2020العدد 182ملف دولى

جائحة كونية وعلاقات دولية: بين الثنائية والمتعددة، ما هو خيار المستقبل؟

في هذه الورقة، سنستعرض بعجالة فاعلية الإدارة الإقليمية والوطنية لجائحة كورونا في الاتحاد الأوروبي. كما سيتم التطرق إلى التأثير المرتقب لهذه الأزمة على علاقات المراكز الإقليمية المهمة البينية والمتعددة. وسيتساءل البحث عن إمكانية حدوث تغيير أساسي في مستقبل العلاقات الدولية بناءً على التجربة التي عاشتها مجمل الدول الغنية والفقيرة مع هذا الوباء ومنعكساتها الاقتصادية والإنسانية والأخلاقية. كما سيتعرّض البحث إلى العدائية التي انبثقت في التصريحات قبل السياسات بين الولايات المتحدة الأميركية وجمهورية الصين الشعبية وهو العداء الذي ساهم في انتشار تفسيرات متشابكة تعتمد في بعضها على نظرية المؤامرة في محاولة فهم انتشار الوباء. وفي النهاية، سيحاول البحث الإجابة عن سؤال حول مآلات تطور العلاقات الدولية في ضوء طرائق الخروج من الكارثة الإنسانية ومستوى الخسائر التي ستنجم عنها.

الاتحاد الأوروبي والمسألة الصحية:

كان الأوروبيون يعيشون في رغد وحدتهم الشكليّة والعملية التي انطلت بشائرها منذ بداية خمسينات القرن الماضي. فقد تجاوزوا منتصرين حربا تدميرية قامت في قارتهم على مرحلتين في النصف الأول من القرن العشرين؛ ليصلوا عبر مراحل، إلى عملة موحّدة ومجلس أوروبي وبرلمان أوروبي واتحاد أوروبي وما إلى ذلك من مؤسسات تُعنى بإدارة شؤون القارة الأوروبية الموحدة في الشكل على الرغم من بعض التناقضات في العمق والتي تظهر بين حين وآخر. وقد توسّعت أوروبا الغربية لتضم الشرقية والوسطى منها بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وزوال المعسكر الاشتراكي في ثمانينات وتسعينات القرن المنصرم. ومن خلال هذا التوسع، بدأت أوروبا تشعر بصورة جدية بصعوبة التوفيق التام بين جميع الأعضاء، خصوصاً القدماء منهم والمستجدين. وتَبيّن أنه لا مناص من وجود أعضاء مهيمنين أو قادة، وأعضاء منصاعين بالمعنى الدبلوماسي أو عناصر فاعلة في البناء الأوروبي. وعلى الرغم من بعض المقاومة، فقد ظهر أن الحليفين الأساسيين على رأس هذا الاتحاد هما الفرنسي والألماني، اللذان يتصرفان وكأنهما قبطانا السفينة الأوروبية اقتصادياً وسياسياً.

مع بداية انتشار الوباء أوروبياً، كان التعبير اللفظي عن التضامن المُبتغى بين دول الاتحاد الأوروبي مبعثاً على التفاؤل بحصادٍ إيجابي في المجال الإنساني لاتحاد ناجح نسبياً في المجالين السياسي والاقتصادي. إلا أن هذا الأمل سرعان ما تلاشى مع تزايد عدد المصابين في هذا البلد أكثر من ذاك. وشعر كل بلد بأحقية مواطنيه بالمعدات والتجهيزات التي كان توفرها محل معلومات متناقضة. وقد بدا من خلال التمسك بما لدى كل طرف والتراجع عن تقديم يد العون ولو نظريا الى البلد الجار شعاراً مؤلماً لكثيرٍ من الأخبار الإعلامية. وقد صارت الأولويات الوطنية هي الراسم للسياسات الإقليمية والدولية، حتى أن هذا الشعور قد دفع بالبعض لإصدار تصريحات فيها من الانعزالية والأنانية والانغلاق ما يمكن له أن يضعضع أي مشروع إقليمي مهما كان متيناً كمشروع الوحدة الأوروبية.

وقد بدت الفجوة الأعمق تتوضّح بقباحة قلّ نظيرها عندما توجهت إيطاليا، وهي الضحية الأولى للوباء، إلى دول الجوار الأوروبي بطلب المساعدة الطارئة والعاجلة، بأن أتتها ردودٌ باردة وسلبية إلى حد الفجاجة. حيث صرّح بعض المسؤولين في بعض تلك الدول “الشقيقة” بأن أولوياتهم هي احتياجات مواطنيهم وهم ليسوا مستعدين بالتالي لتلبية احتياجات الجار مهما اتسمت بالأهمية. لم تطل أزمة الثقة هذه واقتصرت على مرحلة الصدمة الأولى. وعلى الرغم من الرهانات غير الأوروبية على انهيار المشروع الأوروبي والبناء على التفكير الرغبوي بفشله الناجم عن هذه الأنانيّة المؤقتة، إلا أن التضامن سرعان ما عاد إلى الواجهة. فقد تم نقل مصابين من مشافي فرنسا التي تقع في مقاطعات مجاورة لألمانيا للتخفيف عن المشافي الفرنسية، وكذا كان الأمر مع إيطاليا في الاتجاهين. وتحركت مؤسسات الاتحاد الأوروبي، وخصوصاً الاقتصادي منها؛ لتحريك أموال طائلة لإدارة الأزمة الطارئة.

وقد غاب تفصيلٌ هام عمن انتقد بشدة فشل المشروع الأوروبي في إيجاد الردود الصحية السريعة على اجتياح الوباء للقارة العريقة. هذا التفصيل يتعلق بغياب أية إدارة موحدة للمسألة الصحية ضمن المؤسسات الأوروبية ليس عن إهمال ولكن ترجمة لرغبة الدول الأعضاء منذ المفاوضات الأولى لترك المسائل الصحية ضمن المسائل السيادية لكل دولة عضو. فلا مفوضية أوروبية للصحة كما يوجد للاقتصاد وللسياسة الخارجية وللمال…إلخ. وبالتالي، ومن خارج هذه المنظومة، من الطبيعي أن يكون التنسيق عاجزاً، وخصوصاً في المراحل الأولى، عن الاستجابة للاحتياجات الطارئة.

الإدارة الوطنية ضمن الاتحاد الأوروبي:

 في بداية انتشار الوباء، ظهر أن الهمّ الإنساني قد تغلّب على الطموح السياسي وبالتالي فقد ظهر بأن الإجماع الوطني ملفتاً في كل بلد على حدة. حيث استنكفت أحزاب المعارضة عن انتقاد الأداء الحكومي، كما جرت عليه العادة على هامش الأزمات الكبرى، وذلك بالتأكيد نتيجة الصدمة التي أصابت الجميع. وقد انتشرت عبارة “لا يجب إطلاق الرصاص على سيارة الإسعاف”، ويفيد معناها بأنه يمكن انتظار انتهاء عملية الإنقاذ والخروج من الأزمة للانتقال لاحقاً إلى محاسبة الحكومة على الخلل أو التقصير في التخطيط والأداء، إذا كان ملاحظاً. وقد ترسّخ هذا الشعور بشكل متفاوت بين الدول، ففي حين اجتمع الايطاليون حول رئيس وزرائهم الذي ازدادت شعبيته، وهو التكنوقراط غير المعروف سياسياً، بشكل لم يسبق له مثيل، بناء على ادارته ورمزيته في مثل هذه المصائب. أما في فرنسا وفي اسبانيا، فقد كان الأمر أقل وضوحاً، خصوصاً في المراحل اللاحقة للصدمة الأولى. وعموماً، فقد برز واضحاً بأن المتطرفين الأوروبيين من يساريين ومن يمينيين، قد قفزوا على الفرصة لكي يشنوا حملات مسعورة على الأداء الحكومي. فمن جهتهم، أرجع اليمينيون المتطرفون أسباب وصول الوباء إلى أوروبا إلى التراخي في مراقبة الحدود. أما اليساريين من المتطرفين، فقد أشاروا إلى طبيعة الاقتصاد الرأسمالي التي تمت إدارة البلاد من خلالها عبر العقود الماضية والتي اضعفت المنظومة الصحية.

وفي فرنسا مثلاً، فإن الحسّ النقدي المتطوّر، واقتراب موعد الانتخابات الرئاسية بعد عامين، كانا عاملين ساهما في تأجيج مشاعر المعارضين من أحزاب يمينية ويسارية. وقد انتقلوا خطابياً من خندق الاصطفاف إلى جانب الحكومة إلى خندق مقابل، تنهمر منه مختلف أنواع ودرجات الانتقاد شديد اللهجة للأداء الحكومي. وقد تنوّعت الانتقادات من الموضوعي إلى المتطرف، حسب التوجه السياسي للأحزاب وللشخصيات السياسية. وقد تميز متطرفو اليسار، كما اليمين، في حدّة هجومهم، وبالغوا في تحليل الأسباب وتوقع النتائج، فالجبهة اليمينية المتطرّفة مثلاً، والتي تتزعمها مارين لوبين، سارعت إلى اعتبار أن الهجرة وفتح الحدود سببان رئيسيان لانتشار الوباء. أما حزب المتمرّدين لصاحبه “جان لوك ميلانشون” فاعتبر أن إدارة الأزمة تصل إلى حد الفضيحة الأخلاقية، مُديناً ما أسماه حرص الدولة على أصحاب المال أكثر من اهتمامها بحيوات العامة.

لقد تعاظمت الاتهامات بفشل المشروع الأوروبي في مواجهة الوباء، وابتعاد الأعضاء عن التضامن المنتظر من مؤسسةٍ كان في عماد تشكيلها تجاوز الحرب العالمية الثانية وجروحها. وقد تم تأجيج حالة الشك والتنديد المبطّن هذا من قبل آلة دعايةٍ روسيةٍ نشيطة وفاعلة. كما تم ترويج هذه “الأزمة” الداخلية للاتحاد الأوروبي، عبر الحلفاء الموضوعيين أو الأدواتيين، للطموح الروسي، في تفكيك الاتحاد من الشعبويين المتطرّفين المحليين في أوروبا يميناً ويساراً. ولم يبخل، على سبيل المثال، الإيطالي ماثيو سالفيني أو الفرنسية مارين لوبين في ترويج الأكاذيب والتنديد بالمشروع الأوروبي، بالاستناد إلى تعزيز مفهوم السيادة الوطنية لإدارة الكوارث، واعتبار انتشار الوباء مرتبطاً بإزالة الحدود وبتوافد الأجانب واللاجئين.

على الرغم من التأخير، وربما التقصير النسبي، إلا أن المؤسسات الأوروبية تعاملت بما تقتضيه الضرورة مع الأزمة. فاقتصادياً، تحرّك مصرف الاستثمار الأوروبي، بالسرعة المعقولة، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الاقتصاد المشترك، والذي سيوضح حجم الخسائر الهائلة فيه، بعد انزياح الوباء جزئياً على الأقل. وكذا على المستوى السياسي، بحيث تنبّهت المؤسسة الأوروبية إلى تجاوزات تسلطية لبعض دول الشرق والوسط الأوروبي، كما المجر وبولونيا، فيما يتعلق بالحرّيات العامة وبأسس دولة القانون، بحجّة التعامل الفعال مع الوباء ومساراته. جُلّ منتقدي غياب الاتحاد الأوروبي عن إدارة الأزمة هم الذين رفضوا باستمرار تدخل مؤسسات الاتحاد في فرض قواعد ومعايير صارمة، لتلتزم بها مجمل الدول الأعضاء، وهم الآن ينتقدون غياب الاتحاد عن المشهد.

يُضاف إلى هذا التناقض الصارخ في التعامل مع الدور الأوروبي إعجاب بالتجربة الصينية في إدارة الأزمة. وبمعزلٍ عن الاتهامات العنصرية التي وجدت صداها لدى بعض الفئات، والتي تضع مسؤولية انتشار الوباء على الشعب الصيني، وما تبع ذلك من ممارساتٍ تمييزية غير لائقة بحق المكوّن الصيني، إلا أن الإعجاب الأعمى في المقابل بالأسلوب الصيني في إدارة الأزمة يُشير إلى خلل عميق في الذهنية السائدة، وإلى خطر ماحق بالمؤسسة الديمقراطية الغربية. ومن النتائج السلبية المنتظرة في المستقبل القريب، انحراف لدى بعض المجموعات إلى الاعتقاد بإيجابية التسلطية في أساليب الحكم. وهذا ما بدأ يظهر بخجل نسبي في كتاباتٍ منسوبةٍ إلى رجال فكر وعلم، لا يمكن الاستهانة بتأثيرهم في الرأي العام. وقد غابت عن أولئك، كما معجبيهم، آلة الكذب التي فعّلتها الإدارة التسلطية في الصين منذ بداية انتشار الوباء في الشهر الأخير من السنة الماضية، وغاب عنهم أيضاً الأسلوب الديكتاتوري في إدارة الأزمة، من حيث فرض الحجر الصحي إلى التعامل مع جيوش الأطباء والممرّضين، مع تضحياتٍ جمّة، وكما أيضاً التعامل مع اليد العاملة بأسلوب السُخرة المعروف في جُلّ الأنظمة الشمولية. إضافة إلى هذه الأساليب المعهودة بالتعامل مع الداخل، “أبدعت” الصين في محاولة استغلال الأزمة الإنسانية الكونية سياسياً، بحيث روّجت بعض المساعدات التي قدّمتها، وغالباً بأثمانٍ مرتفعة، إلى الدول الأوروبية، مطلقةً على سياستها تلك “طريق الحرير للصحة”، ما دفع المستشارة الألمانية”أنجيلا ميركل”إلى القول بأن الصين “لا تقوم إلا بردّ الجميل” الأوروبي، والذي تم في بداية انتشار الوباء فيها عبر مساعدات دوائية وتقنية أوروبية.

بين التشكيك بالمشروع الاتحادي الأوروبي والإعجاب بالنموذج التسلطي الصيني، ستكون أمام القارة العجوز مرحلة صعبة من الجهد المشترك، والذي يجب أن يفضي إلى حل إنقاذي للمشروع الأوروبي من جهة، ومن المشروع الصيني من جهة أخرى.

الصين، ودبلوماسية الكمامات:

صار هناك شبه اجماع على المسؤولية الأخلاقية التي تتحملها الصين كدولة ومؤسسات بخصوص انتشار الوباء. وهذا ليس بحكم قيمة مرتبط بأية نظرية للمؤامرة كثر الحديث عنها أمريكياً وسواه، من حيث أنها صنّعت الفيروس في مخابرها أو أنه تسرّب نتيجة لخطأ بشري. اتهامات الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، للصين بأنها اخترعت الفيروس في مخابرها تدخل في إطار الاستفاضات التويترية التي صار متخصصاً فيها منذ يومه الأول في البيت الأبيض، والبعيدة كل البعد عن التفكير والعقلانية، إلا أن المسؤولية تقع على الصين بسبب تأخرها الشديد في الاعلام عن انتشاره لديها واستمرار الرحلات الجوية من بؤرة الانتشار الأساسية لديها إلى بقية أنحاء العالم. ولم يتم الاعلام إلا عن طريق وزير الصحة التايواني، وتايوان دولة غير معترف بها من قبل غالبية دول العالم وحيث تعتبرها الصين جزءاً لا يتجزأ منها، برسالة بعث بها إلى منظمة الصحة العالمية يوم 31 يناير 2020 ولم يتلق أي جواب بخصوصها لأن بلده ليست حتى عضو مراقب في المنظمة التي استبعدتها منذ سنوات بعد تعرضها لضغط من بكين. ولم ينفع الصين، ولن ينفعها، أن تمارس ما يسمى بدبلوماسية الكمامات بحيث أنها تتبرع أو تبيع مئات آلاف الكمامات أو أجهزة التنفس التي تبين أن جزءا كبيرا منها غير ملائم للشروط الإنتاجية الغربية أو غير صالح البتة، حتى تشتري الصمت.

وفي منطقتنا العربية، تم استحضار التجربة الصينية التي أوهمت بعضهم بأنها نجحت في احتواء الوباء. وبدا أن الإعجاب بها يتجاوز بعض الأنظمة التي تتحالف مع الصين وتتفق مع رؤيتها لإدارة الناس، ليصل إلى من هم في صفوف الشعوب، والتي يبدو أن النموذج الصيني اقتصادياً اولاً، ومن ثم صحياً عبر ما تم تقديمه في الاعلام، هو الأفضل وهو المنشود. وعلى الرغم من أنه قد بدأت تظهر إلى العلن المعلومات التي تنقض أسطورة النجاح الصيني، والتي تترافق مع اكتشاف من اختفى من الأطباء الذين نبهوا وحذروا من انتشار الوباء باكراً، كما مع فضح الأرقام الضئيلة بعدد الضحايا المصرّح عنها واكتشاف المأساة الكبرى التي سببها الوباء في مراكز انتشاره، إلا أن الإعجاب بالأسلوب الصيني، رغم عدم الدقة في المعلومات والتعتيم على الحقيقة، قد نال من وعي الكثيرين.

ينسى المعجبون بالنموذج الصيني في احتواء الوباء على الأقل، حتى لا يتم التعرّض إلى الأبعاد الأخرى، أن النجاح الحقيقي في الاحتواء قد تم تسجيله في كوريا الجنوبية ذات النظام الديمقراطي، وبعيداً عن أية أساليب قمعية وزجرية. وقد اعتمد الكوريون في ذلك على تعزيز مفهوم المواطنة، وعلى إبراز ثقافة الالتزام. والنموذج الكوري المجاور للصين ليس النموذج الديمقراطي الوحيد الناجح “وبائياً”، بل يمكن التوقف أوروبياً عند تجارب بلدان متطورة عديدة من التي لجأت إلى سياسة الحجر أو التي اختارت الابتعاد عنها.

إن كان المستقبل سيحمل مراجعات سياسية واقتصادية كونية لسياساتٍ أثبتت المأساة الحالية مسؤوليتها أو عجزها، فمن المفيد أيضاً أن تُراجع الصين خصوصاً طبيعة نظامها السياسي، ومنظومتها الاقتصادية الطموحة على حساب الإنسان والبيئة.

ما بعد الوباء ليس كما قبله ؟غير مؤكد … 

بعد انتهاء الوباء المهيمن على حيوات الناس أو انحساره، والذي كُتب وسيكتب حوله الكثير علمياً وصحافياً وافتراضيا، ولو تم التركيز على البعدين الاجتماعي والاقتصادي، اللذان سيشهدان تحوّلات بنيوية، سلباً أو إيجاباً، لا مناص منهما، فسيكون للعلوم السياسية أيضاً حقول بحث واسعة و”مغرية”، ستتمخّض عنها هذه المرحلة الوبائية المؤلمة.

من جهة العلاقات الدولية، يبدو أنه من المحتّم تبنّي أسلوب أو سياسة إعادة النظر في كثير مما كان أو كاد الباحثون يعتبرون أنه صار من المسلّمات. وذلك ليس سعياً إلى تفكيكها ونقضها أو إعادة تركيبها، بل ربما، في الأرجح، أنّ يكون البحث نشيطاً لمحاولة إصلاح آلياتها التي أثبتت عقم إنتاجيتها في بعض المراحل التي مرّت بها في أثناء معالجة آثار الوباء الآنية والمقبلة. وبعيداً عن نظرية المؤامرة التي أغرقت العقول البسيطة بقناعاتٍ مشوّهة، وبعيداً عن التنبؤات الفلكية بزوال تلك المؤسسة أو انهيار ذاك النظام، فمن شبه المؤكد، في أقل تقدير، أن تُمعن المؤسسات الإقليمية كما الدولية، النظر في إيجابيات وسلبيات ظهرت على هامش الإدارة المشتركة الناجحة او الفاشلة للأزمة الصحية العالمية وما نجم عنها من آثار على المستويات كافة.

وقد دعى “جوزيف بوريل” الممثل الأعلى للسياسة الخارجية والأمن في الاتحاد الأوروبي، الى إجراء تحقيق شفاف وحيادي بمنشأ الفيروس دون أية أحكام مسبقة أو مواقف متشنجة من أية جهة كانت. فالعلاقات مع الصين قد تطورت في السنوات الأخيرة ولا يجب أن يكون هذا الوباء عنصرا مقيداً لاستمرار تطورها الإيجابي الذي يجب أن يُبنى من الآن فصاعداً على الاحترام المتبادل في الأُطُر المتعارف عليها للقانون وللعلاقات الدولية.

من جهتهما، اتفق يوم 18 مايو الماضي، كلا من المستشارة الألمانية والرئيس الفرنسي، على تفعيل خطة إنقاذ وإنعاش اقتصادي أوروبي بمبلغ يبلغ 500 مليار أورو، وذلك على أن تستدين المجموعة الأوروبية هذا المبلغ وتمنحه عبر الميزانية الأوروبية المشتركة إلى الدول الأعضاء حسب نسب تضررها. وبعد أن كانت ألمانيا وسواها من دول الشمال تعارض هذا المبدأ التشاركي، استطاعت فرنسا أن تجذب الموقف الألماني إلى طرفها ويصير مثلها معنياً باقتصاديات دول الجنوب الأوروبي كإسبانيا وإيطاليا. ومن خلال هذه المبادرة، تسعى الدولتان إلى توسيع دائرة القرار الأوروبي وحتى الدولي بحيث تتم اتفاقيات الإنقاذ عبر محادثات غير ثنائية بل متعددة سعياً لتوسيع رقعة اتخاذ القرار وتحمّل المسؤولية في المسرح الجديد للعلاقات الدولية. وقد تعزّ. لاحقاً وبعد ساعات قليلة هذا الاتفاق للثنائي الأقوى أوروبياً عبر تصريح رئيسة المفوضية الأوروبية أو رسولا فانديرلين، حول تخصيص مبلغ يفوق 700 مليار يورو للإنقاذ والإنعاش في القارة الأوروبية. 

من جهة أخرى، العداء الاقتصادي الذي تحمله الإدارة الأميركية للصين لا يجب أن يكون هو المؤشر الأساسي للعلاقات الدولية في مستقبل ما بعد الكورونا. وعلى الرغم من الحاجة الى أن تتحمل الصين مسؤوليتها وتغير من سياساتها الإغراقية غير المعنية بالمسائل البيئة وبالإنسان، إلا أن الخلاف مع إدارة ترامب لا علاقة له بهذا. إنه خلاف على مصالح ومكتسبات مادية وليس خلافاً مبدئياً أو قيمياً. ومن المحتمل أن يسارع الطرفان إلى إيجاد أرضية مشتركة رابحة لكليهما ليرميا بعرض الحائط كل المقاييس البيئية والإنسانية ويعملا الليبرالية المتجددة والمنفلتة في إدارة اقتصاديات الكرة الأرضية والتي يعتبر وباء كورونا جزءاً من الثمن المدفوع جرّاء اتباع مثل هذه الإدارة غير المقيدة للموارد الطبيعية والبشرية.

من الدروس المستخلصة أيضا في مجال العلاقات الدولية بعد الأزمة الإنسانية هي القناعة التي يجب أن تتوفر لدى كل الدول الفاعلة بأن إدارة وحل الأزمات الإنسانية من هذا النوع لا يمكن أن تنحصر في الجانب المحلي الداخلي، بل أنها إدارة يجب أن تشمل البعد الدولي أيضا. وخصوصاً من خلال الاهتمام أكثر فأكثر بالبيئة وبمنع الزحف البشري عليها وتدميرها مما يؤدي إلى نشوء حواضن مساعدة على نمو الفيروسات المجهولة العلاج والمدمرة.

من غير المؤكد بأن ما بعد الوباء سيكون أفضل مما سبقه، فالبشرية عرفت أزمات عدة وكوارث ماحقة وحروب طاحنة، وقد توقع الفلاسفة والأخلاقيون أن يُعيد الإنسان إثرها النظر في طرائق الحياة ومفاهيمها، إلا أنه لم يفعل، وإن فعل، فقد عزّز مساره التخريبي والتدميري والسلبي.

اظهر المزيد

د. سلام الكواكبي

باحــث سوري في العلوم السياسية - فرنسا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى