2020العدد 182ملف دولى

النظام الدولي ما بعد كورونا هل تعاد هندسته؟

تؤشر المعطيات التي أفرزتها جائحة كورونا، على المستويات السياسية والاقتصادية العالمية، على إمكانية حصول تحوّل في المسار التاريخي للعالم المعاصر، حيث وفرت الجائحة فرصاً استراتيجية لبعض اللاعبين، قد تكون على شكل تسريع الوصول إلى أهداف استراتيجية، كان مأمولاً الوصول إليها بعد عقود، كما أعادت تعريف العولمة، بعد اختبار مقولاتها وركائز قوتها في واقع أزموي وأثارت النتائج المتحصلة عن هذه الاختبارات الشكوك في إمكانية قدرتها على البقاء كنمط علاقاتي دولي، على الأقل بشكلها الحالي، في الزمن المقبل.

لقد هزت أزمة كورونا، بعنف، العديد من مرتكزات العالم المعاصر وطرحت العديد من الأسئلة التي يبدو أنها ستجد إجاباتها في مستقبل ليس بعيد، وخاصة عن جدوى الهيكليات الإقليمية، وعن علاقة الأقاليم بالدولة، وحول موقع الدولة في المدار العالمي، كما أنها ضربت قطاعات تعتبر أهم محركات العولمة، كوسائط النقل والسياحة، لدرجة قد يحتاج إنعاشها إلى فترة طويلة من الزمن.

ولا بد من الاعتراف أن أزمة كورونا جاءت في سياق سلسلة من الأزمات المالية والعلاقاتية الدولية، وفي إطار حروب تجارية بين اللاعبين الكبار، ما يرجح أن تؤدي تداعيات الأزمة إلى تزخيم هذا السياق وتسريع تحوّلاته.

إعادة هندسة النظام الدولي:

السؤال الذي طرحته أزمة كورونا، على نطاق واسع، هل تعجل الأزمة في حصول تغيرات كبرى في بنية النظام الدولي، وتسريع صعود الصين إلى مرتبة القوّة العظمى الأولى في العالم؟، وتتأتى مشروعية هذا السؤال من الخبرة التاريخية للتحولات الكبرى وصيرورتها، إذ غالباً ما ساهمت الأزمات الكبرى، “الأوبئة والحروب”،  في حدوث تحولات كبرى في النظام الدولي.

من الصعب رؤية ترجمة مباشرة لهذا السؤال في المدى القريب، كما أن الأزمة لم تنته بعد، ولكن من المرجح أن يصار إلى عملية إعادة تقييم بطيئة للنظام الدولي الحالي ولمفاهيمه الحاكمة وقيمه وجدوى مؤسساته ومنظماته، بالإضافة إلى الفاعلين الأساسيين وطبيعة استجاباتهم للأزمة، فقد كان من أهم أسباب صعود الولايات المتحدة لقمة الهرم العالمي، الأدوار التي لعبتها في الحرببين العالميتين” الأولى والثانية” حيث أدت دوراً قيادياً لحسم في حسم هذه الحروب، أو على صعيد معالجة تداعياتها، من خلال القيام بمشروع “مارشال” لإعادة إعمار أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية.

لكن النظام الدولي، الذي نحن بصدده، أصبح نظاماً معقداً ومتشابكاً، فهو ليس مجرد هيكل قوّة سياسية ذات صلة بتوازن القوى العالمية، بل هياكل اقتصادية واجتماعية ومنظومة قيم، ومن ثم سيكون غير كافٍ لإحداث تغيير في بعض مكوناته لإحداث عملية تحوّل لهياكل النظام، والدليل على ذلك أن روسيا التي استعادت قوتها كثاني أكبر قوّة عسكرية في النظام الدولي، لم ينعكس هذا الأمر على ترتيبها في سلم القوى العالمية الذي تحتل فيه درجة متأخرة بعض الشيئ، كما أن اليابان، ورغم كونها ثالث قوّة إقتصادية على مستوى العالم، فليس لقوتها الاقتصادية صدى في التأثير في توجهات السياسة الدولية.

على الصعيد الاستراتيجي، لم تتغير المعطيات الاستراتيجية الأساسية، ويحتاج تغيرها لمدى زمني اوسع، كما تحتاج لمنتصرين ومهزومين بشكل واضح، لأن ذلك يستتبع إما زيادة رقعة النفوذ والسيطرة على المسرح العالمي، بالنسبة للطرف المنتصر، على شكل حصوله على مزايا استراتيجية أكبر، أو تقهقر نفوذ الطرف المهزوم وتنازله عن مساحة النفوذ التي كانت بحوزته، بما فيها من مزايا وثروات وخلافه، وقد يحدث هذا الأمر بشكل تراكمي، إذا استمرت الجائحة لوقت أطول دون إيجاد حل لها، وما تسببه من تداعيات على الصعد الإقتصادية والأمنية بالنسبة للفاعلين الدوليين، وقدرتهم على الصمود والمنافسة.

النظام الدولي بين الهندسة والفوضى:

يعتبر أغلب الاستراتيجيون أنه من السابق لأوانه معرفة ماذا سيتغير في السياسة الدولية في مرحلة “ما بعد كورونا”، ذلك أن جميع الفاعلين الدوليين منشغلين في كيفية الخروج بأقل قدر من الخسائر من هذه الأزمة، ولا وقت للتفكير بغير ذلك، أما عن الإجراءات التي تم اتخاذها على المستوى العالمي فهي إجراءات فرضتها الأزمة بشكل كبير، وبالتالي فإن أي محاولة للتنبؤ بما يمكن أن يكون عليه النظام الدولي لن تكون سوى افتراضات.

يقود هذا الإتجاه، فولكر بيرتس  “مدير المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية” الذي يرى أنه “من غير المحتمل أن تكون هناك صورة شاملة موحدة للتأثير الجيوسياسي للأزمة، وما ينتج عنها من تطورات في النظام العالمي والتنافس بين الدول، سواء الصراعات أو التعاون. سيظل شكل العالم بعد الوباء خاضعاً للإرادة السياسية والقيادة، وقدرة الجهات الفاعلة الدولية على التعاون”.

وإذ يصف فولكر بيرتس التنافس بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين ب”النموذج الإرشادي الجديد للسياسة الدولية”، فإنه يرجّح أن يسير التعاون والصراع المفتوح بين القوى العظمى، وبين الولايات المتحدة والصين، على وجه الخصوص، جنباً إلى جنب، بدلاً من أن يكون أنماطاً منفصلة تماماً للسياسة الدولية.

لكن هذا الرأي ينطوي على حذر كبير ويرفض خوض مغامرة الدخول في ما يمكن إعتباره جدلياً،  رغم أن المعطيات تشي باتجاه جديد قائم على متغيرين واضحين.

  1. انكفاء الولايات المتحدة الأمريكية، وقد جاءت الاستجابة الأمريكية للوباء، والتي تدعو إلى الإهتمام بأمريكا أولاً، في سياق مسار يعمل عليه الرئيس دونالد ترامب، غير أن هذا السلوك جعل مقعد قيادة الأزمة، على المستوى العالمي، فارغاً، والأهم من كل ذلك أن أطرافاً عديدة_سواء كانت دولاً كبرى أو متوسطة أو حتى نامية_حاولت إجتراح أساليب ووسائل لإيجاد حلول للازمة، ورغم أن ذلك لن يزعج إدارة ترامب، التي ترغب في التخفّف من المسؤوليات الدولية، إلا أنه يمثل حصة تدريبية مهمة على الانفكاك من الحاجة للولايات المتحدة الأمريكية، في قضايا مهمة مثل الأمن الصحي ومواجهة الأزمات والكوارث.

يخاطر ترامب بالقوة الأمريكية لتحقيق مكاسب قصيرة المدى، وفي ذلك دلالة على الفشل في إدارة الأزمة، ورغم استياء النخب الأمريكية من هذا السلوك، وعدم رضى الدولة العميقة، التي تدرك احتمالية إنعكاس هذه السياسات الإنعزالية على الوضع الجيواستراتيجي الأمريكي، في بيئة دولية شديدة التنافس والاستقطاب، إلا أن ذلك لم يغير في توجهات ترامب الذي يحاول توظيف هذه السياسة في إعادة انتخابه مرة ثانية.

  • محاولة الصين الاستفادة من الاوضاع الحالية، تَعتبر الصين أن أي تراجع أمريكي هو فرصة لتعزيز صعودها العالمي، ولم يكن خافياً أن الصين طرحت نفسها خلال الأزمة كنموذج مميز، سواء من خلال الزعم بأنها استطاعت احتواء أزمة الفيروس والعودة للحياة الطبيعية والإنتاج والتعافي الاقتصادي، أو من خلال ما أطلق عليه البعض” دبلوماسية الكمامات”، عبر تقديمها لأجهزة الفحص والكمامات لبعض الدول، مثل إيطاليا وإيران، وتقديم مساعدات مالية لمنظمة الصحة العالمية، التي هدد ترامب بوقف التمويل الأميركي عنها.

ويمثل السلوك الصيني جزء من استراتيجية معلنة ترغب الصين من خلالها إلى فرض نفسها كفاعل دولي لا يمكن الاستغناء عنه، وذلك من خلال تحوّلها إلى مصنع للعالم، تصنع كل شيئ يباع في متاجر العالم، ناهيك عن المكونات الحيوية لعمالقة التكنولوجيا غير الصينية الأخرى ، بما في ذلك Apple ، سوني ومايكروسوفت، وفوق ذلك، كانت الصين مشغولة أيضًا في إنتاج حاملات الطائرات الأصلية الخاصة بها ، وتوسيع نفوذها العسكري وقوتها الصلبة ، وجعلها واحدة من عدد قليل من البلدان القادرة على إنتاج أسلحة الحرب هذه القادرة على إسقاط القوة العالمية.

هل تنتقل القوّة للشرق؟

تشير الكثير من الأراء، إلى أن أحد تداعيات أزمة كورونا، ستكون انتقال ميزان القوى العالمية من الغرب إلى الشرق، ويتم تأسيس هذا الرأي على قياس قدرة الدول على تجاوز الأزمة وحصر تداعياتها، فقد أثبتت مراكز القوى في أسيا، كوريا الجنوبية وسنغافورة والصين، قدرات كبيرة على تطويق الأزمة، في حين تتخبط القوى التقليدية الغربية دون إيجاد أفق واضح للخروج من الأزمة، ومن الارتدادات المتوقعة لذلك، فقدان الغرب السطوة على الهياكل الإقتصادية والتجارية.

هل معنى ذلك أن العالم سيشهد إنتقالاً سلساً لميزان القوى من الغرب أو الشرق، أو حتى أن الشرق، سيفرض نفسه، ضمن تراتبية القوى الدولية،  اللاعب الأكثر تأثيراً ونفوذاً، وهل تسمح الظروف الدولية، وموازين القوى الحالية، بمثل هذا التغيير؟.

نذر صراع عالمي:

يثير النفوذ الاقتصادي للصين والقوة العسكرية المتنامية التي تسمح لها باستخدام كل من رافعات القوة الكبيرة داخل النظام الدولي ، توجس الولايات المتحدة الأمريكية، التي تعتبر القوّة الحاكمة في النظام الدولي المعاصر، ويشكّل حافزاً ومحركاً لتعزيز قوتها وإنتاج استراتيجيات لمواجهة سياق الصعود الصيني وتعطيل سيرورته، ولعل من الخطأ افتراض أن الولايات المتحدة الأمريكية ستستسلم للأمر، ولا يعني انكفاءها، الطارئ، تخليها عن نزعة القيادة العالمية، وخاصة أن الولايات المتحدة الأمريكية، لا زالت وفق معطيات القوّة والنفوذ تحتل درجة متفردة في النظام الدولي، عسكريا واقتصادياً.

تتمثل الإشكالية في هذه الوضعية في حقيقة أن الطرفين الأميركي والصيني ليسا على استعداد لأداء أدوارهما القيادية بدون توظيفات سياسية، وإن كان هذا الأمر حقاً مشروعاً، إنطلاقاً من أن الدول ليست جمعيات خيرية، لكن المقابل الذي تطلبانه لا يتناسب مع ما أصبحت تقدمانه من خدمات للنظام الدولي، على الأقل على صعيد السلم والأمن الدوليين، حيث بات الطرفان أحد مصادر تهديد الأمن والسلم الدوليين، سواء عبر كباشهما الذي يهدّد الاقتصاد العالمي والتجارة الدولية، أو من خلال سلوكهما المنفرد في مسرح السياسة الدولية.

الصين ليست في وضع مثالي:

ترجح الكثير من القراءات، تحقيق الصين مكاسب اقتصادية وجيوسياسية في مرحلة ” ما بعد كورنا”، وذلك بالنظر لقدرتها الهائلة على استثمار تداعيات الوباء على مجال المال والأعمال، ما قد يحوّلها إلى حاجة ضرورية في هذا التوقيت، بالإضافة إلى استفادتها من تراجع أسعار الطاقة العالمية، بالرغم من ارتباط هذا الانخفاض بتراجع الإنتاج الصيني نفسه في مرحلة انتشار الوباء، وذهبت جريدة ” البرافدا” الروسية إلى التنبيه بأن الصين تتجه إلى شراء نصف العالم، وتحديداً في أوروبا، حيث أدت الأزمة إلى حصول خسائر كبيرة في العديد من القطاعات، الأمر الذي نتج عنه إفلاس شركات ومصانع عديدة، تنوي الصين شراءها، وقد حذّرت دول الاتحاد الأوروبي من التوجهات الصينية، وهو ما دفع ألمانيا إلى التفكير بتشديد قواعد حماية الشركات المحلية من عمليات الشراء غير المرغوب فيها من قبل مستثمرين من خارج الاتحاد الأوروبي.

وتواجه الصين اتهامات من قبل جزء كبير من دول العالم  بأنها شاركت في تحريفات وإخفاء معلومات مهمة وحساسة عن جائحة كورونا، والتأخر، أو التأخير، في إعلان حالة الوباء، ما سبب عواقب وخيمة على الصحة والاقتصاد العالمي، وتسبب في موت الآلاف، وإصابة الملايين، حول العالم، وأحدث أضراراً بالاقتصاد العالمي، ويقود الأمريكيون إتجاهاً يهدف إلى تجريم الصين، وقد بدا هذا الإتهام صريحاً من خلال قول وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، “كان بوسع الصين إنقاذ حياة مئات الآلاف في أنحاء العالم، وكان بوسعها أيضاً أن تجنب العالم الوقوع في مأزق اقتصادي عالمي، لو تعاملت بشفافية مع الأمر”.

وتتصاعد حدة الاتهامات للصين، وتتحول إلى إجراءات قضائية، فقد تقدم إيريك شميت المدعي العام لولاية ميسوري الأميركية، بدعوى قضائية ضد الحكومة الصينية، متهماً الصين بـ”الكذب على العالم”. إذ قال شميت في دعواه “إن هذه الإجراءات أدت إلى (ضرر لا يمكن إصلاحه) في دول كثيرة حول العالم، وخسائر في الأرواح وعواقب اقتصادية”.

بسبب ذلك، لن تكون الصين في المرحلة القادمة بوضع يسمح لها بالتمدد الجيوسياسي والتأثير على الوضع الإستراتيجي العالمي، ومن غير المتوقع تراجع الحملة الغربية ضدها، فالحملة تكبر كل يوم وتنضم لها أطراف جديدة، والأرقام المطلوب من الصين دفعها كتعويض تبلغ تريليونات الدولارات، ورغم أنه لا يتوقع خضوع الصين لهذه الضغوط، إلا أن وضعها الدولي لن يكون كما كان قبل ازمة كورونا.

وليس الصين وحدها من سيكون في هذا الموقف، بل جميع الإقتصاديات الموجهة للتصدير في شرق أسيا، تواجه أيضًا صعوبات طويلة المدى إذا أجبر الوباء الغرب ، كما يتوقع البروفيسور جوزيف ستيغليتز ، على إعادة تقييم شاملة لسلسلة الإمداد العالمية، وكشف عن عيوب تركيز إنتاج الإمدادات الطبية. ونتيجة لذلك ، ستنخفض الواردات في الوقت المناسب وسيزداد إنتاج السلع المحلية المصدر.

العولمة في قفص الاتهام:

فتحت أزمة كورونا الباب أمام تسليط سهام الاتهام على العولمة بوصفها الوعاء الذي طفح بكل الأخطار العابرة للحدود، بمختلف اشكالها، والتي تهدّد النظام العالمي ككل، فقد عانى الاقتصاد العالمي من أزمات متلاحقة خلال مرحلة العولمة لم يتعاف منها بعد بشكل كامل مثل الأزمة المالية العالمية وحرب التجارة بين أكبر اقتصادين في العالم الصين والولايات المتحدة ليأتي فيروس كورونا ويضرب عصب الاقتصاد العالمي.

وأثبتت حالة الفشل التي أصابت الهياكل الدولية، واستجاباتها المرتبكة، سواء فشل مجلس الأمن في التوصل إلى قرار يوقف العنف، أو تخبط منظمة الصحة العالمية واتهامها بالتستر والانحياز إلى الصين، بالإضافة إلى انغلاق الدول داخل حدودها، أن العولمة ليست فاعلة سوى في أوقات الرخاء، وأنها غير مجدية في زمن الأزمات.

مؤشرات نهاية العولمة:

استشهدت مجلة الإيكونوميست بعدة مؤشرات تؤكد أن العالم متجه نحو “اللاعولمة”، فقد تراجعت حركة الطيران في مطار هيثرو بنسبة 97% على أساس سنوي مثلا، وتراجعت صادرات المكسيك من السيارات بنسبة 90% في نيسان / أبريل، كما تم إلغاء 21% من حمولات السفن العابرة للمحيطات في شهر أيار/ مايو، وفي الأيام العشرة الأولى من مايو، تراجعت صادرات كوريا الجنوبية بـ46% على أساس سنوي. وهو أسوأ تراجع مسجل منذ بدأ جمع البيانات في العام 1967.

ويتوقع، المتشائمون، تراجع تجارة البضائع عالميا بنسبة ما بين 10 إلى 30% هذا العام، وفي ما يتعلق بحركة الأموال فإن بلدانا تمثل 59% من اقتصاد العالم قامت بزيادة القيود على الاستثمارات الأجنبية هذا العام، ولم تسلم حركة الأشخاص أيضاً فبالإضافة إلى منع الانتقال لظروف صحية، تمنع إدارة ترامب الهجرة مؤقتا ولفترة قد تطول. وتنذر أزمة كورونا بتغيير الخارطة الاقتصادية العالمية عن طريق توجه الدول بالاعتماد على نفسها بشكل أكبر.

هل يعني ذلك نهاية قريبة للعولمة؟، ربما ليس كذلك، وعوض ذلك، يتوقع أن يشهد العالم نسخة مختلفة أكثر محدودية من التكامل العالمي عما عرفناه خلال العقود الثلاثة الأخيرة. فالعولمة الإقتصادية ظهر انها رخوة وليست صلبة تناسب الأزمات العالمية، ووفقا لروبن نيبليت، الرئيس والمدير التنفيذي لـ”تشاثام هاوس” المعروف بالمعهد الملكي للشؤون الدولية “فقد أجبر تفشي وباء كورونا الحكومات والشركات والمجتمعات أيضا على تعزيز قدرتها على التعامل مع فترات طويلة من العزلة الاقتصادية الذاتية، ومن المستبعد في ظل كل ما سبق أن يعود العالم إلى فكرة العولمة ذات المنفعة المتبادلة التي طبعت أوائل القرن الحادي والعشرين.

التصويب على نظرية الاعتماد المتبادل:

أصاب الوباء العملية الاقتصادية على مستوى العالم بكافة مراحلها: الإنتاج، والتوزيع، والاستهلاك. كما أن التعقيد المتزايد في شبكة التوزيع والإمداد، التي يرتكز إليها الاقتصاد العالمي، تجعل بنية هذه الشبكة أكثر هشاشة، بعد أن لجأت القوى الكبرى، بعد نهاية الحرب الباردة، إلى هذا التعقيد باعتباره دافعًا للاعتماد المتبادل بين الدول ووسيلة فعالة لمنع الحرب، ونتيجة ذلك فإن قطاعات كبيرة من السلع والمنتجات تقوم على مواد وقطع تُصنَّع في عديد من الدول وليس في دولة واحدة.

غير أن أزمة كورونا ضربت هذا النظام في جميع مفاصله، وانكشفت المخاطر الاقتصادية والأمنية الناتجة عن اعتماد الدول على غيرها في إنتاج حاجاتها الأساسية، وخاصة في قطاعات الغذاء والأدوية، وقد دفع هذا الواقع الجديد، العديد من الدول والشركات إلى إعادة هيكلة خطوط الإمداد الخاصة بها لتجنب الاعتماد الكامل على الموردين الأجانب من خلال البحث عن بدائل أقرب إلى الداخل، وهو اتجاه من المرجح أن يستمر بعد رفع القيود المتعلقة بالوباء.

تقول إليزابيث إيكونومي، وهي زميلة بارزة في مجلس العلاقات الخارجية “كل الدول ستعيد التفكير في مدى رغبة أي منها في الاعتماد على أي دولة أخرى.

ونتيجة لذلك، فقد أعادت ازمة كورونا الدور المركزي للدولة القومية، وبينت مدى قدرتها على التعامل مع الأزمات التي تهدّد أمن الشعوب، في الوقت الذي فشلت فيه الهياكل الإقليمية والدولية في إدارة الأزمة والبحث عن حلول ومخارج لها، وقد برز هذا الأمر بشكل واضح في اوروبا، التي يتوقع أن تنعكس مساوئ إدارى الأزمة على مستقبل اتحادها، وكذا العلاقة بين ضفتي الأطلسي، الولايات المتحدة الامريكية وأوروبا، التي تضرّرت بفعل الأزمة، وثبت أن الطرفين ليس لديهما أليات فعالة لإدارة الأزمات.

خلاصة:

يعتمد الشكل الذي سيظهر عليه العالم ما بعد كورونا على قدرة الفواعل الدولية على إدارة ازمة هذا الوباء واستيعاب الخسائر واحتواء تداعياتها، وعلى طول الفترة التي سيتم التوصل إلى علاج لهذا الوباء.

ومع ذلك، فإن سمات ما بعد الأزمة بدأت بالظهور من خلال خلافات القوى العظمى وتعثر التعاون العالمي وتراجع الدور الأمريكي في العالم، ومع أن هذه السمات كانت موجودة قبل ظهور الوباء، إلا أن الوباء ساهم في تسريع نضوجها بشكل أكبر.

وفق ذلك، ترجح الكثير من القراءات، أن يتطور النظام العالمي إلى الفوضى، وستفقد الولايات المتحدة الأمريكية مكانتها العالمية، بالمقابل، فإن الصين، البديل القيادي العالمي، لن تكون بوضع أفضل يؤهلها لقيادة التفاعلات الدولية في المرحلة المقبلة، التي يرجح أن تشهد حصول ازمة غذاء على مستوى العالم وموجات عنف على خلفية قومية، بالتزامن مع تراجع العولمة إلى أبعد حدود.

ولن تكون المنطقة العربية بمنأى عن هذه التطورات، حيث ان جميع بلدان هذه المنطقة تعتمد بشكل كلي على الخارج لتحقيق امنها الغذائي وحاجاتها التكنلوجية، مقابل تصدير مواد الطاقة التي يبدو أنها أكبر الخاسرين في معمعة كورونا، فضلاً عن انتشار الصراعات والحروب الأهلية في أكثر من مكان، الأمر الذي يضع مستقبل هذه الدول على حافة الخطر في ظل الانهيار الإقتصادي المتوقع في المرحلة المقبلة.

اظهر المزيد

غازي دحمان

كــاتب ســـوري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى