2023العدد 196ملف دولى

   الممر الاقتصادي الجديد بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا…وانعكاسات حرب غزة عليه

شهدت قمة دول مجموعة العشرين، التي عُقدت بتاريخ 9 سبتمبر 2023 في العاصمة الهندية نيودلهي، الإعلان عن اتفاق لإنشاء ممر اقتصادي جديد India Middle East Europe Economic Corridor (IMEC) يضم دولًا عدة ويربط جنوب آسيا والشرق الأوسط وأوروبا. وعلى هامش القمة وقع قادة كل من: الولايات المتحدة، الهند، المملكة العربية السعودية، الإمارات العربية المتحدة، فرنسا، ألمانيا، إيطاليا، والاتحاد الأوروبي على مذكرة التفاهم الخاصة بهذا الممر الاقتصادي الجديد. ويأتي هذا المشروع في إطار”الشراكة من أجل البنية التحتية العالمية والاستثمارPartnership for Global Infrastructure & Investment (PGII)، وهي الشراكة التي أعلنها الرئيس الأمريكي ” جو بايدن” خلال قمة مجموعة السبعة G7 والتي عُقدت في 26 يونيو 2022 في ألمانيا، وتهدف الشراكة إلى التعجيل بالاستثمارات في مشاريع البنية التحتية عالية الجودة وتطوير الممرات الاقتصادية في جميع أنحاء العالم من آسيا مرورًا بإفريقيا إلى نصف الكرة الغربي.

معلومات تفصيلية عن الممر الاقتصادي الجديد وأهدافه:

ذكرت صحيفة ” فايننشال تايمزFinancial Times البريطانية أن مشروع الممر الاقتصادي الجديد قد بدأ في التشكل في أعقاب زيارة الرئيس الأمريكي ” بايدن” إلى جدة بالمملكة العربية السعودية في يوليو 2022، والتي أكد خلالها على الحاجة إلى مزيد من التكامل الاقتصادي الإقليمي. وفي يناير 2023، بدأ البيت الأبيض في إجراء محادثات مع الشركاء الإقليميين بشأن فكرة المشروع، وبحلول الربيع كان العمل جاريًا لصياغة الخرائط والتقييمات الخاصة بالبنية التحتية. وفي هذا الإطار، توجه مستشار الأمن القومي الأمريكي “جيك سوليفان”، وكبار مساعديه في البيت الأبيض إلى السعودية في مايو2023 للالتقاء بنظرائهم في (الهند، والسعودية، والإمارات)؛ حيث عملت جميع الأطراف منذ ذلك الحين على وضع اللمسات الأخيرة الخاصة بالاتفاق الذي تم الإعلان عنه خلال قمة العشرين الأخيرة في نيودلهي.

وينطلق مشروع الممر الجديد من موانئ الهند بحرًا إلي دولة الإمارات، ثم برًا في السعودية عبر خط سكة حديد ومنها عبر خط سكة حديد إلى الأردن وإسرائيل حتى ميناء حيفا، ثم بحرًا وصولًا إلى اليونان ومنها إلى أوروبا برًا، ويتألف المشروع من ممرين منفصلين هما “الممر الشرقي”، والذي يربط الهند مع الخليج العربي، و”الممر الشمالي” الذي يربط الخليج بأوروبا.

 وتتمثل أبرز الأهداف من تطوير الممر الاقتصادي الجديد: 

  • ربط الهند بأوروبا من خلال خطوط السكك الحديدية والموانئ البحرية القائمة عبر (الإمارات، والسعودية، والأردن، وإسرائيل).
  • ربط القارتين (أوروبا، وآسيا) بالمراكز التجارية، والعمل على تعزيز التبادل التجاري وتسهيل مرور البضائع وتحفيز الاستثمارات الجديدة، وتوفير فرص العمل النوعية.
  • تعزيز أمن الطاقة النظيفة وتصديرها، من خلال تيسير عملية نقل الكهرباء المتجددة والهيدروجين الأخضر النظيف عبر كابلات بحرية وخطوط أنابيب.
  • تنمية الاقتصاد الرقمي عبر الربط والنقل الرقمي للبيانات، من خلال كابلات الألياف البصرية، ومن ثم ربط المجتمعات بالإنترنت الآمن والمستقر.

وجدير بالذكر، أنه على الرغم من أن الولايات المتحدة تعد طرفًا رئيسًا في الاتفاق الخاص بالممر الاقتصادي، إلا أنها طرف راعٍ ومستثمر ولا يشملها الممر. ومن جانبها، لم تحدد واشنطن جدولًا زمنيًّا لتنفيذ المشروع، كما لم تقدم أي تفاصيل عن تكلفة المشروع أو تمويله، خاصة وأن جزءًا كبيرًا من البنية التحتية لهذا الممر يعتبر جاهزًا من الناحية العملية في العديد من الدول، ومن المفترض أن يجتمع الموقعون مرة أخرى خلال شهر نوفمبر 2023؛ وذلك للإعلان عن خطة العمل الخاصة بالممر، على أن يتم وضع الخطط موضع التنفيذ خلال عام 2024؛ حتى يتمكن المشروع من الانتقال إلى التنفيذ الفعلي.

وفي ضوء توقيع الأطراف المعنية على مذكرة التفاهم الخاصة بتطوير الممر، صرح الرئيس الأمريكي ” بايدن” بأنها “صفقة كبيرة حقيقية” من شأنها أن تربط الموانئ عبر قارتين وتؤدي إلى ” شرق أوسط أكثر استقرارًا وازدهارًا وتكاملًا ” ، لافتًا إلى أن الممر سيتيح “فرصًا لا نهاية لها” للطاقة النظيفة والكهرباء النظيفة ومد الكابلات لربط المجتمعات .ومن جانبها، وصفت رئيسة المفوضية الأوروبية ” أورسولا فون دير لاين ” الممر الاقتصادي “بالمشروع التاريخي، وأنه جسر أخضر ورقمي عبر القارات والحضارات” مشيرة إلى أن السكك الحديدية “ستجعل التجارة بين الهند وأوروبا أسرع بنسبة 40% ، وأنها ستسهم في تعزيز التجارة في قطاع الطاقة بين آسيا والشرق الأوسط وأوروبا “. كما شدد الرئيس الفرنسي ” إيمانويل ماكرون ” على التزام بلاده بالاستثمار في الممر الاقتصادي الجديد متطلعًا إلى أن يصبح المشروع واقعيًّا “حتى يمكننا من إيجاد مسار تجاري عالمي”.

ومن جانبه، أكد رئيس الوزراء الهندي “ناريندرا مودي” أن الممر سيسهم في تحقيق الترابط بين أنحاء العالم، وأنه سوف يساعد على تحقيق ” التنمية المستدامة للعالم أجمع”. وبالنسبة لرئيس الوزراء الإسرائيلي ” بنيامين نتنياهو” فقد صرح بأن بلاده أصبحت جزءًا من مشروع دولي غير مسبوق عبارة عن ممر اقتصادي يربط بين (آسيا، وأوروبا)، منوهًا بأن إسرائيل ستكون تقاطعًا مركزيًّا في هذا الممر، وأنه مشروع رائد سوف يغير وجه الشرق الأوسط. وفيما يتعلق بولي العهد السعودي الأمير “محمد بن سلمان”، فقد صرح بأن الممر الجديد سوف ” يسهم في تطوير وتأهيل البنى التحتية، وتعزيز التبادل التجاري بين الأطراف المعنية”، كما أضاف بأنه سوف يسهم أيضًا في ضمان أمن إمدادات الطاقة العالمي بالإضافة إلى أهميته في نقل البيانات من خلال شبكة عابرة للحدود ذات كفاءة وموثوقية عالية، داعيًا إلى البدء الفوري في الخطوات اللازمة للتنفيذ.

الدلالات الجيوسياسية للممر الاقتصادي الجديد:

يأتي طرح مشروع الممر الاقتصادي الجديد انطلاقًا من عدة اعتبارات جيوسياسية تتمثل فيما يلي:

أولًا: تقويض مبادرة “الحزام والطريق” الصينية والعمل على إضعاف النفوذ الصيني:

يعد مشروع الممر الاقتصادي الجديد نتاجًا لإستراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية في منطقة المحيطين (الهندي، والهادئ)؛ إذ تسعى واشنطن من خلال مشروعها الجديد إلى تقويض مبادرة ” الحزام والطريق”، وعرقلة تنفيذها من خلال طرح مشروع بديل يساعدها على إضعاف النفوذ الصيني المتزايد في العالم بما في ذلك منطقة الشرق الأوسط. وفي هذا السياق، أشارت مجلة ” نيوزويكNewsweek الأمريكية أن مبادرة “الحزام والطريق” الصينية تساهم في تعزيز النفوذ الجيوسياسي للصين في جميع أنحاء (آسيا، وإفريقيا، وأوروبا)، مما يؤدي إلى إضعاف النفوذ الأمريكي في هذه المناطق، خاصة في ظل ما لاقته المبادرة الصينية من دعم واسع من قبل دول الشرق الأوسط. وأضافت المجلة الأمريكية أن مشروع الممر الاقتصادي الجديد بين (الهند، والشرق الأوسط، وأوروبا) يعد “خطوة تاريخية لمواجهة نفوذ الصين المتزايد ولتطوير البنية التحتية على مستوى العالم”.

ثانيًا: محاولة الولايات المتحدة استعادة حلفائها في الشرق الأوسط: 

في ضوء نجاح الوسطة الصينية في إبرام اتفاق تطبيع العلاقات بين كل من (السعودية، وإيران)، سعت الولايات المتحدة في ظل ما لمسته من خروج حلفائها السابقين عن نطاق السيطرة بشكل متزايد إلى استعادة حلفائها السابقين والعمل على احتواء كل من (السعودية، والإمارات) بعد انضمامهما إلى “مجموعة بريكس” الدولية. كما جاء الطرح الأمريكي لمشروع الممر الاقتصادي الجديد استجابة للتوصيات التي تبنتها العديد من مراكز الفكر والدراسات الإستراتيجية الأمريكية بضرورة وحتمية عودة الولايات المتحدة إلى منطقة الشرق الأوسط وإعادة تركيز اهتمامها على المنطقة لطمأنه شركائها والحفاظ على نفوذها في المنطقة. وفي هذا الإطار، أوصى معهد ” أمريكان إنتربرايز” بأن تكون العودة عبر إستراتيجية شاملة تشمل مبادرات ترمي إلى دعم العديد من الشركاء في المنطقة في مجالات مشاريع البنية التحتية، والاستثمار، وتعزيز التجارة.

ثالثًا: العمل على إتمام صفقة التطبيع الكبرى بين السعودية وإسرائيل:

يعجل مشروع الممر الاقتصادي الجديد سياسيًّا من مسألة تطبيع العلاقات بين (الرياض، وتل أبيب)، وذلك بالتزامن مع الجهود الحثيثة التي تبذلها واشنطن لإقامة تفاهم بين (المملكة العربية السعودية، وإسرائيل)، وذلك في أعقاب توقيع ” اتفاقات أبراهام” الهامة خلال عام 2022 بين إسرائيل وكلٍ من: الإمارات العربية المتحدة، والبحرين، والمغرب، والسودان. وقد أفضت هذه الاتفاقيات في مجملها إلى تعزيز القبول الإقليمي لإسرائيل في المنطقة، فضلًا عن تعزيز العلاقات الثنائية في مختلف المجالات (السياسية، والاقتصادية، والتجارية، والعسكرية، والثقافية).

رابعًا: التقليل من الاعتماد الأوروبي المفرط على مصادر الإمداد الصينية:

سعى الإتحاد الأوروبي منذ فترة طويلة بالتنسيق مع الولايات المتحدة إلى إيجاد مشروع منافس اقتصاديًّا لمبادرة ” الحزام والطريق” الصينية، والتي يرون فيها زيادة للنفوذ الصيني، وقد تمثل ناقوس الخطر في هذا الشأن في انضمام إيطاليا إلى المبادرة الصينية في عام 2019. وعليه، فقد جاء الطرح الأمريكي لمشروع الممر الاقتصادي الجديد؛ ليسهم في تقليل الاعتماد الأوروبي المفرط على مصادر الإمداد الصينية وطرق التجارة التي تسيطر عليها بكين. وجدير بالذكر، أنه في إطار الجهود المبذولة من قبل الاتحاد الأوروبي لتعميق علاقاته التجارية والاستثمارية مع دول الخليج، تم تخصيص نحو 300 مليار يورو لإنفاقهم على استثمارات البنية التحتية في الخارج من عام 2021 إلى عام 2027، وذلك من خلال ما أطلقه الاتحاد الأوروبي من مشروع ” البوابة العالمية”، والذي يعد منافسًا لمبادرة “الحزام والطريق” الصينية بالإضافة إلى إسهامه في الدفاع عن المصالح الأوروبية مع الشركاء التجاريين الرئيسين.

خامسًا: مساعي الهند للحصول على مزايا إستراتيجية واقتصادية:

تعد الهند من أكثر الدول التي سوف تستفيد بشكل كبير من مشروع الممر الجديد؛ نظرًا لأنه سوف يضعها في قلب حركة التجارة المارة من جنوب شرق آسيا إلى الشرق الأوسط وأوروبا، ومن المرجح أيضًا أن يمنحها الممر الجديد مزايا إستراتيجية واقتصادية لعل أبرزها: دعم مشاريع البنية التحتية فيها، وتسهيل حركة النقل السريع للبضائع بين (الهند، والخليج، والشرق الأوسط، وأوروبا) بما يتجاوز المناطق المضطربة في كل من (باكستان، وأفغانستان).

سادسًا: توافق المشروع مع أهداف الرياض الإستراتيجية والاقتصادية:

يتوافق مشروع الممر الجديد- بما يحمل معه من إمكانات تعزيز مشاريع البنية التحتية والاستثمارات والتجارة البينية بشكل كبير- مع الخطة السعودية للتنويع الاقتصادي وعدم الاكتفاء بالاعتماد على إيرادات النفط، وتسعى الرياض إلى أن يكون لها دور قيادي في هذا المشروع؛ إذ تطمح من خلاله إلى تعزيز زعامتها ودورها الريادي في منطقة الشرق الأوسط، ومن ثم فقد سعت إلى الترويج لنفسها باعتبارها ملتقى القارات. وفي هذا الإطار، كان ولي العهد السعودي ” محمد بن سلمان ” قد صرح بأنه يطمح إلى ” تحويل الشرق الأوسط إلى أوروبا جديدة”.

الممر الاقتصادي الجديد ومدى تأثيره على قناة السويس:

أثار مشروع الممر الاقتصادي الجديد جدلًا واسعًا حول جدواه ومدى تأثيره على قناة السويس، وذلك عبر وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة في العديد من الدول العربية؛ حيث اعتبره البعض” بمثابة ضربة قاصمة لقناة السويس”. من ناحية أخرى، رأى فريق من الخبراء والمتخصصين أنه من المستبعد أن يؤثر هذا الممر الاقتصادي على حركة التجارة العالمية التي يمر 12% منها عبر قناة السويس، وقد استند هؤلاء الخبراء في رأيهم إلى العديد من الاعتبارات والأسباب:

  • انخفاض تكلفة النقل البحري مقارنة بالبري، وزيادة حجم البضائع المنقولة عبر السفن والحاويات البحرية مقارنة بوسائل النقل الأخرى.
  • أن المرور عبر قناة السويس لا يحتاج إلى أعمال شحن وتفريغ للحمولات التي تحملها السفن أكثر من مرة، بل تظل كما هي دون المساس بها لحين الوصول إلى الميناء المستهدف، مما يمنع حدوث أي تلفيات.
  • يعطي موقع مصر الإستراتيجي ميزة تنافسية لقناة السويس، حيث يربط بين (أوروبا، وآسيا، وإفريقيا).
  • سهولة عملية الانتقال عبر قناة السويس بعد افتتاح القناة الجديدة.
  • تمتع قناة السويس بالأمن والاستقرار، فضلًا عن الخبرات المكتسبة لدى موظفي القناة عبر سنوات طوال من العمل، بينما يمر الممر الجديد عبر مناطق فيها توترات وصراعات.

واستنادًا إلى الاعتبارات السابقة، يرى فريق الخبراء أن المشروع الجديد سيكون إضافة وداعمًا لقناة السويس؛ نظرًا لزيادة حجم التجارة الدولية التي ستمر عبر القناة بشكل سنوي.

أبرز التحديات والعراقيل:

على الرغم مما يوفره الممر الاقتصادي الجديد من فرص كبيرة لتعزيز حجم التجارة العالمية والاستثمارات ومشروعات البنية التحتية، فضلًا عن إسهامه في تعزيز أمن الطاقة، إلا أنه من المرجح أنه سيواجه العديد من التحديات لعل أبرزها ما يلي:

أولًا: التعامل مع الجغرافيا السياسية المعقدة للمناطق التي يتم اجتيازها:

يمر الممر الجديد عبر عدة دول ذات ديناميكيات سياسية متنوعة ناهيك عما تشهده بعض المناطق التي يجتازها من توترات وصراعات، ومن المحتمل أن تعيق هذه التوترات السياسية التعاون والاتصال السلس بين البلدان المعنية، ومن أمثلة هذه التوترات الجيوسياسية: النزاع الهندي الباكستاني، والصراعات المستمرة في كل من (سوريا، واليمن، ولبنان)، وتعد الحرب الدائرة في الوقت الراهن بين المقاومة الإسلامية الفلسطينية “حماس” وإسرائيل في قطاع غزة نموذجًا لهذه التوترات، التي قد تعرقل تنفيذ المشروع، كما أن الأطر السياسية والأنظمة القانونية المتنوعة التي تحكم الدول المعنية بالممر قد تخلق عقبات وحواجز بيروقراطية مما قد يؤدي إلى تباطؤ تنفيذ المشروع.

ثانيًا: التحديات اللوجستية المرتبطة بإنشاء الممر:

يشمل مشروع الممر الاقتصادي الجديد منطقة جغرافية واسعة، ويغطي مسافات شاسعة وتضاريس جغرافية متنوعة وقدرات بنية تحتية مختلفة، الأمر الذي يفرض تحديات لوجستية كبيرة مثل: الإجراءات الجمركية، أنظمة الحدود، تأخير النقل، …وغيرها من التحديات والتي يلزم معالجتها لضمان التدفقات التجارية السلسة ومنع الاختناقات.

ثالثًا: المنافسة الاقتصادية من قبل الصين:

يمثل الممر الاقتصادي الجديد تقويضًا لمبادرة “الحزام والطريق” الصينية، ومن ثم   فإنه من الأهمية الأخذ في الاعتبار المنافسة الاقتصادية المتوقع حدوثها من قبل الصين؛ حيث من المرجح أن تسعى بكين إلى تحويل التجارة والاستثمارات نحو ممراتها الخاصة، الأمر الذي قد يعيق تنفيذ المشروع، كما أن المنافسات التجارية بين كل من (بكين، وواشنطن) قد تؤدي إلى تضارب مصالحهما مما قد ينذر ببوادر صراع على النفوذ بينهما، الأمر الذي ينعكس في مجمله سلبًا على المشروع الأمريكي الطموح. وفي هذا السياق، ذكرت مجلة ” نيوزويك Newsweek ” الأمريكية أن الصين قد تفاجأت بمشروع الممر الاقتصادي الجديد الذي طرحته الولايات المتحدة واصفة المشروع ” بالتحدي التاريخي” لمبادرة ” الحزام والطريق” الصينية.

رابعًا: التهديدات الإيرانية:

لا شك أن موقع إيران الجغرافي على مفترق الطرق بين (الشرق الأوسط، وآسيا) يمنحها نفوذًا كبيرًا في المنطقة، كما أن قربها من مضيق هرمز، وهو طريق الاتصال الأساسي الأول بين (الهند، والإمارات) يمثل تهديدًا واضحًا لمشروع الممر الجديد، ويرجع ذلك إلى أن أي إجراءات تخريبية من جانب إيران أو وكلائها في المنطقة، مثل: التهديد بإغلاق المضيق، قد تهدد سلامة وأمن الممر الجديد، وقد تؤثر بشدة على نقل البضائع والطاقة عبر الممر، مما قد يؤدي بالتالي إلى إعاقة عمله بسلاسة، كما أن الدعم الإيراني للأنشطة غير النظامية التخريبية التي تقوم بها الجماعات المسلحة المختلفة في جميع أنحاء الشرق الأوسط يثير قلقًا دوليًّا؛ إذ يمكن لهذه الأنشطة أن تهدد أمن الممر الجديد.

خامسًا: غياب تركيا عن الممر واحتمالات قيامها بوضع العراقيل:

تعد تركيا مركز عبور رئيس بين قارتي (آسيا، وأوروبا)، كما أنها تمثل قوة إقليمية هامة في منطقة الشرق الأوسط، لديها دوافعها الخاصة في الحفاظ على موقعها الإستراتيجي وحماية مصالحها الاقتصادية ونفوذها الجيوسياسي. وعليه، فإن غيابها عن مشروع الممر الاقتصادي الجديد قد يدفعها إلى وضع العراقيل والمعوقات في طريق تنفيذه. وفي هذا الإطار، كان الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” قد أبدى اعتراضه في هذا الخصوص، حينما صرح ” بأنه لا يوجد ممر بدون تركيا “؛ لأنها ” قاعدة إنتاجية وتجارية مهمة “، وأنها تعد ” الخط الأكثر ملاءمة لحركة المرور من الشرق إلى الغرب”.

سادسًا: تأمين التمويل الكافي للمشروع:

تتطلب عادة مشاريع البنية التحتية واسعة النطاق موارد مالية كبيرة، كما أن جذب الاستثمارات الضخمة يستوجب وجود إطار مالي قوي يربط جميع الدول المعنية بالممر، كما أن التأخير في تمويل أي من مشاريع البنية التحتية في أي من الدول المشاركة فيه سيؤثر بلا أدنى شك على التقدم العام للمشروع. ويثير العديد من المراقبين السياسيين تساؤلات حول مدى توفر الموارد المالية اللازمة لتنفيذ المشروع، خاصة وأن مذكرة التفاهم الذي تم توقيعها من قبل الدول المعنية- خلال قمة دول مجموعة العشرين- هي مازالت مجرد إعلان نوايا، وأنه لا يوجد حتى الآن أي التزام على أي شريك باتخاذ إجراءات تجاه تنفيذ المشروع.

انعكاسات الحرب الدائرة في غزة على مشروع الممر الاقتصادي الجديد:

لا مراء أن الحرب الدائرة في الوقت الراهن في قطاع غزة، والتي اندلعت بتاريخ 7 أكتوبر 2023 بين المقاومة الإسلامية الفلسطينية “حماس” وإسرائيل، قد ألقت بظلالها على مشروع الممر الاقتصادي الجديد. وفي هذا الإطار، ذكرت صحيفة ” فويس أوف أمريكا Voice of America الأمريكية أنه في ظل تصاعد الحرب في غزة واتساع نطاقها وما تمخض عنها من حيث ما تشهده المنطقة من عدم الاستقرار، فقد أضحت هذه الحرب بمثابة ” المختبر الحقيقي” لمدى إمكانية تنفيذ الممر الجديد، بالإضافة إلى كونها جرس إنذار لحجم التحديات والمعوقات التي من المرجح أن يواجهها المشروع ومدى صعوبة تنفيذه من الناحية العملية. كما أضافت الصحيفة الأمريكية أنه في ضوء التغيرات التي طرأت على الديناميكيات الجيوسياسية في المنطقة، فقد صار مستقبل المشروع يشوبه كثير من الغموض وعدم الوضوح؛ حيث لم يعد من المؤكد مدى إمكانية تنفيذه، فقد كشفت الحرب الدائرة في غزة عن حجم التحديات التي من المرجح أن يواجهها الممر، والتي لا تتعلق بالتمويل فحسب بل تشمل أيضًا اعتبارات تتعلق بـ(الأمن، والاستقرار، والتعاون الدبلوماسي)، وهي اعتبارات من الصعب ضمانها.

وفي هذا السياق، يرى عدد من المراقبين السياسيين أنه من السابق للأوان الجزم بأن مشروع الممر الاقتصادي الجديد سيكون بمثابة “ضحية” للحرب الدائرة في غزة، وأنه من المرجح أن التنفيذ العملي للممر سيتوقف بشكل مؤقت؛ وذلك في ضوء حالة عدم الاستقرار التي تشهدها إسرائيل مؤخرًا، بما في ذلك تزايد معدلات الغضب والسخط لدى الرأي العام في العديد من البلدان العربية، وفي إسرائيل، بل وأيضًا في العديد من العواصم الأوروبية. ويدلل المراقبون السياسيون على مدى انعكاس الأحداث الجارية في غزة بشكل سلبي على مشروع الممر الاقتصادي الجديد من خلال عدة مؤشرات لعل أهمها ما كشفته عدة تقارير سعودية من حيث توقف المباحثات الخاصة بصفقة التطبيع الكبرى بين (الرياض، وتل أبيب) بشكل مؤقت. إلى جانب ذلك، فقد لوحظ قيام كل من (البحرين، والإمارات) – والتي قامت كل منهما بتطبيع علاقاتها مع إسرائيل في 2020 بموجب اتفاقات أبراهام- بتبني بيانات شديدة اللهجة ضد إسرائيل وداعميها من الدول الغربية، والتي تم إصدارها من قبل كل من: مجلس التعاون الخليجي، ومنظمة التعاون الإسلامي. فضلًا عن قيام البحرين بسحب سفيرها من تل أبيب وقطع علاقاتها الاقتصادية مع إسرائيل، الأمر الذي عكس في مجمله مدى تأثير الحرب الدائرة على عملية تطبيع العلاقات مع إسرائيل، وعلى العديد من الدول المعنية بالممر الاقتصادي الجديد، وبصفة خاصة كل من (الإمارات، والسعودية). كما أن حالة الغضب العام والمظاهرات التي شهدتها إسرائيل من جراء هذه الحرب قد دللت أيضًا على أن الرأي العام في إسرائيل ليس مهيأً في الوقت الراهن لمزيد من الاندماج الاقتصادي والسياسي مع الدول العربية الداعمة للقضية الفلسطينية.

خلاصة القول، إنه من المرجح أن المحصلة النهائية للحرب الدائرة في غزة سوف تلقي بظلالها على إيقاع ووتيرة تنفيذ المشروع، إلا أنه من المستبعد أن يكون للحرب تأثيرها المباشر على جدوى المشروع وقيمته؛ حيث تحتفظ شعوب المنطقة بالعديد من الاعتبارات والدوافع الاقتصادية والسياسية التي تجعلها تتمسك بمثل هذا المشروع الإستراتيجي الطموح.

رؤية مستقبلية:

لا مراء أن الولايات المتحدة قد أضحت تسعى إلى إعادة ترتيب أوراقها لمواجهة التوسع الهائل في الاقتصاد الصيني والنفوذ المتزايد لبكين في المنطقة، ومن ثم فإن الطرح الأمريكي الأخير الخاص بالممر الاقتصادي الجديد ما هو إلا محاولة لإعادة ترتيب الأوراق لمنع دول منطقة الشرق الأوسط ذات الأهمية الاقتصادية من التوجه نحو آسيا، خاصة وأن الصين تعد أكبر شريك تجاري للدول العربية. وعليه، فمن المرجح أن يمثل الممر الجديد نقطة تحول هائلة ونقلة اقتصادية نوعية عابرة للقارات مما ينبئ بأن الشرق الأوسط لن يكون كما كان بل سيتغير ويصبح شرق أوسط جديد، حيث سيكون ساحة للتعاون بين الحضارات، خاصة إذا نجحت دول المنطقة أن تنأى بنفسها عن الصراعات الجيوسياسية بين القوي العالمية المتصارعة على النفوذ والهيمنة.

 وتجدر الإشارة في النهاية إلى أنه على الرغم من أهمية الممر في توفير إمدادات الطاقة العالمية وتعزيز التكامل الاقتصادي والتجاري والاستثمارات -والاهتمام الأمريكي بتعزيز فرص نجاح المشروع – إلا أن بعض المراقبين السياسيين يرجحون مواجهة الممر للعديد من التحديات الأمنية، التي قد تعرقل أو تؤخر تنفيذه.  

اظهر المزيد

سامية بيبرس

وزير مفوض- الامانة العامة لجامعة الدول العربية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى