مدخل:
الحواريات أو الثنائيات أو الدويتات أو الديالوجات، هي جزء من العمل المسرحي أو الغنائي يشارك فيه مؤديان (ممثلان، أو مغنيان)، ويُستثنى هنا مصطلح “حِواريات”، الذي يمكن أن يشارك فيه أكثر من اثنين.
الدويتات ومفردها دويتو Duetto من الإيطالية Duo (دو) أي اثنان، والديالوجات ومفردها ديالوج، من اللغة الإغريقية القديمة Dialogue: (ديا) اثنان، لوجو كلام أو منطق أو جدال.
وقد وردت الحواريات إلى تاريخ الحضارة الإنسانية من المسرح اليوناني الإغريقي (القرن الخامس قبل الميلاد)، بعد أن كان هذا المسرح يعتمد على الممثل الواحد، وعلى الأداء المنفرد مونولوج “Monologue” أداء الممثل الواحد، وكان الممثل يغير أقنعته لتقديم شخصيات مختلفة على المسرح.
ثم دخل التطور على الكتابة المسرحية بإدخال مؤدٍ ثانٍ وبهذا ظهرت الكتابة لمؤديين: ديالوج وعبر التاريخ دخل هذا النوع من الأداء المزدوج إلى التأليف الموسيقي خاصة بعد ابتداع المسرح الغنائي في أوروبا في حقبة عصر النهضة مع بدايات فن الأوبرا في مدرسة فلورنسا الموسيقية الإيطالية، على يد جاكوبو بيري Jacopo Peri (1561-1633)، وجوليوكاتشينيJulio.
Caccini (1548-1618) وغيرهما. أوصل هذا الفن إلى ذروته في تلك الحقبة كلاوديو مونتيفيردي Claudio Monteverdi (1567-1643) في أوبراه أورفيوس Orpheus 1607، التي تعتبر البداية التاريخية الفعلية للأوبرا في تاريخ الموسيقى الغربية، والتي يشكل الديالوج أحد أهم عناصر الدراما فيها.
كيف دخل هذا الفن إلى الموسيقى العربية؟ على هامش افتتاح قناة السويس سنة 1869، افتتحت دار الأوبرا المصرية الأولى وبدأت تقدم عروضها التي كان أهمها الأوبرات والأوبريتات الأوروبية إلى جانب العروض الأوركسترالية السمفونية. وكان من رواد الأوبرا الدائمين الموسيقار الشيخ سيد درويش (1892-1923)، الذي استوعب الفنون الأوبرالية بكل عناصرها، والتي كان يحضر عروضها بشكل شبه دائم، وكانت هذه العروض بمثابة المدرسة الكبيرة التي صقلت عبقريته في التلحين الدرامي الذي نعرفه في أعماله المسرحية: أوبريتاته الثلاثين المليئة بالعناصر الدرامية والموسيقية التي اكتسبها من عروض دار الأوبرا، ومن ضمن هذه العناصر تلحين الديالوجات، فأدخل هذا الفن على أوبيريتاته (مسرحياته الغنائية) بعد أن كان الغناء العربي مقتصرًا على الغناء الفردي في الحقبة التي كان فيها المغني هو الملحن والتلحين عبارة عن ارتجالات هذا المغني الملحن، فكانت أولى الحواريات الغنائية العربية: على قد الليل ما يطول (العشرة الطيبة -1920)، وأديني أهو جيت لك (شهر زاد -1921)،… وغيرها.
محمد عبد الوهاب والدويتات:
استلم الراية بعد وفاة سيد درويش 1923، أنجبُ تلاميذه محمد عبد الوهاب (1898-1991)، فسجل في نفس سنة وفاة سيد درويش أربع أغنيات -ديالوجات غنتها معه المطربة سميحة المصرية، التي شاركته في بعض مسرحيات سيد درويش بعد وفاته، لحن هذه الأغنيات محمود رحمي أستاذ الغناء الذي لقَّن محمد عبد الوهاب غناء الموشحات في معهد الموسيقى الشرقية.
وقد سبق ذلك من غناء المطرب من ألحان غيره: (موشح ملى الكاسات) 1923، لشيخ ملحني القرن التاسع محمد عثمان، وكذلك سنة 1921 قصيدتي “أتيت فألفيتها ساهرة”، و”ويلاه ما حيلتي” لسيد المسرح في ذلك الوقت ومكتشف سيد درويش الشيخ “سلامة حجازي”، وبذلك تكون هذه الأغنيات المذكورة هي الوحيدة التي غناها محمد عبد الوهاب من ألحان غيره قبل احترافه التلحين. الأغنيات – الديالوجات كلها من نظم بديع خيري وكلها جاءت سنة 1923 كما ذكرنا وهي:
- الله يجازيك يا ودانية، من مقام بياتي شوري.
- نوبة على كبري قصر النيل، من مقام النهاوند.
- والله زمان ياخفَّافي، من مقام العجم.
- يا مين يحكم بيني وبينك، من مقام نوا أثر.
وقيمة هذه الأغنيات تقتصر على قيمتها التاريخية فقط كونها دخلت على تراث محمد عبد الوهاب من ألحان غيره، وهي من غير قيمة فنية تستحق الذكر.
ديالوجات 1935:
وبدت في فيلم (دموع الحب)، وتظهر بوضوح في أغاني هذا الفيلم استفادات محمد عبد الوهاب من الموسيقى الغربية التي كان يسمعها في دار الأوبرا وفي منزل الموسيقار المعروف مدحت عاصم (عازف البيانو والملحن)، وتظهر هذه الاستفادات أوضح ما تظهر في مونولوج “أيها الراقدون”، الذي جاء متأثرًا بسمفونية شوبرت الثامنة (غير التامة) بجوها القاتم والرثائي والدرامي في حركتها الأولى، لكن ما يهمنا هنا هو ديالوجات هذا الفيلم “صعبت عليك”، و”ما أحلى الحبيب”.
ديالوج “صعبت عليك”، يبدأ بمقدمة درامية فيها بعض القتامة من مقام النهاوند تعزفها آلات الوتريات، ويبدو فيها واضحًا جدًا دور مجموعة التشلو(الفيولونسيل)، والكونترباص؛ لتعميق الجو الدرامي في المقدمة، كذلك دخول آلة القانون في هذه الجملة للتلوين الآلي الأوركسترالي. هذه الجملة تشير من دون أي شك إلى أن تفكير محمد عبد الوهاب الموسيقي في تلك الحقبة كان سابقًا بكثير مستوى الفرق الموسيقية، ومستوى التنفيذ الأوركسترالي. ويظهر هذا بوضوح أكثر في اللازمة التي تلي أول كلمتين تنطق بها البطلة: “صعبت عليك ” المليئة بالجو الدرامي الذي يمهد للدخول الدرامي للمطرب “دي شافت العز القديم”، ويدهشنا الملحن هنا بالتلوينات المقامية المتلاحقة: نهاوند(البداية)، حجاز كار عند “ياخوفي تنقطع تاني”، عودة مفاجئة إلى النهاوند “مالك كدة قاسي علي”، كل هذا على جُمل متتالية واضح فيها تأثر محمد عبد الوهاب بالغناء الأوبرالي، الذي كان يسمعه في دار الأوبرا. ولا ينسى الملحن جذوره القرآنية العربية فنسمع مقام البياتي الشجي يدخل بتصادم واضح مع مقام النهاوند “هواك قلبي”، ويستمر البياتي “كل النعيم في الحياة”، ثم يدخل العجم بشكل تصادمي في حوار صغير بين آلة العود مع تآلفات الوتريات “لو كنت ترضى وترحمني” يذكر بالأساليب الرومانتيكية في الموسيقى الكلاسيكية الأوروبية في تصادم المقامات. لابد هنا من ذكر الإيقاع الذي يدخل معتمدًا على الإيقاع الداخلي للحن (الفالس الثلاثي الأضلاع) ليختلط مع الغناء المرسل (Recitativo)، ولابد من ذكر أن الإيقاع الثلاثي هنا (الفالس) يدخل من دون استعمال آلات الإيقاع بل يأتي بنقر الكونترباص الضلع الأول فنشعر بذلك بالإيقاع الثلاثي الأضلاع “لو كنت ترضى وترحمني” واضحًا.
ديالوج “ما أحلى الحبيب” يبدأ بمقدمة على مقام البياتي مليئة بالبهجة والتفاؤل والسعادة والإشراق، وبأسلوب السرد الموسيقي الوصفي الذي يظهر جليَّا في جملة “اعرف كلام النسيم”؛ حيث نسمع مجموعة الوتريات تعزف لازمة بواسطة ترجيف القوس على الأوتار (تريمولو- Tremolo) مع تمويج في ازدياد قوة الصوت وتراجعها (كريشيندو ودمينويندو) لتصوير صوت النسيم وهو يداعب أوراق الشجر. وهذه الطريقة في العزف كانت مجهولة في تلك الحقبة، ولا يكتفي بذلك بل يظهر هنا واضحًا تأثره بسمفونية بيتهوفن السادسة(الريفية) في حركتها الثانية الهادئة التي يصف فيها بيتهوفن الطبيعة بشكل يصل إلى الوصف الحسي والمادي (Naturalism)، حين نسمع في نهاية الحركة صوت ثلاثة أنواع من العصافير تعزفها آلات النفخ الخشبية (الفلوت، والأوبوا، والكلارينيت)، ويستعمل هنا محمد عبد الوهاب صوت عصفور الكوكو عند انتهاء جملة “وافهم لغة الطير الشادي لمّا يغني تعزفه طبعًا آلة الناي. الديالوج مليء بالجمل الموسيقية الجميلة، ويمتاز أيضًا بوفرة التلوينات المقامية والإيقاعية: من غناء مرسل من دون إيقاع (Recitativo) إلى غناء على خلفية إيقاع من دون آلاته تعزفه آلة الكونترباص بالنقر، فنستمع بهذه الطريقة إيقاع الثنائي الأضلاع ثم ثلاثي الأضلاع “يا هل ترى لما أشكيلك”، وهو إيقاع الفالس. ونلاحظ هنا بداية تخلي محمد عبد الوهاب عن آلات الإيقاع (التي كانت ضرورية لعزفه في الحقبة السابقة) مكتفيًا بالإيقاع الداخلي للحن (كما في الموسيقى الكلاسيكية الأوروبية)، يسانده النقر على آلة الكونترباص فيصل بذلك وقع الإيقاع وميزانه واضحًا دون أن يستفقد المستمع آلات الإيقاع، ويُنهي محمد عبد الوهاب “ما أحلى الحبيب” بهارمونيا بسيطة جدًا من صوتين عند “ونعيش بجو الأماني”.
ديالوجات 1937:
وردت في فيلم يحيا الحب أول عرض 24/1/1938 سينما رويال وهما اثنان: يادي النعيم، وطال انتظاري لوحدي. ديالوج يادي النعيم يبدأ على مقام العجم بمقدمة مرسلة هادئة مشرقة تنتهي بالنقر على الآلات الوترية نزولًا على السلم الموسيقي من الجواب العالي لغاية القرار بنبض واضح سريع يخرج المستمع من الجو الحالم ليستعد لما هو آت. بعد المقدمة على إيقاع وميزان رقصة البازودوبلي (Paso Doble) أي الخطوة المزدوجة الرقصة الإسبانية الشهيرة ولكن من دون استعمال آلة الكاستا نبيت المصاحبة دائمًا لهذه الرقصة (وقد استعملها الملحن في الكثير من أغنياته)، يبدأ المطرب الغناء بجملة مليئة بالسعادة “يادي النعيم”، ثم نسمع اللازمة مرة ثانية يليها المطرب على نفس المقام (العجم) “كانت سحابة”، هنا يبدأ التلوين المقامي بعد هذه الجملة بلازمة من مقام البياتي تمهد لجملة “وكان صدودك”، وتمهد هذه الجملة لدخول المطربة “الجو راق” وينتهي الجزء الأول من الديالوج بإعادة المطلع بصوت الاثنين ويقف الإيقاع.
نصل هنا إلى محاورة رائعة “مرسلة أنت اللي كنت السبب” يليها لازمة من نقرتين على الوتريات ثم “في الهجر ده والخصام” تنتهي ببعض الدرامية، يليها لازمة الوتريات بالقوس في نفس الجو الدرامي “وكان صدودك عجب” بداية النهاوند الذي تؤكده لازمة نقرات الوتريات ليمهد الدخول بجملة “حرم عيوني المنام” لدخول المطربة “ده ذنب قلبي” ليفاجئنا الملحن هنا بإيقاع (دور هندي) إيقاع موشح سيد درويش “صحت وجدًا”، ولكن ليس لوقت كبير فبعد هذه الجملة “ده ذنب قلبي من كثر حبي” تأتي جملة “يميل إليك” على الفالس ¾ ، ويتابع المطرب على نفس الإيقاع “وليه تغيري والغيرة نار”، حيث يوقف الإيقاع عند كلمة (نار) الذي يمدها بطريقة الفوكاليز (Vocalise) طريقة الغناء الأوبرالي، لتنهي المطربة هذا الجزء “عيني شافت”، يلي ذلك لازمة على العجم وإيقاع دور هندي الذي ورد سابقًا، المطرب “صحيح تغيري عليا” على نفس الإيقاع ليقف عند “خود الجواب من عينيا”، ويعود عند “أنت قاسيت” ليرد عليها المطرب “تنسى ليالي سهادي” ليقف الإيقاع نهائيًّا مهيئًا بذلك المشهد الأخير من الأغنية الذي يبدأ بلازمة موسيقية أخذها محمد عبد الوهاب من مقدمة أغنية سيد درويش (العربجية) بعد تطويرها وزيادة جملة طويلة في وسطها تغير طابعها الأصلي، ينتهي هذا المشهد بإعادة المقدمة المقتبسة بعد حوار من أجمل ما يمكن ينتهي بكلمة “يا روحي” بطريقة النهايات الغنائية الأوبرالية وبمد الغناء على كلمة (يا) بطريقة الكادنزا الأوبرالية (cadenza).
طال انتظاري نعرض هنا أهم نقاط الحوارية:
تبدأ الأغنية بجملة أوركسترالية من مقام نهاوند، ويلي ذلك على نقر الوتريات إيقاع الزرافات 10/16، وهو نفس إيقاع السماعي الثقيل 10/8 أو 10/4، ولكنه أسرع وذلك على كلمات “طال انتظاري لوحدي والبعد عنك أليم”.
ويعيد نفس هذا اللحن الجميل على نفس الإيقاع على “وكنت من كثر وجدي”، وتثبت هاتان الجملتان مقدرة المطرب المطلقة على أداء أصعب إيقاعات الموشحات حتى من دون آلة إيقاع مصاحبة كما في الأغنية.
مقطع دخول المطربة، نسمع نفس الجملة الأوركسترالية التي وردت في بداية الأغنية تعيدها المطربة غناءً “مش عارفة أقولك أيه”، وتستمر المطربة “من يوم ما هويت” على مقام البياتي.
انتقال من البياتي إلى الراست “ليه الندم” للمطرب، وترد المطربة على مقام النهاوند “خايفة كلام الناس” ليمهد الملحن لأحدى أروع الجمل الغنائية التي وردت “أنا كنت مستني الأيام” على النهاوند المرصع نغمة النوا أثر ثم يفاجئنا عند “وكنت أقول وصلك أوهام” بجملة هارمونية، وهي عبارة عن التجانس العمودي المسمى بالعلم الموسيقي التوافق الكبير السابع، وهو مؤلف على سلم العجم من أربعة حروف يفصل بينها أبعاد ثالثة والجملة وردت على مقام فا: فا- لا – دو – مي (منخفضة نصف صوت). وليعذرني القارئ لاستعمال بعض المفردات العملية الجامدة، وذلك للإشارة إلى معرفة محمد عبد الوهاب بها واستفادته منها؛ ولسبب دخولها لأول مرة في التلحين العربي.
نرجع إلى هذا التوافق الكبير السابع (major sept accord)، الذي يغنيه المطرب بروعة لا تضاهى مجزئًا التوافق إلى حروفه الأربع في جملة من أروع ما لحن وغنى.
يلي ذلك “حفتح قلبي” ترد المطربة في جملة رائعة “أنا قريت اللي فيه” تعتمد أسلوب التتالي sequence في التلحين، وهي إعادة جملة موسيقية على درجة أو أكثر أعلى أو أوطأ على السلم الموسيقي، وهدفها تقوية البنية الداخلية للحن، كل ذلك على مادة لحنية من أجمل ما سمعنا في الموسيقى العربية.
دخول مقام العجم بشكل مفاجئ على “يا مسعد القلب المشتاق” مع تهدئة السرعة والنبض تمهيدًا للنهاية، ويفاجئنا الملحن بتغيير المقام بشكل تصادمي وجريء جدًا: على نفس الدرجة الأولى للعجم (درجة فا)، يحول الملحن اللحن من مقام العجم إلى الهزام المصور ويُنهي به الأغنية بجو مليء بالهدوء النفسي والسكينة.
1939 تنفرد هذه السنة بأعظم حوارية غنائية في تاريخ الموسيقى العربية دون أي شك: المسمع الأوبرالي “قيس وليلى” من مسرحية أمير الشعراء أحمد شوقي “مجنون ليلي”، ورد هذا المسمع التاريخي في فيلم (يوم سعيد)، أول عرض 15/10/1940 سينما رويال وغناه مع الصوت الخالد أسمهان صوتًا فقط. قام بدوره تمثيلًا في الفيلم الممثل الكبير أحمد علام وقامت بدور أسمهان (ليلى) الممثلة فردوس حسن، وبدور المهدي تمثيلًا وغناء الممثل الكبير عباس فارس، ويتألف هذا المسمع من عدة مشاهد نعرضها تباعًا من خلال عرض الخريطة الدرامية لهذا المسمع التاريخي:
المشهد الأول: المقدمة:
يتألف من جزأين:
- فتح الستارة: الجزء الأول يأتي مع فتح الستارة ويتألف من جملتين على مقام النهاوند المعروف بحزنه ودراميته، لكن الملحن لا يستعمل منه إلا صفته الدرامية: الأوركسترا كلها (Tutti) تعزف هذا الجزء بكامله. الجملة الأولى مقتضبة من أربعة حروف موسيقية صعودًا وهبوطًا على السلم الموسيقي تأتي بعدها ضربة قوية وقصيرة جدًا من الأوركسترا مع ضربة صنوج في منتهى القوة التأثيرية الانفعالية، وتأتي الجملة الثانية بطريقة التتالي (Sequence) مضيفة للمشهد الغموض والمزاج الرمادي تليها ضربة أخرى للأوركسترا كلها قوية وقصيرة مع ضربة الصنوج.
- مكان الحدث: بعد انفراج الستارة الصحراء، يستعمل هنا الملحن مقام الحجاز كار (الأقرب إلى جو الصحراء)؛ لتصوير المكان المقفر الخالي إلا من الخيام، وللتشديد على إبراز هذا المناخ موسيقيًّا يستعمل الملحن مع عزف الأوركسترا الموزع آلة الأوبوا بشكل منفرد وهي الأمثل لتصوير هذا المناخ، ولنذكر آلة الأوبوا هذه في مقدمة قصيدة (جبل التوباد) من نفس هذه المسرحية “الصحراوية”، ويظهر هنا تبطئ السرعة وتغيير مقام الجملة لجعل المقام الآتي أقرب إلى الأحداث الآتية. اللحن يضغط في ثلاث علامات بطيئة ومتقاربة جدًا تصعد وتهبط على السلم الموسيقي بشكل يجعلك تشعر بتردد خطوات قيس في هذه الجملة وهو يقترب من خيمة ليلى، ويظهر هذا التردد واضحًا في الفيلم، عند ورود هذه الجملة، في حركات قيس وتوقفه عن الحركة ونظره إلى الخلف، العودة إلى مقام الحجاز يدل بوضوح على أن قيسًا اتخذ قرار الاقتراب متخليًّا عن تردده.
المشهد الثاني: قيس والمهدي:
1-قيس ينادي على ليلى بنبرة هادئة ورقيقة خالية من أي توتر معتقدًا أنها هي التي سترد عليه: ليلى.
2- ظهور المهدي غاضبًا: تصوير الظهور الغاضب بعزف الوتريات بتقنية ترجيف الأقواس (tremolo) المتوتر مع استعمال نبرات حادة (Accents) في العزف، مع أن هذه الجملة كلها لا تتعدى ثلاثة حروف موسيقية، يظهر الغضب في تساؤلات المهدي المتصاعدة والغاضبة بشكل إلقائي لا غنائي (Recitativo، من الهاتف الداعي؟ أقيس أرى؟ ماذا وقوفك والفتيان قد ساروا؟
3- المفاجأة لقيس وعدم توقعه المهدي: ما كنت يا عم فيهم. من دون أية مصاحبة موسيقية، وفي نبرته شيء من الخوف والمسكنة والتراجع والمفاجأة.
4- التساؤل الرابع للمهدي: أين كنت إذن؟! فيه اندهاش إلى جانب التساؤل لحن إلقائي recitativo وارتفاع في النبرة التساؤلية.
5-المفاجأة من السؤال الأخير غير المتوقع يجعل قيسًا يبحث عن مخرج من هذا السؤال – المأزق، وتأتي الجملة الموسيقية، تردد في بدايتها مع العزف الخافت الأوركسترا (وهو يفكر بالحيلة) وحزم باتخاذ القرار النهائي في نهاية جملة الأوركسترا التي تنتهي بترديد حرف موسيقي واحد بقوة وعند وإصرار: في الدار حتى خلت من دارنا النار.
6- نداء المهدي لليلى: ذروة درامية في ومضة قصيرة من أربع كلمات، المهدي يكلم قيسًا الواقف بجانبه وينده على ليلى البعيدة والموجودة في الخيمة: ليلى! انتظر قيس. ليلى! نداؤه الأول لليلى متوسط النبرة والارتفاع لأنها بعيدة نبرته لقيس “انتظر قيس” منخفضة عن نبرته لليلى لقرب قيس منه، نبرة ندائه الثاني لليلى أعلى من النبرتين السابقتين لأن ليلى لم تجب في المرة الأولى.
7- رد ليلى: ما وراء أبي؟ يأتي هادئًا ساكنًا.
8-رد المهدي: هذا ابن عمك، ما في بيتهم نار. نبرة مسرحية إلقائية لا تخلو من التوتر المتمثل في الجملة الموسيقية الملونة chromatic المكونة من أنصاف الأصوات والتي تظهر عليها جملة المهدي. وتجدر الإشارة إلى إن كل ما غناه المهدي (عباس فارس) في هذا المسمع الأوبرالي جاء مُلَحنًا على طريقة الإلقاء المسرحي كونه ممثلًا وليس مطربًا وهذه إحدى النقاط الدرامية القوية جدًا في العمل.
9- لقاء الترحيب بين قيس وليلى لحن في غاية الجمال تعزفه آلة الأوبوا (الصحراوية) ليس فيه أي أثر من التوتر السابق، مجرد جملة موسيقية جميلة هادئة وحالمة، قيس ابن عمي عندنا. جملة موسيقية أوركسترالية على إيقاع دور هندي للتمهيد لنداء ليلى لعفراء تنتهي بالتشديد على حرف موسيقي واحد :عفراء -مولاتي.
المشهد الثالث: قيس وليلى:
وهو أهم مشهد في المسمع ويبدأ بمقدمة أوركسترالية على مقام العجم (ماجور) تشارك فيه الآلات النحاسية لتضفي على التطور الدرامي الإحساس بالانتصار: انطلاء حيلة قيس ووصوله إلى هدفه بالاختلاء بليلى: بالروح ليلى. هنا اتوقف عند المقام المختار لهذا المشهد وهو مقام العجم (الماجور) لما فيه من تصوير للعظمة ولما فيه من قوة وإشراق وسعادة وإحساس بالانتصار المستعمل عادة في الأناشيد الحماسية كمارش الانتصار في أوبرا عايدة لفردي وبداية مارش الانتصار في الحركة الرابعة من سمفونية بيتهوفن الخامسة: بالروح ليلى قضت لي حاجة عرضت ما ضرَّها لو قضت للقلب حاجات.
المشهد العاطفي في البيت التالي يأتي بالتدريج:
كم جئت ليلى بأسباب ملفقة ما كان أكثر أسبابي وعلاتي
صدر هذا البيت يأتي مكررًا لحن صدر البيت السابق بنفس درجة الإحساس بالانتصار وينحسر تدريجًا بتغيير المقام في عجز البيت (ما كان أكثر) للوصول إلى مقام الحجاز الذي يؤدي بدوره إلى مقام المناجاة بين الحبيبين، من خلال لأزمة موسيقية أوركسترالية خالية من أي توتر على مقام البياتي تعزفها الفرقة العربية ويبدو فيها واضحًا عزف آلة العود. وللإمعان في تغيير المسار الدرامي الأولي يوقف الملحن في هذا المقطع الإيقاع من خلال تبطئ الحركة، فيأتي مرسلًا على طريقة التجويد القرآني ومقامه الأول (البياتي)، خالقًا بذلك جوًا من الحنان والسكينة والحميمية والدفء.
ليلى: قيس! تقولها أسمهان بدفء وحنان مذهلين، حرف واحد تعزفه الأوركسترا وهو الدرجة الأساسية بمقام البياتي الأوركسترا تعزف حرفًا واحدًا كون المنادي شخصًا واحد.
قيس: ليلى بجانبي، الحرف نفسه تعزفه الأوركسترا مرتين لوجود شخصين في عبارة قيس، على نفس الدرجة الأولى من مقام البياتي.
كل شيء إذن حضر، الحرف نفسه مرة واحدة كون العبارة تشمل في معناها شيئًا واحدًا” كل شيء”.
مناجاة عاطفية من أرقى وأجمل وأرق ما في الموسيقى العربية وعلى مقام البياتي الشجي والمليء بالشجن يصل إلى تساؤل: أتجدين؟ بغناء إلقائي recitativo في نبرة سؤال.
تحويل مقامي إلى الحجاز للتعبير عن المعاناة العاطفية: قد تحملت في الهوى فوق ما يحمل البشر.
عودة إلى البياتي: لست ليلاي داريًا، جملة كبيرة مركبة مقاميًّا ولحنيًّا مبنية بطريقة التتالي sequence:
لست ليلاي داريا كيف أشكو وانفجر؟ (بياتي)
أشرح الشوق كله أم من الشوق اختصر:
الانتقال التدريجي إلى النهاوند بنقلة في غاية التقنية والحرفية في معرفة علاقة المقامات ببعضها وبمنطق في منتهى الإقناع ومن دون أن يحس المستمع بغرابة التغيير المقامي، وهذا التحويل يعكس فلسفة محمد عبد الوهاب الجمالية في تآخي مقامي البياتي العربي والنهاوند (minor) الغربي في عملية تزاوج الحضارتين الموسيقيتين (العربية، والغربية).
لازمة موسيقية ترَسَّخ الانتقال إلى مقام النهاوند مع دخول الآلات الخشبية الغربية وبالذات الأوبوا:
نبني قيس: مقطع من النهاوند في غاية الجمال الميلودي إلى أن يصل الملحن إلى آخر هذا التعني “أترى قد سلوتنا”، حيث يجسد التصعيد الدرامي بتصعيد الجملة اللحنية بواسطة التتالي المتصاعد ascending sequence للتعبير عن الغيرة والقلق.
لازمة موسيقية رائعة قصيرة ومركزة تعبيرًا عن المفاجأة والدهشة غرت ليلى من ألمها، جملة يضع فيها الملحن طاقة كبيرة من العاطفة العميقة لإقناع الحبيبة بصدق وعمق حبه وعدم صحة سبب غيرتها غير مكترث بالنار الزاحفة إليه.
من أقوى المواقف الدرامية مبني على تفكير جدلي فيه تصادم خطين درامين متناقضين:
ليلى: ويح عيني ما أرى؟ قيس! كله توتر وتصاعد لحني ودرامي وانفعالي؛ بسبب رؤيتها النار تحرق المكان.
قيس: ليلى! خالية كليًّا من التوتر كلها مناجاة صافية شفافة.
عودة إلى المناجاة الخالية من أي توتر: “رب فجر سألته” يقولها قيس وهو لا يرى إلا عيون ليلاه التي ترى النار ترتفع.
ليلى: ويح قيس تحرقت راحتاه، تقولها بتوتر شديد وخوف.
قيس: ليلى، بهدوء ونفس عميق غير شاعر بوجود النار المرتفعة ” ليلى”، وما شعر عودة التوتر المركز في هاتين الكلمتين.
المشهد الرابع: ظهور المهدي:
توتر شديد في صرخته: قيس! وفى الرد الأوركسترالي المليء بالغضب والتوتر.
توتر أكبر في امض قيس امض! على نفس الحرف الموسيقى في الحالتين.
استمرار التوتر في الرد الأوركسترالي في الجملة الثانية مع زيادة جريمة الغموض والتوتر والغضب فيها.
-جئت تطلب نارًا أم ترى جئت تشعل البيت نارًا؟ ذروة في التوتر الدرامي من خلال التساؤل المغنى بشكل إلقائي Recitativo، الذي يشكل الطريقة الوحيدة في كل ما غنى عباس فارس في العمل، وردت الجملة على مقام العجم الذي يعكس القوة، وكأنه يمثل هنا سلطة الأب الكبيرة المطلقة.
بقي أن نقول: إن محمد عبد الوهاب استعمل في هذا العمل الخالد ثلاث طرق من الغناء:
- الغناء الإلقائي التعبيري عند عباس فارس (المهدي) كونه ليس مطربًا.
- الغناء الدرامي التعبيري، في المقاطع الدرامية له ولأسمهان.
- الغناء التطريبي المليء بالشجن، في المقاطع الحميمة العاطفية بين قيس وحبيبته ليلى.
ولابد من التنويه الشديد بمستوى الألحان، ومستوى الإلهام اللحني المذهل في هذا العمل وخدمته بالتوزيع الموسيقي الأوركسترالي الرائع (لذلك الوقت ولأي وقت)، والذي أظنه للفنان الكبير “عزيز صادق”، ولا أستطيع الجزم بذلك للأسف؛ لعدم توفر المعلومات والمراجع التاريخية.
وأخيًرا طبعًا لابد من التنويه إلى غناء أسمهان، ومحمد عبد الوهاب الذي ارتقى في هذا العمل إلى أسمى درجات التعبير الدرامي والغنائي نادر الوجود في تاريخ الغناء العربي على مر الأزمان (ماضيًا، وحاضرًا، ومستقبلًا).
وينهي الملحن هذا المسمع الأوبرالي التاريخي بذكاء موسيقي وفكري مدهش. فالمسمع ينتهي بذروة درامية، غضب المهدي من دون حل للتساؤل الغاضب الأخير: “جئت تطلب نارًا”، ويلجأ هنا الملحن إلى طريقة في منتهى الذكاء ليحل هذه العقدة الدرامية فيغني مونولوج “سجى الليل”، الذي يرد في نص المسرحية قبل الحوارية، فيجعله بعده كي يأتي كحل منطقي لنهاية المسمع بامتصاص شحنة التوتر السابقة.