2024العدد 199ملف ثقافي

تراجع دور الإذاعة والتليفزيون العربي الرسمي لحساب المحطات والقنوات الخاصة: الأسباب والتداعيات

في ثلاثينيات القرن الفائت، عرف العالم العربي الإذاعة الرسمية، عندما انطلق أول بث إذاعي رسمي من أكثر من عاصمة، مُدشنًا عهدًا امتد لأكثر من تسعة عقود، كانت الإذاعة الرسمية خلاله آلية الاتصال الحكومي الرئيسة، وبوابة الفنون والآداب، ومنبرًا أساسيًّا لمناقشة القضايا الاجتماعية، وترتيب الأولويات العمومية.

احتاج الأمر إلى عقدين آخرين، لكي يشهد العالم العربي انبلاج عهد التليفزيون الرسمي؛ لتظهر الصور بمصاحبة الأصوات على أثير البث، ويتحول التليفزيون شريكًا أساسيًّا في قضايا (السياسة، والتنمية، والترفيه)، وقبل أن يصبح “والدًا ثالثًا” للنشء، ومعرضًا رئيسًا للتطورات المجتمعية في شتى المجالات.

وعلى مدى أكثر من أربعة عقود، كانت المجتمعات العربية توزع اهتماماتها الإعلامية بين الصحافة المقروءة، التي جسدتها مجموعة كبيرة من الصحف والمجلات، وبين أقنية البث المسموع والمرئي، الذي انحصر في الإذاعة والتليفزيون الرسميين، باستثناءات قليلة جدًا لم تكن قادرة على بناء نمط اعتماد مختلف.

لكن البيئة الاتصالية الدولية، التي استفادت من تجليات تكنولوجية متسارعة آنذاك، منحت الجسم الإعلامي العربي فرصة لإطلاق منصات إعلامية خاصة، ورغم أن معظم تلك المنصات كانت تحظى بمباركة أو دعم من جانب حكومة عربية أو أكثر، فإنها مع ذلك حافظت على درجة واضحة من الابتعاد عن الخط الرسمي، وهو الأمر الذي شمل أنماط الإدارة والسياسات التحريرية.

وعندما كان القرن الفائت يوشك على الانتهاء، كانت الخريطة الإعلامية العربية تمر بتغير فارق وكبير، وقد حدث هذا على صعد: الملكية، وطريقة البث، وطبيعة المحتوى، ومستويات التلقي.

وتمحور هذا التغير ببساطة شديدة في تراجع واضح لدور التليفزيون والإذاعة الرسميين في العالم العربي لمصلحة قنوات خاصة (محلية، وإقليمية)، وهو أمر أثبتته بحوث عديدة أجريت في مناطق وأوقات مختلفة على مجتمعات عربية عديدة.

وعندما شهدت البيئة الاتصالية الدولية الاختراق الأهم مع انتشار المنصات الإعلامية الإلكترونية، وازدهار وسائل “التواصل الاجتماعي”، تلقَّى التليفزيون والإذاعة الرسميان ضربة أخرى أكثر عمقًا؛ إذ خصمت هذه المنصات الجديدة من قدرتهما وانتشارهما وتأثيرهما بوضوح، كما قلصت وظيفتيهما الإخبارية، وخصوصًا بعدما باتت الأخبار السيادية، في معظم العواصم العربية، تُعلن على منصات “إكس” أو “فيس بوك”، وبيانات الحكومة تذهب إلى تلك المنصات، قبل أن تُذاع على التليفزيون أو الإذاعة أو حتى وكالة الأنباء الرسمية.

أسباب التراجع:

لقد نشأت وسائل الإعلام الجماهيرية الرسمية في المنطقة العربية في كنف الدولة؛ مُكرسة وظيفة دعائية لصالح الأنظمة الحاكمة، ومتحررة من قيود الجدوى الاستثمارية وحسابات العوائد المالية، ومعفاة من الخضوع للتقييم الفني، طالما أنها تنجح في أداء وظيفتها السياسية.

وبسبب أهمية الدور الدعائي لدى حكومات المنطقة، فقد استثمرت بوفرة في المنظومات الإعلامية الرسمية، وفي أحيانٍ كثيرة اتخذ هذا الاستثمار سمت التبذير والإسراف، حتى تضخمت تلك المنظومات، وترهلت، وهيمن الفساد على إدارة معظمها، وتفاقمت خسائرها وديونها في دول عديدة.

ومن بين ملامح هذا الدور الدعائي، ظهور الالتباس في تسمية وسائل الإعلام المملوكة للدولة، والتي عُرفت على نطاق واسع بأنها “وسائل الإعلام الرسمية” أو “وسائل الإعلام الحكومية”، في الوقت الذي كان يجب فيه أن تُعرف بأنها “وسائل الإعلام العمومية أو العامة”.

والشاهد أن دولًا ديمقراطية متقدمة عديدة تعرف نمط “الإعلام المملوك للدولة”، حيث يُنظر إلى الدولة في هذا الإطار باعتبارها “المجموع العام”، وليس الحكومة (السلطة التنفيذية) فقط، ولا النظام (مجموع الأجهزة والكيانات المتحكمة في الأداء العام) فقط، ولكن بوصفها كيانًا أوسع، يعمل في إطار تحقيق المصلحة العامة، كما يشخصها المواطنون والمؤسسات المُنتخبة عبر وسائل المشاركة الديمقراطية.

وقد نشأ مصطلح “إعلام الخدمة العامة” public Service Media في هذا الإطار؛ ليشير إلى منظومة من وسائل الإعلام التي تعمل على تحقيق أهداف وطنية، مثل: الحفاظ على الوحدة والاندماج الوطنيين، وتمثيل الفئات المختلفة في المجتمع تمثيلًا عادلًا وشاملًا ومتوازنًا، وتيسير المشاركة السياسية والمجتمعية، وتوفير المعلومات والمعارف وصيانة الحق في الاتصال، والدفاع عن المصالح الوطنية المتفق عليها، ونقل ما يجري في العالم إلى جمهور الدولة، ونقل صوت الدولة والمواطنين إلى العالم.

وللقيام بهذا الدور على النحو الأمثل، فقد برزت تجارب عدة، أهمها تجربة هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي”، وهيئة الإذاعة الأسترالية “إيه بي سي”، وتجارب أخرى في بلدان مثل: (كندا، وألمانيا، والدنمارك).

وانطلقت تلك التجارب في عملها من واقع سياسي يمكن وصفه بأنه “مستقر”، و”ديمقراطي”، يعتمد منهجًا ثابتًا في الفصل بين السلطات، والتوازن والتحقق Cheeks and Balances المتبادل بينها.

ولكي يقوم إعلام “الخدمة العامة” بدوره، فقد تم تطوير قواعد معينة لمساعدته على الوفاء بهذا الدور، ومنها أن يكون الإشراف عليه معقودًا لسلطات مستقلة، قابلة للمحاسبة وخاضعة للتقييم، وأن يتم تعيين القيادات ومحاسبتها بواسطة الهيئات المستقلة، وليس من خلال السلطة التنفيذية، وأن يكون التمويل من المال العام أو من أموال الإتاوات (مثل تجربة بي بي سي)، وألا يرتبط التمويل بأداء دور دعائي لمصلحة الحكومة.

لكن هذه الضمانات كلها أو معظمها، لم تكن حاضرة للأسف الشديد في التجربة العربية في مقاربة إعلام الخدمة العامة، الذي تحول كما سبقت الإشارة إلى “إعلام السلطة”، أو التعبير الإعلامي عن السلطة.

لقد نظرت السلطات الحكومية في أغلب الدول العربية إلى مرافق الإذاعة والتليفزيون الرسميين، ومعهما أيضًا الصحف المملوكة للدولة، ووكالة الأنباء الوطنية، باعتبارها جميعًا “أدوات حكومية”، ترتبط بتفعيل إرادة السلطة التنفيذية القائمة، وتحقيق أهدافها، وهو الأمر الذي صبغ هذه الوسائل جميعها بصبغة حكومية دعائية رسمية، خلقت حواجز مع بعض فئات المجتمع، وحرمتها من ممارسات إعلامية تحظى بدرجة أكبر من الموضوعية والمهنية وتلبية متطلبات الجمهور العام، الذي يتوزع على اهتمامات ومواقف وثقافات متباينة في معظم المجتمعات العربية.

وبموازاة ذلك، انفردت السلطة التنفيذية بتعيين قيادات وسائل الإعلام المملوكة للدولة، أي الإذاعة والتليفزيون الرسميين وغيرهما من الوسائط العمومية، كما عملت على توفير النفقات اللازمة لتشغيلها، وطلبت منها في المقابل أداءً دعائيًّا يخدم خطها السياسي وأجندتها الحزبية، وفي هذه الحال بدأت تلك الوسائل تفقد أحد أهم أسباب وجودها، أي الاستقلالية والقدرة على التعبير عن المصالح المختلفة والمتضاربة أحيانًا، على أسس مهنية تضمن التوازن والموضوعية لخدمة الدولة وجمهورها بشكلٍ عادل.

الإعلام العمومي: النسق والمهمة:

لقد بات من الواضح أن الالتباس الذي حدث بين فكرة “الإعلام الرسمي”، وفكرة “الإعلام العمومي”، كان سببًا مباشرًا في ضعف قدرات هذا الأخير، وفقدانه القدر الأكبر من التأثير والاهتمام في مواجهة منافسة غير عادلة مع الأقنية الخاصة، سواء تمثلت في قنوات تليفزيونية وإذاعية خاصة، أو منصات إلكترونية مجانية أو مدفوعة، أو وسائل “تواصل اجتماعي” بدأت في الافتئات على الأدوار الإخبارية، بعدما هيمنت على قطاع كبير من الأدوار الترفيهية.

والإعلام العمومي هو نسق اتصالي متكامل، له وظيفة واضحة ودور مطلوب؛ لصيانة مرتكزات المجتمعات والدول الراشدة، فيما يتعلق بتعزيز التكامل والاندماج الوطنيين، ومعالجة حاجات الجمهور المُلحة للمعلومات الدقيقة والتحليلات الموضوعية، وخدمة المصالح العامة، وتحقيق المشاركة الديمقراطية، وإتاحة الفرص المتكافئة للأطراف الوطنية للتعبير عن مصالحها ورؤاها وتلبية احتياجاتها (الترفيهية، والثقافية) بشكل متوازن.

ولا يمكن القول إن هذا الإعلام العمومي- الذي انبلج عهده بموازاة رسوخ مفهوم الدولة الوطنية في الغرب، وشهد أوج ازدهاره في الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية- كان خاليًا من كل عيب، أو قادرًا على تحقيق الفاعلية المرجوة في الحالات كلها، ومع ذلك فإن تجربته في القارة الأوروبية تحديدًا ظلت مصدر إلهام للمنظومات الإعلامية التي رامت الرشد في العديد من مناطق العالم الأخرى.

وبينما تظهر أنماط الإعلام العمومي المملوك للدولة والمُدار بواسطة هيئات مستقلة عن السلطة التنفيذية في معظم دول القارة الأوروبية، فقد ظلت 13 من دول الاتحاد الأوروبي توفر تمويلًا مستقلًا لهذا الإعلام، عن طريق إلزام المواطنين، أو حضهم، على دفع ضرائب سنوية تذهب مباشرة للأقنية الإعلامية العمومية من أجل تشغيلها وإدامتها وتطوير أعمالها.

ولذلك، فإن المواطن الفرنسي -على سبيل المثال- ظل يدفع 138 يورو سنويًّا طالما كان يمتلك جهاز تليفزيون؛ ليكون مجموع تلك الإتاوة 3.2 مليار يورو سنويًّا، تمثل الجزء الأكبر من نفقات تشغيل منظومة الإعلام العمومي في البلاد، وتُبقي تلك المنظومة بمنأى عن الخضوع لضغوط من الحكومة عبر غلِّ يدها عن التدخل في إقرار تلك المخصصات. وقد سعت الحكومة الفرنسية قبل عامين إلى إقرار قانون لإلغاء هذه الإتاوة، بداعي تحسين الحالة الاقتصادية للمواطنين، لكنْ أحزابٌ معارضة، انتقدت هذا السعي، وعدته محاولة لتفريغ الإعلام العمومي من دوره؛ لتحقيق أهداف السلطة التنفيذية.

ولطالما كان الإعلام العمومي قضية جدلية في الانتخابات السياسية الفرنسية، حيث يذهب مرشحو اليمين عادة إلى ضرورة خصخصة تلك المنظومة الإعلامية، بعد التشكيك في جدواها، في الوقت الذي تؤدي فيه وسائط “التواصل الاجتماعي” دور الأداة الرئيسة للاتصال لدى مرشحي هذا التيار.

وبينما يعرب مرشحو اليسار عمومًا عن تقديرهم لمنظومة الإعلام العمومي، وضرورة إدامة نمط تمويلها المستقل بعيدًا عن تدخلات الحكومة، لا تتوقف الحكومات المتعاقبة عن محاولة الحد من هذا التمويل بطرق شتى.

وفي ألمانيا، التي نقلت تجربة الإعلام العمومي البريطانية في أعقاب الحرب العالمية الثانية وأدخلت عليها بعض التطوير والتحسين، يدفع المواطن 210 يوروات سنويًّا، لتتجمع حصيلة تبلغ أكثر من ثمانية مليارات يورو تمول عمل هذه المنظومة.

وكانت المملكة المتحدة سباقة في هذا المضمار، وخصوصًا عبر تطوير هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي”، التي ظلت لعقود نموذجًا يُحتذى في هذا الصدد، بحيث يدفع المواطن الذي يمتلك راديو أو تليفزيون مبلغ 190 جنيهًا إسترلينيًّا سنويًّا لضمان تشغيل الهيئة، وهو المبلغ الذي ظل عرضة للمراجعة على خلفية اتهامات وانتقادات لأداء الهيئة ومدى التزامها بعناصر: الموضوعية، والحياد، والتمثيل العادل لمصالح الأطراف الوطنية المختلفة.

ولا يكاد يمر عام واحد على “بي بي سي” من دون تعرضها لمساءلات أو انتقادات أو محاولات حثيثة لتجريدها من التمويل العمومي، أو الحد منه، أو مطالبتها بشرح أوجه الإنفاق وتسويغها، عبر تقديم أدلة على تحقيق الأهداف القومية. ورغم تلك الحملات، التي تتداخل فيها الاعتبارات السياسية مع قضايا الجودة والجدوى في العمل الإعلامي، لا تزال الهيئة قادرة على التمتع بالتمويل العمومي، ولا تزال أيضًا تحافظ على موقعها ضمن الوسائل الإعلامية الأكثر تأثيرًا (محليًّا، وعالميًّا).

لا نشهد هذا السجال إزاء دور الإعلام العمومي واستمراريته وطريقة تمويله في (بريطانيا، وفرنسا) وحدهما، لكنه يمتد إلى دول أوروبية أخرى، ومع الإقرار بأن هذا الإعلام ينطوي على مثالب وجوانب قصور، وأن بإمكانه تحقيق تطور وجاذبية وفاعلية أكبر، فإن التذرع بالضائقة الاقتصادية العالمية والمحلية لحرمانه من مورد تمويله المستقل ليس أفضل سياسة ممكنة.

فبعض القيادات والحكومات والتيارات السياسية الأوروبية ترى في الإعلام العمومي عبئًا عليها، كما تجد في “السوشيال ميديا” وسيلة أكثر فاعلية لإيصال رسائلها وتعزيز مكانتها، ولذلك فإن جهودًا تُبذَل لإضعافه وتهميشه، وهو أمر سيُفقد المجتمعات والدول ضمانة مهمة لتحقيق أهداف وطنية تتجاوز الحزبية والنزعات البراجماتية للساسة.

فوائد مؤكدة:

لوسائل إعلام الخدمة العامة، التي تمثلها التليفزيونات والإذاعات الرسمية وغيرها من الوسائط المملوكة للدولة، فوائد كبيرة وأهمية بالغة؛ فالدراسات العلمية تفيد أن “البلدان التي لديها إعلام عمومي جيد أقل ميلًا للتطرف والفساد، وأكثر إقبالًا على المشاركة في الانتخابات”.

ويرى باحثون متخصصون أن “المواطنين في أي دولة يكونون أكثر معرفة بالأحداث الجارية إذا شاهدوا الخدمة العامة الإخبارية”، كما أثبتت عدد من الدراسات أن “وسائل الإعلام العامة أكثر فاعلية في توطيد المواطنة مقارنة بالإعلام الخاص”.

ويوجد توافق كبير بين الخبراء والباحثين من شتى أنحاء العالم على أن التليفزيون والإذاعة العموميين ضروريان لبناء الديمقراطية وتعزيز المشاركة وتوطيد الانتماء وموازنة أنماط الأداء الإعلامي التي ترد عبر الإعلام الخاص، والتي تقع غالبًا تحت ضغوط الاعتبارات التجارية أو توجهات أصحابها ومصالحهم.

وفي هذا الصدد، وجدت منظمات الأمم المتحدة المعنية، ووكالاتها المتخصصة، أن التعويل على الإذاعة العامة في قضايا التنمية، ومواجهة الجوع، والكوارث الطبيعية، يتسم بفاعلية أكبر مقارنة بالوسائل الخاصة.

وفي بعض البرامج التي تتصل بالتمثيل الواسع لأصحاب الهويات المتباينة، سواء كانت هويات عرقية أو دينية، وجد أن الإعلام العمومي، المتجسد في الإذاعة والتليفزيون الرسميين، يمكن أن يكون قادرًا على أن يعكس التنوع الثقافي والاجتماعي بدرجة أكبر من الالتزام، مقارنة ببعض الأقنية الخاصة، التي تحركها مصالح سياسية أو أيديولوجية أو تجارية.

وفي المحافل الوطنية الكبرى، وخصوصًا الانتخابات العامة، تجتهد إدارات الإعلام العمومي في البلدان المتقدمة في وضع أكواد ومعايير لتنظيم المواكبة الإعلامية والدعائية لهذه الاستحقاقات.

ويتم مراجعة تلك الأكواد، والمعايير، ومتابعة تنفيذها الفعلي من قبل جهات مسؤولة، عادة ما تخضع لمساءلة برلمانية.

يتأسس هذا الالتزام على الفهم الأوسع لدور الإعلام العمومي في تعزيز الممارسة الانتخابية، وتوفير أسس المنافسة العادلة خلالها، وليس على قاعدة مناصرة فصيل أو تيار معين، حتى لو كان يمثل الحكومة، أو يحظى بدعمها.

تداعيات مقلقة:

إن ترك الساحة خالية لوسائط “التواصل الاجتماعي” لكي تصبح آلية اتصال سياسية رئيسة أمر يتسم بمميزات كثيرة، لكنه ينطوي على مخاطر أيضًا: أولها، أن تلك الوسائط لا تخضع لاعتبارات السيادة الوطنية في العالم العربي، وثانيها: أنها ترسي معايير للأداء ثبت أنها تعاني الازدواجية، خصوصًا فيما يتعلق بقضايا مثل: الحرب الروسية- الأوكرانية، أو حرب غزة، أو حتى الانتخابات الرئاسية الأمريكية 2020، التي شهدت حظر الرئيس الأمريكي السابق “دونالد ترامب” على إحدى المنصات (إكس، أو تويتر سابقًا)، وثالثها: أنها تتسم بقابلية كبيرة للاختراق والتلاعب.

كما أن القنوات التليفزيونية والإذاعية الخاصة تقوم بدور كبير في رفد المجال الإعلامي العربي بقيمة مميزة، لكن مع ذلك، فإن توجهات تلك القنوات الربحية تقودها إلى اتخاذ قرارات تحريرية لا تخدم بالضرورة الأهداف القومية، خصوصًا فيما يتصل بالتنمية السياسية وقواعد التنشئة ومقتضيات التواصل الحكومي ومراعاة اعتبارات التنوع والاندماج الوطنيين.

صحيح إن إصلاح المنظومات الإعلامية الرسمية العربية أمر صعب ومُكلف؛ بسبب ترهلها الإداري، وزيادة أعداد الموظفين بها، وتراجع مواكبتها للمستجدات التكنولوجية في القطاع الإعلامي مقارنة بالمنافسين من القطاع الخاص، لكن هذا الأمر يظل مطلبًا ضروريًّا بالنظر إلى الأدوار المهمة المنوطة بتلك المنظومات، وهي أدوار تعزز استقرار الدولة الوطنية العربية، وتُعمِّق المواطنة.

إن امتلاك خطط فعالة لتطوير أداء الإذاعة والتليفزيون المملوكين للدولة أمر بالغ الأهمية على صعيد تعزيز القدرة الاتصالية للدولة والمواطن في العالم العربي، لكن هذا الأمر يظل مرهونًا بالقدرة على تحويل تلك الوسائل إلى نمط الخدمة العامة بكل ما يعنيه من التزامات وينطوي عليه من استحقاقات.

اظهر المزيد

ياسر عبدالعزيز

باحث في الشأن الإعلامي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى