مع مطلع القرن الحادى والعشرين ومجيء حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم في تركيا عاد الأتراك بقوة، كى يطرقوا أبواب السياسة فى الشرق الأوسط وجواره الجغرافى، فعملوا بكل قواهم للخروج من الوضع المهمش الذى فرضته عليهم التبعية لحلف شمال الأطلسى، وخصوصا بعد أن اكتشفوا أنهم تحملوا أعباء كثيرة فى سبيل حفظ الأمن الأطلسى وتغرموا بعدم التقدم الاقتصادى والاستقرار السياسى، فما كان عليهم سوى تلمس طرق جديدة، تبلور فى قيادة التيارات الإسلامية ” الإخوانية ” والتى تعتبر نفسها امتداد للتيار الإسلامى السياسى ” المعتدل حسب وصفها ” لذا اندلعت تركيا بكل ثقلها خصوصا بعد أحداث حركات التغيير العربية نحو دعم الأنظمة ذات الطابع الإسلامى القريب من توجهاتها العقائدية، وبالتالى ارتكزت المنطلقات التركية فى المنطقة من منظار قيادة التغيير وبالمكانة الريادية والتى تجريها هى لأسباب تاريخية وعقائدية فضلا عن أسباب جيوبوليتيكية مكنتها من ممارسة هذا الأداء الاستثنائى فى الشرق الأوسط ثم البواعث الإقليمية لتركيا نحو قيادة التغيير فى منطقة الشرق الأوسط.
أما عن الكتاب فهو مقسم إلى سبعة فصول، الثلاثة الأولى منه يتناول الكاتب فيهم الدلالات المفاهيمية للتغيير والقيادة فى الشرق الاوسط، ثم البواعث الإقليمية نحو قيادة التغيير فى المنطقة ذاتها .
حيث تمثل المحفزات الداخلية بمثابة المحرك الاستراتيجى لتركيا نحو قيادة التغيير فى المنطقة، إذ مثلت حالة الفراغ التى تسود المنطقة من انهيار النظام الإقليمى العربى، وحالة التفكك والتردى اللذان اعتريا الوضع العربى بشكل عام، وخصوصا بعد الاحتلال الأمريكى للعراق فى عام 2003، دفع تركيا نحو سلوك اندفاعى لقيادة التغيير فى المنطقة والتى تمثل أهمية جيوسياسية كونها، تمتلك مفاتيح أساسية فى الصراع الجيوبوليتيكى العالمى، ولايمكن أن تضيف إمكاناتها فقط فى خانة مورد الطاقة من نفط وغاز، فالدول العربية تطل على المضايق المتحكمة فى السلسلة البحرية الأهم فى العالم المتجهة من الشرق الأوسط شرقا وحتى أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية غربا، أى فى مضايق هرمز وباب المندب وقناة السويس وجبل طارق، وتشكل هذه المضايق عنق الزجاجة للسلسلة البحرية الأهم فى نصف الكرة الغربى تأسيسا على ذلك لا يمكن حصر أهمية الدول العربية فى النفط والغاز فقط، بل أن جغر افيتها السياسية لا تقل عن أن لم تكن تتفوق على الأهمية الجيوبوليتيكية للمنطقة العربية وتقديم نموذج لمشروع دولة إسلامية مدنية حديثة يمكن كل من إيران وتركيا فى حسم الصراعات الكونية، حيث أظهرت أحداث الحادى عشر من سبتمبر والهواجس الأمنية المستجدة وتداعيات احتلال العراق وبروز ظاهرة الإرهاب الدولى والثورات العربية تأثيرات واضحة على الأوضاع الجيوسياسية والاستراتيجية لمنطقة الشرق الأوسط التى يشكل الوطن العربى جزءها الأكبر وتشكل تركيب جزءا مهما فيها بحسب الأطروحات الجديدة للشرق الأوسط ” الجديد أو الكبير ” .
عموما فتركيا فى المرحلة الراهنة تصوغ سياسة تختلف كليا عن السياسة التقليدية التى مارستها سابقا، فمن الواضح ان تركيا اليوم ترمى ثقلها الاقتصادى والسياسى لممارسة دور قوى فى أزمات المنطقة وقضاياه، وتقديم نموذج لمشروع دولة اسلامية مدنية حديثة يُمكن الاقتداء بها فى المنطقة، فضلا عن ذلك تحاول تركيا عبر تزايد انغماسها فى أزمات المنطقة وقضاياها أن توصل رسالة إلى الأوروبيين والأمريكيين على حد سواء، بأنها قادرة على ممارسة دور سياسى واقتصادى قوى ومستقل فى المنطقة، ومن ثم الشرق الأوسط أو المنطقة العربية، فتركيا وإن لم تكن قادرة وحدها على تكريس ورسم تفاعلات سياسية من نوع جديد فى المنطقة، ولكنها فى الأقل قادرة على عرقلة أى ترتيبات أو مشاريع غربية خاصة فى الشرق الأوسط تتم بمعزل عنها، فتركيا بدأت ترسم استراتيجيات مختلفة تجاه العالم العربى، على خلاف سياساتها القديمة أثناء الحرب الباردة .
أما عن البواعث الدولية لقيادة التغيير فى الشرق الأوسط فيمكن القول أن علاقات تركيا بالولايات المتحدة الأمريكية تمثل حافز استراتيجى لتركيا نحو قيادة التغيير، فبعد انهيار الاتحاد السوفيتى واختفاء الخطر المهدد لها فقدت تركيا إحدى وظائفها الأساسية باعتبارها خط الدفاع المتقدم لحلف شمال الأطلسى فى أثناء الحرب الباردة، إلا أنها بقيت محتفظه باهميتها الاستراتيجية نظرا لموقعها الجغرافى المتميز.
وقد أثبتت قدرتها الاستراتيجية بعد احتلال العراق وتأزمه بخلق توازن استراتيجى بين الطموح الإيرانى الإقليمى لاختطاف دورها أولا وعزلها عن روسيا ثانيا، وخلق قلقلة من الأكراد على حدودها، ومواجهته كقوة متوازنة بين روسيا وأمريكا والدول الأوروبية وفتح خط حيوي مع دول الخليج، ولعب دور الوسيط بينهما ذلك بعد تهديد إيران بإقفال مضيق هرمز فى وجه حاملات النفط، كذلك لعب دور دبلوماسى مباشر مع أمريكا فى ملف المفاعل النووى الإيرانى .
هذا وقد استطاعت تركيا اتباع سياسة الجذب للدول الكبرى لتحويل تركيا كمركز محورى لاستراتيجيتهم بالتموضع العسكرى فى منطقة الشرق الأوسط، منطقة تجاذب إقليمية لاضطرار الدول المتشاركة بحدودها معها إلى إقامة معاهدات واتفاقيات أمنية واقتصادية وعسكرية ونفطية لتمرير منتجاتها الصناعية والنفطية وغيرها .
وبالنسبة لروسيا فتعتبر تركيا جزءا من الحزام الاستراتيجى الإقليمى الذى يشكل مطمعا أمريكيا لحصارها عبر مضيق الدردنيل والبوسفور اللذان يشكلان المنفذ الوحيد للأسطول الروسى عبر البحر الأسود إلى ساحل البحر المتوسط .
وتعتبر إيران تركيا المنفذ البرى لتسويق منتجات إيران الصناعية وتوريد منتجاتها النفطية إلى أوروبا .
وبالنسبة للصين فتعتبر تركيا بوابتها الاقتصادية نحو أوروبا لتمتعها بموقع جيوستراتيجى فى منطقة الشرق الأوسط.
أما الولايات المتحدة فتعتبر تركيا بالنسبة لأمريكا قلب الشرق الأوسط ومحوره الاستراتيجى بالسيطرة على كل دول المنطقة، وصولا لكل من أسيا وأوروبا وبهذا تحكم قبضتها على كل دول المنطقة بنا فيها سيا وأوروبا وبذلك تحكم قبضتها على كل قارات العالم، فتركيا قريبة جدا من منطقتى الشرق الأوسط والخليج العربى، مما يمكنها من السيطرة على معظم الطرق البرية المباشرة والاتجاهات الجوية إلى دول الخليج العربى .
كما منحتها تركيا كعضو فى حلف شمال الأطلسى مراكز وقواعد عسكرية بحرية وجوية وبرية، فى استعادة تمحورها فى المنطقة ومحاولتها السيطرة على أى تحرك إقليمى معاد لاسرائيل أو أى تدخل روسى يهدد القواعد العسكرية فى المنطقة .
أما عن الفصول من الرابع إلى السادس فيتحدث الكاتب فيهم عن آليات القيادة والتغييرات الناعمة فى الاستراتيجية التركية من منطلق القوة الناعمة المؤثرة والجذابة كبديل للقوة الأمنية التى لا تثمن ولا تغنى من جوع، فالسياسة التركية الأمنية السابقة كانت تعتمد على مفهوم أن ليس هناك أى صديق للتركى غير التركى، بحيث لا يمكن للتركى الوثوق بأى شخص غير قوميته، لذا يجب على تركيا أن توفر الاكتفاء الذاتى الاقتصادى لنفسها وتبتعد عن التجارة الخارجية مع الآخرين، وأن تهتم بتحصين نفسها عسكريا، وكان جل الميزانية التركية مخصصة للجيش لحماية تركيا من العالم الخارجى الذى يخطط ” حسب تصورهم ” ليل نهار للقضاء على تركيا، وعن طريق هذه النظرية كان السياسيون الأتراك يخططون لصنع تركيا قوية، فكيف يمكن لتركيا أن تغدو قوية سياسيا واقتصاديا وهى منغلقة ومتخذة جميع العالم عدو لها ؟ وبعد ذلك أدرك السياسيون الأتراك أن هذا الأسلوب أصبح تقليدى وما أخذت تركيا منه إلا التراجع فكيف بسبب عدم احتوائها على جميع المصادر الاقتصادية لم تستطع تحقيق الاكتفاء الذاتى اطلاقا وكانت دائما تحاول اكمال ميزانيتها من خلال الدين من صندوق النقد الدولى والبنك الدولى، مما جعلها خاضعة لسياستهم وظهرت تركيا بعد ذلك بسياستها الجديدة والأساليب الناعمة التى استخدمتها لاسترداد عافيتها وقوتها السياسية والاقتصادية هى الآليات السياسية والآليات الثقافية والآليات الدبلوماسية والآليات الإعلامية وفى الجزئية الأخيرة فقد أثار اهتمام تركيا تدشين وسائل إعلام باللغة العربية العديد من التساؤلات حول الهدف من وراء التوجه إلى شعوب المنطقة بلغتهم والتوسع فى ذلك بشكل كبير تزامنا مع ثورات الربيع العربى وتبنى الإعلام التركى لهذه الثورات ودعمها بشكل كبير، وتعددت التساؤلات حول السبب، فهل كل ذلك يشكل اختراق للمنطقة العربية أم أنه مد لجسور قديمة انقطعت لفترة طويلة وعادت حكومة العدالة والتنمية فى تركيا لمحاولة احيائها .
أما عن آليات القيادة والتغييرات الذكية فى الاستراتيجية التركية حيال منطقة الشرق الأوسط فتعتمد السياسة الخارجية التركية على أدوات نشطة فى علاقاتها الخارجية تجمع بين القوة الناعمة والقوة الصلبة، وهو ما يطلق عليها بعلم الاستراتيجية بالقوة الذكية حيث بدأت باستخدامها أدواتها الناعمة المتجسدة فى الأدوات الإعلامية والسينما بالإضافة إلى تقديم المساعدات المالية الإنسانية كبداية لشرعية الأداة الصلبة المتمثلة فى النفوذ العسكرى التى اتخذت عدة مسارات مختلفة لتكون بدورها آليّة من آليات قيادة التغيير لتركيا فى منطقة الشرق الأوسط حيث تمحورت الأدوات فى الآتي:
الانتشار العسكرى، حيث أنه من مظاهر التغيير التركية هو مواءمة القوة الصلبة مع التسويق الناعم لهذا الانتشار عن طريق التواجد المباشر من خلال إيجاد قواعد عسكرية فعلى سبيل المثال تجسد ذلك فى الحالة القطرية، فقد أسست أنقرة قاعدة عسكرية فى الدوحة بموجب إبرام اتفاقية عسكرية بين البلدين فى ديسمبر 2014، التى بدأ العمل بها فى نوفمبر 2015 تقع هذه القاعدة فى الخليج العربى بالغرب من مضيق هرمز، تهدف إلى تعزيز التعاون بين البلدين فى مجالات التدريب العسكرى والمناورات المشتركة وتمركز القوات المتبادلة بين الجانبين بالاضافة إلى التعاون فى مجالات التدريب العسكرى .
وأيضا هناك الانغماس العسكرى المباشر، وتركز قيادة التغيير التركية فى منطقة الشرق الأوسط من خلال التدخل العسكرى، ما تجلى فى الحالة العراقية والسورية .
وهناك أيضا الدعم العسكرى الغير مباشر من خلال دعم الفصائل المسلحة والميليشيات العسكرية لوجيستيا وعسكريا، وقد تشكل الحراك الذى أنتجته هذه الفصائل مدخلا لأنقره عادة رسم تحالفاتها وتوازنتها فى المنطقة، تمثل فى الحالة السورية فى مواجهة الجيش السورى وفى مقدمتها ” الجيش السورى الحر”، وكما يحدث الان ايضا فى ليبيا حيث تدخلت تركيا فى الأزمة الليبية من خلال تأييد حكومة طرابلس بقيادة ” عمر الحاس “، بالإضافة إلى الدعم المتواصل لذراع الإخوان المسلمين ” حزب العدالة والبناء ” والميلشيات المسلحة التابعة لهم .
أما بالنسبة للفصل السابع والأخير فى هذا الكتاب فيتحدث مؤلفه عن مقاصد قيادة التغيير التركية حيال منطقة الشرق الأوسط، فهناك عامل مهم يدفع تركيا إلى التحرك صوب المنطقة تحديدا أو هو محاولة ملء الفراغ الاستراتيجى فى المنطقة فالمتغيرات الإقليمية الراهنة يعيشها النظام الإقليمى من انقسام حاد فى الموقف والرؤى، وهشاشة التحالفات العربية، وانكشاف فى النظام الإقليمى أمام التدخلات الخارجية وعجزه عن التعامل بحيادية مع الأزمات الداخلية خصوصا مع الأزمة الفلسطينية .
كل ذلك أعطى تركيا، التى تتمتع بعلاقات جيدة مع جميع الأطراف العربية، وأيضا مع إسرائيل وأمريكا، أعطاها قوة التغلغل فى المنطقة والانغماس فى قضاياه المصيرية، ورسم استراتيجية مختلفة تجاه منطقة الشرق الأوسط على خلاف سياساتها القديمة أثناء الحرب الباردة وذلك من خلال مد الجسور مع العالم العربى ومحاولة تقريب وجهات النظر بين الأطراف الإقليمية المتنازعة، إذ من الواضح أن تركيا تمارس دورها كقوة إقليمية كبرى فى المنطقة، ولديها مصالح سياسية واقتصادية واسعة تريد تحقيقها.
هذا ويوجد عدد كبير من اللاعبين الإقليميين فى منطقة الشرق الأوسط من ضمنهم مصر والمملكة العربية السعودية وإيران وتركيا، إن عملية التغيير في المنطقة ليست منفصلة عن البيئة المحيطة، وما من شك بأن دول الجوار تتأثر بصورة مباشرة، وفى وسط هذا الزحف وجدت تركيا نفسها متورطة، ليس لأنها ترغب فى الانخراط بل لأنه فرض عليها بسبب موقعها الجغرافى، والمتطلبات الدولية .
وترى تركيا أن التحرك الأخير تجاه الداخل السورى لم يكن خيارا بل إجبارا للانخراط فى هذه الصيغة الجيوستراتيجية الإقليمية وإلا فإنها ستدفع ثمنا أغلى داخليا وخارجيا وستظهر نتائجه وستظهر نتائجه سلبيا على المكونات السياسية والاجتماعية الداخلية التركية، ليس هذا فحسب بل ستجد نفسها محاطة بمصالح استراتيجية لدول أخرى ويظهر فى السياق المنافس الآخر وهو إيران التى اندفعت بقوة فى المنطقة للحفاظ على مصالحها الاستراتيجية إلى الحد الذى أصبح فيه من الصعب تطوير تفاهم مع إيران لتهدئة المنطقة، ولم يكن لدى تركيا القوة لتكون لاعبا مهما فى الصيغة الجيوستراتيجية وسيكون من الصعب وضع حد لتأثير توسع المصالح الإيرانية عليها داخليا وخارجيا، لقد أصبح واضحا على وجه التحديد أن المصالح الإيرانية تعارض المصالح التركية فى المنطقة.
وبالتالى فإنه من المنظور التركى، فقد تجمعت مجموعة من المخاوف الاستراتيجية الحقيقية لذلك فإن الانخراط التركى فى تعقيد البيئة الخارجية قد يكون أصبح حتمية استراتيجية لحمايتها من ارتدادات التدخلات الخارجية، ولإعاقة الخطر الخارجى نحو الداخل التركى، وللمحافظة على المصالح التركية فى المنطقة .
ونضيف أخيرا أن منطقة الشرق الأوسط أصبحت منطقة محورية فى إعادة تعريف اندفاعات تركيا حيال الشرق، حيث أصبحت تركيا قادرة على وضع نفسها على المسار الصائب فى التاريخ عندما بزغت حركة التغيير العربية، إذ يعتبر سجل الآداء الاستراتيجي التركى تجاه المنطقة ذات اندفاعات محسوبة فى بعض الأحيان ومنفلته أحيانا أخرى، ومن هنا أدركت تركيا مكانتها الجيوبوليتيكية وأخذت تبنى على هذه المكانة دورا يتبلور بفكرة القيادة الاستراتيجية لإدارة شؤون قضايا الشرق الأوسط المعقدة.