2023الحرب علي غزةالعدد 196

حرب غزة/طوفان الأقصى: المبررات والمقدمات، المسارات والمآلات

أتت الحرب الوحشية التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة مفاجئة، وخارج كل السياقات المعروفة في الصراع العربي – الإسرائيلي؛ إذ إن تلك الحرب التي بدأت بهجمة مباغتة- من قبل حركة “حماس”، وهي فصيل فلسطيني- لم تتحسب لها إسرائيل البتة، علمًا إن ذلك القطاع، الذي تديره “حماس” كسلطة، يخضع لحصار مشدد منذ 16 عامًا.

الأهم، والموجع لإسرائيل، أن تلك الهجمة كبَّدتها خسائر بشرية فادحة، في يوم واحد (7/10/2023)، أكثر من أي حرب سابقة، منذ إقامتها قبل 75 عامًا، الأمر الذي زعزع “أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر” وقوض صورة إسرائيل كدولة قوية.

أيضًا، ففي تلك الحرب انتقلت المعركة إلى الداخل الإسرائيلي، ثم إنها باتت حربًا طويلة، لا تتحكم إسرائيل بانتهائها (إلى لحظة كتابة المقالة بعد 47 يومًا من تلك الحرب)، ما يعني أن إسرائيل- في تلك الحرب- حرمت من معظم المرتكزات التي بنت عليها إستراتيجيتها العسكرية في كل حروبها السابقة، وضمنها: المبادرة إلى توجيه ضربة مفاجئة، ونقل المعركة إلى خارج أرضها، والحرب السريعة، وتوجيه ضربة قاضية للعدو.

تمهيد عن قطاع غزة:

الجدير ذكره هنا، أن إسرائيل -بعد تلك الضربة- توحشت في حربها ضد غزة، مستبيحة (البشر، والشجر، والحجر) بالقصف من (الجو، والبر، والبحر) بالصواريخ والمدفعية، والقنابل الفراغية، والبوارج الحربية، وبقطع: الماء، والكهرباء، والدواء، والوقود، والغذاء عن أكثر من مليوني فلسطيني، بحيث ذهب ضحية هذه الحرب 50 ألفًا منهم، بين (قتلى، وجرحى، ومفقودين)، مع دمار 60 بالمئة من عمران وبيوت غزة، وتشريد حوالي مليون من سكانها باتوا نازحين في العراء، أو في مدارس ومستشفيات وجوامع وأماكن إيواء، لم تسلم بدورها من القصف، وكل ذلك في ظرف 47 يومًا.

أيضًا يفيد التذكير بأن قطاع غزة يشكل بقعة صغيرة من فلسطين، فمساحته 365 كيلومترًا مربعًا، أي ما يساوي 1,3 في المئة من مساحة فلسطين التاريخية، و6 في المئة من مساحة الضفة الغربية (6 آلاف كيلومتر مربع تقريبًا)، علما إن تلك البقعة الصغيرة، التي تقع في الزاوية الجنوبية لفلسطين، وكصلة الوصل بين (بلاد الشام، ومصر، وآسيا وإفريقيا)، فقيرة بالموارد، ويقطنها 2.2 مليون فلسطيني، من سبعة ملايين فلسطيني يقطنون بين النهر والبحر، من أصل 14 مليون فلسطيني في العالم.

رغم ذلك، فإن هذا الوضع الصعب والخاص، جعل قطاع غزة منطقة متميزة، فهي تعتبر مركز الوطنية الفلسطينية لمرات عدة: الأولى، تمثلت بعقد مؤتمر غزة وتشكيل “حكومة عموم فلسطين” 1948، برئاسة أحمد حلمي عبد الباقي، التي لم يكتب لها الحياة؛ بسبب طبيعة النظام السياسي العربي آنذاك. المرة الثانية: كانت بولادة الوطنية الفلسطينية المعاصرة التي بادر إليها قادة “فتح”، وأكثريتهم من قطاع غزة (ياسر عرفات، وخليل الوزير، وصلاح خلف، وكمال عدوان، ومحمد يوسف النجار، وممدوح صبري صيدم)، لكن مصير الوطنية الفلسطينية الذي آل إلى الهبوط منذ أفول ظاهرة الكفاح المسلح من الخارج، لا سيما بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان 1982، والذي ترسخ أكثر بعد عقد اتفاق أوسلو 1993، وتحول الحركة الوطنية الفلسطينية من حركة تحرر وطني إلى سلطة تحت الاحتلال، بدا في مواجهة تحد جديد مع انطلاق حركة “حماس” مع انطلاق الانتفاضة الفلسطينية الشعبية الأولى (1987 – 1993).

هكذا، فإن “حماس” التي تأسست في قطاع غزة، وبنت فيه سلطتها، شكلت حالة (خصومة، وتنازع، وتحدٍّ) للوطنية الفلسطينية، ما نجم عنه انقسام الحركة الوطنية الفلسطينية، وانقسام الكيان السياسي الفلسطيني، إضافة إلى التناقض المتمثل في طبيعتها، وفي صورتها إزاء الآخرين، بين كونها حركة وطنية أو إسلامية، وبين كونها حركة سياسية أم دينية، كما بين كونها حركة ذات أجندة أممية أم ذات أجندة فلسطينية خالصة. 

المهم، إنه منذ سيطرة “حماس” على قطاع غزة، بطريقة أحادية وقسرية 2007، لم تقدم في إدارتها للسلطة، نموذجًا أفضل من ذلك الذي لـ “فتح” في الضفة، أما عقيدتها الكفاحية فقد نجم عنها قيام إسرائيل بفرض الحصار على القطاع، وشن الحروب المدمرة عليه بين فترة وأخرى، مثلًا، فقد قضى 1436 فلسطينيًا في الحرب الأولى (أواخر 2008) مقابل 13 إسرائيليًّا، و155 في الحرب الثانية (أواخر 2012) مقابل 3 إسرائيليين، و2174 في الحرب الثالثة (صيف 2014) مقابل 70 إسرائيليًّا، و243 في الحرب الرابعة (صيف 2021) مقابل 12 إسرائيليًّا، و44 في الحرب الخامسة (صيف 2022)، من دون أي خسارة إسرائيلية.

إسرائيل هي سبب الحرب:

الآن، فإن حركة “حماس”، بهجمتها على المستوطنات الإسرائيلية (في غلاف غزة)، تكون حسمت خيارها في شأن تحديدها لمكانة قطاع غزة، وفقًا لأجندتها السياسية؛ لفرض ذاتها كقيادة للشعب الفلسطيني، على حساب حركة “فتح”، وأيضًا لفرض ذاتها كالمتحكم بالورقة الفلسطينية على الصعيدين (العربي، والدولي)، بعد أن أدارت تلك المنطقة، كسلطة، منذ العام 2007، وهو تاريخ انقسام الكيان الفلسطيني.

المعنى، إن “حماس” كشفت عن أنها كانت تعد قطاع غزة ليس كدولة مفترضة، كنواة أو كنموذج، للدولة المرتجاة أو الموعودة، وإنما كقاعدة للمقاومة، أو لتحرير فلسطين، على ما كشف محمد الضيف في كلمته التي تحدث فيها عن إطلاق معركة “طوفان الأقصى”، في تحميل لذلك القطاع الصغير- في ظروفه الصعبة وفي ظروف حصار مشدد- عبء تحرير فلسطين، أو دحر الاحتلال من الضفة.

ثمة عديد من الأسباب التي شجعت “حماس” على خوض غمار تلك المواجهة الخطيرة، والتي من المبكر التكهن بنتائجها وتداعياتها على الطرفين، وتلك يكمن أهمها في الآتي:

أولًا: شعورها أنها في ضائقة إزاء شعبها، كمقاومة أو كسلطة، فهي لم تفلح في حماية الفلسطينيين في غزة من الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة والوحشية، وثمة الحصار المشدد المفروض على القطاع، ما نجم عنه تفاقم حدة (البطالة، والفقر، وفقدان الأمل)، في منطقة قليلة الموارد.

ثانيًا: حاجة “حماس” إلى ترميم صورتها، أو استعادة صدقيتها مع حلفائها، فهي رغم جهودها في بناء قوة مقاتلة، أثبتت ذاتها بشكل أكبر في حرب 2014، إلا إنها فوتت ثلاث جولات من القتال ضد إسرائيل، التي استفردت بحركة الجهاد الإسلامي (2019، و2022)، وبديهي إن ذلك أثّر على مكانتها مع إيران، بالنظر للدعم المالي والتسليحي الذي تقدمه لها.

ثالثًا: ربما تحاول “حماس” في هذه الجولة لعب ورقتها الحاسمة، بقوتها العسكرية؛ لفرض ذاتها كالممثل الأول للفلسطينيين، في ظل التطورات الفلسطينية والعربية والدولية الجارية حاليًّا، بالتساوق مع الاعتراض الإيراني على التطبيع العربي مع إسرائيل، تحسبًا لما يمكن أن ينجم عن ذلك من تداعيات في الواقعين (العربي، والفلسطيني) مستقبلًا.

رابعًا: ثمة في الطابع الجهادي لحركة “حماس”، ما يدفعها لخوض تلك التجربة وفق مبدئها عن “الجهاد ليوم الدين، فإما نصر أو استشهاد”، مع استدعاء الخطاب الديني لنصرة المجاهدين، وتحقيق النصر الإلهي.

رغم كل المقدمات السابقة، فإن إسرائيل هي المسؤول الأساسي عن تلك الحرب، كونها المسؤول عن كل ما يجري، بين (النهر، والبحر)، ليس فقط لأن وجودها من الأصل تأسس على الاعتداء على الشعب الفلسطيني في أرضه- منذ إقامتها 1948- بتسببها بنكبته، وحرمانه من هويته ومن وطنه، وولادة قضية اللاجئين، وإنما أيضًا من مواصلتها انتهاك حقوق الفلسطينيين، وامتهان كرامتهم، والاعتداء عليهم، والتعدي على مقدساتهم (منذ 75 سنة)، ومنذ احتلال الضفة وغزة والقدس الشرقية (منذ 56 سنة).

وكما شهدنا، فقد تفاقم ذلك مؤخرًا، بانتهاكها للمقدسات (الإسلامية، والمسيحية)، وتزايد هجمات المستوطنين المتطرفين في الضفة الغربية وفي القدس، وانتهاجها سياسات (القتل، والاعتقال، ومصادرة الأراضي، وهدم البيوت)، إضافة إلى سدها الأفق أمام أي حل لتسوية القضية الفلسطينية، سواء تمثل باتفاق أوسلو 1993، أو المبادرة العربية للسلام 2002.

المقاومة رد فعل طبيعي على الاحتلال والظلم:

على ذلك، فإن مقاومة الفلسطينيين هي ردة فعل طبيعية ومشروعة لأي شعب ضد الظلم وانتهاك الحقوق، مع الأخذ في الاعتبار أن المقاومة ليست حربًا، كجيش لجيش، وأنها تعتمد على الشعب، وليس على مجموعات مقاتلة فقط، وتعتمد كل أشكال الكفاح الشعبية، ولا تحصرها بالعمل المسلح، وأن هذا العمل يفترض أن يرتبط بالوسائل المتاحة، وانتهاج أشكال مجدية ومحسوبة ومسؤولة، بحيث تستنزف العدو، ولا تتيح له استنزاف الشعب أو تحميله فوق طاقاته، كما إن انتهاج أي شكل نضالي، يفترض أن ينبثق من إستراتيجية كفاحية واضحة وممكنة ومسؤولة، ويمكن استثمارها في إنجازات سياسية، علمًا إن الحديث يجري عن تجربة عمرها 58 عامًا، مع كل الاحترام للتضحيات والبطولات.

   وبغض النظر عن افتقاد الفلسطينيين لرؤية سياسية جامعة ولإستراتيجية كفاحية مناسبة، فإنه لا يجوز قلب الصورة، كما تحاول إسرائيل للترويج لنفسها كضحية؛ إذ الفلسطينيون هنا هم الضحية، وإسرائيل بوجودها وبسياساتها هي المعتدية، وليس العكس، أما المقاومة فمجرد رد فعل طبيعي لأي شعب على الاضطهاد والاحتلال. وعليه، يفترض ألا يغيب عن إدراكات البعض- بحجة معارضة “حماس”- الحقائق السابقة، عن عدالة قضية الفلسطينيين، وطبيعة إسرائيل كدولة (استعمارية، وعنصرية، ودينية، وعدوانية)، حتى بتوصيفات إسرائيليين مثل: (إيلان بابيه، وجدعون ليفي، وعميرة هس، وأوري رام، وأبراهام بورغ، وغرشون شافير، وأفي شلايم، وشلومو ساند، وإسرائيل فنكلشتاين، … وغيرهم).

المآلات:

في المحصلة، بعد 47 يومًا على حرب إسرائيل الوحشية على الفلسطينيين في قطاع غزة، التي جعلت منه- سيما في الشمال- منطقة غير صالحة للعيش، نتيجة قصفها بعشرات آلاف الأطنان من القنابل المتفجرة، في حرب انتهجت فيها سياسة الأرض المحروقة، وتدمير كل شيء، في جرائم حرب ربما لم تشهد مثيلًا لها منذ الحربين العالميتين_ من المبكر، كما من الصعب، التكهن بمآلات تلك الحرب، أو بالتداعيات التي ستنجم عنها، فكل الدلائل تشير إلى أن إسرائيل معنية باستمرار هذه الحرب ربما بطريقة أقسى وأكثر تدميرًا لفرض إرادتها على الفلسطينيين؛ لإخضاعهم، وأيضًا لإجبارهم على ترك أراضيهم، في ترانسفير، أو في نكبة جديدة.

من الجهة المقابلة، يمكن أيضًا ملاحظة أن قوات حركة “حماس” (كتائب شهداء الأقصى) مازالت تبدي عنادًا، ومازالت تمتلك القدرة على مواصلة القتال، بدليل استمرارها في الاشتباك مع القوات الإسرائيلية بشكل مباشر، وأيضًا من خلال القصف الصاروخي للمدن الإسرائيلية.

مع ذلك، يمكن طرح بعض الاستنتاجات، بعيدًا عن العواطف والرغبات والشعارات، التي قد تفيد في الأوقات العادية، لكنها لا تضيف شيئًا في أوقات الحرب.

وحدة الساحات:

بينت تلك الحرب أن تلك الأطروحة المرتجاة، أو المتخيلة، والتي ربما تكمن وراء قرار “حماس” بالمبادرة للهجوم المذكور، مجرد شعار دعائي؛ إذ لم تثبت صدقيتها في الأيام الأولى للحرب في ظل الإرباك الإسرائيلي الحاصل، الذي وفر فرصة سانحة لها، ولا بعد كل هذا الدمار في غزة، بل إن مجمل أطراف تحالف “المقاومة والممانعة”، سيما الفاعلة فيها، نأت بنفسها عن ذلك الهجوم، هذا حصل على لسان القادة الإيرانيين، الذين باتوا يطرحون أنفسهم كوسطاء، وكدعاة تهدئة، وأن ما حصل هو شأن يخص المقاومة الفلسطينية، وهو الأمر الذي ردده الأمين العام لحزب الله “حسن نصر الله”، مع سعيه لتغطية هذا الموقف بمناوشات على الحدود، أو وفق قواعد متعارف عليها “لا تأخذ الأمر نحو حرب مفتوحة”، وهو ما فعلته ميلشيات الحشد الشعبي في العراق، وهي ميلشيات عسكرية تتبع إيران، كما فعل ذلك ميلشيات الحوثي، في قصفها الصاروخي، وفي استيلائها على سفينة في البحر الأحمر.

 في الواقع، فحزب الله مثلًا هو رصيد لإيران فقط، تستخدمه حيث توافق- كما حصل في سوريا- في قتل السوريين دفاعًا عن نظام الأسد، أو في حال شعورها بخطر يتهددها مباشرة، علمًا إن قوات حزب الله وميليشيات إيران تقاتل في سوريا، لكنها لا ترد على ضربات إسرائيل المتوالية لها، بحجة الرد في المكان والزمان المناسبين.

على ذلك، فشعار وحدة الساحات مجرد وهم، وهو شعار للتوظيف، مثلما أنه من غير المجدي الحديث عما يسمى محور مقاومة وممانعة؛ لأن هذ المعسكر يستخدم فلسطين للابتزاز والاستهلاك والمزايدة فقط، وللتغطية على سياسات إيران في تصديع وحدة المجتمعات العربية لتعزيز مكانتها الإقليمية، وهذا المعسكر مسؤول عن خراب (سوريا، والعراق، ولبنان).

على الصعيد الإسرائيلي:

يفترض بأن بين أهداف أي مقاومة للاستعمار تعزيز الانقسام والتصدع في مجتمعه وقياداته، بيد أن تداعيات تلك الحرب أدت إلى توحد الإسرائيليين، وترميم الانشقاقات فيما بين تياراتهم الرئيسة، وعودة مصطلح الحرب الوجودية، كما أدى ذلك إلى تعزيز معسكر الصهيونية الدينية المتطرفة التي باتت ميليشياتها مسلحة رسميًّا في ظل الحرب، بعد أن كانت مذمومة من أغلبية الإسرائيليين. وعلى الصعيد الدولي، في ظل حكومة تعرضت لعزل دولي باعتبارها أكثر حكومات إسرائيل تطرفًا منذ قيامها مطلع هذ العام، ولعل أكثر ما يُخشى منه هو انفلات تلك العصابات الاستيطانية بحماية الجيش الإسرائيلي في هجماتها على الفلسطينيين في الضفة، وربما في مناطق 48، على ما جرى إبان الهبة الفلسطينية دفاعًا عن “حي الشيخ جراح”، بعد الضربات الصاروخية من غزة على إسرائيل 2021.

بيد أن استمرار الحرب، وانتهاج إسرائيل سياسة العقاب الجماعي، وقتل المدنيين بدون حساب، أدى إلى استنهاض ردة فعل معاكسة على الصعيد الدولي، ضد إسرائيل، بفضل وسائط التواصل الاجتماعي، وعولمة وسائل الإعلام، تمثلت بالمظاهرات الحاشدة التي شهدتها عواصم معظم دول العالم، ومعظم المدن الأمريكية، وهذا يشمل: (نيويورك، وواشنطن، وسان فرانسيسكو)، كما يشمل: (برلين، ولندن، وباريس، وأمستردام، ومدريد).

بالنتيجة فقد وصل الأمر حد وضع إسرائيل في خانة مجرمي الحرب، كما أدى ذلك إلى تعزيز مكانة الفلسطينيين كضحية، ما يعني حصول انشقاق بين الرأي العام في الدول الغربية وحكومات تلك الدول، التي كانت ساندت إسرائيل بالمطلق، ما اضطرها إلى مراجعة سياساتها- تحت ضغط الشارع- لصالح كف يد إسرائيل، أو الضغط عليها لوقف الحرب، كما يأتي ضمن ذلك أفول فكرة المماهاة بين معاداة السامية ومعاداة سياسات إسرائيل.

استعصاء الكفاح الفلسطيني:

مشكلة تلك الحرب، كما في مجمل أشكال الكفاح الفلسطيني تكمن في:

 أولًا: تفوق إسرائيل في موازين القوى(عسكريًّا، واقتصاديًّا)، وفي تنظيمها لأوضاعها، وتمتعها بفائض قوة ناجم عن دعم الغرب لها من كل النواحي، في حين الشعب الفلسطيني- رغم تضحياته ونضالاته- ضعيف في إمكاناته، ومشتت، يفاقم من ذلك تدني قدرته على أدارة أوضاعه، وتكلس حركته الوطنية واختلافاتها مع معطيات دولية وعربية غير مواتية.

 ثانيًا: تبعًا لما تقدم فإن خسارة إسرائيل الباهظة، تبقى محدودة إستراتيجيًّا، فهي تستطيع أن تعدل وضعها، تستطيع أن تعوض ذلك من الدعم الخارجي- كما نشهد- وضمنه ضمان أمنها واستقرارها وتفوقها، في حين يصعب على الفلسطينيين الاستثمار في تضحياتهم وبطولاتهم، كما إن خساراتهم في الموارد (المادية، والبشرية، والعمرانية) يصعب تعويضها بالنظر لإمكانياتهم المحدودة، سيما في ظروف الاحتلال والحصار، علمًا إن الفارق بين خسائرهم والخسائر الإسرائيلية تزيد بعشرات الأضعاف (30، أو 50، أو 100) ضعف بحسب كل حالة، وهي في هذه الحرب الوحشية المجنونة ربما تفيض عن ذلك؛ إذ إسرائيل تستطيع أن تؤثر على شكل وجود الفلسطينيين في أرضهم، وعلى نمط حياتهم، وضمن ذلك ما تحاول إسرائيل في هذه الحرب اقتناصه كفرصة سانحة لترانسفير جديد، أو لترسيخ فصل غزة، أو لأحداث تغيير ديمغرافي في القدس أو في غير منطقة، مع ما شهدناه من خراب بيوت وحياة أكثر من مليونين من الفلسطينيين.

ثالثًا: من كل المعطيات السائدة واضح أن  القوى الغربية المتعاطفة مع إسرائيل لا تسمح للفلسطينيين بتغيير المعادلات مع إسرائيل، مهما بلغت معاناتهم وتضحياتهم وبطولاتهم، وهذا ما يفسر ذلك الالتفاف الغربي حول إسرائيل، من دول كانت قبل السابع من تشرين الأول (أكتوبر) تقاطع الحكومة الإسرائيلية تقريبًا، باعتبارها الحكومة الأكثر تطرفًا في تاريخ إسرائيل، فإذا بها بعد ذلك التاريخ تمنحها كل الدعم (السياسي، والمالي، والعسكري)، وتغطي على جرائمها بحق الشعب الفلسطيني، بدعوى حقها في الدفاع عن النفس، والنظر إليها كضحية، كأن على الضحية- أي الفلسطينيين- أن يسكتوا على الضيم والظلم وضياع الحقوق، أو كأنهم جنس أدنى، من دون حقوق، في التنكر لهم مرة كضحية، ومرة ثانية في التنكر لحقوقهم وضمنها حقهم في الدفاع عن النفس.

أسئلة برسم المستقبل:

لم تنتهِ الحرب في اليوم السابع والأربعين، فهذا يوم هدنة مؤقتة لأيام معدودة (إن ثبتت)، تم التوصل إليها بسبب عدم قدرة إسرائيل على الحسم، رغم كل التدمير الذي ألحقته في قطاع غزة، ورغم تشريد أكثر من مليون من منازلهم، وما زالت فصائل المقاومة تقاتل، مباشرة وعبر القصف، أيضًا، فقد أتت تلك الهدنة نتيجة الضغط الداخلي في إسرائيل، فقط للإفراج عن الأسرى عند “حماس”، ونتيجة الضغط الخارجي من أجل إفساح المجال لتقديم مساعدات إنسانية، وفقط.

بعد ذلك ستواصل إسرائيل حربها المجنونة ضد قطاع غزة، التي سيكون لها تداعيات ممتدة ومتداخلة على كافة الأصعدة، فهي ستحدد أولًا: وجهة إسرائيل داخليًّا بما في ذلك مصير تيار اليمين القومي والديني الحاكم وعلى رأسه بنيامين نتنياهو، وعلى صعيد علاقاتها مع الفلسطينيين. ثانيًا: بالنسبة للفلسطينيين، فإن تلك الحرب ستحدد طبيعة النظام السياسي الفلسطيني، وشكل الحركة الوطنية الفلسطينية للمرحلة القادمة، كما ستحدد مصير السلطة الفلسطينية. ثالثًا: بناء على نتائج تلك الحرب سيتم تحديد مكانة حركة حماس في الحركة الوطنية الفلسطينية، كما إن ذلك سيعني تحديد مكانة قطاع غزة، وفقط ما يُخشى منه هنا هو قدرة إسرائيل على خلق أوضاع تدفع جزءًا من سكان قطاع غزة لمغادرته بطريقة أو بأخرى. رابعًا: هذه الحرب سلطت الأضواء على قدرة إيران على استخدام ملفات عديدة؛ لخدمة أجندتها الإقليمية ولصالح تعزيز مكانتها في المنطقة، ما يضع تلك المسألة على قائمة الاستحقاقات عند مختلف الأطراف المعنيين، في المنقطة وخارجها. خامسًا: لا شك أن فكرة “وحدة الساحات”، تآكلت وتبينت عن مجرد شعار، لكن ذلك لم يتم حسمه بعد، فهذا ما ستؤكده أو تنفيه التطورات اللاحقة، لذا سيكون لنا حديث آخر في النظر إلى تلك الحرب وتداعياتها في حينه.

اظهر المزيد

ماجد كيالي

بــاحــث فلسطيــني - سورية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى