار إلى ما جاء في التعميم التاسع لحركة فتح في أواخر الستينيات: “نرى أن الحرب الاقتصادية لهذا النوع من الحروب (الحرب طويلة الأمد) تفرض عبئًا اقتصاديًّا ثقيلًا على كاهل الخزينة الإسرائيلية، أضف إلى ذلك أن اليهود الذين خُدعوا وهوجموا سوف تتحطم معنوياتهم ويلجؤون إلى الهجرة والاستسلام عندما يفرض عليهم خوض حرب طويلة الأمد تنطوي على آلام بشرية ودمار واسع، الأمر الذي سيقوي التيار المعادي للصهيونية داخل اليهود في الأرض المحتلة وسيبعث روح التمرد على الحكومة الصهيونية وأمر الحرب.”([17]) كما اعتبر أحد المحللين عام 2004 أن الضربات التي وجهتها الانتفاضة داخل المدن الإسرائيلية وخسائرها البشرية الجسيمة هي إحدى “صور مختلفة لحرب الاستنزاف التي لا تستطيع إسرائيل الصمود طويلًا فيها؛ بسبب العيوب الجيوبوليتيكية التي تعاني منها إسرائيل.”([18])

أما في الأعوام التي سبقت “طوفان الأقصى”، فقد اعتبرت المقاومة، بنهاية أحداث نوفمبر 2018، أن إسرائيل امتنعت عن التصعيد خشية تعريض الجبهة الداخلية، التي عانت من فجوات في الدفاع الجوي، لخطر صواريخ حماس.([19]) كما ظهرت إسرائيل، بنهاية أحداث مايو 2021 على أنها مرتدعة عن شن هجوم بري في قطاع غزة خشية تكبد خسائر بشرية كبيرة.([20]) كذلك، فسَّر الأمين العام الراحل لحزب الله الانقسامات الداخلية في إسرائيل عام 2023، على أنها مقدمة لحرب أهلية بعدما فقد الإسرائيليون الثقة في مؤسساتهم وبدؤوا في الهجرة من إسرائيل، مكررًا قوله الشهير لعام 2006، من أن إسرائيل “أوهن من بيت العنكبوت”، وهو ما أشار إليه أيضًا قائد حماس الراحل “يحيى السنوار” عام 2022، تعليقًا على محصلة معركة “سيف القدس” 2021.([21])

الخاتمة

أُورد هنا ما ذكره الباحث/ ماجد كيالي في كتابه “نقاش السلاح” لعام 2020 عن تأثيرات الانتفاضة الثانية، خاصةً العمليات داخل المدن، على الصعيد الإسرائيلي.

ساهمت تلك العمليات، بمعنى ما، بترويج رؤية شارون بشأن الطابع الوجودي للصراع مع الفلسطينيين، ما نمَّى نزعة التمحور على الذات والدفاع عن النفس في المجتمع الإسرائيلي، وقد أدى ذلك إلى التوحد خلف حكومة شارون المتطرفة، وتآكل معسكر “السلام”، وهي كلها تطورات لم تكن في صالح الفلسطينيين كما لم تخدم إستراتيجية تعميق التناقضات في جبهة العدو لإضعافه. ففي حين استطاعت عمليات المقاومة في الضفة والقطاع أن ترفع كلفة الاحتلال بالنسبة للمجتمع الإسرائيلي، وأن تزيد من نسبة المطالبين بتفكيك المستوطنات والخروج من الأراضي المحتلة للتخلص من الطابع الاستعماري لإسرائيل، أضعفت العمليات الاستشهادية هذا المسار ووحَّدت المجتمع الإسرائيلي.([22])

لا يصعب على القارئ تماثل هذا الوضع مع الوضع الحالي بعد “طوفان الأقصى”. استجابة المجتمع الإسرائيلي بمرونة لواقع الحرب، خاصةً التضامن المجتمعي، فضلًا عن الاستعداد للتضحية بالخسائر البشرية، وتعافي الاقتصاد، تعني أهمية مراجعة الفرضيات السابقة، بما في ذلك ما يجب النظر إليه في إسرائيل من حيث “طريقة إدارتها لأوضاعها، وتأهيلها لمجتمعها واستثمارها لمواردها البشرية.”([23]) يضاف ذلك ما ذكره المفكر “قسطنطين زريق” في كتاب “معنى النكبة” لعام 1948، أن “من العدل والإنصاف أن نسرع فنقول أن أسباب هذه الكارثة لا تعود كلها إلى العرب أنفسهم، فالعدو المتصدي لهم قوي الشكيمة، غزير الموارد، بعيد الأثر.”([24])

وإن كان ما تقدم يطرح تحديًا أمام نتائج “طوفان الأقصى” فإن نتيجةً أخرى، التي هي تصاعد الشعبوية، قد تكون لها آثار بالغة السلبية في المستقبل على إسرائيل بقدر ما كانت على فلسطين، كون نجاحها يعني ليس فقط زعزعة دولة المؤسسات، بما يؤدي للصدام داخل المجتمع، وإنما أيضًا تهديد الاقتصاد. وفي هذا الصدد، يُشار إلى دراسة حديثة أوضحت، بناءً على دراسة أوضاع دول بقيادة 51 زعيمًا شعبويًّا خلال الأعوام (1900- 2000) أن الحكم الشعبوي يسفر عن انخفاض قدره 10% في الناتج القومي الإجمالي على المدى المتوسط، كما يصاحبه التفكك الاقتصادي، وضعف استقرار الاقتصاد الكلي وتآكل المؤسسات.([25]) أما فيما يخص تأثير هذه التغيرات على القضية الفلسطينية بشكل عام، فذلك موضوع لأبحاث مستقبلية.


([1]) انظر، على سبيل المثال: ميخا جودمان، أَسْر 67: الأفكار الكامنة وراء الجدل الذي يمزق إسرائيل، بالعبرية (كنيرت زمورا دفير: حيفيل موديعين، 2017).

([2]) مكتب الأمم المتحدة للحد من الكوارث، “القدرة على الصمود”،

https://www.undrr.org/ar/terminology/alqdrt-ly-alsmwd

([3])Richard J. Chasdi, “A continuum of nation-state resiliency to watershed terrorist events,” Armed Forces & Society 40, no. 3 (2014): 476-503; Reuven Gal, “Social resilience in times of protracted crises: An Israeli case study,” Armed Forces & Society 40, no. 3 (2014): 452-475; MeirElran, “Societal resilience: from theory to policy and practice,” in Igor Linkov, José Manuel Palma-Oliveira, eds., Resilience and Risk: Methods and Application in Environment, Cyber and Social Domains (Springer Netherlands, 2017): 301-311.

تميز دراسة رؤوفين جال، المشار إليها أعلاه، بين نوعين من معايير قياس الصمود المجتمعي، أولهما: السلوك العام للأفراد (ممارسة الروتين اليومي والنشاط الاقتصادي ومعدلات الضائقة المجتمعية، بما في ذلك الجريمة، والترفيه)، والثاني: التوجهات العامة (مستوى الرفاه الشخصي والخوف من التعرض للهجمات والرغبة في العيش في الدولة والنظرة لمستقبل البلاد)، ولا تشمل الوضع الاقتصادي والاستقرار السياسي والقدرة العسكرية والعلاقات الدولية.

([4])Bank of Israel, “Remarks by the Governor of the Bank of Israel at the cabinet meeting to approve the state budget for 2024” (Jan. 15, 2024(

([5])Times of Israel, “Data shows post-Oct. 7 emigration surge from Israel, which has since stabilized” (19 July, 2024).

([6]) كفاح زبون، “الهجرة إلى إسرائيل ترتفع في عام الحرب”، الشرق الأوسط (9 نوفمبر 2024).

([7]) Cas Mudde and Rovira-Kaltwasser, Populism in Europe and the Americas: Threat or Corrective for Democracy? (Cambridge: Cambridge University Press, 2012), p. 8.

([8]) معهد شموئيل نئمان لأبحاث السياسة القومية “إسرائيل 2030: ديمقراطية ليبرالية أم ديمقراطية شعبوية أم أوتوقراطية”، بالعبرية (29 فبراير 2024) https://www.neaman.org.il/Israel-in-2030-Liberal-Democracy-Populistic-or-Autocracy/  

([9]) مايكل هوروفيتز، “اليمين الشعبوي في إسرائيل يتفق واتجاهات اليمين المتطرف العالمية”، المجلة (17 يونيو 2024).

([10]) أحمد فؤاد أنور، “مآلات عودة التأييد الداخلي الإسرائيلي لنتنياهو على غزة واستقرار المنطقة”، شؤون عربية، العدد 199 (خريف 2024).

([11]) عمرو العراقي، “المصري اليوم تنشر تحليلًا لخطاب نتنياهو الإعلامي عبر 3 سنوات”، المصري اليوم (19 نوفمبر 2024).

([12])Charles Freilich, “Why Can’t Israel Win Wars Any More,” Survival 57, no. 2 (2015): 80.

([13])Jennifer Hassan and Adam Taylor, “Israel’s massive mobilization of 360,000 reservists upends lives,” Washington Post Oct. 10, 2023.

([14]) جيش الدفاع الإسرائيلي “ضحايا ومصابي جيش الدفاع الإسرائيلي في الحرب”، بالعبرية (20 نوفمبر 2024).

https://www.idf.il/160590

([15]) ورد في ماجد كيالي، نقاش السلاح: قراءة في إشكاليات التجربة العسكرية الفلسطينية (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2020)، ص 150.

([16]) مركز الإمارات للسياسات، “عقيدة الحرب الطويلة: التحولات في إسرائيل بعد عام من عملية طوفان الأقصى” (17 أكتوبر 2024).

([17]) ورد في كيالي، نقاش السلاح، مرجع سابق، ص. 248-249.

([18]) حسام سويلم، “سبل مواجهة التصعيد العسكري الإسرائيلي”، الجزيرة (3 أكتوبر 2004).

([19]) رامي أبو زبيدة، “كيف استطاعت المقاومة صد العدوان الإسرائيلي على غزة؟” الجزيرة (14 نوفمبر 2018).

([20]) علي حيدر، “عقيدة كوخافي تتهاوى: جيش ذكي.. لا فتَّاك ولا ناجع”، الأخبار (27 مايو 2021).

([21]) يحيى السنوار: “على شعبنا أن يتجهز لمعركة كبيرة”، RT Arabic (30 أبريل 2022).

([22]) كيالي، نقاش السلاح، مرجع سابق، ص 72.

([23]) كيالي، نقاش السلاح، مرجع سابق، ص 173.

([24]) قسطنطين زريق،، معنى النكبة (بيروت: دار العلم للملايين، 1948)، ص 8.

([25]) Manuel Funke, Moritz Schularick and Christoph Trebesch, “Populist Leaders and the Economy,” American Economic Review 113, no. 12 (2023): 3249-3288.

اظهر المزيد

عمرو يوسف

وزير مفوض متخصص فى الشؤون الإسرائيلية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى