2019العدد 179ملف دولى

سياسة ترامب تجاه روسيا والصين، وتداعياتها على إعادة الاصطفاف الدولي وتماسك التحالف الغربي

بعد عقود من الهيمنة الأمريكية الأحادية على النظام الدولي في أعقاب نهاية الحرب الباردة، وانهيار الاتحاد السوفيتي السابق، يواجه تفرد الولايات المتحدة العالمي – في الوقت الراهن – تحديًا من القوى الدولية الصاعدة، لا سيما من الصين روسيا، الدولتين اللتين تتعطشان للثروة والأفضلية الدولية، وتحدي القيادة الأمريكية بحسب كثير من الدراسات الأمريكية التي ترى أن صعودهما سيكون مستمرًا وأمرًا مؤكدًا في وقت تتراجع فيه مصادر القوة الأمريكية (السياسية، والاقتصادية، والعسكرية،…)، والتي أضحت في تزايد منذ أداء الرئيس “دونالد ترامب” اليمين الدستورية في العشرين من يناير ٢٠١٧.

وفي محاولة لاحتواء النفوذ الصيني والروسي المتصاعد عالميًّا وإقليميًّا بصورة غير مسبوقة تتبنى الإدارة الأمريكية الحالية استراتيجية تعمل على تقويض مصادر قوة بكين وموسكو، وتقليل استفادتهما “المجانية” من المؤسسات الدولية، التي أسستها الولايات المتحدة في أعقاب الحرب العالمية الثانية، والتي يؤسس عليها النظام الدولي الراهن، والدخول في “منافسة استراتيجية” معهما. وهو الأمر الذي دفع بعض الكتابات الأمريكية والغربية للحديث عن بداية “حرب باردة” جديدة بين الولايات المتحدة والصين وروسيا، على غرار تلك التي كانت بين الأولى والاتحاد السوفيتي السابق، ولا سيما مع استغلال مسئولي بكين وموسكو السياسات الأمريكية ضدهما في الجمع بين القوة الاقتصادية الصينية والجرأة السياسية الروسية لتحدي الولايات المتحدة على الساحة الدولية بشكل أفضل.

الرؤية الأمريكية للقوتين الصينية والروسية

تعتبر إدارة الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” الصين وروسيا قوتين تعديليتين في النظام الدولي الذي أسسته الولايات المتحدة منذ سبعة عقود في أعقاب نهاية الحرب العالمية الثانية، والذي تنفرد بقيادته منذ نهاية الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفيتي السابق في تسعينيات القرن المنصرم، وأنهما غير راضيتين عن وضعهما في النظام الراهن، بجانب سعيهما إلى تشكيل آخر يؤسس على قيمهما ومبادئهما غير الليبرالية، وبما يخدم مصالحهما بالأساس.

ولهذا، نصت استراتيجية الأمن القومي التي صدرت في ديسمبر ٢٠١٧، عن عودة ظاهرة “التنافس بين القوى العظمى”، والتي أخذت في مراحل تاريخية سمة الصراع العسكري، في وقت تسعى فيه القوتان الروسية والصينية إلى تأكيد نفوذهما الإقليمي والدولي، واستثمار قوتهما الاقتصادية في بناء ترسانة عسكرية قادرة على منافسة الولايات المتحدة عالميًّا، وإخراج قواتها العسكرية من آسيا وأوروبا، بجانب حرمانها من الوصول إلى مناطق نفوذها التقليدي، والأزمات الدولية التي تنخرط فيها.

يشير تقرير لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام عن الإنفاق العسكري العالمي خلال العام الماضي (٢٠١٨) إلى أن الإنفاق العسكري الصيني ارتفع إلى ٢٥٠ مليار دولار، والذي يمثل زيادة ٥٪ عما كان عليه في عام ٢٠١٧، و٨٣٪ من إنفاقها العسكري خلال عام ٢٠٠٩. ويأتي الإنفاق العسكري الصيني في المرتبة الثانية بعد نظيره الأمريكي الذي يصل إلى ٦٤٩ مليار دولار خلال العام الماضي.

وعلى الرغم من أن الإنفاق العسكري الروسي والذي بلغ خلال العام الماضي ٦١,٤ مليار دولار وفقًا لتقرير المعهد، والذي يمثل انخفاضًا بنسبة ٢٢٪  عن الإنفاق العسكري لعام ٢٠١٦، الذي يُعد الأعلى منذ نهاية الحرب الباردة، وخروج موسكو من تصنيف الدول الخمس الأكبر إنفاقًا عسكريًّا عالميًّا للمرة الأولى منذ عام ٢٠١٦، لا تزال القوة العسكرية الروسية تشكل تهديدًا للقوة العسكرية الأمريكية، ولحلفاء الولايات المتحدة الأوروبيين، ولا سيما في ظل تزايد الاستثمار الروسي في التكنولوجيا العسكرية المتقدمة، وقوتها النووية، التي تأتي في المرتبة التالية لواشنطن.

وفي سياق متصل، أشار ملخص استراتيجية الدفاع الوطني لعام ٢٠١٨ التي نشرتها وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) إلى أن الصين وروسيا منافسان استراتيجيان للولايات المتحدة، وترغبان في تشكيل عالم يلائم نموذجهما الاستبدادي، ويقوضان النظام الدولي القائم من داخله من خلال استغلال مميزاته، وفي نفس الوقت هدم مبادئه والقواعد التي تحكمه. ولهذا، فإن المنافسة الاستراتيجية طويلة الأمد مع بكين وموسكو ستكون الأولوية الرئيسة للبنتاجون، بسبب حجم التهديدات التي تشكلها الدولتان ضد أمن ورفاهية الولايات المتحدة، وخاصة مع إمكانية زيادة تلك التهديدات في المستقبل.

وقد فصلت الاستراتيجيتان (استراتيجية الأمن القومي لعام ٢٠١٧ واستراتيجية الدفاع الوطني لعام ٢٠١٨) التهديدات التي تمثلها الصين وروسيا لأمن وازدهار الولايات المتحدة، والنظام الدولي الراهن، حيث أشارتا إلى أن موسكو تستغل حق النقض في مجلس الأمن الدولي التابع لمنظمة الأمم المتحدة من أجل فرض هيمنتها على الدول المجاورة في قراراتها الحكومية، والاقتصادية، والدبلوماسية؛ وكذلك تدمير حلف شمال الأطلنطي (حلف الناتو)؛ وتغيير الهياكل الأمنية والاقتصادية في أوروبا ومنطقة الشرق الأوسط لصالحها. فضلا عن أنها تستخدم التكنولوجيات الناشئة كجزء من استراتيجيتها السيبرانية؛ للتأثير على الرأي العام حول العالم، وتشويه وتقويض الديمقراطية الغربية، ما يُشكل مصدر قلق للولايات المتحدة.

وعن الصين أشارتا إلى أنها تستخدم الاقتصاد من أجل تخويف جيرانها، وفي الوقت ذاته تقوم بعسكرة الأوضاع في بحر الصين الجنوبي، حيث تسعى للهيمنة الإقليمية على مناطق النفوذ الأمريكي في قارة آسيا وخارجها على حد سواء، وتعمل على تعزيز قوتها العسكرية، وتنويع ترسانتها النووية استنادًا على نموها الاقتصادي الذي يعود بالأساس إلى استفادتها من مميزات الاقتصاد العالمي الذي تتولى الولايات المتحدة حمايته، وسرقة حقوق الملكية الفكرية الأمريكية، التي تقدر بمئات المليارات من الدولارات. وهو الأمر الذي يؤدي في التحليل الأخير إلى تقويض المزايا التنافسية طويلة الأمد للقوة الأمريكية على الساحة الدولية.

احتواء الصعود الصيني

يرفض الرئيس الأمريكي “ترامب” العديد من المقاربات التي انطلقت منها سياسات الإدارات الديمقراطية والجمهورية السابقة التي تقوم على “المشاركة الاستراتيجية” مع الصين، والتي ستجعلها قوة مسئولة في النظام الدولي، حيث يتبنى مقاربة “المنافسة الاستراتيجية”. وهذا التحول يلقى كثيرا من الدعم من الحزبين الجمهوري والديمقراطي رغم اختلافاتهم حول العديد من سياسات الإدارة على الصعيدين الداخلي والخارجي، انطلاقا من اتفاق الرؤى على أن بكين هي التحدي الجيوستراتيجي الرئيسي للولايات المتحدة في الوقت الراهن، وخلال العقود القادمة.

وعليه، تبنى نهجًا متشددًا تجاه الصعود المتنامي للصين على الساحة الدولية من خلال الحد من استفادة بكين من مميزات حرية التجارة العالمية التي أسس عليها النظام الدولي، والحصول على أسرار التطور التكنولوجي الغربي، حيث فرض ضرائب على البضائع الصينية للولايات المتحدة، وفرض قيودا على دخول الشركات الصينية إلى السوق الأمريكي، وكذلك إلى أسواق حلفاء الولايات المتحدة الأوروبيين بدعوى حماية الأمن القومي الأمريكي والأوروبي، وذلك في محاولة لعرقلة الصعود الصيني عالميًّا.

وفي إطار سياسة الإدارة الأمريكية لاحتواء الصعود والتأثير العالمي المتزايد للصين، فإنها تسعى إلى الحد من وصول بكين إلى موارد الطاقة، التي تعد المحرك الرئيس لاقتصاد الدولة الصاعدة بقوة، حيث تعد الصين ثاني بلد مستهلك للطاقة، وثالث مستورد للنفط في العالم. وعلى الرغم من الجهود الكبيرة التي تبذلها لتنويع مصادر إمداداتها من الطاقة خلال السنوات الماضية إلا أنها تظل الأكثر اعتمادًا على موارد الطاقة المستوردة من الخارج.

ولهذا، فإن أي تهديد أمريكي لمصادر استيراد الصين النفط الخام، سيُمثل تهديدًا كبيرًا لأمن الطاقة للقوة الآسيوية الصاعدة، وسيوجه ضربة قوية لاقتصادها، فضلا عن أنه سيساعد الولايات المتحدة في حربها التجارية ضد بكين واحتوائها.

وفي الوقت ذاته، يضغط الرئيس على عديد من الدول الحليفة للولايات المتحدة لوقف الاعتماد على التقنيات التكنولوجية الصينية، مثل تكنولوجيا الجيل الخامس، ومنع بيع مواد تكنولوجية أمريكية إلى شركات صينية، والعمل على وقف الاستثمار الصيني داخل الولايات المتحدة، والضغط على شركاء واشنطن الدوليين لتبني سياسات مماثلة لتلك التي تتبناها إدارته.

ولم تقتصر سياسة إدارة ترامب على محاولة إضعاف صعود الاقتصاد الصيني، وإنما بدأت في التركيز على مواجهة النفوذ الصيني المتزايد في القارة الإفريقية، ولا سيما بعد أن وصلت استثمارات بكين المباشرة خلال العامين الأخيرين بالقارة إلى ما يزيد على 6,4 مليار دولار.

تصعيد المواجهة ضد روسيا

مع فوز الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” في الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي أجريت في الثامن من نوفمبر ٢٠١٦، وتصاعد الحديث داخل واشنطن عن تدخل موسكو في تلك الانتخابات لصالح المرشح الجمهوري، وإعلان “ترامب” أكثر من مرة إعجابه بالرئيس الروسي “فلاديمير بوتين”، كان ينظر للأول على أنه الرئيس الأمريكي الذي سيعمل على تحسين العلاقات الأمريكية-الروسية بعد سنوات من التنافس الاستراتيجي، وتوترها في أعقاب غزو موسكو لجورجيا وأوكرانيا، وضم شبه جزيرة القرم.

وقد ظلت روسيا لفترة طويلة تعتبر “ترامب” الورقة الرابحة في استراتيجيتها لتحسين العلاقات مع الولايات المتحدة. لكن بعد مرور عامين ونصف العام على رئاسته أيقنت موسكو أنه لا يختلف كثيرًا عن الرؤساء الأمريكيين السابقين من الحزبين الجمهوري والديمقراطي، حيث عجز – حتى الآن – عن تنفيذ ما وعد به من عمل على تحسين العلاقات. وفي المقابل تبنى وجهات نظر واستراتيجيات المؤسسات السياسية والأمنية والاستخباراتية بتصعيد حدة التنافس الاستراتيجي بين العدوين التقليديين.

فمع بداية إدارته اعتمد الرئيس الأمريكي – وإن كان على مضض – فرض عقوبات على روسيا في منتصف عام ٢٠١٧ بسبب اتهامات وكالات الاستخبارات الأمريكية تدخل موسكو في الانتخابات الرئاسية لعام 2016. كما أيد طرد 60 دبلوماسيًّا روسيا (وهو ما يقرب إجمالي الأفراد الروس الذين طردتهم الدول الأوروبية)، وإغلاق القنصلية الروسية في سياتل بسبب تسميم جاسوس روسي سابق وابنته في مدينة سالزبري البريطانية عام 2018، وفي الأول من أغسطس ٢٠١٩ فرضت الإدارة الأمريكية حزمة جديدة من العقوبات على روسيا، تضم عدم تقديم أي قرض أو مساعدة تقنية إليها من جانب المؤسسات المالية الدولية التي تسيطر عليها الولايات المتحدة، وفرض قيود تمنع المصارف الأمريكية من تمويل الديون السيادية الروسية، وعلى صادرات السلع والتكنولوجيا إلى موسكو.

وفي سياق مواجهة القوة العسكرية الروسية الصاعدة، أعلنت الولايات المتحدة انسحابها من معاهدة القوى النووية متوسطة المدى التي أبرمتها مع روسيا عام 1987، وذلك بعد أن رأت أن موسكو تنتهك المعاهدة وهو ما نفاه الكرملين. وفي أعقاب الانسحاب أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية عن إجراء تجربة لصاروخ متوسط المدى، والذي كان ممنوعًا وفقًا للمعاهدة، والتي تأتي في أعقاب تصريحات لوزير الدفاع الأمريكي “مارك إسبر” بأنه سيقوم بتفعيل برامج للتجارب الصاروخية التي كانت معطلة بسبب المعاهدة مع روسيا. وقد أثارت تلك التجربة حفيظة موسكو وبكين لأنها تصعد من حدة سباق التسلح الدولي، والذي سيكون له تأثيرات سلبية بحسب تصريحات قيادات الدولتين على الأمن الإقليمي والعالمي.

ومنذ توليه منصبه في العشرين من يناير ٢٠١٧، والرئيس “ترامب” يتحسب من الاتفاقيات الدولية التي يرى أنها تحد من حرية الحركة الأمريكية على الساحة الدولية، انطلاقا من شعاره “أمريكا أولًا”. وقد هدفت الإدارة من الانسحاب من اتفاقية معاهدة القوى النووية متوسطة المدى، مراجعة مفهومي توازن القوى والردع مع روسيا ليكونا أكثر ملاءمة لها، والحفاظ على الهيمنة العسكرية الأمريكية، في ظل الاستثمار الروسي في قوتها العسكرية، واستخدامها لتعزيز مكانتها الإقليمية والدولية على حد سواء.

التحالف الاستراتيجي الروسي الصيني

لتوافق رؤية القوتين الصينية والروسية حول أن الولايات المتحدة تشكل تهديدًا جيواستراتيجيًّا لنفوذهما الدولي المتنامي خلال السنوات الماضي، شرعت موسكو وبكين في تشكيل تحالف استراتيجي بدأت ملامحه تتجلى خلال زيارة الرئيس الصيني إلى روسيا في الخامس من يونيو ٢٠١٩، حيث وافقت القوتان على الارتقاء بعلاقاتهما إلى شراكة استراتيجية.

وفي إطار هذا التحالف بدأت روسيا التي كانت حريصة على حجب أحدث تكنولوجياتها العسكرية عن الصين، تبيع لها أنظمة الدفاع الجوي الأكثر تطورًا، بجانب عملهما المشترك في مجال البحث وتطوير الصواريخ والطائرات بدون طيار. ومؤخرًا وافقت موسكو على أن تبيع لبكين أحدث تقنياتها العسكرية، بما في ذلك صواريخ أرض – جو (اس ٤٠٠) وطائرات مقاتلة من طراز (سو-35). بجانب تخطيط الدولتين لعقد مناورات عسكرية مشتركة بشكل منتظم بعدما كانت متقطعة لأكثر من عقد.

وسياسيًّا، تشهد مواقفها تنسيقًا غير مسبوق في القضايا الدولية الرئيسية. فخلال التصويت في مجلس الأمن الدولي فإنهما تتوافقان بنسبة 98%. فضلًا عن عملهما على إنشاء وتعزيز منظمات جديدة تنافس المنظمات الدولية التقليدية التي أسستها الولايات المتحدة في أعقاب نهاية الحرب العالمية الثانية، والتي يقوم عليها النظام الدولي الراهن، بما في ذلك منظمة شانغهاي للتعاون والبريكس.

 ويرجع هذا التحالف بين القوتين الروسية والصينية بصورة رئيسية لقناعتهما أن الإدارات الأمريكية الجمهورية والديمقراطية المتعاقبة تعمل على الحد من قوتهما، وتقويض أنظمتهما الحاكمة، حيث يرى قادتهما أن الولايات المتحدة لا تتحدى فقط مصالحهما في أوروبا الشرقية أو بحر الصين الجنوبي، بل تسعى بجدية إلى تقويض أنظمتهما السياسية، عن طريق تقويض سيطرة كل زعيم داخل مجتمعه. وذلك لتبنيهما نظرة جيوسياسية مشتركة لعالم متعدد الأقطاب، ورغبتهما في احتواء القوى الغربية، وتحويل مركز القوة والقيادة الدولية من الغرب ممثلًا في الولايات المتحدة إلى الشرق ممثلًا في روسيا والصين، الأمر الذي يجعل شراكتهما أمرًا لا مفر منه.

وقد رغبت روسيا من تعزيز تعاونها مع الصين من خلال شراكة استراتيجية تعوض خسائر اقتصادها الذي تأثر من العقوبات الأمريكية والدولية المفروضة عليه في أعقاب سيطرتها على شبه جزيرة القرم في عام ٢٠١٤، ولهذا، سعت موسكو إلى توطيد علاقاتها الاقتصادية مع بكين لا سيما في مجالي الطاقة والأسلحة. وفي عام ٢٠١٨ وصل حجم التجارة بين القوتين إلى مستوى قياسي بلغ ١٠٨ مليار دولار.

وتعد الصين سوقًا حيويًّا للمواد الخام الروسية، حيث تعتمد شركة النفط الوطنية الروسية “روسنفت” على التمويل الصيني، وتقوم بتحويل نفطها إلى بكين بشكل متزايد. ومع سعي موسكو للتهرب من هيمنة الدولار، أصبح اليوان الصيني جزءًا أكبر من احتياطاتها من العملات الأجنبية، حيث انخفضت حصة الدولار بمقدار النصف إلى 23٪ خلال عام 2018، في مقابل ارتفاع حصة اليوان من 3٪ إلى 14٪. كما أن المكونات الصينية ذات أهمية حيوية لأنظمة الأسلحة الروسية المتقدمة. فضلًا عن أنها مصدر أجهزة الشبكات والأمن التي يحتاجها بوتين للسيطرة على شعبه. وفي يونيو ٢٠١٩، أبرمت روسيا صفقة مع شركة “هواوي” الصينية، لتطوير معدات الجيل الخامس.

في خطابه حالة الأمة الذي ألقاه في فبراير ٢٠١٩، أعرب الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” عن ثقته في أن العلاقات مع الصين ستعزز الأمن والرخاء الروسيين، خاصة أنه يربط خطته للاتحاد الاقتصادي الأوروبي الآسيوي مع مبادرة الصين الطموحة “الحزام والطريق “، وهو برنامج ضخم للبنية التحتية يهدف إلى ربط بكين مع آسيا وأفريقيا وأوروبا.

وفي مقابل الرؤية التي تتحدث عن أهمية التحالف الاستراتيجي بين القوتين، وتهديده المكانة والقيادة الأمريكية للنظام الدولي الذي تتربع الولايات المتحدة بقيادته منفردة منذ انهيار الاتحاد السوفيتي السابق، هناك رؤية مقابلة تتحدث عن أن احتمالات هذا التحالف الذي تبلور خلال السنوات الماضية واستمراره على المدى البعيد ضعيفة للغاية، وذلك لجملة من الأسباب، منها أن الفوائد الاقتصادية التي تحققها روسيا من علاقاتها مع الصين منخفضة مقارنة بحجم التجارة الثنائية بين الصين والولايات المتحدة، وكذلك بين الأولى والاتحاد الأوروبي، والاتحاد الروسي والأخير. كما اعتمدت موسكو بشكل أساسي على الأسواق المالية الغربية للحصول على القروض المالية؛ لتعزيز اقتصادها الذي يواجه كثيرا من الأزمات.

ويضاف إلى ما سبق، الاختلاف الجلي بين البلدين في المصالح والقيم والثقافة الوطنية، ولأن الصعود الصيني الدولي سيؤثر وسيُهدد المصالح الاقتصادية والجيوسياسية الروسية. وكذلك الإرث التاريخي للاشتباكات الحدودية بين القوتين. ومن المحتمل أن ينهار التعاون الصيني-الروسي إذا توترت العلاقات الثنائية بين البلدين.

تداعيات على النظام الدولي

تشكل المنافسة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين وروسيا تحديًّا قويًّا للمنظمات الدولية، حيث أصبحت معرضة للاستغلال من قبل القوتين، لكون التنافس بينهم ليس فقط على السيطرة على الموارد، والوصول إلى الأسواق، والهيمنة تكنولوجيًّا، بل أخذ منحى السيطرة على القواعد التي تحكم عمل المؤسسات الدولية الاقتصادية. ففي مقابل المؤسسات المالية التي أسستها الولايات المتحدة في أعقاب الحرب العالمية الثانية وفي مقدمتها صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي أسست بكين في عام ٢٠١٥ بنك الاستثمار الآسيوي في البنية التحتية كمؤسسة مالية دولية متعددة الأطراف. وقد رفضت واشنطن الانضمام لها، وأجبرت حلفاءها على القيام بذلك أيضًا.

وكشف النزاع التجاري الصيني-الأمريكي عن تراجع دور الولايات المتحدة كحامية لقيم التجارة الحرة، والمبادئ الديمقراطية في الاقتصاد العالمي، والتي أسس عليها النظام الدولي الراهن، حيث أصبحت تتبنى الحمائية التجارية، وتفرض مع زيادة منافسيها العديد من القيود، بما في ذلك شن حرب جمركية ليس على خصومها بل على حلفائها التقليديين، والتي ستضر بالاقتصاد العالمي القائم على دعم نظام تجاري متعدد الأطراف.

وقد شجع الموقف الروسي والصيني المناهض للسياسات الأمريكية التي تعمل على تهديد قيم وقواعد النظام الدولي الذي تعهدت الولايات المتحدة بصونه على مدى سبعة عقود خلال إدارة الرئيس “دونالد ترامب” إلى أن يتخذ حلفاء واشنطن في آسيا وأوروبا سياسات تتعارض مع توجهات الإدارة الأمريكية الحالية، وهو ما تجلى بصورة جلية في رفض القوى الكبرى الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي بين إيران ومجموعة (٥+١) في الثامن من مايو ٢٠١٨، وإعلانها استمرار تمسكها بهذا الاتفاق، والالتزامات التي يفرضها، ومواجهة العقوبات المفروضة على طهران.

في التحليل الأخير… إن الاحتواء الأمريكي المزدوج خلال إدارة الرئيس “دونالد ترامب” للقوتين الروسية والصينية يدفعهما لتعزيز تحالفهما الاستراتيجي لمواجهة القوة الأمريكية، بينما كانت الإدارة الأمريكية السابقة الجمهورية والديمقراطية تتجنب دفعهما للتقارب. ومع تشكل هذا التحالف لا تتحرك الولايات المتحدة وحلفاؤها بسرعة كافية لمواجهة الجهود التي تبذلها موسكو وبكين لإثارة عدم الاستقرار بتكتيكات “المنطقة الرمادية” التي لا ترقى إلى مستوى التدخل العسكري، والتي تتمثل في: استخدام الوكلاء عسكريًّا، والإكراه السياسي والاقتصادي، والتضليل المعلوماتي، والعمليات السيبرانية، وتقنيات التشويش ضد الأقمار الصناعية الأمريكية، والتي سيكون لها ثمة تأثيرات سلبية وجوهرية على مستقبل القوة والقيادة الأمريكية للنظام الدولي الراهن. ولذا فإن واشنطن في حاجة ماسة لاستعادة شراكاتها وتحالفاتها الدولية، وإبراز رؤية أكثر ثقة لنموذجها السياسي والاقتصادي.

اظهر المزيد

عمرو عبدالعاطي

باحث متخصص في الشئون الأمريكية-موسسة الأهرام-القاه...

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى