هذا البحث ليس تأريخًا للأدب أو النقد المقارن عند العرب، إنما هو بحث تأصيلي يناقش الإسهام الحقيقي لهذا الحقل المعرفي في تأسيس رؤى ومرتكزات حضارية، ولاشك أن رحلة طويلة قطعتها الدراسات الأدبية والنقدية العربية المقارنة خلال قرن أو يزيد من الزمان، ولعل بدايتها كانت بجهود من رفاعة رافع الطهطاوي 1801-1873 كانت بمثابة المهاد التاريخي والفكري لنظرية المقارنة الأدبية في الوطن العربي، بل والتأسيس الأول لتلمس طبيعة المعرفة بالآخر، وكانت الأسئلة الكبرى التي تشغل بال المقارنين العرب في هذه المرحلة تختزل في تحديد هوية الثقافة العربية والأدب العربي في عصر النهضة، وتتبع مسارات التلاقي بالثقافات الأخرى وبالآداب الغربية، أخذًا وعطاءً، ومن ثم الكشف عن أبرز الموضوعات والأفكار التي باتت موضع اهتمام الأديب العربي في تلك المرحلة، ولاسيما المنطقة العربية التي عاشت وتعيش أحداثًا جللاً، كالاحتلال الأجنبي لمعظم أقطار وطننا العربي، واحتلال فلسطين الذي نجم عنه زرع الكيان الصهيوني فيها بمؤامرة من القوى العالمية، ثم حركات الاستقلال، وظهور النفط كمعادل جديد في المنطقة، وآثار ذلك كله من تغيرات فكرية وسياسية واجتماعية وديموغرافية وغيرها.
ويقول الكاتب إنه لا يمكن النظر إلى تراثنا العربي والثقافة العربية دون ربطهما بعمقهما الإسلامي الذي أكسبهما امتدادًا إنسانيًا كونيًا بسبب عالمية رسالة الإسلام.
والكتاب يحتوي على ستة فصول: الفصلان الأول والثاني يتناول فيهما الكاتب تأثر الغرب بالأدب العربي، حيث أقبل الغرب على أدب العرب في أيام نهضتهم، فأخذ عنهم شعراء الغرب مثل التروبادور موضوعات أدبهم، وبعض تقنياتهم الفنية، واقتبسوا الكثير من قصصهم الفكاهية والخرافية من الأدب العربي، ويبين ذلك مثلاً في أثر (شعر عنترة) في (أغنية رولان) وأثر (رسالة الغفران) للمعرى في (كوميديا دانتي الإلهية) وهناك تأكيد من بعض الباحثين على أن الشعر الفرنسي أخذ القافية عن الشعر العربي عبر الامتزاج الحضاري والتبادل الثقافي العربي – الأوروبي، إبان الحكم الإسلامي للأندلس.
ورغم ذلك لم تعمل ثقافتنا العربية الحديثة أو المعاصرة على إيجاد مؤسسات مشرقية مثل المؤسسات الغربية (الاستشراقية، والاستعمارية والإعلامية … أو حتى البحثية) تؤسس (لخطاب ثقافي عربي) يمكن الاعتماد عليه في إنتاج مثاقفة منصفة، يفهم الآخر من خلالها (ذات الشرق وهويته).
ويستدل الكاتب أيضًا بكلام الناقد العراقي صفاء خلوصي، من إبداء أسفه لتجاهل الجامعات الغربية الأدب العربي، وإسقاطه من جداول وبرامج الدراسة المقارنة، معبرًا عن ذلك بقوله “ومن المؤسف أن نجد اليوم، حتى الأدب الصيني والياباني، قد أدخل في موضوع دراسات الأدب المقارن في الجامعات الأوروبية والأمريكية، بينما الأدب العربي لم يحظ بعد بمثل هذه الدراسة، ذلك لأننا لم نعتنِ به بعد، العناية التي يستحقها في الجامعات والكليات العربية، وذلك بأن نبدأ باستخراج عناصره، من كتبنا القديمة، فنحن أول من درس الأدب المقارن دون أن نشعر.
على العموم فالفصلان الأول والثاني تحدث فيهما الكاتب عن رحلة البحث عن الذات العربية، وترسيخ الهوية بفعل عوامل نفسية وقومية، وعوامل اجتماعية وسياسية، حتى وصل بنا إلى منتصف القرن العشرين، ورغم عدم الخوض بتفاصيل التيارات الفكرية والسياسية، وتأثيراتها على الحياة العربية آنذاك، وبرغم عدم الانشغال بإشكالية (النهضة والسقوط) التي مثلت جوهر تلك الحقبة من حياة المجتمعات العربية الحديثة، إلا أننا وقفنا عند نقاط التلاقي بين الأعمال البحثية في مجالات المعرفة الأدبية، وفي مقدمتها الدراسات المقارنة، والأعمال الفكرية لمثقفي النهضة ومفكريها، وهو التلاقي الذي انتظم عند الغاية والهدف لدى هؤلاء وهؤلاء.
ومع انتهاء تلك الحقبة واحتلال فلسطين 1948 انكشفت مؤامرة الغرب على المنطقة العربية، من خلال الهجمات الاستعمارية وامتداد الاحتلال للضفة الغربية بدعم ومباركة أورو-أمريكية، واتضحت التغيرات العالمية الجذرية التي نجمت عن الحربين العالميتين الأولى والثانية، والتحولات العلمية والسياسية العالمية، وظهور التيارات الفنية والأدبية والفكرية الجديدة، ثم صدمة العرب بنكسة عام 1967، وتزايد الاحتكاك بالغرب، وقد نجم عن هذا وغيره من الأحداث العالمية والعربية تحول في تفكير المثقفين العرب، وتغيير بوصلة الارتباطات الفكرية والثقافية، هذا غير السياسية والعسكرية، بما عزز الاتجاه نحو الاشتراكية ومعسكرها اليساري، فكان للثقافة الاشتراكية وشعاراتها التعبوية أثر كبير في كثير من مثقفي وأدباء النصف الثاني من القرن العشرين، وهذا لاشك كان له دور مباشر أو غير مباشر في الإبداع الأدبي والفني، تجديد التيارات النقدية وكذلك الدراسات الأدبية المقارنة. في ظل هذه الظروف وغيرها بدأ المثقفون العرب باستقبال موجة الحداثة التي جاءت بداية “كتيار أدبي وفني في أعقاب المتغيرات الجذرية”.
أما الفصلان الثالث والرابع فيتحدث فيهما الكاتب بداية عن الرواية العربية، حيث أوضحت الدراسات العربية المقارنة أن الرواية مثلت الميدان الأخصب للتلاقي الحضاري بين الشرق والغرب، أما أصل الثقافة العربية فيستند الكاتب إلى أحد المؤلفين الغربيين القلائل الذين يعترفون بالأرض المشتركة بين الثقافتين الشعبيتين الغربية والعربية، وهذا الكاتب هو أ.ل. رانيلا، حيث يؤكد أن ثقافة العصور الوسطى كانت في الحقيقة إغريقية لاتينية عربية، وقد ذهب بعض الكتاب إلى إرجاع أصول القصص عمومًا إلى مصدر شرقي، ويتساءل الكاتب هنا عن المثقفين العرب ودورهم في إبراز فضل العرب في الرواية العربية ونقل حضارة العرب في هذا المجال إلى الغرب بدلاً من تزييف الحقائق، ويبدو أن تهميش الثقافة العربية الرسمية للثقافة الشعبية ومؤسساتها عامل مهم في هذا التعتيم. وعلى كل حال، سواء كان المتناقشون حول أصول الرواية العربية، يدفعون باتجاه الأصول العربية، أو باتجاه الأصول التراثية العربية، فإننا لا نزال أمام حوارية ثقافية فنية تؤكد، بشكل أو بآخر، أن الرواية العربية الحديثة نافذة واسعة، أطل من خلالها الكتاب والمثقفون العرب على ثقافة الغرب وتقاليدهم الفنية في هذا الجنس الأدبي، وبالمثل أطل المثقفون الغربيون على عالمنا العربي، ومجتمعاتنا وثقافتنا، من خلال عدد أقل من النماذج الروائية العربية التي تمت ترجمتها إلى اللغة الإنجليزية واللغات الأجنبية الأخرى، والدليل على ذلك جائزة نوبل التي حازها عام 1988 الروائي المصري نجيب محفوظ، فلعلها تدعم الإشارة إلى المعرفة الجزئية للغرب بالمنجز الروائي العربي، مع أننا بتنا نرى بعض التقدم في الأدب الروائي العربي للغات الأخرى في الآونة الأخيرة بسبب تقدم العوامل التقنية، واتساع الفضاء الإلكتروني الذي عم الكرة الأرضية دون استثناء.
هذا وقد شكلت مسألة العلاقة بالآخر (سواء أكانت تصالحًا أم تصادمًا) قضية جوهرية في أشكال الأدب المختلفة (في الشعر والقصة والرواية والمسرح) فإن النقد الأدبي جعل من هذه القضية واحدة من أبرز اشتغالاته، وكان للنقد الأدبي المقارن دور لا يغفل في بحث هذه المسألة وتجلياتها، مما جعل الإقبال على (المقارنات الأدبية) تأثرًا وتأثيرًا، وشغفًا خاصًا، وعملاً متخصصًا، في بيئات النقاد الأكاديميين وغير الأكاديميين، لدرجة أن أوجد هؤلاء وهؤلاء جمعيات روابط ومنظمات تجمعهم وتنظم عملهم، منها ما هو محلي عربي، ومنها ما هو دولي.
وبالنسبة للفصلين الخامس والسادس فيتطرق الكاتب في حديثه عن العولمة، حيث يقول إنه مع مطلع القرن الجديد ومع هبوب رياح العولمة، وتسارع التغيرات العالمية في كل أنحاء المعمورة، سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وفكريًا وغير ذلك، لا تنأى الدراسات المقارنة عن مواجهة هذا القادم الجامح، ومحاورته، ولاسيما أنه مصطلح جديد تمامًا، يكاد عمره الإعلامي لا يتجاوز بضع سنوات، وذكره مصحوب غالبًا بالتوجس والتحفظات، إلى جانب وجود تيار فكري وشعبي على مستوى عالٍ يحذر من العولمة ويناضل ضدها كما حدث في السنوات الأخيرة في كل من سياتل (أمريكا) ودافوس (سويسرا) وجنوا (إيطاليا)، فكأن محور النضال العالمي السابق بين الرأسمالية والاشتراكية سيتخذ في القرن الواحد والعشرين شكلاً جديدًا، شعبيًا وغير حزبي، هو الكفاح الذي تقوده جماعات جماهيرية أممية ضد خطط العولمة التي تنفذها دول الهيمنة الاقتصادية والصناعية والسياسية والعسكرية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وتفوقها المطلق.
ثم يسلط الكاتب الضوء بعد ذلك على الدراسات الترجمية، ففي تراثنا العربي القديم مثلت الترجمة حالة حضارية خلاقة، وامتدادًا ثقافيًا أسس لانفتاح على الآخر، فقد نقل العرب علوم اليونان والرومان في ميادين معرفية مختلفة، واطلعوا على ثقافات الترك والهند وغيرهم، فقد نقلوا حكمة الهند ومنطق اليونان، وانعكس ذلك على إبداعهم الشعري، ونقلوا معارفهم العلمية والفلسفية فاندمجت بما أنتجه علماء العرب والمسلمين من علوم نظرية وتجريبية متنوعة، لقد وجدت الترجمة بوصفها انفتاحًا ثقافيًا ومعرفيًا على الآخر، وبالمقابل تنبه الأوروبيون لما أنجزته أمة العرب والمسلمين من نهضة فأقبلوا على ذلك بنهم، فأخذوا عن العرب الفنون والآداب والعلوم ما بنوا نهضتهم وجعلوه أحد دعائم حضارتهم.
فالترجمة كانت ولا تزال خطابًا تواصليًا، فهي رافدة من روافد البناء الحضاري، اتكأت عليه الحضارة العربية الإسلامية في عهود مبكرة، فالانفتاح الثقافي العربي الإسلامي على فكر الآخر وثقافته وقد ظهرت منجزاته ذات دلالة على هذا الانفتاح، في الفلسفة والطب والسياسة والتربية وغيرها. حيث أكدت الدراسات العربية رفض الثقافة العربية الإسلامية كل معاني الانغلاق والانعزال، وإقبالها في مختلف العصور، على بناء الجسور والقنوات لمعرفة منجز الآخر والاعتراف بهويته، والإفادة منه، بل وحمايته والدفاع عنه أيضًا.
ويشير الكاتب إلى أننا بصدد رصد ما تم إنجازه من مترجمات، وجهود للتراجمة العرب في مختلف العصور، لتأمل دلالات ذلك المنجز وتلك الجهود ، ففيه إشارة بينة إلى قيمة المعرفة المستمدة من الآخر، وقيمة السعي لامتلاك تلك المعرفة.
وبالمقابل فإن ما قام به بعض من المستشرقين، وبعض الباحثين العرب من إبراز حجم البناء المعرفي العربي الذي استمدته أوروبا من حضارتنا العربية لبناء نهضتها بعد عصور السقوط والظلام موثق ومحفوظ، وذو دلالة واضحة على حتمية التبادل والتواصل والأخذ والعطاء بين الحضارات الإنسانية، وهو ماثل تاريخيًا في شواهد كثيرة، سواء أكان ذلك في شكل أفكار وقيم وموضوعات، أو منجزات علمية وإبداعات.
منة الله خالد محمد
باحثة مصرية – القاهرة