في الرابع والعشرين من إبريل الماضي اكتملت قرون ثلاثة على ميلاد فيلسوف ألمانيا الأكبر “إيمانويل كانط” (1724 – 1804)، وهي مناسبة جد خطيرة في تاريخ الفكر، يجب الوقوف عندها بأناة وتأملها بعمق. سيظل كانط حيًّا يتدفق في عروق الفكر الإنساني، ما دام للعقل حياة وللفلسفة تاريخ، فالرجل هو قديس العقل الإنساني إن لم يكن نبيه، ونزعته النقدية لم تعد مجرد اسم لمذهب فلسفي بل علامة جودة تصف كل فكر أصيل أو مبدع، بل إن العقل نفسه (مُنتج الفكر) بات يُوصف بالنقدي، حينما يعمل باتزان دون تطرف، ويغوص في عمق المشكلات دون تسطيح، يضع الأفكار في سياق زمانها دونما اختزال، والمفاهيم في إطار بيئتها بلا اجتزاء، وقد زاد من ذيوع نزعته النقدية تلك أمران أساسيان:
الأمر الأول: يتعلق بشخصيته نفسها، الجديرة بالثقة والاحترام؛ حيث كان له من الاتزان والهدوء النفسي وسعة الأفق ما جعله نموذجًا للحكمة والعفة، ولد في مدينة صغيرة تكاد تكون قرية كبيرة تُدعى كوينسبرج، قريبة من بروسيا شرق نهر الراين، في بيت مسيحي يكاد يكون مستورًا، تربى على الأخلاق التقوية، والتقوية هي أحد المذاهب المنبثقة عن الحركة البروتستانتية، وبالذات من الكنيسة اللوثرية، يشدد على الاستقامة الذاتية والالتزام الأخلاقي، وهو ما بلغ به كانط حد التنسك. ماتت أمه ولا يزال في الثانية عشرة من عمره، ومات أبوه وهو في الحادية والعشرين، أسهم أخوه الأكبر في تربيته، وربما منحته أختاه بعض الرعاية، لكنه لم يلقَ أي تدليل فكان دؤوبًا مجتهدًا طيلة حياته. تخرج في الجامعة ولم يلتحق بالدراسات العليا مباشرة، بل بعد فترة قضاها مدرسًا لأبناء بعض البيوت الغنية بوصفها مصدرًا للدخل على عادة المفكرين والفنانين في ذلك الزمان، واصل مسيرته الأكاديمية، التي نشط فيها ابتداء من العام 1755م؛ لينال درجة الأستاذية عام 1770م، ويواصل بحوثه العميقة في الرياضيات والفيزياء، حيث عاش بقية حياته متنسكًا في محراب فكره بلا زواج، لم يُعرف عنه مغامرات نسائية من تلك النوعية التي غاص فيها جان جاك روسو حتى أخمص قدميه. ولم يعرف ظاهرة التطفل على حياة القصور والتمتع برعاية الملوك التي برع فيها فولتير، فتمتع بنعيمها حينًا وذاق وبالها أحيانًا، بل كان شديد التفاني، يعمل يوميًّا في مواعيد منتظمة، ويمارس الرياضة في ساعة محددة- خصوصًا المشي- وهي عادة يقال أنه لم يتخلَ عنها سوى مرة واحدة، يوم وصلته أنباء الثورة الفرنسية، ولا يعني ذلك أنه كان رجلًا قاسيًا وجافًا في تعامله مع الآخرين بل كان ودودًا مع أصدقائه، عطوفًا على تلامذته، يستقبلهم في بيته، ويقدم العون لبعضهم.
والأمر الثاني: يتعلق بفلسفته، التي انعكست في مرآة شخصيته، حيث تسرب اتزانه النفسي والتزامه الأخلاقي إلى بنية عقله ونمط تفكيره، لم يعانِ من تلك الشطحات الفكرية التي تعكس أهواء ونزوات أصحابها، بل كان يفكر بوصفه مسؤولًا عن الإنسانية، ولذا كان ميالًا دائمًا لاستيعاب المتناقضات والتوليف بينها. وفضلًا عن ذلك، ثمة أصالته الإبداعية، منذ بدأت أعماله الكبيرة بكتابة الأشهر وربما الأهم في تاريخ الفكر البشري “نقد العقل المحض” عام 1781م، حيث صك المصطلحات التي اشتغل عليها، وأثرت في الجدل الفلسفي بعده من قبيل: النقد، الترنسندنتالية، الحساسية، الذهن، العقل، الصورة، المادة، الزمان، المكان. وتلاه في 1788 بإصدار كتابه النقدي الثاني “نقد العقل العملي”، حيث صك مصطلحات: المثال، العملي، القانون، الواجب، الأمر الأخلاقي. ثم أصدر في عام 1790م، كتابه النقدي الثالث “نقد ملكة الحكم”، حيث قدم تمييزه الأثير بين (الجليل، والجميل). الكتب الثلاث هذه تمثل معمار فلسفته، ففي الأول يؤسس لمذهبه في المعرفة على أساس مفهوم النقد، وفي الثاني يقيم مذهبه الأخلاقي على قاعدة مفهوم الواجب، وفي الثالث يقيم رؤيته الجمالية على أساس التذوق العقلي. وفيما قبل تلك الثلاثية أو خلالها، أصدر كانط أعمالًا مهمة تقدم لمشروع النقد، أو تشرح أجزاء منه، وذلك من قبيل: مقدمة لكل ميتافيزيقيا يمكن أن تكون علمًا 1783م، وهو أقرب لشرح نقد العقل المحض، والمبادئ الأساسية لميتافيزيقا الأخلاق 1785م، وهو توطئة لكتاب نقد العقل العملي، ثم كتابه المهم الذي مثل إضافة لمشروعه النقدي “الدين في مجرد حدود العقل” 1794م، الذي أسس فيه للدين على قاعدة الأخلاق وليس العكس. ناهيك عن كتابين صغيرين ذاعت شهرتهما كثيرًا لأسباب متفاوتة، كان كتبهما كمقالات قبل نشرهما وهما “ما التنوير” عام 1784، و”مشروع للسلام الدائم” 1795م.
مراحل حياته وتحولاته الفكرية:
غالبًا ما يقسِّم مؤرخو الفلسفة حياة كانط الفكرية إلى مراحل ثلاثة: في الأولى، الممتدة من بداية اشتغاله بالفكر الفلسفي (1755م وحتى 1770م)، كان عقليًّا، يعتقد في إمكانية الوصول إلى معرفة موثوقة عن الطبيعة والواقع عبر التفكير العقلي المستقل عن أية براهين تجريبية، أي أنه كان من أنصار مذهب المثالية الذاتية في نظرية المعرفة، متأثرًا بالفيلسوف: ليبنتز، وكريستيان فولف، الذي قدم لمذهب ليبنتز شرحًا ضافيًا وتأويلًا حاذقًا بات أكثر شيوعًا لدى عموم الناس من تصور ليبنتز الأصلي، فباتت العلاقة بين الاثنين أشبه بالعلاقة بين (السيد المسيح، والقديس بولس). وفي المرحلة الثانية: التي تمتد لإحدى عشر عامًا، بين (1770، و1781م)، أظهر كانط نوعًا من التمرد على المذهب المثالي، وقدرًا من الإعجاب بالمذهب التجريبي لدى الفلاسفة البريطانيين، خصوصًا لدى الإسكتلندي “ديفيد هيوم”، الذي يعترف كانط بأن مقالاته وأبحاثه حول طبيعة العقل، وأصول الفهم البشري، أيقظته من سباته الدوجماطيقي، أي من مثاليته الذاتية؛ ليدرك أن كل معرفة موضوعية بالعالم لابد وأن تبدأ بالتجربة. وفي المرحلة الثالثة: صاغ كانط مذهبه الخاص، الذي يوفق جدليًّا بين (المثالية الذاتية، والتجريبية الحسية)، إنه مذهب المثالية التجريبية الذي ذاع صيته باسم “النزعة النقدية” منذ أصدر كتابه “نقد العقل المحض” 1781م، والذي شرح فيه كيف، وإلى أي مدى تكون المعرفة العلمية ممكنة، والحدود التي يجب أن يتوقف عندها طموح العقل إلى معرفة الماورائيات عبر التجربة.
غير أننا نرى في ذلك التقسيم نوعًا من المبالغة، فالحقيقة أن المرحلتين الأوليين تتداخلان على نحو يصعب الفصل بينهما، فلم تكن هناك مرحلة مثالية ممتدة، أنتج فيها أعمالًا مهمة تذكر، كما أنه لم يُستوعب كليًّا في المذهب التجريبي، بل كان يعمل حينذاك على بلورة فكرته عن “الأشياء في ذاتها”، التي تظل قائمة فيما وراء إحساساتنا، لا يمكن معرفتها عن طريق التجربة، والأغلب أنه كان لا يزال يبحث عن رؤيته الخاصة، ولذا نفضل التمييز بين مرحلتين فقط لدى كانط: المرحلة قبل النقدية، وتبدأ مع شروعه في الكتابة والتفلسف حوالي عام (1750م، وحتى 1781)، والمرحلة النقدية التي تلت صدور نقد العقل المحض، ولازمته ما بقي من حياته.
تنطلق النزعة النقدية من أن المعرفة نشاط مشترك للعقل والحواس معًا، يبدأ من الواقع الذي يمد العقل بحدوس تجريبية عن الظواهر والأشياء، ليُعمِل فيها مقولاته الأساسية من قبيل: الزمان، والمكان، والعلية، أو يخضعه لمبادئ العقل الكلية من قبيل: التوازن، والانسجام، والتناسق، وعدم التناقض. هنا يصير الواقع المادي حاضرًا ومعترفًا به اعترافًا كاملًا، يعطينا تصورات أولية عن الأشياء الواقعية التي تبدأ منها عملية المعرفة، والتي لا تكتمل بدورها إلا من خلال العقل البشري واستدلالاته المنطقية، التي تحول تلك التصورات إلى أفكار كلية ونظريات علمية. هكذا أحدث كانط ما يشبه الثورة الكوبرنيكية في نظرية المعرفة، عندما رفض أن يكون الواقع الخارجي منظورًا يتعين على الذات الإنسانية أن تتطابق معه- كما يذهب التجريبيون- ودعا، في المقابل، إلى أن تكون الذات الإنسانية هي المنظور الذي يتعين على الواقع الخارجي أن يتطابق معه. ومن ثم بات العالم الطبيعي يدور في فلك العقل الإنساني، مثلما تدور الأرض حول الشمس (مركز النظام الفلكي)، كما صارت المعرفة بمثابة عملية تأويلية مستمرة للواقع المحيط بالإنسان، وليس مجرد معلومات مكتسبة ومصنفة في جداول عن هذا الواقع يتلقاها العقل ببساطة ومباشرة لمرة واحدة.
نحن هنا أمام وعي نقدي، يجمع بين التأمل الواعي الذي يليق بالإنسان ككائن متسامي، وبين التجربة الضرورية لفهم الواقع على نحو موضوعي، ويسمح للعقل بالمبادرة إلى طرح الأسئلة التي تشغله على الطبيعة، وأن يتلقى عنها إجابات، تخضع بدورها للفحص والمساءلة، وتثير أسئلة جديدة. ومن خلال تكرار تلك العملية يتقدم العقل أكثر نحو الحقيقة من خلال خططه هو، أما إذا استمر في موقف رد الفعل، ينتظر الحدوس الحسية التي يتلقاها من الطبيعة، دون خطة مسبقة، فسيظل أسيرًا للمصادفة العشوائية، دونما قدرة على بلورة نظريات عامة، وتلك هي الإضافة النوعية الكبرى لمنهج “بيكون” الاستقرائي. يقول كانط في نقد العقل المحض: “تبدأ معرفتنا كلُّها بالتجربة، لا ريب في ذلك البتَّة؛ إذ كيف تستيقظ قدرتنا المعرفيّة من دون مواضيع تصدم حواسَّنا، فتسبب من جهة حدوث التصوُّرات من تلقائها، وتحرِّك من جهة أخرى نشاط الفهم عندنا إلى مقارنتها، ربطها أو فصلها، وبالتالي إلى تحويل خام الانطباعات الحسّية إلى معرفةٍ بالمواضيع؟ لكن، ورغم أنَّ معرفتنا كلَّها تبدأ مع التجربة، فإنها لا تنبثق بأسرها من التجربة بل من معارف قبلية تؤطر تلك التجربة؛ وما نتلقاه من الانطباعات الحسية”. وهنا يُقسِّم كانط عملية المعرفة إلى ثلاث ملكات فرعية: ملكة الحساسية التي ندرك بواسطتها الموضوعات الموجودة في مكان ما وزمان ما، وملكة الفهم التي نتعرف بواسطتها على هذه الموضوعات، وملكة العقل التي بواسطتها نكون أفكارًا عن الأشياء في ذاتها، تلك التي لا نجد لها مضمونًا في الإحساس، مثل: الله، والنفس، والحرية. وبالقطع هناك فرق كبير بين أن ندرك موضوعًا ما وبين أن نفهمه، فالإدراك والفهم ملكتان مختلفتان، فعندما ينظر شخص ما إلى مقعد ويرى أنه يشغل مكانًا ما في زمن معين، فذلك هو الإدراك الذي يرجع إلى الحساسية، لكن عندما يفكر في المقعد من حيث إنه مصنوع من نوع معين من مادة مثل شجر البلوط، ومن حيث إنه صُنع في مصنع، فإنه يحاول فهم ما يدركه، وهكذا يترقى الإنسان في مدارك المعرفة بعالم الظواهر.
التيار الرئيس في التنوير:
بإلهام النزعة النقدية أعاد كانط بناء الثنائية الديكارتية (الفكر – الامتداد) بعد رحيل صاحبها بنحو القرن وثلث القرن، وهي فترة طويلة شهدت تطورات علمية ثورية، على رأسها قوانين نيوتن عن الحركة الكونية وعن الجاذبية الأرضية، كانت كفيلة بانهيار تلك الثنائية لو لم يقم كانط بإعادة بنائها على قاعدة منهجية تجمع بين (الاستدلال المنطقي، والاستقراء التجريبي)، تعيد صياغة العلاقة بين (العقل، والطبيعة)؛ لتربط بينهما بجسور أمتن من تلك الجسور التي قد أقامها ديكارت داخل العقل الإنساني نفسه، على أساس سيكولوجي باطني. ولأن جاليليو كان قد بشرَ بأن الرياضيات هي الحروف الأبجدية الجديدة التي يجب أن يُقرأ بها كتاب الطبيعة، ولأن الفيزياء منذ نيوتن كانت برهنت على حاجتها للرياضيات كي تحيا وتتطور، فقد ارتأى كانط أن تحقيق التطابق بين (العقل، والطبيعة) يتطلب الوحدة التكاملية بين (الرياضيات، والفيزياء). عبر تلك الوحدة يمكن للعقل البشري أن يلعب دور المنظم للتجربة العلمية، وأن يرتدي ثياب المُشَرِّع للعالم الطبيعي، ولكن ليس بما فيه من أفكار فطرية، كما قال ديكارت- متأثرًا على ما يبدو بنظرية المثل لدى أفلاطون، أو بالنزعة الإشراقية لدى القديس أوغسطين- بل بوصفه( أي العقل) جملة من القوالب القبلية (صورتا الزمان والمكان، والسببية)، وهي عبارة عن قوالب فارغة تحتاج إلى أن نملأها بالحدوس التجريبية/المدركات الحسية الآتية من التجربة، كي تتحول إلى معرفة، وهنا أصدر كانط- متأثرًا ربما بمقولات أرسطو وتجريبية ديفيد هيوم- حكمه الشهير: إن القوالب القبلية دون الحدوس تظل صماء، وأن الحدوس الحسية بدون تلك القوالب القبلية تصبح عمياء. وعلى هذا صار التطابق بين العقل، ونظام الطبيعة، بين المعرفة والواقع، يتوقف على ما تعطيه التجربة للعقل من مدركات حسية، وما يوفره العقل لمعطيات التجربة من قوالب تنظيمية، فكلاهما يتمم عمل الآخر.
نعم، أقام كانط نسقه الفلسفي على قاعدة فيزياء نيوتن، لكنه قلل من نتائجها الحتمية، عندما أكد على أن إدراكنا للعالم الخارجي يتأثر بطبيعة العقل البشري، لم يضع محددات العلم النيوتيني (الزمان، المكان، والسببية) موضع الشك المطلق، لكنه وضع قدرة العقل على المعرفة موضع التساؤل، فلم تعد المعرفة يقينية ونهائية تتيح للعقل البشرى إدراك المطلق كما تخيل المذهب التجريبي الحسي، بل ممكنة واحتمالية عبر التجربة. ولأن التجربة محدودة بما تمدنا به حواسنا، فإن المعرفة محدودة بعالم الظواهر؛ حيث يستطيع العقل بلوغ اليقين إزاء العالم الطبيعي، فيما يستحيل بلوغ هذا اليقين إزاء العالم الماورائي، أو ما يسميه كانط بـ “الشيء في ذاته”. وعلى هذا، لم يعد الهم الأساسي للفلسفة النقدية هو إثبات وجود الله أو نفيه من خلال التجربة، كما جرت العادة لدى المذهبين (المثالي الذاتي، والتجريبي الحسي)؛ لأن الإلوهية والغيب والبعث جميعها مفاهيم ما ورائية، تسمو على قدرات العقل النظري وحدوده، بل صار همها الرئيس فحص القضايا المعروضة على العقل، والتمييز بين تلك المحصورة في نطاق عالم الظواهر، والتي يصلح للنهوض بمسؤوليتها، وتلك التي تتعالى على عالم الظواهر، ومن ثم تتناقض مع طبيعة عمل العقل. هكذا، وبعد أن كان الإيمان لدي التجريبيين الحسيين، يحتاج إلى تدليل على وجود الكائن المستحق للتقديس، فإذا تعذر إثبات وجوده من خلال التجربة كان الاتهام بالتناقض مبررًا بين أن تكون مؤمنًا وعقلانيًّا في الوقت نفسه، والطريق مفتوحًا أمام الشك معبدًا للإلحاد. وفي المقابل، كان الإيمان لدى المثاليين الذاتيين أمر بديهي، لابد من التسليم به كنقطة انطلاق لعملية المعرفة، نهض كانط بعملية فصل وظيفي/ نقدي بين النسق المعرفي وقضاياه المتعلقة بالطبيعة والواقع، وبين النسق الوجودي وقضاياه الميتافيزيقية والاعتقادية، تخضع الأولى للعقل التحليلي والتجريب المنهجي، وتخضع الثانية للعقل التركيبي، أي للاستدلال المنطقي والتفضيل الأخلاقي.
هكذا قدم كانط تأسيسه النقدي الخلاق للعلاقة بين (العقل، والإيمان)، عندما أكد أولًا قدرة العقل الإنساني على المعرفة، وصلاحيته للنهوض بمسؤوليتها من حيث المبدأ، وأكد ثانيًا على أن تلك الصلاحية غير مطلقة، بل محدودة بعالم الظواهر، فإذا ما تجاوز العقل تلك الحدود إلى ما بعد الطبيعة، وقع في تناقض مع طبيعته الجوهرية، وطوح بنفسه في بحر الظلمات، وكهوف الشك. جعلت منه ثقته المبدئية في العقل وقدرته على المعرفة أحد رواد التنوير بل أحد مؤسسيه الكبار، أما الحدود التي قيد بها تلك القدرة فجعلت منه العلم الأبرز على نمط التنوير الذي نسميه بالمعتدل. لا ينكر هذا النمط الميتافيزيقا بالمطلق، بل يدافع عما يعتبره ميتافيزيقا مشروعة، أي تلك التي تنبع من طبيعة العقل نفسه، ويرفض ما يعتبره ميتافيزيقا غير مشروعة، تلك التي تدعي الانتساب إلى العلم أو التجذر في تربة التجربة العلمية، ومن ثم ينظر هذا النمط التنويري إلى القضايا الاعتقادية/ الماورائية كـ (الإلوهية، والخلود، والحرية) باعتبارها نوعًا من اليقين الذاتي- يخص كل فرد- واختيار حر تلهمه الإرادة والتكوين النفسي، وليست يقينًا موضوعيًّا/ علميًّا يثبته العلم التجريبي. وهنا صار ممكنًا لعالم كبير في الفيزياء أو البيولوجيا أن يعمل عقله منهجيًّا في ظواهر الطبيعة والجسد، مكتشفًا قوانينهما، مستنتجًا منهما وجود الله بإلهام حدسه الذاتي وضميره الفردي، ولعالم آخر أن يعمل عقله منهجيًّا كذلك، مكتشفًا القوانين نفسها، مستنتجًا منها عدم وجود إله، بإلهام حدسه وضميره أيضًا. الأمر الذي مثَّل تعاطيًا خلّاقًا مع التناقض الذي كان قد استفحل بين سردية العقلانية الصاعدة، وسردية الإيمان الموروث، وجعل من الصعوبة أن يكون المرء عقلانيًّا مستنيرًا وأن يكون مسيحيًّا مؤمنًا؛ ليتجاوز الفكر الغربي مع كانط أحد مآزقه التاريخية.
التأسيس الأخلاقي للدين:
في كتابه المهم “نقد العقل العملي” تتجلى لدى كانط أبرز سمات الفلسفة المثالية الألمانية، وهي الاحترام العميق للقانون الأخلاقي، وكذلك تسامحها مع الدين الخالص من الكهانة والخرافة، والعقل العملي هو ذلك العقل الذي يبحث عما يجب أن يكون، أي في توجيه الإرادة الإنسانية نحو الخيارات الأفضل، وهو عكس العقل النظري الذي يبحث فيما هو كائن، ومن ثم يطلب الحقيقة المجردة. وللعقل العملي عند كانط مسلّمات ميتافيزيقية ينطلق منها من قبيل: الله، والخلود، والحرية، وضوابط جوهرية يدور في فلكها تتمثل في الأمر الأخلاقي. وهنا يفرق بين نوعين من الأوامر الأخلاقية: أولهما شرطي والآخر مطلق. النوع الشرطي يقول: من أراد الغاية فقد أراد الوسائل في الوقت ذاته، ومعنى هذا أن الأوامر الشرطية تلزمنا بإتباع الوسائل اللازمة لبلوغ الغايات المنشودة، ومثال ذلك هو القول: إذا أردت أن تحيا سعيدًا، فكن شخصًا صالحًا، أو: إذا أردت أن تكسب ثقة الناس، فكن إنسانًا صادقًا. وأما النوع المطلق فلا يقيده أي شرط؛ إذ يلزمنا بالصلاح والصدق، كأمور ضرورية في ذاتها، بصرف النظر عن نتائجها، ففعل الخير أو قول الصدق هنا ليس وسيلة لتحقيق أي هدف بل سلوك نزيه، مجرد، يجد دوافعه في الالتزام بأصول الخير الكوني ومبادئ الحق؛ فنحن هنا أمام مفهوم الواجب.
ولا يرى كانط تناقضًا في القول بأن الإرادة تكون حرة بقدر طاعتها للقانون الأخلاقي؛ لأن هذا القانون صدر عن تلك الإرادة نفسها، ولو في مرحلة سابقة، وهذا هو جوهر الحرية الإنسانية، أي الاستقلال الكامل عن كل ما هو مفروض من الخارج، والتبعية الكاملة لصوت الضمير الداخلي. ومن ثم عارض كل لاهوت يحاول إقامة الأخلاق على أوامر دينية متعسفة، داعيًا كل مسيحي إلى التخلص من أي سلطة وصائية تتحكم فيه، مؤكدًا على أن مملكة الله لا تتشكل من قساوسة تفقهوا في قراءة الكتاب المقدس، بل هي ملكوت مفتوح لكل من صفت قلوبهم وشفَّت أرواحهم. إنه إعلان استقلال يطلب من الناس التحلي بالشجاعة الكافية للتخلص من اعتمادهم على المعلمين والكنائس والسلطات، وأن ينشدوا الحقيقة بأنفسهم، خروجًا من الوصاية التي جلبوها لأنفسهم، أو استسلموا لها، فأعجزتهم عن فهم حقيقة عالمهم.
وفي كتابه المهم الآخر “الدين في حدود مجرد العقل” أكد كانط على أن الدين لا يأتي بالأخلاق، بل هو فكرة تنبع من الأخلاق، فالإنسان لا يصبح كائنًا أخلاقيًّا لأنه متدين، بل يصبح متدينًا لأنه كائن أخلاقي، يختار الفضيلة بإرادته الحرة. ومن ثم يرى كانط أن من ينتظر الأوامر الدينية المفروضة من خارجه ليسلك السلوك الأخلاقي يخضع لنوع من العبودية لا يليق بإنسان حر، ينشد الاحترام لنفسه، وأن حاجة الإنسان القصوى إلى الاحترام هي التي تدفعه لأن يعبد كائنًا كاملًا مطلقًا، يساعد عقله على تمثل أكبر قدر ممكن من الاحترام. وهكذا فإن كانط لا يعادي الدين بالمطلق، بل يراه مطلبًا جوهريًا للعقل العملي، افتراض ضروري لا يؤسس للأخلاق لكنه يزيد من مستوى الالتزام بالواجب الأخلاقي، فالإنسان يصارع الشر في العالم من حوله، وأيضًا الغرائز والرغبات الأنانية في داخله، ولهذا يحتاج إلى قوة مطلقه تدعم التزامه الخلقي حتى يصير هذا الالتزام عادة دائمة وشاملة، ولا وجود لضمانة أفضل من الله للانتصار في تلك المعركة ضد الشر على كل مستوياته، أو من الدين للخروج من الطريق المسدود الذي قد يصل إليه العقل. وعلى هذا الأساس يربط كانط بين فكرة الكمال الأخلاقي، الموجود في الله منذ الأزل، وبين فكرة الواجب الأخلاقي، باعتبارها المثل الأعلى الذي يطمح الإنسان إلى تحقيقه في حياته؛ حيث يصبح مفهوم الله بمثابة الأمل الذي يبرر للعقل الأخلاقي شرعيته، ويمده بالمسلمات الثلاثة الأساسية التي تغذي حضوره وهي: وجود الله، وخلود النفس، والحرية. ومن ثم رفض أن يعتمد الواجب الأخلاقي على أي لاهوت تاريخي، معتبرًا أن الإيمان الديني هو الذي ينبع من الواجب الأخلاقي.
وهنا يميز كانط بين دين العقل المحض، وبين الدين التاريخي/ المسيحية، فدين العقل هو معيار قبول أي عقيدة منزلة؛ إذ على أساس العقل وحده يمكن أن نختار بين ما يمكن أن نعترف به، وما لا يمكن أن نعترف به من الدين التاريخي. ورغم أن كانط يعتقد في أن المسيح، بوصفه المثل الأعلى للإنسانية، ليس له وجود تاريخي حقيقي، وأنه نال هذه المكانة في تاريخ البشرية بطريقة غير معلومة لديه، فإن الإيمان به يُعد واجبًا، كافتراض ضروري للعقل الإنساني، لكن دون الاعتقاد في وقائع تاريخية تشير إلى حلول اللاهوت في الناسوت أو إلى تجسد ابن الله ونزوله إلى هذا العالم، ودون الإيمان بالعقائد غير المعقولة كـ (التثليث، والفداء، والمعجزات)، فإذا كان ثمة فائدة لدى المؤمنين بها للإبقاء عليها كأسماء، فإن كانط يعتبرها مجرد رموز فحسب، ويحملها دلالة أخلاقية بديلًا عن دلالتها الإعجازية، فمثلًا: يرفض عقيدة التجسد؛ لأن النظر إلى المثل الأعلى الأخلاقي بوصفه إنسانًا– إلهًا، يحبط قيام الأخلاقية؛ فمن غير المنطقي أن نطلب من الإنسان الطبيعي أن يحتذي حذو إنسان آخر يتمتع بموهبة إلهية تكفل له أن يضحى راضيًا بكل الإغراءات الدنيوية في سبيل ملكوت غائب، ومن ثم فإن المسيح العقيدي يتحول من حجة على إمكانية قيام الأخلاق إلى حجة على استحالتها؛ لأن الشخصية الإلهية الخارقة بإرادتها الفولاذية تتفوق على الطبيعة البشرية، ومن ثم تمارس الأخلاق بشكل تلقائي دون أي جهد، ومن المستحيل لطبيعة لها هذا التفوق أن تسقط في الخطيئة.
كانط والنزعة الإنسانية:
آمن كانط بحرِّية الإرادة الإنسانية إلى أبعد حد، غير أن الحرية الحقيقية لديه كانت رهينة التمسك بالواجب الأخلاقي كأمر مطلق، أما مخالفة هذا الواجب بفعل المشاعر المتناقضة والميول الأنانية كالرغبة في اللذة، وفي تجنب الألم، فتؤدي إلى عدم استقلال الشخص، الذي قد يكون عاقلًا لكنه لن يبقى حرًا طالما كان نفعيًّا. وعلى الرغم من إدراكه لإمكانية أن يسئ الإنسان استخدام الحرية، عندما يجعل من حب الذات مبدأه الأسمى، ناسيًا توطيد كماله الخلقي، فقد أكد كانط على أهمية أن يظل حرًا، مالكًا إرادته، ليبقى مسؤولًا عن أفعاله، وعلى هذا رفض كانط حديث المسيحية التقليدية عن الخطيئة الأولى التي دفعت الإنسان إلى السقوط، وجعلته ذا طبيعة فاسدة، فالطبيعة الإنسانية لديه ليست سوى الاستعمال الذاتي للحرية، الذي قد يأتي موافقًا للعقل أو يقع في أسر الغريزة، فالإنسان لا يولد شريرًا بطبعه، أو خيرًا بطبعه، بل هو ما يصنع كماله الخلقي بحسب قدرته على استخدام حريته حسب الواجب الأخلاقي. ينجح البعض في استخدام حريته، ويفشل البعض فيفتقدون للأخلاقية، وعلى هذا لا تكون الخطيئة الأولى هي أصل الشر، بل إرادة الإنسان العاجز أمام غرائزه.
ولا يجاري كانط الإنسانية الملحدة، المعادية للألوهية بالضرورة، بل يرى أن فكرة الله في عقول البشر إنما تدعم تشريعاتهم الأخلاقية، ولكن بشرطين أساسيين: أولهما، ألا تصير الألوهية ملكًا حصريًّا لأية جماعة، بوصفها وحدها شعبًا لله، تملك حق الوصاية على أوامره، كاليهود الذين يتصورون أنفسهم شعبًا مختارًا، ليبقى الجميع خاضعين لقانون الواجب وليس لأي طائفة دينية استعلائية. وثانيهما: أن يكون الدين ضرب من إيمان العقل المجرد، فلا يحتاج إلى ضمانات خارجية، بل يمكن تبليغه لأي إنسان وفي كل مكان عن طريق الاقتناع الداخلي؛ فلأن الجنس البشرى واحد لا يمكن لنا التفكير إلا في إله واحد، ولا يمكن أن يوجد في عقولنا إلا دين واحد، يقبل الجميع بالخضوع لتشريعاته، وهو ما يستحيل عمليًّا في حالة الأديان المُنزَّلة التي تؤمن بها جماعات مختلفة، لا تقبل أي منها بالخضوع لقوانين الأخرى.
يعنى هذا أن الإيمان الحر، هو الموقف الأخلاقي الجدير بتحقيق ذواتنا وحريتنا معًا، حيث لا معنى لأي قهر نفسي عن طريق العقوبات أو الجزاءات التي تفرضها الأديان المنظمة على معتنقيها، أو لأي عنف ديني تفرضه جماعة على أخرى؛ لأننا لن نستطيع جعل الآخرين أخلاقيين عن طريق القهر والإجبار، ومن ثم يجب أن نتركهم لأنفسهم واختياراتهم. في كتابه “الدين في حدود مجرد العقل” يقول كانط: “ثمة دين عقلي محض، هو بمثابة وحي رباني يحدث باستمرار في البشر كافة، يبلغه المؤمن الحر عبر الاستعمال العمومي لحريته في تحقيق واجباته الأخلاقية، التي تصبح والحال هذه أوامر إلهية وبالتالي هي مقدسة”. يعني ذلك أن الإنسان الذي يستعمل عقله بطريقة مُثلى، وبحرية خالصة لا يشوبها قهر، ويلتزم بما ينتج عن هذا الاستعمال من نتائج، لن يكون فقط حرًا بل مؤمنًا فاضلًا، وتلك هي غاية التنوير الحقيقي، مساعدة الإنسان على الانتقال من الإيمان النظامي/ الكهنوتي إلى الإيمان الحر، أما إذا مورس العنف باسم العقيدة فقد تحول الدين إلى سياسة، والإيمان إلى استبداد روحي، وحلت الدولة محل العقل، والملوك بديلًا عن الإله في المطالبة بالحق المقدس في الطاعة.
قادته نزعته الإنسانية إلى الدعوة لتأسيس “نظام عالمي”، لا يمكن أن ينشأ إلا إذا قمنا بتمديد التزامنا الأخلاقي من مجرد الشعور بالمسؤولية إزاء الآخرين كأفراد في مجتمعنا ووطننا، إلى الشعور بالمسئولية إزاء البشر جميعًا بغض النظر عن أوطانهم. ومن ثم اقترح كانط في مقاله/ كتيبه الأثير “مشروع للسلام الدائم” ثنائيتي الديمقراطية والسلام قاعدتين للتعايش الإنساني: الأولى، تؤسس لمنظومة تشريعية تسيّر الشؤون الداخلية للمجتمع الواحد على أساس الحرية وصولًا إلى الديمقراطية. والثانية: تؤسس لمنظومة قانونية تسير العلاقات بين الأمم على أساس العدالة وصولًا إلى السلام. وأكد على استحالة تحقيق الحرية داخل الأمم ما لم يتحقق السلام بين الأمم، والعكس، وهنا اقترح إنشاء هيئة دولية تقوم على مهمة السلام العالمي في موازاة صيرورة تطوير الديمقراطية الليبرالية في المجتمعات المحلية، وحذر من أن تعامل هذه الهيئة مع أعضائها بغير عدالة يقضي على السلام العالمي، مثلما يؤدي الخروج على سيادة القانون إلى تقويض الديمقراطية المحلية.
هكذا جاء النسق الكانطي محكمًا، يمتد من العقلانية النقدية إلى الديمقراطية الليبرالية، إلى النظام العالمي، على نحو أعاق تأويل فكره في اتجاهات خاطئة، على ذلك النحو الذي جرى لنسق هيجل الفلسفي، الواسع والفضفاض، إلى حد سمح بتغلغل النزعتين: الشمولية، والعنصرية إلى قلبه. تغلغلت العنصرية في قلب تصوراته السلبية للأفارقة السود وللشرق المسلم، إلى درجة بات معها أحد روافد المركزية الأوروبية، أما الشمولية فتغلغلت في المجال السياسي الجرماني الذي تُصور دائرًا في فلك بروسيا. نعم تحدث هيجل عن الحرية كروح التاريخ ولكن ليس باعتبارها حرية الفرد كإنسان بل حرية الدولة/ الأمة المطلقة، التي يذوي فيها الفرد ويذوب، الأمر الذي جعل من تصوره التقديسي للدولة، بعضًا من الماء السياسي المالح الذي تغذت منه النزعة النازية. المفارقة المؤلمة أن تحل علينا المئوية الثالثة لميلاد كانط بينما التنظيم العالمي الذي دعا إليه يعيش أتعس لحظاته، عاجزًا ليس فقط عن الدفاع عن المقهورين في العالم، الذين باتت غزة تمثل رمزًا استثنائيًّا لهم، بل عن نفسه أيضًا؛ بفعل نفاق القوة الأعظم المتحكمة في مفاصله، ودعمها لإسرائيل في الولوغ أكثر وأكثر في الدماء الفلسطينية الذكية.