لقد اتسم الموقف العربي العام منذ بداية الحرب الروسية الأوكرانية في 24 فبراير 2022- عندما بدأت العمليات العسكرية الروسية على الأراضي الأوكرانية- بالجنوح الواضح نحو الحياد تجاه هذه الحرب وعدم الميل لمؤازرة طرف دون آخر، ولم ينتج هذا الموقف العربي العام عن ترتيبات أو اجتماعات عربية معينة، بل إنه انبثق تلقائيًّا وسبق كل الاجتماعات العربية الجماعية والثنائية بين القادة وكبار المسؤولين العرب، بحيث كان الموقف العربي التلقائي العام في خلفية كل هذه الاجتماعات وموجهًا لكل أو معظم ما اتخذ من مواقف وما صدر من بيانات عربية أو خلال ما جرى من حوارات مع كبار المسؤولين الأمريكيين والغربيين والروس في زياراتهم للعواصم العربية.
ولا يكفي لتفسير هذا الموقف العربي التلقائي القول أن الحرب الروسية الأوكرانية بعيدة جغرافيًّا عن المنطقة العربية واعتبارها شأنًا غربيًّا في أطار الصراع بين القوى الكبرى؛ ذلك لأن الآثار الاقتصادية والمالية لهذه الحرب امتدت وبقوة إلى جميع الدول العربية، بل وجميع دول العالم بأسره، خاصة في مسألتي أمن الطاقة وأمن الغذاء، وما يترتب عليهما من تداعيات اجتماعية وسياسية عميقة التأثير.
إلا أن ثمة عوامل أخري مستترة وظاهرة هي التي أوجدت هذا الموقف العربي التلقائي الذي يجنح نحو الحياد تجاه الحرب الروسية الأوكرانية، والتي يمكن تناولها علي النحو التالي:
عدم الرضا عن الدور الأمريكي:
حظيت الولايات المتحدة الأمريكية على مدى عقدين من انتهاء الحرب الباردة وتصدرها الساحة الدولية (1991-2011) بعلاقات وثيقة ودرجة عالية من الثقة مع معظم الدول العربية التي رأت فيها ضمانًا لأمن واستقرار المنطقة العربية والعمل على تنمية العلاقات في كافة المجالات من أجل المصالح المشتركة، ولكن حدث ما يشبه عملية مراجعة شاملة للعلاقات العربية الأمريكية في أثناء وعقب ما عرف بثورات الربيع العربي في عام 2011، وأسفرت هذه المراجعة عن تراجع كبير في ثقة كثير من القادة والشعوب العربية في حقيقة ومدى فاعلية الدور الأمريكي في المنطقة العربية على ضوء ما يلي:
- حقيقة الغزو الأمريكي للعراق من حيث الأسباب والنتائج، فقد اتضح وبشهادات كبار مسؤولين أمريكيين أن الأسباب التي ساقتها واشنطن لتبرير غزو العراق كانت مفبركة ولم يثبت صحة أي منها خلال وبعد الغزو، كما أن تدمير العراق أدى إلى توغل إيران في شؤونه الداخلية بصورة غير مسبوقة وأحدث خللًا إستراتيجيًّا في التوازن الإقليمي في منطقة الخليج يميل لصالح إيران، ولم تفِ واشنطن بوعودها المعلنة بإعادة بناء جيش عراقي قوي، وإقامة حياة ديمقراطية تكون نموذجًا يُحتذى به، بل صاغت دستورًا في العراق يقوم على المحاصصة ويكرس الانقسام ويفتح المجال لتقسيم العراق الذي أصبح ينتقل من أزمة إلى أزمات أشد وأكثر تعقيدًا.
- التعاون الأمريكي مع الشركاء في الناتو وأطراف إقليمية أخرى لإسقاط نظام القذافي في ليبيا وتفكيك الدولة وإعادتها إلى القبلية والجهوية والعشائرية دون العمل على خطة أو برنامج لإعادة الاستقرار والإعمار إلى ليبيا مما حولها إلى بؤرة توتر وتهريب السلاح والبشر في منطقة الشمال الأفريقي وإدخالها في دائرة الصراع بين واشنطن وحلفائها وبين روسيا وأطراف إقليمية أخرى .
- التأييد الأمريكي والغربي لثورات الربيع العربي في 2011 وتخلي واشنطن بسهولة عن أصدقائها وشركائها من بعض القادة العرب، الأمر الذي زاد من حالة عدم ثقة عدة أنظمة عربية في الاعتماد على الولايات المتحدة الأمريكية التي أظهرت بوضوح أنها تستخدم أصدقاءها وشركاءها لخدمة مصالحها أكثر مما تقدم لهم في المقابل لحماية أمنهم واستقرارهم، وأنه يتعين عليهم العمل على الاعتماد على أنفسهم في كثير من الجوانب والاتجاه إلى شركاء آخرين لاستكمال جوانب أخرى عديدة، وتنويع علاقاتهم الدولية للتخفيف إلى أكبر حد ممكن من اعتمادهم على واشنطن.
- انضمام الولايات المتحدة في عهد الرئيس أوباما إلى الاتفاق النووي مع إيران في 2015، وإن كان الرئيس ترامب قد انسحب منه في 2018، إلا أن إدارة بايدن- وكان نائبًا لأوباما- تتفاوض للعودة إلى الاتفاق، وهو ما يعني قيام علاقات وحد أدنى من التطبيع والتعاون بين واشنطن وطهران، وهو ما يعطي إيران قوة اقتصادية برفع العقوبات عنها إلى جانب سابق تمكينها في العراق وانتشارها في (سوريا، ولبنان، واليمن)، وهذا كله يثير استياءً كبيرًا لدى الدول العربية خاصة دول مجلس التعاون الخليجي .
- عدم إنجاز الولايات المتحدة أيًّا من التزاماتها تجاه القضية الفلسطينية منذ مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط عام 1991، ومفاوضات كامب ديفيد الثانية في عهد الرئيس كلينتون عام 2000 وقبلها اتفاق أوسلو عام 1993، وخارطة الطريق في عهد الرئيس بوش الابن، وحل الدولتين حتى الآن، والانحياز الأمريكي الواضح مع إسرائيل دولة الاحتلال، وتجاهل واشنطن ما تنادي به هي نفسها من حق تقرير المصير، وحقوق الإنسان وعدم تطبيقها بالنسبة للشعب الفلسطيني؛ وهو ما أدى إلى رفض السلطة الفلسطينية أن تكون واشنطن راعية لعملية السلام بينهم وإسرائيل واتهامها بأنها منحازة دائمًا لإسرائيل.
- سحب الولايات المتحدة قواتها الرئيسة من المنطقة العربية وإعلان الرئيس ترامب أنهم مستعدون للدفاع عن الدول التي تدفع تكلفة الدفاع عنها، والاعتماد على الوكلاء والحلفاء منذ عهد الرئيس أوباما في القيام بالمهام العسكرية إلى حد التعاون مع بعض التنظيمات المتطرفة والتغاضي عن أنشطة بعض التنظيمات الإرهابية، وعدم تجاوز الإسهام الأمريكي في مكافحة الإرهاب مجرد إضعافه والحد من نشاطه وليس القضاء التام عليه، مع عدم منع انتقاله من مكان لآخر.
ازدواجية المعايير الغربية:
أظهرت الحرب الروسية الأوكرانية للدول العربية مدى ازدواجية المعايير الغربية وكيلها بمكيالين إزاء قضايا وحقوق إنسانية واحدة أو متشابهة تمامًا، ومن أمثلة ذلك:
- عندما غزت الولايات المتحدة العراق بدون أي تفويض دولي في عام 2003 لم يلقَ ذلك إلا ردود أفعال بسيطة من الدول الغربية لم تتجاوز بعض البيانات أو التصريحات السياسية على استحياء، رغم إدراكهم عدم صحة ما ادعته واشنطن من تبريرات لقيامها بهذا الغزو للعراق وتدميره، بينما تجمعت كل الدول الغربية منذ اليوم الأول للعمليات العسكرية الروسية ضد أوكرانيا، وحشدت كل قواها السياسية للإسراع بعقد جلسة لمجلس الأمن الدولي، ثم للجمعية العامة للأمم المتحدة وممارسة كل وسائل الإقناع والضغوط على الدول الأعضاء للتصويت لصالح القرارات التي تدين الغزو الروسي لأوكرانيا، هذا إلى جانب حشد إعلامي غربي ضد روسيا لم يخلُ من اتباع الأساليب التقليدية من إبراز وتعديل في المعلومات والبيانات لتشويه صورة الخصم، كما تبارت الولايات المتحدة والدول الأوروبية في إمداد أوكرانيا بكل أنواع الأسلحة والمعدات العسكرية والمعلومات بالأقمار الصناعية عن القوات الروسية وتحركاتها، إلى جانب الدعم المالي السخي .
- قيام الولايات المتحدة بحملة كبيرة من التصعيد ضد روسيا وفرض أقصى العقوبات (الاقتصادية، والمالية، والسياسية) عليها بالتضامن مع حلفائها وذلك دون تفويض دولي بفرضها، رغم إدراك الجميع منذ البداية أن أضرار العقوبات الاقتصادية والمالية هذه ستؤدي إلى ارتفاع كبير في أسعار الطاقة والمواد الغذائية، وأنها ستصيب جميع الدول بأضرار بالغة ، خاصة الدول النامية غير المنتجة وغير المصدرة للطاقة والتي تعتمد بدرجة عالية على استيراد القمح وبعض المواد الغذائية الأخرى من (روسيا، وأوكرانيا) ويتراوح اعتماد الدول العربية على استيراد القمح والمواد الغذائية بنسب ما بين (80% إلى 90%) من احتياجاتها، وتحولت الحرب الروسية الأوكرانية إلى حرب عسكرية بينهما على أراضي أوكرانيا، وحرب اقتصادية عالمية إلى حدٍ كبير لدرجة أن العقوبات الاقتصادية والمالية ألحقت أضرارًا بالغة بالاقتصاد الأمريكي والأوروبي وليس روسيا وحدها .
- مقارنه موقف الدول الأوروبية – خصوصًا دول شرق أوروبا- من اللاجئين العرب الفارين من مناطق القتال في (سوريا، ليبيا،… وغيرهما)، ومنعهم من دخول حدودها، وتمويل الاتحاد الأوروبي لتركيا لاحتجازهم في مخيمات لديها، مقارنة ذلك بما قامت وتقوم به الدول الأوروبية وبصفة خاصة دول شرق أوروبا من ترحيبٍ كبيرٍ باللاجئين الأوكرانيين وتوفير كل سُبل الإعاشة والرعاية الصحية والاجتماعية لهم على مناطق الحدود مع أوكرانيا واستضافة كثير من الأسر الأوروبية للاجئين الأوكرانيين في بيوتهم، هذا إلى جانب حملة دعائية كبيرة تتهم روسيا بتشريد أكثر من خمسة ملايين أوكراني من بيوتهم واضطرارهم للخروج من بلدهم .
- دفاع الدول الغربية عن حقوق الإنسان لشعب أوكرانيا واتهام روسيا بانتهاك هذه الحقوق والمطالبة بوقف عضوية روسيا في المجلس الدولي لحقوق الإنسان، وفرض عقوبات على القادة وكبار الشخصيات الروس، ومقارنة ذلك بموقف هذه الدول من انتهاكات قوات الاحتلال الإسرائيلي الممنهجة لحقوق الشعب الفلسطيني وحرمانه ممارسة حياته (الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية) بصورة عادية، وحقة في تقرير مصيره والاستقلال وأقامة دولته على حدود 4 يونيو1967، وذلك دون فرض أي عقوبات على إسرائيل، بل والعمل في أغلب الأحوال على عدم صدور قرارات إدانة من المنظمات والمحافل الدولية ضد إسرائيل والادعاء بأن من حقها الدفاع عن نفسها، وهي دولة الاحتلال التي تغتصب الحقوق والأراضي الفلسطينية بالمخالفة لقواعد القانون والشرعية الدولية.
مواقف الدول العربية:
اتسمت مواقف الدول العربية التلقائية من الحرب الروسية الأوكرانية بصفة عامة بالحياد، حيث أن هذه الدول عاشت أو جاورت وعانت من حروب مماثلة في الدول العربية على مدى سنوات دون اهتمام جدي من أمريكا وحلفائها بتسويتها سلميًّا، ومن ثم فضلوا مصالحهم على كل ما عداها، وناؤوا بأنفسهم عن الاندراج بصورة أو أخرى في هذا الصراع في أوكرانيا بين القوى الكبرى، خاصة وأن أوكرانيا منذ استقلالها عن الاتحاد السوفيتي تتخذ مواقف تتسم بالسلبية تجاه القضايا والأزمات العربية، وتتماهى مع السياسات الإسرائيلية تجاه القضية الفلسطينية، واعترفت بالقدس عاصمة رسمية لإسرائيل، ونقلت سفارتها من تل أبيب إلى القدس بالمخالفة لقرارات مجلس الأمن واليونيسكو باعتبار أن القدس تحت الاحتلال الإسرائيلي منذ يونيو1967.
بينما أيدت سوريا العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا ورأت أن من حقها الدفاع عن المصالح الروسية الإستراتيجية، وهو موقف مرتبط بحكم العلاقة بين دمشق وموسكو ودور روسيا في الأزمة السورية. بينما امتنعت الإمارات العربية عن التصويت في مجلس الأمن على مشروع القرار الذي تبنته الولايات المتحدة وألمانيا لإدانة العدوان الروسي على أوكرانيا ومطالبتها بوقف العمليات العسكرية، واستندت الإمارات العربية إلى أن الفيتو الروسي كفيل بوقف مشروع القرار، إلا أن الإمارات العربية وأغلبية الدول العربية الأخرى صوتت مع قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي يدين الغزو الروسي لأوكرانيا، وهو قرار لا يتعدى كونه توصية غير ملزمة، إلا أنه يرضي الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاءها كونه يدين روسيا بأغلبية 141 دولة من بينها 16 دولة عربية وامتنعت 3 دول عربية عن التصويت (الجزائر، السودان، والعراق)، وتغيب عن الجلسة ممثل المغرب ، وعارضت سوريا القرار.
وقد أصدرت جامعة الدول العربية بيانًا في 28 فبراير 2022 لم يتضمن إدانة صريحة للعمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، واتسم بالتوازن والصياغة المعتدلة والمناشدة بوقف القتال وأن يتم حل الصراع سلميًّا بالتفاوض بين الطرفين. وكانت التصريحات الرسمية التي صدرت عن عدة دول عربية عقب بدء العمليات العسكرية الروسية تعرب عن القلق من تداعيات التصعيد إقليميًّا ودوليًّا، وتدعو إلى ضبط النفس وحل الصراع من خلال المفاوضات والإعراب عن القلق من التداعيات الإنسانية للصراع على المدنيين والتداعيات الاقتصادية. وركزت بيانات بعض الدول العربية على احترام سيادة واستقلال وسلامة أراضي الدول، بينما نددت بيانات (ليبيا، ولبنان) بالعمليات العسكرية الروسية، ووازنت مصر ما بين الاعتراض على الاعتداء على سيادة واستقلال الدول والاعتراض على فرض عقوبات اقتصادية خارج أطار النظام الدولي والتي تؤثر على حياة المدنيين في العديد من دول العالم.
وصدر عن بعض القادة العرب مبادرات للوساطة بين (روسيا، وأوكرانيا) من أجل وقف القتال والدخول في مفاوضات لحل الصراع سلميًّا وبالطرق الدبلوماسية منها: الاتصال التليفوني بين ولي عهد السعودية الأمير “محمد بن سلمان” وكل من (الرئيس بوتين، والرئيس زيلينسكي) عارضًا استضافتهما من أجل الوساطة بينهما وذلك في 9 مارس 2022، كما اتصل الرئيس عبد الفتاح السيسي بالرئيس بوتين -في نفس التاريخ – مبدئيًّا استعداد مصر للقيام بالوساطة إما منفصلة على حدة مع كل من روسيا وأوكرانيا، أو معهما معًا، أو من خلال مفاوضات دولية تشارك فيها أطراف أخرى. ولم تؤدِ هذه المبادرات إلى تفعيلها عمليًّا رغم تلقيها بارتياح من الجانبين الروسي والأوكراني.
وقد زار وفد اللجنة الوزارية لجامعة الدول العربية موسكو في أوائل أبريل 2022 وتناقشوا مع وزير خارجية روسيا بشأن الحرب الروسية الأوكرانية وتطوراتها، وعرضوا وجهة النظر العربية بوقف القتال وبدء المفاوضات لتسوية الصراع سلميًّا، كما التقوا مع وزير خارجية أوكرانيا في “وارسو”، وانتهت اللجنة العربية إلى ضرورة الاستمرار في متابعة الأزمة، وكيف يمكن تحقيق تقدم فعال في جهود تسويتها في إطار العلاقات الجيدة بين الدول العربية وكل من (روسيا، وأوكرانيا)، والمصالح المشتركة بينهم؟ وأهمية تنشيط وتنسيق الجهود الدولية للمساهمة في تسوية الأزمة. كما عقدت لجنة الجامعة العربية الخاصة بالأزمة اجتماعًا افتراضيًّا بالفيديوكونفراس في 6 يونيو 2022 ناقشت فيه تطورات الحرب الروسية الأوكرانية وتأثيرها على المنطقة العربية، وسبل استمرار المجموعة في المساهمة في الجهود الدولية بهدف التوصل إلى حلٍ سلمي للصراع خاصة فيما يتصل بالأمن الغذائي وأمن الطاقة.
وزار وزير خارجية روسيا “سيرجي لافروف” الرياض في أول يونيو 2022، وأجرى محادثات مع المسؤولين السعوديين، وعقد لقاءً مع سفراء دول مجلس التعاون الخليجي في الرياض وأعرب عن امتنانه للموقف العربي المتوازن تجاه الأزمة الأوكرانية، ورفض الدول العربية الانضمام إلى العقوبات الاقتصادية والمالية الغربية الأحادية وغير القانونية ضد روسيا. هذا ويُلاحظ أن روسيا تعمل على استثمار حالة عدم الثقة البادية في العلاقات العربية الأمريكية وتنمي علاقاتها مع جميع الدول العربية التي- رغم أي اختلاف- تقدر التزام روسيا القوي بالدفاع عن النظام السوري على عكس المواقف الأمريكية التي لا يعوَّل عليها كثيرًا والتي تتقاعس أو تتخلى عن أصدقائها بسهولة.
موقف الدول العربية من المطالب الغربية:
أدى اتجاه الولايات المتحدة وحلفائها إلى التصعيد سواء في الحرب في أوكرانيا أو في العقوبات الاقتصادية والمالية ضد روسيا، إلى تفاقم أزمة الطاقة عالميًّا بارتفاع أسعار البترول والغاز، وبالتالي ارتفاع أسعار جميع السلع والخدمات، وأدى إلى أزمة غذائية؛ نظرًا لأن روسيا وأوكرانيا تساهمان بنحو 30% من صادرات القمح عالميًّا، إلى جانب الأسمدة وزيوت الطعام ومواد أخرى، وقد دفع ذلك واشنطن وحلفاءها للاتجاه إلى الدول العربية بعدة مطالب أهمها:
- طلب أن تُزيد الدول العربية المنتجة والمصدرة للبترول والغاز إنتاجها؛ لتعويض نقص إمداداتهما من روسيا إلى الدول الأوروبية سواء نتيجة للعقوبات المفروضة ضدها، أو لتقليل روسيا صادراتها منهما إلى الدول الأوربية ما أدى إلى أزمة في الطاقة وارتفاع في الأسعار، ولكن الدول العربية خاصة (السعودية، والإمارات العربية) أكدتا التزامهما باتفاق أوبك+(بلس) لعام2020 بين أعضاء أوبك ونحو 10 دول منتجة للبترول غير أعضاء وفي مقدمتهم روسيا، بالمحافظة على توازن العرض والأسعار العالمية للبترول من أجل الاستقرار وأن تكون أي زيادة في الإنتاج بالاتفاق فيما بينهم.
- كما أعلنت هيئة قناة السويس في 2 مارس 2022 نفي ما تردد عن إغلاق قناة السويس أمام السفن الروسية، والتزام الهيئة باتفاقية القسطنطينية لعام 1888 التي تنظم المرور في قناة السويس والتزام مصر بالاتفاقية التي تضمن حياد القناة في حالات السلم والحرب.
- بذلت الولايات المتحدة والدول الغربية جهودًا مكثفة لاستمالة الدول العربية لتأييد موقفها من الحرب الروسية الأوكرانية، وتوالت زيارات كبار المسؤولين والبرلمانيين الغربيين للمنطقة العربية بما فيهم الرئيس الأمريكي”بايدن” الذي زار السعودية يومي (15و16 يوليو)؛ لمحاولة تغيير موقف السعودية وإقناعها بالموافقة على زيادة إنتاج البترول إلى جانب تنمية العلاقات الثنائية بين (الرياض، وواشنطن) في كافة المجالات، وتمسكت السعودية باتفاق أوبك+ ووعدت بزيادة طفيفة حتى عام2027 لن يكون لها تأثير يذكر على أزمة الطاقة الحالية. وعقد بايدن قمة مع دول مجلس التعاون الخليجي +3 (مصر، والأردن، والعراق) لم ينتج عنها تغيير في موقف الحياد التلقائي للدول العربية. وتلقى بايدن عدة رسائل بضرورة إنجاز حل الدولتين للقضية الفلسطينية، وأهمية الإسهام الأمريكي الإيجابي في حل الأزمات العربية وتحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة، والمساهمة الإيجابية في مواجهة التحديات الاقتصادية الناجمة عن جائحة كورونا أو الحرب الروسية الأوكرانية. كما تلقى بايدن رسالة ضمنية بأن الدول العربية لن تشارك في المقاطعة الاقتصادية والمالية ضد روسيا وأن السبيل لحل الأزمة الأوكرانية هو عدم التصعيد والاتجاه للحل السياسي بالمفاوضات.
وقد تلقى بايدن قبل وصوله للمنطقة رسالة عربية قاطعة برفض فكرة إقامة تحالف أمريكي عربي تشارك فيه إسرائيل ضد إيران التي تعتبر جارة تشارك الدول العربية في(الثقافة، والدين، والمصالح المشتركة)، إلى جانب تحسن العلاقات بينها ودول مجلس التعاون الخليجي وتفاوض واشنطن معها للعودة للاتفاق النووي، وحاول بايدن أن يطرح خلال الزيارة فكرة تأمين الممرات المائية في المنطقة (باب المندب، وهرمز) في محاولة للالتفاف حول فكرة التحالف العسكري الأمريكي العربي الإسرائيلي، إلا أن طرحه هذا لم يلقَ رد فعل من الدول المشاركة في القمة العربية الأمريكية.
وترى كثير من التحليلات الغربية أن موقف الحياد الذي اتخذته أغلبية الدول العربية من الحرب الروسية الأوكرانية ليس حبًّا في روسيا بقدر ما هو تعبير عن عدم الرضا عن السياسات الأمريكية تجاه القضايا والأزمات العربية في العقدين الأخيرين، وأنها لم تعد النموذج والحليف الذي يُحتذى ويعول عليه، وأنه رغم ارتباط المصالح الإستراتيجية بين أغلبية الدول العربية وواشنطن والدور المهم الذي تضطلع به عالميًّا وفي المنطقة، إلا أنها في عدة أزمات تخلت وانسحبت بسهولة وآخر مثال على ذلك ما حدث في أفغانستان. وذلك على العكس من روسيا والصين اللتين وإن كانا لا يستطيعان أن يحلَّا كلتاهما محل الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط إلا أنهما أصبحتا تمثلان بديلًا موضع ثقة؛ حيث تدعم روسيا وجودها (العسكري، والاقتصادي، والتجاري) في المنطقة، بينما تركز الصين على وجودها (الاقتصادي، والتجاري، والتكنولوجي)، وقد أصبحت منذ عام 2020 أكبر شريك تجاري لدول مجلس التعاون الخليجي إلى جانب ما أحرزته كل من (روسيا، والصين) من تقدم كبير في مجال الأسلحة الحديثة وتكنولوجيا المعلومات والطاقة النووية للأغراض السلمية.
إن تطوير عدة دول عربية لقدراتها الأمنية من ناحية، ووجود البديل للولايات المتحدة ممثلًا في (روسيا، والصين) -حتى وإن لم يكن بديلًا كاملًا- من ناحية أخرى، قد أتاح للدول العربية مساحة من الاستقلالية النسبية ومكَّنها من التمسك بموقف الحياد من الحرب الروسية الأوكرانية وعدم الاستجابة لمطالب استمالتها للجانب الأمريكي والغربي تجاه الحرب الروسية الأوكرانية أو غيرها من القضايا التي تهتم بها أمريكا وحلفاؤها .