2024العدد 197ملف عربي

   في ضوء الصراع الراهن: السودان هل من مستقبل؟

يقترب الصراع العسكري السوداني من إتمام عامه الأول بلا أفق لإنهائه، وأيضًا باحتمالات واسعة لاستمراره؛ ليساهم ربما في تفكك دولة السودان وأيضًا انهيارها، وذلك نظرًا لطبيعة التداعيات السياسيات والأمنية المنبثقة عن الصراع بين الجيش السوداني القومي وبين ميليشيات عسكرية (قوات الدعم السريع)، التي كان لها دور رسمي في حماية نظام البشير، كما كان لها دور مقدر في تفاعلات ومعادلات ما بعد ثورة السودان عام ٢٠١٨، فضلًا عن علاقاتها العسكرية العضوية بالمؤسسة العسكرية الرسمية.  

في هذا السياق، يكون من المهم استعراض طبيعة التطورات السياسية في السودان خلال مطلع عام ٢٠٢٤، مع رصد تداعيات هذه التطورات على الصعيدين (السياسي، والأمني).

أولًا: تطور التفاعلات السودانية:

١- التطورات العسكرية:

قد يكون من أهم ملامح التطورات السودانية تلك التي كانت على الصعيد العسكري؛ إذ أحرزت ميليشيات الدعم السريع نجاحات في السيطرة على غالبية إقليم دارفور غرب السودان، فضلًا عن نقاط مفصلية في إقليم وسط السودان، خصوصًا ولاية الجزيرة وعاصمتها ود مدني، حيث كان من اللافت انسحاب فرق عسكرية كاملة تابعة للجيش السوداني من مواقعها الإستراتيجية في هذه الجهات، خصوصًا في مدينتي (نيالا، وود مدني)، وهو الأمر الذي قال الجيش إنه: “محل تحقيق لم تعلن نتائجه حتى الآن”.  وقد عكست هذه التطورات وجود إرادة سياسية لدى قيادة الدعم السريع بالاستيلاء على كامل التراب الوطني السوداني، أعلن عنها نائب قائد الدعم السريع “عبد الرحيم دقلو”، كما عكست أيضًا قوة الانتماءات الأولية داخل الجيش السوداني على حساب الانتماء الوطني؛ إذ إن بعض الفرق العسكرية المنسحبة من مواقعها كانت منتمية إلى هذه المناطق المنسحبة منها لصالح الدعم السريع جهويًّا وقبليًّا، وذلك مع عدم استبعاد عامل الإغراءات المالية التي تقوم بها قيادة الدعم السريع للتنفيذين عسكريًّا وسياسيًّا.

أما في السياق الإيجابي، فقد عكست هذه التطورات أيضًا قدرات سياسية رفيعة للقيادات الأهلية والقبلية، التي دخلت في عمليات تفاوضية بين الطرفين المتصارعين في محاولة لضمان سلامة مناطقهم والحفاظ على حياة ومقدرات السكان، واستطاعت أن تكون سلطة بديلة على الأرض.

على صعيد العاصمة المثلثة (الخرطوم)، بقسميها الخرطوم بحري وأم درمان، فقد أحرز الجيش خلال شهر فبراير بعض التقدم العسكري في أم درمان، على حساب الدعم السريع، وهو أمر لم يعترف به الدعم السريع، وقالت منصاته الإعلامية إن هذه العملية هدفها الرئيس تهريب الرئيس السابق “عمر البشير” من موطن احتجازه- وهو السلاح الطبي- وهي معلومات لم تؤكدها أطراف مستقلة.

هذا التطور العسكري جاء نتيجة تحالف بين الجيش القومي وأحد أكبر الحركات المسلحة (حركة العدل والمساواة)، ولكن هذا التحالف سرعان ما أفرز انقسامًا في الحركة ذاتها؛ حيث اعتبرت أن دعم الحركة للجيش، هو ضد التحالف المدني السوداني الساعي إلى تحول ديمقراطي، وبناء الدولة السودانية على أسس ما بلورته ثورة ٢٠١٨ السودانية من مطالب.

٢- التطورات السياسية:

على الصعيد السياسي، فقد فشلت كل المساعي الإقليمية والدولية في تحقيق هدف وقف إطلاق النار كخطوة ضرورية للوصول لمنصة تفاوضية بين الأطراف المتصارعة في السودان، وقد انعكس الاستقطاب السياسي الداخلي الحاد على المنصات الإقليمية الإفريقية، فأنتج تجميدًا من جانب الحكومة السودانية لعضويتها في منظمة التنمية ومكافحة التصحر في شرق إفريقيا(الإيجاد)، وذلك على خلفية قرار قمة طارئة لـلإيجاد بتجديد الدعوة للقاء مباشر بين طرفي الصراع (الجيش، وقوات الدعم السريع) في غضون أسبوعين، وذلك على الرغم من فشل المنظمة في تأمين حضور محمد حمدان دقلو (حميدتي) لقاءٍ تم ترتيبه بجيبوتي في ديسمبر الماضي لنفس الهدف، أي جمع الجنرالين المتصارعين، وبدلًا من حضور اللقاء قام حميدتي بالاعتذار عنه لأسباب “فنية”، وقام في نفس التوقيت بجولة للقاء رؤساء دول هم أعضاء في منظمة إيجاد ذاتها (إثيوبيا، وأوغندا، وكينيا)؛ حيث تم توصيف هذه الخطوة من جانب قائد قوات الدعم السريع  بالمكايدة السياسية ضد البرهان ومن وراءه من قوى (سياسية، واجتماعية، وقبلية، وجهوية)، وقد رد الفريق “عبد الفتاح البرهان” رئيس المجلس السيادي السوداني على هذه المكايدة بموقف سياسي يجمد عضوية بلاده في منظمة إيجاد، التي اتخذت رغمًا عن ذلك  قرارًا بعقد قمة جديدة في كمبالا دعت فيها إلى نفس الإجراء بترتيب  لقاء جديد بين (البرهان، وحميدتي)، متجاهلة بيان وزارة الخارجية السودانية بوقف انخراط السودان في المنظمة وتجميد تعامله في أي مواضيع تخص الواقع الراهن في السودان تحت مظلة منظمة إيجاد، وهو جعل قرار الإيجاد غير قابل للتنفيذ على مدى الشهرين من الربع الأول من العام الحالي.

وعلى الرغم من فشل المجهودات الإقليمية لوقف إطلاق النار في السودان، إلا أن المحاولات لم تتوقف لاستبيان مواقف الأطراف من الحل التفاوضي للصراع العسكري السوداني، ومحاولة تقريب وجهات النظر؛ حيث إذ تم عقد اجتماع بين نائبي كل من (قائد الجيش السوداني، وقائد قوات الدعم السريع)، الفريق/ شمس الدين الكباشي، وعبد الرحيم دقلو، وذلك في المنامة عاصمة البحرين تحت رعاية مشتركة من الولايات المتحدة وكل من (المملكة السعودية، ومصر، ودولة الإمارات)، على أن هذا الاجتماع لم يفرز حتى الآن تطورًا في الموقف من زاوية القدرة على وقف إطلاق النار. وعلى صعيد موازٍ، فقد تم عقد اجتماع في القاهرة تحت رعاية مصرية فرنسية بين الفاعلين العسكريين في دارفور، لم يرشح عنه نتائج محددة.

أما على الصعيد الدولي، فنستطيع أن نلمح اهتمامًا أمريكيًّا خاصًا بالوضع في السودان؛ وذلك مخافة أن تفقد نفوذها فيه لصالح الصين أو روسيا، من هنا عينت واشنطن مبعوثًا خاصًا لها في السودان، كما صرح السفير الأمريكي في السودان مؤخرًا  “جون جوديفري” أن “الولايات المتحدة ساعية إلى وقف الحرب السودانية بحضور كل الأطراف الإقليمية المعنية بالحالة السودانية”، وهو تصريح تزامن مع تصريح سبقه للفريق البرهان أن “الجيش مفتوح على فكرة التفاوض والسلام”، وذلك في خطاب مغاير لخطابات إبادة الخصم، التي ميزت تصريحاته السابقة- خصوصًا بعد اجتياح الدعم السريع لمدينة ود مدني.

التطور الأخير قد يفتح مساحة مقبولة لبدء إجراءات جمع الأطراف المتصارعة على مائدة تفاوض جديدة هذه المرة قد تكون على شاكلة مبادرة دول جوار السودان التي بلورتها مصر في يوليو ٢٠٢٣، أي أن تكون مبادرة جامعة لكل الأطراف الإقليمية بما يفتح الباب لإمكانية وحدة المكون المدني السوداني ولم شمله.

ثانيًا: التداعيات المرتقبة لاستمرار الصراع:

يشكل استمرار الصراع في السودان مؤشرًا واقعيًّا لتصاعد مستوى التهديدات للمصالح الداخلية السودانية، وكذلك ارتفاع مستوى التهديدات الإقليمية، فضلًا عن التهديدات الجيوسياسية على المستوى الدولي.

على المستوى الداخلي السوداني، هناك متغير لافت وهو تسليح المدنيين من جانب الجيش السوداني كقوات سُميَّت بالمستنفرة ضد قوات الدعم السريع، بعد استيلاء هذه القوات على مناطق وسط السودان، حيث فتح هذا التسلح الباب واسعًا أمام تنفيذ أجندات لها طابع عرقي، وذلك في ضوء النظر إلى قوات الدعم السريع من جانب قبائل مناصرة للجيش السوداني في الولاية الشمالية، كمشروع عرقي ممتد من السودان لغرب إفريقيا يهدد التكوينات ذات الجذور الزنجية الإفريقية، وقد دعم هذا التوجه اغتيال حاكم ولاية غرب دارفور، وممارسة قوات الدعم السريع لإبادة جماعية ضد قبائل المساليت في مدينة الجنينة أقصى غرب السودان، وهو الأمر الذي حاز إدانات دولية.

وقد عكس هذا التوجه نفسه بطرد تجار سودانيين من الولاية الشمالية يقطنون مناطق الضعين في غرب السودان منذ عقود، كما تم ممارسة العكس ضد مواطني دارفور في مناطق سودانية أخرى.

على صعيد موازٍ، قام بعض رجال الأعمال في مجال التعدين بتكوين ميليشيات محلية لحماية أعمالهم من ناجية ومولاة للجيش من ناحية أخرى.

وبطبيعة الحال، تكمن خطورة تسلح المدنيين السودانيين في حجم السلاح الموجود في السودان قبيل الحرب؛ إذ تم الإفصاح في مارس ٢٠٢٣، عن وجود ٨ ملايين قطعة سلاح متفاوتة الأحجام في أيدي المدنيين السودانيين، طبقًا للجنة رسمية سودانية، امتد عملها أكثر من ٦ سنوات، وكانت تتمتع بدعم دولي سياسي وتقني عبر مشروعين كبيرين مدعومين من الأمم المتحدة وكل من (سويسرا، وألمانيا)، رصدا عدد الأسلحة غير المرخصة في السودان، قد تضاعف أكثر من مرة.

وطبقًا لذلك، فإن قرابة خُمس عدد السكان السودانيين كانوا يملكون أسلحة متفاوتة الحجم والفاعلية قبيل الحرب السودانية.

أما على المستوى السياسي، فإن القوات المستنفرة -طبقًا لشهادات ميدانية- ينتمي غالبيتها للجبهة القومية الإسلامية (الإخوان المسلمين)، ولكن دون قيادة مركزية لهم؛ إذ تشير تقارير أن “علي كرتي” الأمين العام للجبهة القومية الإسلامية، ووزير الخارجية السوداني الأسبق بات غير مسيطر على شباب الحركة، الذين انخرطوا في حملات الاستنفار، ومن المتوقع أن يكونوا قد تحالفوا مع خلايا نائمة لتنظيمات متطرفة مثل: داعش، وغيرها في تطور غاية في الخطورة للسودان وللإقليم الممتد من شرق إفريقيا نحو شمال القارة.

هذا المشهد إجمالًا يذكر بنمط الصراع الصومالي الذي أنتج أمراءً للحرب على مستوى المناطق، وأسفر عن حرب أهلية ضعضعت الصومال وفككته وماتزال.

وأيضًا على الصعيد الداخلي، ولكن بمنظور اقتصادي، فقد أسفرت الحرب عن فقد الدولة السودانية لكثير من مقدراتها، وتم تدمير٦٠٪ من البنية التحتية المتوافرة لدولة السودان؛ حيث تم تدمير قرابة ٢٠٠٠ مبني حكومي بشكل كامل أو جزئي شاملين المنظومتين (الصحية، والتعليمية)، كما تم تدمير جسور ومصافٍ للنفط تدميرًا جزئيًا، فضلًا عن توقف ٤٠٠ منشأة صناعية في مختلف المجالات، وذلك فضلًا عن تدمير ٧٠٪ من المؤسسات التعليمية، وهو ما أسفر عن خروج ١٠ ملايين طالب من العملية التعليمية في المدارس والجامعات.

في المحصلة، وطبقًا لتوقعات صندوق النقد الدولي فإن حجم انكماش الاقتصاد السوداني غير مسبوق تاريخيًّا؛ حيث وصل خلال عام ٢٠٢٣ إلى ١٨,٣٪، وتم تقدير حجم خسائره الكلية بحوالي ١٠٠ مليار دولار نتيجة الحرب، كما فقدت العملة السودانية ٧٠٪ من قيمتها، ذلك فضلًا عن عجز الدولة عن تدبير مرتبات العاملين في جهازها الإداري.

في هذا السياق، برزت أزمة إنسانية محتدمة؛ حيث نزح قرابة ٧ ملايين سوداني من مناطقهم سواء كان نزوحًا داخليًّا أو خارجيًّا، حيث استقبلت تشاد قرابة نصف مليون نازح، واستقبلت مصر رقم مقارب، بينما كان نصيب كل من جنوب السودان وإثيوبيا عدة آلاف. أما على صعيد النزوح الداخلي، فقد فر السودانيون أكثر من مرة بحثًا عن المناطق الآمنة، وذلك بعد توسع العمليات العسكرية لتصل لعواصم إقليم دارفور ووسط السودان.

أما التداعيات الإقليمية فتبدو مقلقة؛ إذ إن تزايد عدد النازحين من دول الجوار إلى مستوى كبير يعد مهددًا على عدة صُعُد، إذ إنه أعباء اقتصادية مضافة بالنسبة لمصر في توقيت حرج، كما أن انفتاح السودان على سيناريو التفكيك يعني تصاعد مستوى التهديدات الأمنية الصادرة منه، إذ يمكن أن يكون متوقعًا أن يتحول السودان إلى بيئة حاضنة للتنظيمات المتطرفة خصوصًا تنظيم داعش، الذي يملك نقاط ارتكاز في وسط وغرب إفريقيا.

تفكك السودان يسمح أيضًا بتحول سواحلها لنقط ارتكاز لإيران في ضوء التقارير الأمريكية الأخيرة التي تشير إلى قيام طهران بدعم الجيش السوداني، وهو تطور إذ صح يعني تضافر تفاعلات كل من أزمتي (غزة، والسودان)؛ لتفتح قوس الصراع الإقليمي نحو مناطق إضافية، بما يعني في الأخير تهديد السلم والأمن الإقليميين بشكل عام.

أما على المستوى الدولي، فإن التهديدات الجيوستراتيجية التي يطرحها تفكك السودان على المستويين(الإقليمي، والدولي) تدفع الإدارة الأمريكية حاليًّا نحو تفعيل جهودها لتوفير منصة تفاوضية تستطيع أن تحقق اختراقًا حقيقيًّا للوضع المأزوم في السودان، ويبدو لنا أن نجاح هذه الجهود تتطلب عدة محددات منها: أن تأخذ المنصة التفاوضية الجديدة بعين الاعتبار المصالح الإقليمية المتفاوتة عربيًّا بشأن السودان، وأن يجري تفاهمات بشأن هذه المصالح، بما يعني إمكانية توحيد منصات الوسطاء الذي جرى بينهم تنافسًا مريرًا طوال الفترة الماضية.

وفي تقديري أن توحيد منصة وسطاء التفاوض سوف تساهم بشكل فعال في توحيد مواقف القوى السياسية السودانية أو على أقل تقدير إيجاد مساحات للتوافق بدلًا من التناحر الراهن.

أما المحدد الثالث: فهو حياد القوى السياسية السودانية بين طرفي الصراع؛ إذ إن هذا الحياد سوف يضمن أمرين: خفض مستوى أطماع الطرفين المتصارعين في السلطة اللذَين يخططان للوصول إليها على ظهور المدنيين، كما يضمن حياد المدنيين حصر المكون العسكري في مؤسساته العسكرية والأمنية قدر الطاقة، بما ينعكس على صيغة المعادلة السياسية المطلوبة في اليوم التالي للحرب.

وفي ضوء المعطيات سالفة الذكر والتفاعلات الخطيرة الراهنة يبدو لنا أن هناك مسؤولية عربية كبرى في منع انهيار دولة السودان، وهي المسؤولية التي نتصور أن يتم بلورة آياتها في أروقة الجامعة العربية بتعاون عضوي مع الاتحاد الإفريقي وبأدوار ملموسة لكل من (القاهرة، والرياض، وأبوظبي، وأديس أبابا)، وذلك حتى يمكن المرور من نفق السودان المظلم نحو طاقة نور تساهم في إنهاء الصراع المسلح فيه، وتحقيق معادلة ما للاستقرار السياسي تضمن أمنًا إنسانيًّا لأهل السودان يستحقونه.

اظهر المزيد

د.أماني الطويل

كاتبة وباحثة ،مديرة البرنامج الأفريقي بمركز الأهرام للدراسات الإستراتيجية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى