2023الحرب علي غزةالعدد 196

الموقف الأوروبي الصادم في غزة: ضغوط أمريكية، مسؤولية تاريخية أم انقسامات داخلية؟

مقدمة:

بعد فشل اتفاقيات أوسلو لعام 1993 بتحقيق أي إنجاز يُذكر في صنع سلام عادل وشامل في فلسطين، وبعد أن منحت فقط فرصة لنشوء سلطة فلسطينية لا قوة لها ولا منعة، ولم تفتح الباب أمام دولة فلسطينية، وبعد أن انشغل العرب عن القضية المركزية بخلافاتهم البينية وبمشاكلهم القطرية وبتبعياتهم الدولية، وبعد أن اطمأن الغرب إلى أن دولة إسرائيل أضحت قوية بما فيه الكفاية و صارت قادرة على فرض أجندتها في منطقة جغرافية حيوية بالنسبة له، أصبح من الطبيعي أن تتشدد المواقف وأن يتعزّز دور الفصائل المتشددة في ظل ضعفٍ بنيوي للسلطة الفلسطينية وفقدانها للشرعية التمثيلية -خصوصًا بعد خسارتها لانتخابات عام 2006 أمام حركة المقاومة الفلسطينية (حماس). وفي هذه العجالة، لن نتوقف طويلًا عند السنوات السابقة، والتي شهدت التفافًا شعبيًّا حينًا ونبذًا شعبيًّا في أحيان لهذه الحركة، وما يهمنا اليوم هو تسليط الضوء على الموقف الغربي من الحرب على غزة، والتي شنتها القوات الإسرائيلية بعد أيام من وقوعها ضحية خدعة عسكرية تاريخية فقد الإسرائيليون على إثرها أكثر من 1400 ضحية مدنية وعسكرية، كما تم اختطاف 240 مدنيًّا وعسكريًّا من الإسرائيليين.

مع هجوم “حماس” على القواعد والمستوطنات والمدن الإسرائيلية في السابع من تشرين الأول / أكتوبر 2023، ومع وقوع هذا العدد الكبير من الضحايا واختطاف آخرين، برزت ردود فعل غربية شديدة التضامن مع الدولة الإسرائيلية التي يقودها حزب الليكود اليميني المتشدد والمتحالف مع أحزاب صغيرة متطرفة دينيًّا وعرقيًّا، وهي تتميّز أيضًا باعتناقها لنظرية التفوق العرقي المستوحاة من الفاشية الموسولينية. وقد بدا المشهد وكأنه حفلة مسابقات يحاول كل طرف أن يُسجّل الموقف الأكثر تضامنًا والأشد تفهمًا لأية ردة فعل يمكن للجيش الإسرائيلي والأجهزة الأمنية الإسرائيلية أن تقوم بها، وعلى الرغم من عدم توقف الاعتداءات الإسرائيلية فيما سبق واستمرار السياسة الاستعمارية الاستيطانية الإحلالية من قبل إسرائيل رغمًا عن أنف كل القرارات الأممية.

معاداة السامية “تهمة من لا تهمة له”:

في مداخلة لها أمام البرلمان الفرنسي منذ عدة أشهر، انتقدت رئيسة المجموعة النيابية للحزب اليساري “فرنسا الأبية”، لجوء الحكومة إلى المادة 49 من دستور الجمهورية الخامسة وبفقرتها الثالثة، والتي تسمح لها بتشريع قانون دون الرجوع للتصويت عليه من قبل السلطة التشريعية، وذلك وفق شروط معينة ولعدد محدد من المرات- خصوصًا إنْ كان هناك شعور غالب بأن التصويت عليه لن يحصد الأغلبية اللازمة لإقراره، وغالبًا ما يُثير اللجوء إلى هذه المادة انتقادات واسعة من المعارضة السياسية التي تجد فيه انتهاكًا لأسس الديمقراطية. وفي معرض تنديدها بمثل هذا الاستخدام الذي اعتبرته غير ديمقراطي، أشارت إلى فشل الحزب الحاكم المتتالي في الانتخابات على أنواعها مشيرة إلى أن رئيسة الحكومة السيدة “بورن” نفسها قد نجت بأعجوبة من الانتخابات العامة الأخيرة. إثر هذا التصريح، اعتبر مؤيدو الحكومة بأن استعمال عبارة “النجاة” يُخفي رغبة من النائبة بتذكير رئيسة الوزراء بأن والدها، سبق له أن نجا من معسكر الإبادة الجماعية التي تعرض لها اليهود في أثناء الحرب العالمية الثانية، وبالتالي فهذه النائبة معادية للسامية. وبتاريخ 10 تشرين الأول / أكتوبر، زارت رئيسة المجلس النيابي الفرنسي إسرائيل للتضامن مع تل أبيب، وقد أدلت بتصريحات دافعت من خلالها عن حق إسرائيل “المشروع” في الدفاع عن النفس؛ ولانتقادها على هذه التصريحات المؤيدة لدولة الاحتلال، والتي غاب عنها أية إشارة لفعل الاحتلال المستدام منذ عقود لأرض فلسطين والحصار العسكري القائم على قطاع غزة بعيدًا عن أية مبادئ إنسانية أو قانونية. خرج الرئيس التاريخي لحزب فرنسا الأبية، “جان لوك ميلانشون”، بتصريحٍ ندّد من خلاله بهذه الزيارة التي لا تدخل في صلب مهام رئيسة مجلس نيابي، وقد أشار إلى أن السيدة الرئيسة قد اختارت أن “تُخيّمَ” في تل أبيب تضامنًا مع المحتل، وأمام مفردة “التخييم”، عادت أبواق التنديد إلى أفواه جيوش الإعلاميين والسياسيين الذين وجدوا فيها رغبة منه للتذكير بـ “مخيمات” الاعتقال النازية، التي كانت تضم اليهود الأوروبيين، وبالتالي فهو معادٍ للسامية على أن السيدة الرئيسة يهودية. ولقد صار مستساغًا ومتفقًا عليه أن يُتهم كلٌ من ينتقد دولة إسرائيل وسياساتها بمعاداة السامية حتى لو كان يهوديًّا، فإن جرى الحديث عن “إبادة جماعية” بحق الشعب الفلسطيني، فالعبارة ممنوعة على غير اليهود، واللجوء لاستعمالها رجس من معاداة السامية، وكذا الأمر إن تم توصيف غزة بـ “المعتقل الكبير”، فالعبارة محصورة بما عاشه اليهود من أوضاع في معتقلات النازية سيئة السمعة، والخوف كل الخوف يكون في تعميم الحظر على استخدام مفردات كـ(الحق، والبشرية، والإنسان)؛ فبعد عقودٍ من احتلال الأرض، يتم احتلال المفردات في ظل صمت ملتبس وشريك على مستوى الأداء السياسي للدول الغربية التي تميّز تاريخها الحديث فعلًا بمعاداة السامية.

إنه لمن شبه المؤكّد بأن أتباع الديانة اليهودية- عدا المتطرفين منهم- لم ولن يتوقفوا عند هذه الاستخدامات الملتوية للمفردات، والتي يجري تجييرها لصالح تأجيج التعاطف مع سياسة دولة استيطانية وإحلالية، أخذت دينهم كرهينة. إن الخلط المنهجي بين انتقاد سياسات دولة والتعميم على أتباع دينٍ ليس محصورًا بإسرائيل وأبواقها فحسب، بل هو موجود لدى كل متطرفي الأديان، على أن الأوساط الصهيونية أكثر جرأة ووقاحة ونجاح في هذا الاستغلال، فهل سينتفض جسد الذكاء البشري والحس الإنساني أمام هذا الأسلوب؟

كيف يمكن تفسير أسباب الانحياز الغربي المتشدِّد لحكومة الحرب الإسرائيلية؟

تصدّر غلاف صحيفة ليبراسيون اليومية بعد شهرٍ ونيف من بدء التدمير المنهجي لغزة حجرًا وبشرًا، تصريحٌ لوزيرة الخارجية الفرنسية تقول فيه “إنه من الممكن التضامن في الوقت ذاته مع الفلسطينيين كما مع الإسرائيليين”. وقد جاء هذا البحث عن التوازن في الموقف مع ما يحمله من إشارة إلى الإنسان بمعزلٍ عن السياسيين والمتحكمين بقرارات تحمل في جنباتها الموت والدمار، بعد أسابيعَ من التحيّز الفاضح والواضح للجهاز العسكري والأمني الإسرائيلي بعيدًا عن لعب أي دورٍ، اشتُبه تاريخيًّا بأن لفرنسا خصوصًا ولأوروبا عمومًا أن تلعبه في إطار حلٍّ سلميٍّ متوازنٍ لقضية ساهم الغرب بصنعها، كما تحوّلت دعوات الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” من “تشكيل تحالف دولي لمحاربة حماس” إلى دعوة صريحة بوقف إطلاق النار في غزة مرورًا بالدعوة إلى تشكيل تحالف دولي لمد غزة بالمساعدات الإنسانية، وتطور لافت من الهام التوقف عنده ليس فرنسيًّا فحسب، بل غربيًا بشكل عام.

ومن الممكن أن يُشار إلى أن الموقف الفرنسي قد مال إلى جهة تبني دبلوماسية تبعية للتوجهات الأمريكية في المنطقة مع رئاسة إيمانويل ماكرون التي بدأت سنة 2017، وبعد أن فقدت فعليًّا استقلاليتها التي انتهت مع نهاية عهد جاك شيراك سنة 2007. كما أنه من الضروري التنويه بأن ذاكرة الدولة الفرنسية تحمل عقدة ذنب مرتبطة أيضًا بمعاملة اليهود، فمن قبل حكومة باريس (فيشي) المتعاونة مع الألمان، التي قامت بترحيل ما يقارب السبعين ألف يهودي على معسكرات الاعتقال في ألمانيا وفي بولندا، وذلك بين عامي (1940 و1944). وأخيرًا، يمكن أن يؤخذ بعين الاعتبار ماضٍ فرنسي استعماري لم يتخلص منه العقل الكامن لدى النخبة السياسية حتى اليوم، وكم تبدو المقارنة دقيقة بين الاستعمار الاستيطاني الفرنسي للجزائر مع الاستعمار الإسرائيلي الاستيطاني لفلسطين.

غربًا، ومع بروز الموقف الأمريكي الصريح شديد التبني للموقف الإسرائيلي تجسد بالزيارة الفورية التي قام بها وزير الخارجية “بلينكن واليت” صرّح في بدايتها أنه “لا يزور إسرائيل كوزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية فحسب، بل كيهودي أيضًا”. وبالتالي، فهو، وبصريح العبارة، نقل النزاع بين دولة إسرائيل والشعب الفلسطيني المغتصبة حقوقه من الحيّز السياسي إلى الحيّز الديني، وهذا الإسقاط كان تهمة سهلة التداول توجه للعرب وللفلسطينيين على أن تضامنهم يستند إلى الانتماء الديني الإسلامي، وذلك لتجريده من أي بعد وطني وإنساني وأخلاقي.

بعد هذه الزيارة “الانتمائية”، تهافت القادة الأوروبيون على تل أبيب وبطريقة أثبتت مرة جديدة بأنه ومع الزمن، أضحت التبعية الأوروبية في السياسة الخارجية لواشنطن، وبعد أن تبين بأن لا سياسة خارجية موحدة للاتحاد الأوروبي- خصوصًا بعد توسّعه ووصول العدد إلى 27 عضو- إلا أن الواقع الحالي يمكن أن يوصف بوحدة ظرفية خلف القرارات الأمريكية في المنطقة العربية. وبعد أن كانت فرنسا، ومنذ عهد الجنرال “شارل ديغول”، قد تميّزت بسياسة خارجية مستقلة وخصوصًا فيما يتعلق بالقضية الفرنسية، إلا أننا نراها اليوم تتسابق مع البيت الأبيض والمستشارية الألمانية في تبيين الموقف الداعم وغير المشروط لتل أبيب.

ألمانيا الاتحادية تحمل إرثًا ثقيلًا بامتياز يمكن له أن يبرر جزئيًّا الوقوف المتحيّز المُجمع عليه سياسيًّا بين (اليمين، واليسار)، مع مزايدات من اليمين المتطرف العنصري، فعقدة الذنب تجاه دور الحكومة الألمانية في الحقبة النازية في قتل الملايين من اليهود والغجر أصحاب الاحتياجات الخاصة والمثليين، ما زالت تُشكّل عبئًا أخلاقيًّا يهيمن على مخيلة كل ألماني، وفي ذات الوقت هناك فصام واضح بين الشارع وبين السياسيين. وعلى الرغم من عقدة الذنب هذه، إلا أن الألمان يعتقدون بأنهم دفعوا ثمنًا كبيرًا للتعويض عن ذنبهم الجماعي من خلال ضخِّ الأموال والمساعدات سنويًّا تجاه إسرائيل، كما قاموا بتلقين أجيالهم الجديدة هذا الجزء من تاريخهم المظلم حتى لا ينسوا وحتى لا يتكرر ما حصل البتة. وقد توسعت الفجوة بين النخبة السياسية على تلاوينها والنخبة الثقافية التقليدية من جهة، وبين المواطن الألماني-وخصوصًا الجيل الشاب، وقد رفض المستشار الألماني “أولاف شولتز” أية دعوة إلى وقف إطلاق النار مختلفًا عن نظيره الفرنسي، كما زارت وزيرة خارجيته- وهي من حزب الخضر المعروف تاريخيًّا بمواقفه المنصفة من القضايا الإنسانية وخصوصًا في العالم الثالث- إسرائيل مرتين، وصرّحت بدعم غير مشروط لحكومة تل أبيب، وتفهّم كامل لردة الفعل الدموية ضد غزة وأهلها، مشيرة إلى أن إسرائيل تبذل جهدها في تجنب إصابة المدنيين.

من جهته، صرّح الفيلسوف الألماني المعروف “يورغان هابرماس” بأن وجود دولة إسرائيل هو أمر وجودي لاستمرار الدولة الألمانية، كما صدرت تحذيرات من استعمال شعار “فلسطين حرة من النهر إلى البحر” في مظاهرات التأييد للفلسطينيين بحجة أنها دعوة للقيام بأعمال إرهابي، وقد تم تهديد من يردد هذا الشعار بالسجن لمدة تناهز ثلاث سنوات. ومع تواجد أعداد ضخمة من اللاجئين في ألمانيا منذ سنة 2015، فقد تم تهديدهم بإلغاء إقامات إن هم شاركوا بوقفات احتجاجية وتضامنية، كما تم إقرار بند يتعلق بتدريس ضرورة محاربة “معاداة السامية” للراغبين بالحصول على الجنسية الألمانية، كلها إجراءات تدل على تخبّط سياسي يبحث عن طريقة للهروب من مسؤولية أخلاقية نجمت عن قيام الجيش الإسرائيلي بعملية إبادة جماعية في غزة.

بالمقابل، قامت حملة شعواء على كل من سوّلت له نفسه بإدانة ردة الفعل الإسرائيلية الوحشية والقصف الأعمى للمدن والمخيمات الفلسطينية، وصار لزامًا على كل معلق أو مسؤول أن يفتتح إعلاميًّا أو عموميًّا أي لقاء، ولو كان حول الاحتباس الحراري ودببة القطب الشمالي، بإدانة صريحة “للإرهاب الفلسطيني الذي مورس بحق المدنيين الإسرائيليين”.  يتضمن هذا “الأمر اليومي”، المتجدد منذ السابع من تشرين الأول / أكتوبر، تشديدًا على ضرورة استعمال عبارات “الإرهاب والإرهابيين” في الحديث عن الفعل وعن العناصر التي اقتحمت حائط الفصل العنصري ووطأت أقدامها أراضي الأجداد، التي سلبها الصهاينة وألقوا بسكانها في مخيمات اللجوء ضمن شريطٍ أضيقٍ من أرض فلسطين، الذي اسمه قطاع غزة. وبالمقابل، فلا إرهاب دولة عند التطرق إلى القصف الإسرائيلي العشوائي على المدنيين وقتلهم بالمئات؛ فهنا إسرائيل تستخدم “حقّها” في الدفاع عن النفس ضد “الإرهاب” ليس إلا، إنها تواجه “وحوشًا” و”حيوانات بشرية” تقتل دون تمييز، ومن المحتّم بأن لا ترد عبارة مستوطنة بالحديث عن النقاط التي هوجمت، فإما هي مدن أو كيبوتزات. أما الحفل الموسيقي، فبعد أن اكتفى الإعلام بتوصيفه كذلك في بداية التقارير الإخبارية، أُضيف إلى عنوانه “من أجل السلام” لكي يُستنكر هذا العمل “الوحشي” ضد فتيان وفتيات يحتفلون بالسلام على بعد مئات الأمتار فحسب من أرضٍ تضم أكثر من مليونين وثلاثمائة ألف فلسطيني مُعرّضين لحصار وحشي منذ ما يقارب 17 عامًا، وقد هيمن توصيف الحفل أنه “من أجل السلام” على كل الخطاب الإعلامي.

الخاتمة:

مع استمرار الحرب على غزة، يظهر بجلاء انقلابٌ عميق في الموقف الشعبي الأوروبي، وخروج مئات الآلاف من مواطني الدول التي عبَّر مسؤولوها عن دعمهم غير المشروط لآلة القتل الإسرائيلية منذ اليوم الأول موضحين بأن هذا يدخل في بند الدفاع عن النفس إثر هجوم “حركة المقاومة الإسلامية” على القواعد والمستوطنات والمدن الإسرائيلية في السابع من تشرين الأول / أكتوبر 2023، كما وضحت الانقسامات بين الدول المنتمية إلى اتحاد أوروبي لم يتميّز في تاريخه بأي تنسيق على مستوى السياسات الخارجية؛ فلقد تميّز الموقف الإيرلندي بإيجابية تجاه حقوق الفلسطينيين وهذا مرتبط أساسًا بتاريخ حركات التحرر الأيرلندية وتجاربها، كما عبّر بعض الوزراء الإسبان كما رئيسهم عن مواقف متميّزة نسبيًّا ضد أعمال القتل الجماعي وجرائم الحرب التي يقترفها جيش تل أبيب في غزة، وبرز موقف شديد النقد للسياسات الإسرائيلية من حكومة بلجيكا، وهي البلد المضيف لمقر الاتحاد الأوروبي. موقفا (إسبانيا، وبلجيكا) دفعا إسرائيل إلى استدعاء سفيري البلدين لما اكتنزته تل أبيب من ثقة بموقف أوروبي داعمٍ أعمى، وهذا ما لم يحصل.

للوهلة الأولى، بدا أن التضامن الأوروبي موحَّد خلف تل أبيب، ومن خلال تبعية مطلقة للموقف الأمريكي، بدا المشهد وكأنه حفلة مسابقات يحاول كل طرف فيها أن يُسجّل الموقف الأكثر تضامنًا والأشد تفهمًا لكل العمليات التي قام ويقوم وسيقوم بها الجيش الإسرائيلي والأجهزة الأمنية الإسرائيلية مهما بلغت وحشيتها، وازدحم مطار “بن غوريون” بالوفود الأوروبية التي تهافتت للتعبير عن دعمها من رؤساء دول إلى رؤساء حكومات ومرورًا برؤساء مجالس النواب من كل التيارات السياسية. وفي غمرة النفاق الحماسي، لم يفطن هؤلاء إلى أنهم تصوروا بلباس الحرب وفي مواقع الهجوم الإسرائيلي الدموي، ولقد ساهمت هذه المواقف بنقل صورة الحليف الأعمى والأصم لآلة القتل الإسرائيلية بمعزل عن أي حسابات تذكر لرأي عام عربي شعبي دونًا عن الساسة الحاكمين الذين اكتفوا بقمة شكلية أدانوا من خلالها العنف الإسرائيلي دون اتخاذ أي إجراء يُذكر.

وإن كان القادة الغربيون يثقون بإمساك حلفائهم المستبدين في دول الجنوب برقاب شعوبهم، إلا أن تفاقم الموت بأيدي الإسرائيليين بدأ بتحريك الشارع العربي والإسلامي وحتى الأوروبي والأمريكي؛ فبدأت الشروخ تظهر في بنيان التكاتف المطلق مع آلة العدوان عبر تصريحات بعض المسؤولين ومن خلال اختلاف اللغة الإعلامية التي خرجت من قمقم سيطرة اليمين الإسرائيلي المتطرف ولوبياته الفاعلة في الغرب لتقترب نسبيًّا من مستوى متدني من الموضوعية رغم الصعوبات البنيوية، وأُجبر المسؤولون الذين منعوا التظاهرات المؤيدة للشعب الفلسطيني بالتراجع رويدًا رويدًا عن تعنتهم أمام الخوف من انفجار لا تحمد عقباه.

رغم تأكيد جميع المسؤولين الإسرائيليين على أن الهدن المؤقتة ريثما يتم إطلاق سراح الرهائن لدى حركة حماس لن تطول، وبأنهم ماضون في حفلة القتل التي استساغوها بحق الشعب الفلسطيني، إلا أن التغير القائم، ولو بشكل جزئي ومتردد في الموقف الغربي، وانتقاله من التضامن الأعمى والأصم عن المقتلة إلى موقفٍ صارت تدخل فيه حسابات الاستقرار الداخلي في الدول الغربية نفسها مع ازدياد التوتر القائم مع الرأي العام المحلي وليس فقط المهاجر في مدنها_ سيؤثر حتمًا في تطورات الأيام المقبلة، كما أن وقع تصريحات العاملين الإنسانيين التي تشير بوضوح إلى ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية من قبل قوات الاحتلال، يكاد تصنيفها دوليًّا يرقى إلى جرائم إبادة جماعية، سيدفع بالمزيد من الجموع للتعبير عن غضبها في شوارع المدن الغربية، مما سيدفع الساسة إلى إعادة النظر في حساباتهم.

في برلين، رفع مواطنون ألمان لافتة ضخمة كتب عليها: “حرروا فلسطين من الذنب الألماني”.

اظهر المزيد

د. سلام الكواكبي

باحــث سوري في العلوم السياسية - فرنسا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى