2023الحرب علي غزةالعدد 196

تحولات السياسة الأمريكية في المنطقة ومأزق انحيازها المطلق لإسرائيل

يشكل الاهتمام بالسياسة الأمريكية انشغالًا دائمًا سواء لدوائر صنع القرار أو دوائر الفكر والبحث في المنطقة العربية، وفي الحقيقة أن الولايات المتحدة كانت تمثل بريقًا خاصًا لدول المنطقة منذ إحباطات تفاعلاتها مع القوى الأوروبية الاستعمارية، وإن جذور هذا البريق ربما تعود لأوهام الحركة الوطنية المصرية بعد الحرب العالمية الأولى والتعلق بوعود “وودرو ويلسون” حول استقلال مصر والمنطقة من الاستعمار البريطاني ثم تحول هذا البريق إلى صدمة مؤلمة.

ولقد جرت مياه كثيرة في نهر السياسة الأمريكية في المنطقة، لكن التطورات الأخيرة تبدو لافتة لما تثيره من بعض أسئلة جوهرية، أول هذه الأسئلة كانت فيما سُمي بالتراجع أو الانسحاب الأمريكي من المنطقة وما إذا كان هذا حقيقيًّا وما هي أبعاد هذا؟ ثم ثاني هذه الأسئلة الكبرى تتعلق بمواقف عدد من أهم حلفاء واشنطن في المنطقة تجاه بعض القضايا المحورية محل اهتمام السياسة الأمريكية مثل: الحرب الأوكرانية مثلًا، ثم ما تلى هذا من انفتاح بعض حلفاء واشنطن التاريخيين على خصوم واشنطن، وقفزت مسألة التصالح السعودي الإيراني، الذي لازال في بداياته بوساطة صينية؛ ليثير بهذا تساؤلات وتداعيات لازالت تتواصل ولم تنتهِ فصولها بعد، ثم اكتملت حلقات الانحياز التاريخي الأمريكي لإسرائيل بموقف مغالٍ في الانحياز في أزمة غزة الأخيرة، وهو موقف له جذوره ولكنه يمثل الآن درجة من الاندفاع غير المسبوق، الذي ربما فاق تدخلها لإغاثة إسرائيل في 1973، وإن كان هذا لتباين واضح في ظروف المرحلتين كما سنوضح.

وفي السابق، كانت هناك طروحات مستقرة لعدة عقود تدور حول أولويات السياسة الأمريكية في المنطقة وتمحورها حول مصالحها النفطية وحماية أمن ووجود إسرائيل، ودون الدخول في تفاصيل كثيرة، فقد تمكنت واشنطن -حتى خلال عهد القطبية الثنائية وما بعد حرب أكتوبر- من النجاح في إزاحة الاتحاد السوفيتي وتقليص نفوذه بعد خروجه من مصر، صحيح لم تخرج موسكو تمامًا وواصلت تواجدها ونفوذها في بعض دول المنطقة، ولكن من غير قدرة على التأثير في تفاعلاتها بنفس الدرجة التي كانت تتمتع بها في زمن مصر الناصرية، وتبع هذا تدريجًا تكريس لهيمنة أمريكية استكملتها بشكل قاطع بعد غزو العراق للكويت وقيادتها لحرب تحرير الكويت بقبول دولي وحتى روسي -صيني؛ ولتقود تدريجًا كافة تفاعلات المجتمع الدولي بما في ذلك محاولات تسوية هشة وغير مكتملة للصراع العربي الإسرائيلي، ثم كان غزو العراق وتداعياته التي أثارت قلق حتى حلفاء واشنطن التاريخيين مع اتضاح سوء إدارة هذا التدخل ونتائجه الوخيمة على العراق والمنطقة كافة.

أولًا: التراجع والانسحاب الأمريكي من المنطقة بين الحقيقة والمبالغات:

  ربما يجب أن تكون نقطة البداية في هذا الطرح مرتبطة بأمرين مهمين، أولهما: تولي الرئيس” باراك أوباما” لحكم الولايات المتحدة في نهايات 2008، وما أحاط بهذا من أبعاد مهمة، البعد الأول: يتعلق بكون هذه اللحظة ربما من أكثر لحظات بروز التيار الليبرالي الأمريكي في السياسة الخارجية الأمريكية وما يحمله من أفكار وتوجهات، والأمر الثاني: من ثورة التوقعات التي أحاطت بالرئيس الجديد آنذاك والتي كانت ذروتها في زيارته التاريخية لمصر وخطابه الشهير في جامعة القاهرة.

أما الأمر الأول، وهو كون أدارة أوباما واحدة من أكثر الإدارات الديمقراطية تعبيرًا عن التوجهات الليبرالية في السياسة الخارجية الأمريكية، فيمكن تلخيصها في عدد من العناصر، فهي تشمل فكرة الارتباط بالعالم وعدم إمكانية الاستغناء عن الدور الأمريكي، ومحاولة دمج الدول المتشددة كـ(إيران، وكوبا) في النظام الدولي، ولا ينفصل هذا عن طرح تبنَّته إدارة أوباما بقوة و هو محاولة دمج الإخوان المسلمين في الحكم وتمكينهم بما يؤدي إلى تحولهم إلى الاعتدال، وتبنت هذه الإدارة أيضًا فكرة إعادة التموضع الأمريكي بالعالم بتخفيض الوجود العسكري في الشرق الأوسط مقابل التوجه شرقًا إلى آسيا، واستند هذا التوجه إلى عدد من الاعتبارات على رأسها: تراجع حاجة واشنطن لنفط المنطقة مع بروز اكتشافات النفط الصخري المحلية وملائمة أسعار استخراجها مع ارتفاع أسعار النفط العالمية، والسبب الثاني تبيُّن الأخطاء الكارثية للغزو الأمريكي للعراق وآثار هذا داخليًّا وخارجيًّا. ومن ناحية أخرى، برزت أفكار إنشاء نظم إقليمية قائمة على توازن القوى الإقليمية (إيران) في مواجهة الدول الخليجية وربما (مصر، وتركيا).

وفيما يتعلق بالأمر الثاني: أي التوقعات ففي الحقيقة أن أوباما جاء بشعارات وطموحات سواء بإعطاء انطباعات مبالغ فيها بشأن محاولة اتخاذ موقف أكثر توازنًا في القضية الفلسطينية، أو فيما يتعلق بعمل مراجعات حقيقية وشجاعة في مسائل كغزو العراق، ولكنه اصطدم برسوخ توجهات أمريكية لا يستطيع التعامل معها. وفي جميع الأحوال، حملت سياساته الكثير من الدوافع المتناقضة التي أنتجت سياسات ملتبسة، ربما كان أقلها مواصلة الجمود في محاولات تسوية الصراع العربي الإسرائيلي، إلا من اجتماعات هزيلة دعا إليها وزير خارجيته “جيمس بيكر” للأطراف المعنية لم يزد دورها عن جلسات استماع وتبادل خجول للرؤى.

ولكن على صعيد النتائج الفعلية، تمخضت هذه السياسات عن الاتفاق النووي الإيراني، الذي راهنت به إدارة أوباما على تغيرات جادة للسلوك الإيراني الخارجي، ولكنها في الحقيقة أطلقت يد إيران في نشاطها ودورها بالمنطقة وأعطتها قوة دفع إضافية، وأضعفت من حلفاء واشنطن الخليجيين، وعمقت من مخاوفهم من تراجع واشنطن عن حمايتهم ودعمهم بشكل كافٍ.

المفارقة الثانية: أن واشنطن التي تربطها علاقات معقدة ومتضاربة مع قوى التشدد الإسلامي الإرهابية منذ تحالفها معها في أفغانستان، ثم التحولات الكبرى التي تلت أحداث سبتمبر2001، أصبحت سياسة مكافحة الإرهاب ركنًا رئيسًا في سياستها الخارجية، ومع ذلك تجاوزت  في البداية عن توظيف هذه القوى في ثورات الربيع العربي مقابل الإطاحة بالنظم السياسية السابقة، وخاصة تلك التي تعتبرها معادية لواشنطن، وعلى وهْم أن هذا سيعطي فرصة لقوى الإسلام السياسي المعتدلة، ولكن ما حدث في (سوريا، والعراق) بعد ظهور تنظيم الدولة الإسلامية ورسوخ أقدام القاعدة وتنظيمات مشابهة في أغلب بؤر صراعات المنطقة العربية، وجدت واشنطن نفسها مضطرة لتعزيز قواعدها العسكرية القائمة- وسنعود لهذه النقطة- بل وإضافة قواعد جديدة كما حدث في شمال شرق سوريا؛ للإشراف على العمليات العسكرية ضد هذه التنظيمات وبحدود معقدة لا تصل إلى اقتلاعها والقضاء عليها، بل فقط  الاكتفاء بتحجيمها. وبالنهاية أسفر هذا عن توسع الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة العربية في عهد أوباما وليس تقلص هذا الوجود، على الأقل من ناحية التوسع الجغرافي.

تجدر الإشارة أيضًا إلى أن فشل واشنطن في إدارة التطور السياسي لدول الربيع العربي مصحوبًا بإدراك عميق للفشل في العراق، وتبدي الفشل في أفغانستان قبل ذلك، مما أدى إلى حركة سياسية بطيئة لإدارة أوباما، وقدر من الاضطراب في الحركة رسخ لدى العديدين في المنطقة أن واشنطن تتراجع، وجاء التدخل العسكري الكثيف لروسيا في سوريا 2015؛ ليعزز من هذه الصورة.

ومع وصول ترامب الجمهوري المحافظ إلى الحكم في 2016، ظهرت طروحات واضحة -لا تتعلق فقط بالشرق الأوسط، بل أيضًا بالحليف الأوروبي- من ضرورة تحمل هؤلاء مسؤولية الدفاع عن أنفسهم، وقد أصبحنا أمام رؤية متبلورة تتحدث عن صعود مفاهيم الفكر المحافظ الأمريكي من أولوية المصالح الأمريكية والتركيز على مواجهة الخطر الصيني، وعدم تفضيل الحلول العسكرية للحفاظ على عدم استنزاف الموارد الاقتصادية الأمريكية للتركيز على الخطر الصيني.

وهذه المرة خطا ترامب خطوات واسعة نحو تنفيذ رؤاه السياسية بالإعلان عن قراره بالانسحاب من سوريا، والذي أحبطته ضغوط مؤسسات السياسة الخارجية الأمريكية وبالدرجة الأولى ثم ضغوط الحلفاء الغربيين بالدرجة الثانية، كما أحبطت كذلك خطط ترامب للانسحاب من أفغانستان الذي نفذه خلفه الديمقراطي بايدن بعد ذلك.

المفارقة في هذه التطورات أن كلا من الإدارتين الديمقراطية ثم الجمهورية أبدت بعض التوجهات نحو تقليص وجودها العسكري في المنطقة ثم تراجعت عن ذلك، بل عززت هذا الوجود في سوريا مع الإدارة الديمقراطية لبايدن من نفس المنطلق وهو ما يمكن تسميته بعدم ترك مزيد من الفراغ لخصومها سواء (إيران، أو روسيا) وحرمانهما من نصر شامل.

ثانيًا: تحولات في التوجهات الإقليمية:

المعروف أن توقيع الاتفاق النووي الإيراني أثار ردود فعل متحفظة لدى دول الخليج بالرغم من الترحيب الرسمي السعودي آنذاك، ومن ثم استقبلت دول الخليج أو أغلبها على الأقل انسحاب الرئيس السابق “ترامب” من هذا الاتفاق بقدر كبير من الارتياح والتجاوب في تصعيد الشراكة بين الجانبين ما انعكس في زيارته للمملكة العربية السعودية، والتي أحيطت بضجة كبيرة، وحاول ترامب استثمارها لتحقيق كثير من المنافع الاقتصادية التي تجاوبت معها الرياض ولو على مستوى الاستعداد والنيات بأكثر من التجاوب المادي الفعلي. 

ولا يمكن هنا إغفال الآثار السلبية والمخاوف العميقة التي أحاطت بتولي الرئيس “بايدن” فيما يتعلق بأمرين، الأول: هو الهجوم الشديد الذي شنه المرشح الرئاسي “بايدن” ضد ولي العهد السعودي على خلفية قضية خاشقجى، والثانية: هو تنفيذه على الفور رغبته في محاولة إعادة الاتفاق النووي الإيراني وعودته لجولات تفاوض، امتدت لفترة زمنية طويلة دون أن تنجح في عمل اختراق بهذا الصدد.

ثم جاء التحول الأكبر بالحرب الأوكرانية وتطلع واشنطن لتأييد قوى من جانب حلفائها لا يقتصر على الدعم السياسي للغرب، بل الأهم من وجهة النظر الأمريكية حشد هذه القوى الحليفة لدعم الإجراءات الأمريكية لخنق روسيا.

ما حدث هو أن واشنطن قد فوجئت بالمواقف العربية التي تبلورت في هذه الحرب، وهنا نستعين بدراسة سابقة لنا حول رصد المواقف العربية بهذا الصدد والتي يمكن تلخيصها في الآتي:

الموقف الرسمي العربي في مجمله بما في ذلك ممن يمكن وصفهم بالحلفاء التقليديين وهم (دول الخليج، ومصر، والأردن، والمغرب)، كان إدانة الغزو دون التورط في إجراءات محاصرة موسكو، ومن هنا امتنعت عن التصويت في مسألة طرد  روسيا من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، أو حتى المشاركة في الإدانات اللفظية، بل أكثر من هذا، أبدت دول الجامعة العربية استعدادها للوساطة وأرسلت وفدًا وزاريًّا رفيع المستوى بهذا الصدد إلى موسكو والتقى الوفد بالمسؤولين الأوكرانيين خارج أوكرانيا في قمة التصعيد العسكري ضد العاصمة (كييف)، ولكن كانت الخطوة رمزية لتأكيد الحياد.

كما لم تشارك أغلب الدول العربية في إجراءات واشنطن لعزل روسيا اقتصاديًّا، ثم جاء المشهد الأكبر في عدم تجاوب الرياض وأغلب العواصم الخليجية لرغبة واشنطن زيادة المعروض من النفط في مقابل حظر النفط الروسي، وأن يحدث هذا في أعقاب زيارة الرئيس “بايدن” للعاصمة السعودية لتحقيق هذا الغرض، ما يمكن اعتباره تحولًا ضخمًا في العلاقات الأمريكية السعودية.

ثم جاء التطور اللافت بالتوصل إلى اتفاق سعودي إيراني برعاية صينية وفي العاصمة (بكين)، وبمقتضاه بدأت الدولتان خطوات جادة لاستئناف العلاقات الدبلوماسية، وفي خطوة مفاجئة للولايات المتحدة ولأغلب المراقبين الذين تابعوا جولات وساطة بين الجانبين- برعاية دولة عمان- يبدو وكأنها كانت تحضير لجهود حقيقية ترعاها الصين، وما تم حتى الآن هو استئناف العلاقات الدبلوماسية وتبادل السفراء وبدء التفاعلات بين البلدين بشكل طبيعي، صحيح لم يحدث أي انفراج على صعيد سياسات إيران الإقليمية التي تزعج الرياض ولا تسوية في الأزمة اليمنية الراكدة، ولكنها فتحت الباب لمقاربة جديدة في السياسة السعودية أساسها تجربة الحوار والتواصل لإدارة الخلافات بين الجانبين، والابتعاد عن نهج واشنطن التي كانت تذكي الخلاف ومخاوف الرياض من طهران لتعظيم المصالح الإيرانية، والأهم أن هذا كله برعاية صينية (خصم واشنطن).

حرب غزة وتداعيات جديدة:

كما أشرنا سابقًا تصدرت أهداف السياسة الأمريكية منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية حول بعدين وهما: ضمان مصالحها البترولية المتنوعة، وثانيها الدفاع عن إسرائيل وتمكينها كذلك من لعب دور لحماية المصالح الأمريكية. وقد شهد البعد الأول بعض التحولات؛ فقد كان يتضمن في أغلب عقود القرن الماضي ضمان تدفق نفط المنطقة إلى الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، وكذا مصالح شركاتها النفطية، ولكن بعد ارتفاع أسعار البترول وتحول واشنطن إلى الاعتماد أكثر على الوقود الأحفوري، أصبحت هذه المصالح تدور حول نفوذها في السيطرة على هذه السلعة الإستراتيجية، وكذا مصالح شركاتها.

أما البعد الثاني الخاص بإسرائيل، فقد ركزت الكتابات العربية في العقود السابقة على أمرين وهما: التأثيرات النابعة من نفوذ اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة والمستند إلى قوته الاقتصادية والإعلامية ومن ثم السياسية، ومن ناحية أخرى توظيف واشنطن لإسرائيل لخدمة مصالحها في المنطقة. وفي الحقيقة، أن هذه الأبعاد لا تفسر جوانب مهمة من التأييد الأمريكي لإسرائيل واستمراريتها كمؤثر إستراتيجي في هذه السياسة، وهو المكون الديني الثقافي الذي تأخر التنبه إليه وإلى وزنه كدافع للسياسة الخارجية الأمريكية حتى نهايات الثمانينيات من القرن الماضي، وهي التوجهات الدينية المسيحية البروتستانتية التي تتماشى مع القراءة التوراتية، التي تعتبر تحققَ الوعد الإلهي بالدولة اليهودية في فلسطين  جزءًا من القناعات الدينية لهذا التيار، الذي تنطلق كثير من مكوناته الدينية من العهد القديم أي التوراة، وقد تعزز الصعود السياسي لهذا التيار- الذي كان أحد مكونات الثقافة الأمريكية منذ نشأة الاستيطان الأوروبي في الولايات المتحدة -مع وصول ريجان للحكم، وتزايد هذا الحضور السياسي مع الاستقطاب الأمريكي الراهن بين التيارين (الليبرالي، والتيار المحافظ) في العقود الأخيرة بشكل ملحوظ، وبحيث أضاف إلى جملة المشهد السياسي، فالتيار الليبرالي الذي يمثله الحزب الديموقراطي الآن والأقل تأثرًا يخضع لاعتبارات أخرى من وزن اليهود ضمن الأقليات العديدة التي يعتبر الحزب وجهتها الرئيسة، بينما  يلعب هذا المكون الديني الثقافي دوره المعقد لدى التيار المحافظ، بحيث يفسر هذا تعدد روافد حالة المزايدات والانحياز الأمريكي المتزايد في السياسة الأمريكية تجاه إسرائيل والمنطقة .

ومن العوامل التي أضافت بقوة للتحول تجاه مزيد من الانحياز، التحولات التي شهدها الإيباك والمجتمع اليهودي الأمريكي، الذي تراجعت فيه توجهات السلام وتحول في اتجاه اليمين المتشدد، وهو ما سنعود إليه في الخاتمة.

قراءة في الإدراك العربي للتحولات الدولية:

المتابع للحركة الفكرية العربية سيلحظ بوضوح أننا كنا نعيش منذ بعض الوقت استقطاب ما بين تيارين: أحدهما كان أكثر حضورًا في المحافل الفكرية والسياسية وينطلق من الإيمان باستمرار هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية على الساحة الدولية، ومن ثم تفسير كل التطورات انطلاقًا من هذا البعد، وهذا في مواجهة تيار آخر يعادي السياسات الأمريكية وينتمي بعضه لقواعد يسارية قديمة ويبالغ من ثم في كل تطور بوصفه دليل على التحول إلى نظام متعدد الأقطاب، وكان التدخل الروسي في سوريا في 2015 نقطة مهمة في رؤية هذا التيار، الذي تعجل دلالات هذا متناسيًا فارق القوة الهائل بين واشنطن وموسكو (سياسيًّا، وعسكريًّا، واقتصاديًّا).

ولكن تحولات فعلية يشهدها المجتمع الدولي بدأت تؤشر إلى حدوث تحولات بطيئة وتدريجية لخصناها في دراسة سابقة لنا بأنها تشمل صعود لاعبين دوليين جدد وعلى رأسهم الصين وروسيا العائدة، وتوقعات بأدوار مهمة لقوى متوسطة بعضها يمارس بالفعل نفوذًا ملموسًا في الساحات الإقليمية وعلى رأسها دول كـ (الهند، وإيران، وتركيا، وجنوب إفريقيا، والبرازيل)، وعلى الرغم من أننا نرى أن الولايات لازالت وربما لسنوات مقبلة هي اللاعب الأول، إلا أن هيمنتها لم تعد كاسحة كما كان الأمر حتى غزو العراق.

على أن فهم هذه التحولات في المنطقة العربية غير ممكن دون الأخذ في الاعتبار عدد من العوامل التي يتصدرها إخفاق السياسة الأمريكية تاريخيًّا، وخاصة ما ظهر في العراق الذي أنتج توسعًا وبروزًا خطيرًا للدور الإيراني في المنطقة، وتذبذب السياسة الأمريكية ما بين اعتبارات نشر الديمقراطية التي تبنتها الإدارات الديمقراطية (أوباما، بايدن) بنهج لم يسفر سوى عن اضطراب المنطقة وزيادة أخطار الإرهاب الذي تتبنى واشنطن ذاتها مواجهته بالحدود سابقة الذكر، فضلًا عن غلبة تيار قوي في الشارع العربي لا يتعاطف مع أي قضية تتبناها واشنطن والغرب بسبب المعايير الغربية المزدوجة التي تؤدي إلى استدعاء العقل العربي فورًا لمسألة القضية الفلسطينية.

على أن ما ذكرناه من تراجع ثقة الحلفاء يعبر عنه بجلاء الحديث الذي أدلى به مستشار رئيس الإمارات “أنور بن قرقاش” من مسألة الحرب الأوكرانية وما يحيط بها من محاولة إعادة ترتيب الأوضاع الدولية؛ إذ ذكر أن الولايات المتحدة فشلت في إدارة النظام الدولي، وأنه قد آن الأوان لترتيبات دولية جديدة.

أزمة غزة وارتباك السياسة الأمريكية:

يمكن القول -حتى الآن- إن السياسة الأمريكية تجاه الحرب الإسرائيلية الأخيرة في غزة قد مرت بمرحلتين: الأولى، الانحياز الأعمى؛ حيث وصل الأمر إلى حد مشاركة الرئيس الأمريكي “بايدن” في اجتماع مجلس الحرب الإسرائيلي وهو تصرف غير مسبوق  ويمكن وصفه بأنه غير مسؤول كذلك، وكذا مشاركة وزيري خارجيته ودفاعه في اجتماعات مماثلة ما يصل إلى إمكانية وصف هذا إلى حد المشاركة في الحرب والعدوان على غزة، فضلًا عن الموقف في مجلس الأمن والمحافل الدولية الذي بالغ في الترويج لوجهة النظر الإسرائيلية وليس فقط مجرد الدفاع عنها، بل وصل الأمر إلى حد الإعلان عن رفض وقف إسرائيل لعدوانها- خاصة في الأسابيع الأولى- ولم تخفف واشنطن من غلواء موقفها إلا بعد قصف مستشفى الشفاء ومع ذلك تبنت وجهة النظر الإسرائيلية في تبرير هذا القصف. وتوحي متابعة الموقف الإعلامي الأمريكي إلى أنه ربما لم يصل لهذا الحد من الانحياز لإسرائيل إلا بسبب دعم حكومي ومن جماعات النفوذ والمال الأمريكية بدرجة كبيرة، بحيث لم تكن هناك مساحة للجدال والآراء المتباينة التي عرفها المجتمع الأمريكي زمن الانتفاضتين الفلسطينيتين(الأولى، والثانية) في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، وخاصة أنه آنذاك كان هناك قدر من التباين في أوساط  القيادات اليهودية الأمريكية، التي آمن بعضها بأن مستقبل إسرائيل في بناء سلام حقيقي واندماجها في الإقليم والعالم، وهو التيار الذي تراجع حاليًّا كما ذكرنا من قبل بسبب غلبة نفس التيارات المتشددة المتجاوبة مع نظيرتها في إسرائيل، فضلًا عن تطبيق نهج كارثي متشدد يميل إلى ابتزاز أي أصوات مخالفة في المجتمع الأمريكي عمومًا ولدى يهود أمريكا خصوصًا، تبدت حدته في المواقف التي تعرض لها كل من يحاول عرض وجهات نظر أخرى في كل المحافل (السياسية، والفكرية، والفنية، والثقافية)، بما رسخ في النهاية من الصورة السلبية التي رأيناها خلال هذه الأزمة الأخيرة.

المرحلة الثانية في الموقف الأمريكي بدأت بشكل تدريجي مع تصاعد بعض مظاهر الرفض في الرأي العام (الدولي، والأمريكي) لجرائم الحرب الإسرائيلية، على أنه ربما كان الأهم غموضًا واضحًا في نتائج التقدم البري الإسرائيلي في شمال غزة، سواء فيما يتعلق بإجبار الشعب الفلسطيني على النزوح أو دلائل السيطرة الفعلية على الأرض، ومن ثم رأينا مقال الرئيس “بايدن” في (الواشنطن بوست) في 18 نوفمبر، الذي وإن واصل سردية إنهاء حكم حماس والقضاء عليها، ولكنه تحدث عن حل الدولتين وتراجع عن التهجير القسري وتضمنت آراؤه ربط غزة بالضفة، وتزامن مع هذا وضوح مشاركة ودعم أمريكي كامل للجهود المصرية القطرية للتوصل إلى هدنة إنسانية- الأمر الذي تم عند إعداد هذا المقال.

وفي الحقيقة، أن سوء الموقف الأمريكي عند بداية الحرب كان انعكاسًا لارتباك هذه السياسة وناتجًا لأخطائها المتراكمة في المنطقة، وخضوعها لتوجهات إسرائيل على حساب حتى المصالح الأمريكية، وسيكون عليها اتباع أحد مسارين: إما البناء على الهدنة ومواصلة تطوير أفكارها ومحاولاتها لبدء ترتيبات سلام جادة مع الأطراف الإقليمية الفاعلة، أو العودة لتوجه مسايرة تشدد التوجهات الإسرائيلية بما نقدر أنه ستكون له مزيد من الانعكاسات السلبية على صورة الولايات المتحدة الإقليمية. 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى