2024العدد 197ملف إقليمي

  أزمة البحر الأحمر…. دلالاتها وتداعياتها الإقليمية والدولية

شهدت مياه البحر الأحمر في الفترة الأخيرة توترات متزايدة وتصعيدًا عسكريًّا غير مسبوق، وذلك مع دخول جماعة أنصار الله الحوثية المتمردة في اليمن على خط الحرب التي تشنها إسرائيل على حركة حماس في قطاع غزة. فمنذ شهر أكتوبر 2023، بدأ الحوثيون عملياتهم العسكرية في البحر الأحمر، عندما أعلنوا انخراطهم في الحرب ضد إسرائيل “انتصارًا للمظلومية التاريخية للشعب الفلسطيني”، وتعهدوا في ظل تصاعد العنف الإسرائيلي في غزة بمواصلة استهداف السفن الإسرائيلية التي تمر عبر البحر الأحمر عند مضيق باب المندب؛ وذلك حتى يتوقف العدوان على غزة. ومن ناحية أخرى، لم تقتصر التهديدات التي تواجهها حركة التجارة في البحر الأحمر على الهجمات العسكرية التي تشنها جماعة الحوثيين، وإنما امتدت أيضًا إلى عمليات القرصنة التي تجددت بشكل لافت في المنطقة الواقعة قبالة سواحل الصومال.

الأهمية الإستراتيجية لممرات البحر الأحمر:

يتمتع البحر الأحمر، والذي يربطه مضيق باب المندب من الجنوب بالمحيط الهندي وبحر العرب وتربطه قناة السويس شمالًا بالبحر المتوسط، بأهمية اقتصادية كبيرة؛ إذ يُعد شريانًا حيويًّا للتجارة والاقتصاد العالميين، ويمر نحو 12% من إجمالي التجارة العالمية عبر القناة، كما يمر بها نحو 10% من تجارة النفط، ونحو 8% من تجارة الغاز المسال، كما تعد ممرات البحر الأحمر وسيلة هامة لنقل النفط والغاز من الخليج إلى أوروبا والولايات المتحدة؛ إذ يمر أكثر من خمسة ملايين ونصف مليون إلى ستة ملايين برميل نفط يوميًّا عبر مضيق باب المندب وقناة السويس إلى أوروبا والولايات المتحدة. فعلى سبيل المثال: تنقل إلى أوروبا عبر ممرات البحر الأحمر نحو 60% من احتياجاتها من الطاقة، بينما تنقل من خلالها نحو 25% من احتياجات النفط إلى الولايات المتحدة.

كما يتميز البحر الأحمر أيضًا بأهمية عسكرية وأمنية؛ إذ يعتبر ممرًا إستراتيجيًّا لحركة الأساطيل الحربية بين: البحر المتوسط، والمحيط الهندي، وإفريقيا، وصولًا إلى الصين، واليابان، والمحيط الهادي. ونظرًا لهذه الأهمية المركبة فقد أصبح البحر الأحمر محل صراع إقليمي ودولي؛ إذ حرصت القوى الدولية الكبري على أن يكون لها موطئ قدم ومناطق نفوذ عسكرية وسياسية فيه، وأصبح مركزًا للقواعد العسكرية الأجنبية وموضع احتشاد للقوات العسكرية الدولية.

أولًا: التصعيد العسكري للحوثيين في البحر الأحمر:

تأسست جماعة أنصار الله الحوثية على أيديولوجية ترتكز على المقاومة ضد ” قوى الاستكبار أو قوى الإمبريالية “، أي الولايات المتحدة وإسرائيل، وتبنت في خطابها الحث على تحرير المسجد الأقصى. وفي ظل تصاعد العنف الإسرائيلي في قطاع غزة، أعلن زعيم جماعة أنصار الله الحوثية “عبد الملك الحوثي”: “أن عيون الجماعة مفتوحة لرصد أي سفن تعود ملكيتها أو تشغلها شركات إسرائيلية”. ومنذ أكتوبر 2023، صعد الحوثيون من هجماتهم العسكرية قبالة السواحل اليمنية في البحر الأحمر؛ وذلك لمنع السفن من الوصول إلى الموانئ الإسرائيلية. وتتمثل أبرز حوادث استهداف السفن الإسرائيلية في مضيق باب المندب فيما يلي:

  • في 19 نوفمبر 2023، هاجم الحوثيون عدة سفن بالقرب من باب المندب وصادروا سفينة “جالاكسي ليدر Galaxy Leader “، والتي زعموا أن ملكيتها تعود لرجل أعمال إسرائيلي، ولاتزال السفينة وطاقمها المكون من 25 شخصًا محتجزين في اليمن.
  • وفي 25 نوفمبر 2023، هاجمت مسيرة يمنية سفينة ” كلاندار” المملوكة لشركة “زيم” الإسرائيلية.
  • وفي 3 ديسمبر 2023، هاجمت جماعة الحوثيين بطائرة مسيرة مسلحة وصاروخ بحري سفينتين إسرائيليتين هما “غبرناين، ويونتي إكسبلورر”، ومنعتهما من المرور من مضيق باب المندب.

وفي تصعيد جديد، أعلنت جماعة الحوثي في 9 ديسمبر 2023 توسيع نطاق عملياتها العسكرية ليشمل منع مرور كافة السفن المتجهة إلى إسرائيل، بغض النظر عن جنسيتها، وذلك إذا لم يتم إدخال الغذاء والدواء الذي يحتاجه قطاع غزة.  وفي وقت لاحق، أعلن الحوثيون شن هجمات جديدة ضد إسرائيل متمثلة في إطلاق دفعة من الصواريخ الباليستية، والتي استهدفت منطقة ” إيلات” جنوبي إسرائيل.

وقد عكس التصعيد العسكري من قبل الحوثيين في البحر الأحمر مساعيهم الجادة لممارسة الضغوط على كل من (إسرائيل، والولايات المتحدة) لوقف الحرب الدائرة في قطاع غزة في إطار دعمهم للقضية الفلسطينية، بما في ذلك تعزيز دورهم داخل ” محور المقاومة ” المتحالف مع إيران. ناهيك عما يضفيه هذا التصعيد من نفوذ إقليمي للحوثيين، ويسهم في استعادة شعبيتهم المتضائلة وتعزيز سمعتهم لدى الشعب اليمني ولدى الشعوب العربية والإسلامية على حد سواء، كما تعد هذه الهجمات أيضًا جزءً من إستراتيجية الحوثيين لتعزيز سلطتهم السياسية في اليمن -خاصة في ظل المفاوضات الأخيرة الجارية مع المملكة العربية السعودية لإنهاء الحرب اليمنية.

الدور الإيراني الداعم للحوثيين:

تدخل الهجمات العسكرية، التي شنها الحوثيون قبالة السواحل اليمنية في البحر الأحمر، ضمن قائمة المناطق التي يدور فيها الصراع بالوكالة بين إيران من ناحية وكل من (إسرائيل، والولايات المتحدة) من ناحية أخرى. ومن جانبها، نفت جماعة الحوثيين المسلحة أن تكون الهجمات التي تشنها في البحر الأحمر بإيعاز من إيران، كما نفت طهران أيضًا وجود أدنى تنسيق بينها وبين الحوثيين، الأمر الذي ينسجم مع النهج التقليدي الذي تتبعه إيران مع وكلائها وأذرعها في المنطقة، والذي يرتكز على تجنب إظهار أي دور مباشر لها في رسم التحركات العسكرية لوكلائها.

من ناحية أخرى ووفقًا لما أوردته الصحيفة الأمريكية ” وول ستريت جورنال Wall Street Journal“، اتهم مسؤولون أمنيون غربيون القوات شبه العسكرية الإيرانية بتقديم المعلومات الاستخباراتية وتوفير الأسلحة بما في ذلك (الطائرات بدون طيار والصواريخ، والتقنيات اللازمة) للحوثيين؛ وذلك لاستخدامها في استهداف السفن التي تمر عبر مضيق باب المندب في البحر الأحمر، كما اتهموا إيران أيضًا باستخدام سفينة تجسس ومراقبة متمركزة في البحر الأحمر بمساعدة الحوثيين من خلال تزويدهم بمعلومات التتبع لمهاجمة السفن التجارية. ويأتي الدعم الإيراني للحوثيين في مهاجمة سفن البحر الأحمر في إطار استعراض طهران لقوتها الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط، بما في ذلك إعلانها مؤخرًا عن تشكيل “قوة تعبئة بحرية “، أو ما يسمى “الباسيج البحري”، والمكونة من 55 ألف عنصر في إطار ” قوة حشد بحري” يتم استخدامه في أوقات الحرب والسلم. كما سعت إيران أيضًا إلى تطوير قدراتها العسكرية وتحقيق قفزات في هذه القدرات، خاصة في ظل تزايد مخاوفها من تنامي الوجود العسكري الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط.

 التحالف العسكري الدولي بقيادة الولايات المتحدة ضد الحوثيين:

في ظل مواصلة الحوثيين استهدافهم للأراضي والسفن الإسرائيلية في البحر الأحمر، سعت الولايات المتحدة في البداية إلى تجنب المواجهة المباشرة معهم، وعملت مع حلفائها على تكثيف وجودها العسكري في المنطقة. وفي هذا الإطار، أعلن البنتاغون عن نقل حاملة الطائرات “يو إس إس دوايت دي أيزنهاور” إلى خليج عدن قبالة سواحل اليمن لدعم الرد الأمريكي على الهجمات. وفي وقت لاحق ونظرًا لتزايد هجمات الحوثيين، أعلنت واشنطن على لسان وزير الدفاع فيها ” لويد أوستن” عن تشكيل تحالف عسكري دولي أو قوة حماية بحرية متعددة الجنسيات تحت قيادتها تحت مسمى “حارس الازدهار”، والذي ضم كلًّا من: المملكة المتحدة، كندا، فرنسا، إيطاليا، هولندا، النرويج، سيشل، إسبانيا، البحرين.  وفيما يتعلق بالأهداف المعلنة لهذا التحالف، فقد تمثلت في ضمان حرية الملاحة في البحر الأحمر وحمايته من هجمات الحوثيين. من ناحية أخرى، يرى العديد من المراقبين السياسيين أن الأهداف غير المعلنة لهذا التحالف قد تمثلت في مساعي واشنطن الحثيثة لعسكرة البحر الأحمر وجعله منطقة نفوذ لها، هذا بالإضافة إلى وجود رغبة أمريكية وبريطانية في التواجد في باب المندب، ورغبتهما في إضعاف ومحاصرة النفوذين (الصيني، والروسي) في هذه المنطقة.

وتجدر الإشارة إلى أن تزايد هجمات الحوثيين وتداعياتها السلبية على حركة التجارة العالمية قد دفع كبار مسؤولي الأمن القومي الأمريكي إلى تغيير حساباتهم والتلويح بإمكانية شن ضربات مباشرة على أهداف عسكرية حوثية. وعليه، وعقب توجيه تحذيرات متكررة للحوثيين شنت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة في 12 يناير 2024، بدعم من (أستراليا، والبحرين، وكندا، وهولندا) سلسلة من الضربات العسكرية ضد أهداف للحوثيين في اليمن، بما في ذلك: الطائرات المسيرة، والصواريخ الباليستية، وصواريخ كروز، وأجهزة الرادارات الساحلية، والاستطلاع الجوي، ومستودعات الأسلحة وأنظمة الإطلاق في عدة محافظات يمنية، وذلك بهدف إضعاف وتعطيل القدرات العسكرية للجماعة. وقد استهدفت الضربات قاعدة عسكرية جوية ” الديلمي” في محيط مطار العاصمة صنعاء، وموقعًا عسكريًّا قرب مطار تعز، وقاعدة بحرية تابعة للحوثيين في الحديدة، ومواقع عسكرية في محافظتي (حجة، وصعدة). من ناحية أخرى، توعَّد الحوثيون بالرد الحازم والفعَّال على الضربات العسكرية الموجهة من قبل التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة مشيرين إلى أن الضربات ” لم يكن لها تأثير يذكر في سياق الحد من القدرات اليمنية”. وعليه ففي31 يناير 2024، أطلق الحوثيون عدة صواريخ على مدمرة أمريكية في الوقت الذي تعهدت فيه الولايات المتحدة بالرد، الأمر الذي أدى إلى إطالة أمد الأزمة وتحويل البحر الأحمر إلى ساحة لعمليات الانتقام والانتقام المضاد.

موقف الاتحاد الأوروبي:

 أعلن الاتحاد الأوروبي أنه بصدد إرسال قوة بحرية أوروبية للمساعدة على حماية السفن في البحر الأحمر من هجمات الحوثيين. وبالفعل في 19 فبراير 2024، قام الاتحاد الأوروبي بإطلاق القوة البحرية “أسبيدس”، وهي بعثة بحرية جديدة للاتحاد الأوروبي للتصدي لما يشهده البحر الأحمر من اضطرابات متنامية، وتأتي بعثة “أسبيدس” في إطار استكمال عملية “حارس الازدهار” الحالية التي تقودها الولايات المتحدة، ولا تسعى البعثة البحرية الجديدة للاتحاد الأوروبي إلى معالجة الأزمة الحالية فحسب، بل تسعى أيضًا إلى تعزيز الإستراتيجية البحرية طويلة الأمد للاتحاد الأوروبي في منطقة شمال غرب المحيط الهندي، والتي تعد من أولوياتها التي تم تصنيفها من قبل الاتحاد على أنها “منطقة بحرية ذات أهمية”. وتقتضي مهمة “أسبيدس” تعزيز الردع في منطقة البحر الأحمر وحماية السفن التجارية من هجمات الحوثيين، وتشير التقارير إلى استقبال اليونان البعثة التي تقودها، إلى جانب مشاركة كل من (فرنسا، وألمانيا، وإيطاليا). وتتبنى بعثة “أسبيدس” سياسة خفض التصعيد وحرية الملاحة باضطلاعها بدور دفاعي، الأمر الذي يعكس الحذر الأوروبي من التصعيد في المنطقة، إلا أن هذا الحذر لا يستبعد استخدام القوة، ومن ثم سيتعين على البعثة الحفاظ على التوازن الدقيق بين هدفها المتمثل في عدم التصعيد والاستخدام المحتمل للقوة.

الموقف الصيني:

تمثلت ردود الأفعال الصينية تجاه أزمة البحر الأحمر في التزام بكين الصمت إزاء هجمات الحوثيين، ورفضها المشاركة في التحالف الدولي الذي شكلته الولايات المتحدة لمواجهة هذه الهجمات، كما انتقدت الصين العمليات العسكرية التي يشنها التحالف الدولي في اليمن ووصفتها بأنها بمنزلة “صب الزيت على النار”، كما دعت بكين أيضًا إلى وضع حد للهجمات على السفن المدنية، منبهةً بأن البحر الأحمر طريق تجاري دولي مهم للسلع والطاقة وأن الحفاظ على أمن واستقرار المنطقة يخدم المصلحة المشتركة للمجتمع الدولي. وفي وقت لاحق، صعد المسؤولون الصينيون من لهجتهم محذرين من تضرر مصالحهم بأي شكل من الأشكال، ومطالبين بضرورة ضبط النفس. وفي ضوء فشل التحالف الدولي في وقف هجمات الحوثيين ونظرًا للعلاقات القوية التي تربط إيران بالصين، فقد طلبت الولايات المتحدة من الصين استخدام نفوذها لدى إيران بهدف وقف هجمات الحوثيين المدعومين من طهران، حيث أثار مستشار الأمن القومي في البيت الأبيض “جيك سوليفان” هذا الأمر خلال مباحثات أجراها في بانكوك مع وزير الخارجية الصيني “وانغ يي”. وعليه، فقد طلب المسؤولون الصينيون من نظرائهم الإيرانيين التدخل لوقف الهجمات التي يشنها الحوثيون وإلا فإن العلاقات بين بكين وطهران قد تتضرر في حالة عدم الاستجابة لهذه المطالب. وفي هذا السياق، يرى العديد من المراقبين السياسيين أنه إذا كانت بكين قد ناقشت الأوضاع في البحر الأحمر مع طهران، إلا أنه من المستبعد أن تمارس بكين ضغوطًا على طهران في هذا الشأن؛ حيث يرى الصينيون أن هجمات الحوثيين على السفن في البحر الأحمر هي نتيجة طبيعية للحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وبالتالي فإن إيقاف هجمات الحوثيين مرتبط بوقف إسرائيل هجماتها على القطاع، والتي يتعين على واشنطن بدورها أن تمارس ضغوطها على تل أبيب لوقف إطلاق النار في غزة.  

التداعيات الإقليمية والدولية:

ذكرت مجلة ” الإيكونومستThe Economist البريطانية أن التصعيد العسكري في منطقة البحر الأحمر وباب المندب قد أدت إلى ” تحويل عمليات الشحن العالمية إلى وضع الطوارئ”، وذلك من جراء الهجمات، مشيرة إلى تداعياتها الخطيرة على الاقتصاد العالمي وعلى دول إقليمية، إلى جانب تزايد المخاوف من نشوب صراع إقليمي أوسع نطاقًا في المنطقة. ففي ظل التصعيد العسكري للحوثيين في البحر الأحمر، قررت العديد من شركات الشحن الكبرى تعليق أنشطتها وتغيير مسارات سفنها لطريق رأس الرجاء الصالح في أقصى جنوب القارة الإفريقية. وفي هذا السياق، كانت العديد من الشركات العالمية مثل: بريتش بتروليوم للنفط والغاز البريطانية، وميرسك الدنماركية، وهاباك لويد الألمانية، وشركة النفط والغاز النرويجية ” إكوينور”، … وغيرها من الشركات العالمية قد اتخذت قرارات بتعليق أنشطتها عبر البحر الأحمر مرورًا بقناة السويس أو تحويل مسار رحلاتها نحو طريق رأس الرجاء الصالح، وقد أدى ذلك إلى إطالة مدة الرحلات بين 19 إلى 31 يومًا، ومن ثم أدى إلى زيادة تكلفة الشحن والتأمين على الحاويات والخدمات اللوجستية البحرية الأخرى بنسبة تصل إلى 30%. وتجدر الإشارة إلى أن أزمة البحر الأحمر قد أدت بشكل عام إلى حدوث تراجع في التجارة العالمية بنسبة 1.3% خلال شهري (نوفمبر، وديسمبر) 2023، كما توقع الخبراء الاقتصاديون أيضًا أن تؤدي تداعيات توترات البحر الأحمر إلى زيادة أسعار الغذاء والدواء بنسبة لا تقل عن 54%، محذرين مما وصفوه ” بصدمة جديدة” للاقتصاد العالمي على نحو الصدمة التي شهدها إبان انتشار جائحة فيروس كورونا. وفي ضوء ما أسفرت عنه أزمة البحر الأحمر من اختناقات جديدة في سلسلة التوريد والإمدادات العالمية، فقد أضحت تشكل خطرًا جسيمًا على تدفقات النفط خاصة في ظل عدم اقتصار هجمات الحوثيين على سفن الحاويات فحسب بل استهدافها أيضًا لناقلات النفط، ويؤكد الهجوم الذي تعرضت له ناقلة النفط البريطانية ” مارلين لواندا” مؤخرًا على هذا الخطر الجديد والذي قد يعيق تدفقات النفط من الموانئ الخليجية والهندية إلى أوروبا. وعليه وفي ضوء ما أسفرت عنه أزمة البحر الأحمر من حيث ارتفاع معدلات التضخم عالميًّا، فقد تزايدت المخاوف من تنامي احتمالات تعميق الأزمة الاقتصادية العالمية.

وفيما يتعلق بالتأثيرات المباشرة لأزمة البحر الأحمر على قناة السويس، والتي تمثل شريانًا مهمًا للاقتصاد المصري، فقد أوضح رئيس هيئة قناة السويس الفريق “أسامة ربيع” أن إيرادات وعوائد القناة قد انخفضت أول 11 يومًا من عام 2024 بنسبة 40% مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، وأضاف أن حركة عبور السفن قد تراجعت بنسبة 30 % في الفترة من الأول من يناير إلى 11 من الشهر نفسه، لافتًا إلى أن التراجع قد جاء بواقع 544 سفينة مقارنة ب 777 سفينة العام الماضي، بينما تراجعت الحمولات بنسبة 41% في ذات الفترة مقارنة بعام 2023.

كما بدأ قطاع الكيماويات في ألمانيا- وهو الأكبر في أوروبا- يتأثر بوطأة تأخر الشحنات عبر البحر الأحمر ليصبح أحدث صناعة تدق ناقوس خطر اضطراب الإمدادات، والذي أجبر بعض الشركات على كبح الإنتاج، ويعتمد قطاع الكيماويات في ألمانيا- وهو ثالث أكبر صناعة في البلاد- على آسيا في نحو ثلث وارداته من خارج أوروبا. وتأتي أزمة الشحن عبر البحر الأحمر في الوقت الذي يتعرض فيه الاقتصاد الألماني بالفعل لضغوط؛ بسبب الركود وارتفاع تكلفة العمالة والطاقة.

وعلى الصعيد الإسرائيلي، نجد أن تصاعد التوترات في منطقة البحر الأحمر قد أسفرت عن تراجع إيرادات ميناء ” إيلات” بأكثر من 80%، حيث شهد الميناء بسبب الهجمات توقفًا شبه كامل لوصول السفن، كما ارتفع سعر شحن الحاويات من الصين إلى ميناء “أسدود” الإسرائيلي بنسبة تتراوح بين (9% و14%) خلال الأسبوعين الأخيرين من شهر أكتوبر 2023، مما أدى إلى ارتفاع كلفة الشحن بنحو 5% منذ اندلاع الحرب، كما ارتفعت أيضًا تكلفة تأمين السفن الإسرائيلية بنسبة 250%. ومن المرجح أن تؤثر زيادة أسعار الشحن وتأخير وصول الشحنات القادمة إلى إسرائيل، خاصة من جنوب شرق آسيا، إلى تراجع المخزونات من السلع ومن ثم زيادة أسعارها، الأمر الذي من المتوقع أن ينعكس سلبًا على الاقتصاد الإسرائيلي المنهك بالفعل من تبعات الحرب ضد حماس في غزة.

ثانيًا: تجدد عمليات القرصنة في المنطقة الواقعة بالقرب من الصومال:

لم تقتصر أزمة البحر الأحمر على الهجمات العسكرية التي يشنها الحوثيون على السفن وحركة التجارة في البحر الأحمر، بل امتدت أيضًا إلى عمليات القرصنة التي تجددت بشكل واضح في المنطقة الواقعة بالقرب من الصومال بعد مرور نحو عقد على تراجع هذه الظاهرة. وفي هذا السياق، كشفت عمليات التجارة البحرية البريطانية في 23 ديسمبر2023، أن أشخاصًا مدججين بالسلاح استولوا على سفينة تجارية بالقرب من بلدة ” إيل” قبالة سواحل الصومال، وقد جاء ذلك بعد اختطاف سفينة تحمل علم مالطا في بحر العرب واقتيادها إلى نفس المنطقة بالقرب من الصومال. ويمكن تفسير عودة ظاهرة القرصنة مرة أخرى في البحر الأحمر في ضوء عدة اعتبارات أهمها: انتهاء التفويض الأممي بمكافحة القرصنة في ضوء ما اتخذه مجلس الأمن الدولي في 12 مارس 2022 من قرار بعدم تجديد صلاحية تفويضه لمكافحة القرصنة في المياه الإقليمية الصومالية، وذلك على الرغم من تحذير العديد من الدول الأوروبية ومن بينها فرنسا من أن إنهاء التفويض قد يفضي إلى حدوث فراغ أمني، ومن بين الأسباب أيضًا التي أدت إلى عودة القرصنة أن السفن المؤهلة لخوض عمليات مكافحة القرصنة تعد قليلة نسبيًّا، هذا فضلًا عن التكلفة المالية الكبيرة لمهمات من هذا النوع، كما ساعد أيضًا عدم الاستقرار الأمني على جانبي مضيق باب المندب والبحر الأحمر على تجدد عمليات القرصنة التي تستهدف السفن التجارية في جنوب البحر الأحمر. ولا شك أن تجدد ظاهرة القرصنة كانت لها آثارها وتداعياتها السلبية، والتي تمثلت بالأساس في تزايد المخاطر الجيوسياسية، والتي أدت إلى ارتفاع أسعار النفط والغاز نتيجة لارتفاع تكلفة الشحن والتأمين البحري، وذلك في ظل اتجاه العديد من الشركات الكبرى إلى استخدام طرق بحرية بديلة مثل: طريق رأس الرجاء الصالح. وإلى جانب الخسائر الاقتصادية الناجمة عن تجدد أعمال القرصنة، فقد تزايدت أيضًا المخاوف من توسيع نطاق المواجهات العسكرية في منطقة تعد شريانًا رئيسًا للتجارة العالمية لاسيما تجارة النفط والغاز.

أزمة البحر الأحمر ….. إلى أين؟

لا مراءَ أن أزمة البحر الأحمر قد أدت إلى تصعيد المنافسة العالمية بين العديد من القوي الكبرى، والتي لديها بالفعل قواعد عسكرية بالمنطقة، والسؤال الذي يثار في هذا الشأن: هل يمهد التصعيد العسكري غير المسبوق في منطقة البحر الأحمر لحرب إقليمية واسعة النطاق خاصة في ضوء رفض الولايات المتحدة الربط بين أحداث غزة وبين حرية الملاحة في البحر الأحمر؟ الواقع أنه بينما تزخر وسائل الإعلام بالتقارير التي تفيد بحرص الولايات المتحدة على تجنب اندلاع حرب أوسع نطاقًا في الشرق الأوسط، إلا أن المزيد من التحليلات تتضمن مؤشرات متنامية، والتي تدلل على احتمالات وقوع ذلك. ولا شك أن واشنطن قد حاولت تضخيم الهجمات الحوثية في البحر الأحمر، وركزت عليها إعلاميًّا واتخذتها ذريعة لاستصدار قرار من مجلس الأمن الدولي وهو القرار رقم (2722)، والذي منحها شرعية عسكرة منطقة البحر الأحمر، وذلك بما يساعد على تحقيق مصالحها في المنطقة، وعلى رأسها السيطرة على واحد من أهم الممرات المائية في العالم وهو مضيق باب المندب، ومن ثم إدخال أكبر قدر ممكن من القوات الأمريكية إلى المنطقة. وانطلاقًا من حرصها على ضمان سلامة الطرق البحرية، والحد من التهديدات المتصاعدة وتداعياتها الخطيرة على حركة التجارة العالمية، فمن المرجح أن واشنطن قد أدركت أن مواجهة تهديد الحوثيين للأمن البحري يتطلب اتباع نهج متعدد الأبعاد من خلال العمل على تحقيق التوازن بين العمل العسكري والجهود الدبلوماسية. وفي هذا الإطار، تجدر الإشارة إلى أنه قد جرت تحركات دولية للتوصل إلى حل دبلوماسي؛ حيث صرح رئيس المنظمة البحرية الدولية التابعة للأمم المتحدة “أرسينيو دومينغيز” بالتزام المنظمة بتحقيق حل سريع لأزمة البحر الأحمر، التي تعيق حركة نقل البضائع عالميًّا، لافتًا إلى أنه تجري مفاوضات دولية للتهدئة، كما أكد “دومينغيز” أن المنظمة تعمل بلا كلل لإيجاد حل للأزمة، مشيرًا إلى وجود حوار مع كافة الأطراف باعتباره السبيل الأمثل لاستعادة بيئة بحرية آمنة. وفي جميع الأحوال، تظل تسوية أزمة البحر الأحمر مرهونة بالتطورات الجارية في قطاع غزة ومدى إمكانية وقف الحرب الدائرة في هذا القطاع، بما في ذلك التوصل إلى وقف إطلاق النار.

اظهر المزيد

سامية بيبرس

وزير مفوض- الامانة العامة لجامعة الدول العربية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى