2019العدد 179ملف دولى

الدور الأوروبي بين مقتضيات التحالف مع أمريكا ومتطلبات المصالح مع خصومها

وفاءٌ تاريخيٌ وقلق معاصر:

الاتحاد الأوروبي يمر خلال هذه السنوات في أتون مرحلة صعبة بالمقارنة مع ما سبق من مواجهات وتحديات استطاع دائما الخروج منها بالانتصار السياسي في أقل تقدير. فبعد انهيار الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة، أو الظن بأنها انتهت فعليا، التفت الأوروبيون إلى توسعة الاتحاد وضم الدول الأوروبية المتحررة حديثا من سيطرة موسكو. وقد استثمر الأوروبيون المؤسسون، ممثلين بمؤسسات الاتحاد المتعددة المهام، أموالا طائلة لإعادة تأهيل الدول المنضمة حديثا إداريا وسياسيا وماديا. وصار عدد الأعضاء يشكل قطبا اقتصاديا وسياسيا لا يُستهان به من قبل أعداء نظريين له، كروسيا الاتحادية، أو حتى من قبل أصدقاء وحلفاء كالولايات المتحدة الأميركية. وتفاءل الأوروبيون بهذا التوسّع السريع على الرغم من كلفته العالية دون حساب عوامل النخر الذاتي التي يمكن أن تتفاقم يوما بعد يوم.

فبالإضافة إلى الفساد المستشري في بعض الدول حديثة الانتماء إلى الاتحاد، مثل بلغاريا ورومانيا، والصعوبة البادية في إمكانية التغلب عليه في وقت قصير نسبيا، مما يجعل أموال الاتحاد الأوروبي التي تُغدق على هذه الدول، كما لو أنها الكنز المتاح للعموم والذي يثير شهية الفساد المؤسسي القائم في تلكم البلدان، بدأ يظهر على السطح، بوضوح متعاظم، ميلٌ لدى بعض دول شرق ووسط أوروبا للخضوع إلى السياسات الروسية الآتية من موسكو وبطريقة وضع تصوراتها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، كما يفعل بشكل حثيث الهنغاريون بوجود فيكتور أوربان على رأس السلطة التنفيذية في بودابست. وقد تمكنت أيضا مجموعات يمينية متطرفة من الوصول أو الاقتراب من سدة الحكم في بعض العواصم الأوروبية المنضمة حديثا كما بولونيا وهنغاريا، إضافة إلى انحرافات الأعضاء القديمين في النادي الأوروبي باتجاه التطرف والشعبوية كما إيطاليا والنمسا.

الاتحاد الأوروبي في أزمة أميركية / روسية

يعبر إذا الاتحاد الأوروبي مرحلة صعبة للغاية، وهو مضطر بسبب الحاجة لمواجهتها إلى إدارة علاقاته الخارجية بشيء من التوازن والحكمة التي لا تخلو من الحنكة، وخصوصا فيما يخص التعامل مع القطب الأميركي الترامبي متضخم الأنا الذاتية وغير محسوب التصرفات، كما مع القطب الروسي البوتيني المستشري سيطرة وتوسعا وتهديدا مسلحا حتى. فمنذ انتصار دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية سنة 2017، صارت أوروبا بالنسبة له مجرد قيمة مضافة عدديا وكميا لتشجيع الاقتصاديات الأميركية أي أن أوروبا من وجهة نظر ترامب هي سوق كباقي الأسواق. وقد بدأ بإعادة تصور العلاقة معها دون الأخذ بعين الاعتبار للتاريخ القريب التحالفي والذي لعبت من خلاله الولايات المتحدة الأميركية دورا رئيسيا في تحرير أوروبا من النازية والتي سمحت لها من خلال هذا الدور بتشكيل مؤسساتها الاتحادية عبر امتصاص الأزمة الاقتصادية التي تلت الحرب العالمية الثانية ونجمت عنها، ودعم عملية إعادة الإعمار عبر خطة مارشال السخية. واليوم صارت هذه المساعدة المصيرية والتي سجّلها التاريخ حجة أساسية ليُطالب من خلالها ترامب أن يتم ردّ الدين الأوروبي لأميركا بصورة غير مباشرة وذلك عبر تسهيل التجارة مع القارة القديمة ورفع كل القيود الضريبية على منتجات العم سام مع استخدام غير مبرر للغة التهديد والوعيد التي لم يسبق أن سادت في العلاقات بين “الحلفاء” الغربيين منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وحتى خلال الاستقلالية الأوروبية النسبية عن واشنطن والتي عبّر عنها بشكل رئيسي الجنرال شارل ديغول. حيث كان، وما يزال، يشعر الأوروبيون عموما والفرنسيون خصوصا بعرفان تاريخي للولايات المتحدة التي “حررتهم” من نير النازية، وبالمقابل، فقد كان قائد حرب التحرير الفرنسية، الجنرال شارل ديغول، كثيرا ما يحذر من الأميركيين ويعوّل على جسد اتحادي سياسي واقتصادي أوروبي صلب.  وقد سعى ديغول لكي تقود فرنسا اتجاها أوروبيا استقلاليا عن السياسات الأميركية، خصوصا في الحروب وفي الاقتصاد، ولكنه لم ينجح إلا بشكل نسبي في تحفيز هذا التوجه.

الملف الإيراني الشائك:

من جهتها، تواجه باريس ضغطا اقتصاديا واسعا من واشنطن لا تساعد في امتصاص وقعه التغريدات الهجومية والجارحة أحيانا التي تخصّص في نشرها الرئيس دونالد ترامب. فقد قام مثلاً بكتابة تغريدة حول محاولات فرنسا لعب دور إيجابي مخفف للاحتقان في الملف الإيراني قائلاً: “أنا أعرف أن إيمانويل يبحث عن القيام بأمر جيد، كما كل الآخرين، ولكن لا يحق لأي شخص أن يتحدث باسم الولايات المتحدة، عدا الولايات المتحدة نفسها”. وقد استهدفت هذه التغريدة التي أطلقها الرئيس الأميركي يوم 8 أغسطس/ آب الماضي بشكل مباشر وقاس للغاية الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. وقد عبر من خلالها عن شدة غضبه من محاولات الرئاسة الفرنسية السعي لإيجاد مخارج معقولة للتخفيف من حدة الخلاف الأميركي ـ الإيراني المتجدد والمتفجّر بشتى الطرق. أزمة وصلت إلى حدود الصدام العسكري، بعد أن أثارها ترامب لدفن جزءٍ من إرث سلفه باراك أوباما، بإلغائه الاتفاق النووي الذي وقعته الإدارة السابقة سنة 2015 إلى جانب الدول الأوروبية الرئيسية.

وفي تعبير واضح عن درجة عالية من الغضب، أضاف الرئيس الأميركي، في تغريدته، إن “لدى إيران مشكلات مالية فظيعة. والإيرانيون يسعون بلا أمل إلى الحديث مع الولايات المتحدة، ولكنهم يتلقون رسائل متناقضة من كل الذين يدّعون تمثيلنا نحن الأميركيين. وأحد مرسلي هذه الرسائل الغامضة هو الرئيس الفرنسي ماكرون”. وبالفعل، فالرئيس ماكرون، وعلى رأس مجموعة أوروبية تسانده في قيادتها المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، سبق أن رفض القرار الأميركي الفريد بنقض اتفاق دولي وقعت عليه الولايات المتحدة علنا في احتفاليةٍ كانت خلالها ابتسامة وزير خارجيتها السابق، جون كيري، تتجاوز مجمل إخفاقاته الشخصية على المستويين، الدولي والمحلي، تأكيدا ربما على أن توقيع هذا الاتفاق كان الإنجاز الوحيد فعليا طوال دورتي رئاسة أوباما بين عامي 2009 و2017 على المستوى الخارجي. وبالنسبة لفرنسا، كما بالنسبة لألمانيا ودول أوروبية كثيرة، فإن نقض الاتفاق عمل غير مدروس، ويحمل انتقاما شخصيا ويترجم عقدة نقص هيكلية لدى الرئيس الأميركي الحالي تجاه سلفه.

في المقابل، فمن المؤكد بأن الموقف الأوروبي المتميّز عن موقف حليف أوروبا الأميركي تجاه إيران ليس نابعا فقط من مسألةٍ مبدئية تتعلق بعدم نقض العهود، أو بسعي مثالي إلى تحقيق المصالحات الدولية، ونزع فتيل الانفجار العالمي. إن القاصي والداني صارا على اطلاع على مئات المشاريع الاقتصادية المُدرّة للأرباح العالية، والتي كان الأوروبيون بدأوا في التأسيس لها، أو أنهم كانوا يتحضرون لالتقاط مفاتيحها بانفتاحهم على نظام طهران من دون اعتماد مبدأ الشرطية التي ربطت يوما دمقرطة النظام السياسي واحترامه لحقوق ناسه هي الأساس في بناء الثقة والتأسيس لكل أنواع العلاقات السياسية كما الاقتصادية. ومن خلال الموقف الترامبي، والذي ترسّخ بفرض عقوبات اقتصادية خانقة على طهران، ومنع الحلفاء من أي تعاون استثماري معها، فقد خسر الأوروبيون، على الرغم من كل محاولاتهم الالتفافية، بلايين اليوروهات.

وعلى سبيل المثال لا الحصر، فقد انخفضت قيمة الصادرات الفرنسية نتيجة الخضوع للعقوبات الأميركية على إيران من مبلغ  مليار يورو سنة 2017 إلى ثلث هذا المبلغ في هذا العام. كما انسحب عملاق النفط الفرنسي توتال من إيران بعد أن استثمر مبلغ  مليار يورو أيضا، وباع حصته مضطرا بأسعار منخفضة إلى شركات صينية منافسة. ومن جهتها، تأثرت صناعة السيارات الفرنسية كما الطائرات، بشدة من هذه العقوبات فخسرت شركة بيجو / سيتروين، 12 في المائة من حجم مبيعاتها الخارجية، كما أغلقت شركة رينو مصانعها في إيران وخفضت من تعاونها مع المصانع الإيرانية التي تنتج السيارات بخبرات فرنسية.  وأخيرا، خسرت شركة ايرباص عقودا بمئات الطائرات المجنية كانت طهران تنوي التزود بها لتجديد أسطولها الجوي المتهالك.

من جهته، وفي مواجهة هذا الصلف الأميركي، فالرئيس الفرنسي ينتهز كل الفرص للاتصال هاتفيا بالرئيس الإيراني حسن روحاني، طالبا منه التجاوب مع مساعيه في عدم التصعيد مع وعود بالتدخل لدى الجانب الأميركي وسيطا يميل إلى دعم الموقف الإيراني، على الرغم من تحالفه التاريخي نظريا مع الموقف الأميركي. ومن جهتهم، يقابل الإيرانيون هذا الانفتاح الفرنسي بتعنّت عالي المستوى ويحمل رمزية لافتة في شرح أساليبهم الدبلوماسية. وهم يشترطون أن تقوم أميركا، وكذلك حلفاؤها، بسحب قائمة العقوبات المفروضة على طهران من التداول ومن التنفيذ، قبل السعي إلى فتح أي نوع من المفاوضات مع الجانب الأميركي خصوصا والغربي عموما.

الأوروبيون يدافعون دائما عن اتفاقية 2015 النووية مع إيران والتي انسحبت منها أميركا بعد وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض. وحتى أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، يتواصل بشكل شبه دوري مع نظيره الإيراني حسن روحاني ساعيا إلى تمييز موقف أوروبا من طهران عن الموقف الأميركي، وفي المقابل، فهو يحاول أيضا أن تخفف إيران من لهجة التحدي وأن تعدل عما وعدت به من عدم الالتزام بالاتفاقية بحجة انسحاب الأمريكيين منها. وقد أشارت بيانات قصر الرئاسة الفرنسي إلى أنه “دور فرنسا أن تقوم بمختلف الجهود اللازمة لكي تقبل مختلف أطراف الأزمة المعنيين بالتروي وفتح باب التفاوض”. وقد وصلت حدة التكهنات المرتبطة بدور الوسيط الذي تسعى فرنسا للعبه بين الإيرانيين والأميركيين إلى أنه توجد نية لدى الدبلوماسية الفرنسية لدعوة إيران إلى قمة مجموعة السبعة التي جرى عقدها في الساحل الغربي الجنوبي لفرنسا بين يومي 24 و26 أغسطس الماضي، بوجود الرئيس الأميركي إلا أن ذلك لم يحصل بشكل كامل وإن استطاع الرئيس الفرنسي تسجيل انتصار دبلوماسي رمزي. هذا الانتصار تجسّد بحصول زيارة خاطفة لوزير الخارجية الإيرانية محمد جواد ظريف إلى المدينة الساحلية “بياريتز” مكان انعقاد القمة. وتبارت وسائل الإعلام في محاولة الاستنتاج والبحث عن السبق، فتبين في النهاية بأنه لم يصل المدينة للمشاركة في القمة. بالمقابل، فقد عقد اجتماعًا مطوّلاً مع وزير الخارجية الفرنسي جان ايف لودريان، كما اجتمع في لقاء سريع لم يتجاوز نصف الساعة مع الرئيس ماكرون ليُقفل عائدا من حيث أتى.

زيارة ظريف الخاطفة مؤشر إيجابي لنجاح الجهود الدبلوماسية الفرنسية في تخفيف التوتر الأميركي الإيراني المرتبط بالملف النووي والذي كاد أن يتحول إلى صدام عسكري في الأسابيع القليلة التي سبقت انعقاد القمة. وعلى الرغم من التصريحات الأميركية التي نأت بالبيت الأبيض عن أية علاقة بهذه الزيارة وتلك المباحثات، إلا أن المراقبين يجمعون على أن ما كان لماكرون أن يُقدم على هذه الخطوة المفاجئة وذات الوقع الكبير إلا بعد تنسيقٍ ما مع القيادة الأميركية. قيادةٌ تنتقد الدور الفرنسي في العلن، ولكنها تجده أفضل وسيلة لتخفيف التوتر الذي لا ترغب في الوصول إلى تفجيره على الرغم من النزعة التصادمية والمغامراتية للرئيس دونالد ترامب.

عمالقة التكنولوجيا عصب التوتر:

إلى جانب الملف الإيراني الشائك والصعب، يواجه الفرنسيون، ووراءهم أوروبيون كثيرون، رئيس أميركا المُغرّد دونالد ترامب من خلال ملفات متعدّدة أخرى، من أهمها الملف الاقتصادي، خصوصا بعد إقرار الضرائب الطبيعية والمشروعة فرنسيا التي يترتب على عمالقة الإنترنت الأميركيين (غوغل، فيسبوك، آبل، أمازون) دفعها، والتي لا يوجد لدى أي اقتصادي، مهما كان ليبراليا، أي مبرر منطقي لإعفائها. وفي مقابل القرار الفرنسي، سارع ترامب إلى التغريد أيضا لإدانة هذه الخطوة، وهدد فرنسا لما أسماه بالـ “الخطوة الغبية”. وبعنفٍ لفظيٍ قل نظيره في العلاقات الدبلوماسية بين الحلفاء (نظريا على الأقل)، هدّد ترامب بردود فعل تتناسب وحجم الخسائر التي يعتبر أنها فُرضت على الاقتصاد الأميركي من غير وجه حق. وقد ورد في تغريدته أن “فرنسا تفرض ضريبةً على مؤسساتنا التكنولوجية الأميركية الكبرى. وإن كان لأحدٍ أن يفرض مثل هذه الضرائب فهو بلد الأصل، أي الولايات المتحدة. سنعلن قريبا عن عملية تأخذ بمبدأ المعاملة بالمثل. كنت دائما أقول إن النبيذ الأميركي أفضل من الفرنسي، فقد كان إذا على الفرنسيين أن لا يفعلوا ذلك، وقلت لهم ذلك، وقلت لهم أيضا إنني سأفرض رسوما على النبيذ الفرنسي إن فعلوا”. وعلى الرغم من تفاقم الخلافات بين فرنسا وأميركا حول أمور أساسية وبشكل شبه مستمر، فهذا لم يمنع من حدوث عدة مكالمات هاتفية سبقت قمة السبعة الكبار التي عقدت بين يومي 24 و 26 من أغسطس الماضي في فرنسا.

من يواجه الغطرسة الأميركية إلى جانب فرنسا؟

تشعر ألمانيا بضعف بنيوي أمام متطلبات الحليف الأميركي على الرغم من قوة اقتصادها وعلى الرغم من صلابة مستشارتها أنجيلا ميركل. فتاريخ ألمانيا القريب أجبر هذه الدولة على أن تكون ضعيفة الموقف في الكثير من الملفات الشائكة، وجعلها تتنازل، بصورة أو بأخرى، أمام الحليف التاريخي الأميركي، كما أمام “العدو” التقليدي الروسي.

ألمانيا وفرنسا وحدهما مبدئيا لمواجهة الصلف الأميركي، مع سعي دؤوب للاحتفاظ بالحليف الأميركي. فبريطانيا تعبر مرحلة الخروج من الاتحاد الأوروبي بحكومة شديدة المحافظة هي الأقرب إلى المصالح الأميركية من أي وقت مضى. كما أن إيطاليا وإسبانيا تعيشان على وقع أزماتهما الحكومية وعدم التوصل إلى تشكيل حكومة قوية مركزية تواجه اقتصاديا على الأقل كل ما يمكن أن يضر بمصالح القارة الأوروبية. في إيطاليا أيضا، هناك خطر لا تواجهه إسبانيا، وهو نجاح متجدد مشكوك بأمره لقوى اليمين المتطرف التي تحارب المشروع الأوروبي وهي أقرب إلى موسكو منها إلى بروكسل. كما تتمنى. أوروبا الجديدة بأعضائها السبع والعشرين بأن دولاً عدة فيها تنتمي إليها مؤسساتيا دون تبني قيمها الأساسية المرتبطة بعلمانية المؤسسات (كما بولندا) وديمقراطية الانتخابات (كما بلغاريا) واحترام التعددية الإعلامية (كما هنغاريا) ومكافحة الفساد (كما رومانيا). وهذه الدول التي تم ذكرها كأمثلة، تقترب في سياساتها وفي خضوعها الخارجي أكثر إلى من يحارب المشروع الأوروبي بحد ذاته، أي موسكو وواشنطن.

الشعبوية باب أوروبي مشرع لواشنطن وموسكو:

لم يعد خافيا على أحد من أن أوروبا صارت تذخر بالأحزاب اليمينية المتطرفة كما بالأحزاب الشعبوية التي ترفض المؤسسات الأوروبية وتحاربها. أحزاب شعبوية تموه أحيانا نشاطها بالتوجه يسارا على الرغم من ضعف الخلافات البنيوية بينها وبين اليمين المتطرف. وحالة تحالف حزب النجوم الخمسة اليساري الشعبوي الإيطالي مع رابطة الشمال اليمينية المتطرفة في الحكومة السابقة في روما هي مثال صارخ على المستوى الداخلي، كما التحالف بين التجمع الوطني اليميني المتطرف وحزب غير الخاضعين اليساري المتطرف في فرنسا في إدارة الملفات الخارجية كما دعم الثورات المضادة في العالم العربي.

وبسبب تراكم وتفاقم فشل الأحزاب التقليدية يسارا ويمينا في المشهد الأوروبي، والمترافق مع تفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، فإن الناخب الأوروبي صار يميل في قسم كبير منه إلى الأحزاب التي تدّعي تقديم العلاج السحري البديل. أحزاب هي غالبا ما تكون قادرة بامتياز على إدارة حملة انتخابية تحشيدية وناجحة، وهي غالبا ما تكون فاشلة في إدارة شؤون الدولة بعد نجاحها في الانتخابات وتمكنها من الوصول إلى تشكيل الحكومات.

كما لم يعد خافيا من جهة أخرى أن الشعبوية تجد لنفسها مرجعا أميركيا من جهة إدارة ترامب التي تعتمد على التغريد السياسي أكثر من التحليل السياسي. إضافة إلى أنها تجد لها مرجعا بوتينيا من خلال أساليب الكرملين في إدارة السياسة الداخلية كما في إدارة السياسة الخارجية. حليفان ـ عدوان نظريا ـ لكنهما يتحالفان موضوعيا لإرهاق المشروع الأوروبي ودفعه نحو الانهيار أو إعادة التشكّل حسب مقتضيات مصالحهما غير المتعارضة لزاما.

من جهتهما، يميل ترامب وبوتين إلى دعم أحزاب اليمين المتطرف الأوروبي كل بطريقته المختلفة. فنرى أن جُلّ أحزاب هذا اليمين، كالفرنسية والإيطالية مثلاً، تتلقى الدعم السياسي كما المالي من موسكو على شكل قروض تقدمها المصارف الروسية الخاصة الخاضعة لرجال الكرملين. فحلفاء موسكو بازدياد أوروبيا عبر صعود أحزاب اليمين المتطرّف. إن قيصر موسكو بنى واقعيته السياسية الدولية على عقيدة معادية للغرب. وقد تساءلت صحيفة “لوموند” المسائية الفرنسية عشية الزيارة القيصرية الأخيرة لدار الاصطياف الرئاسية الفرنسية حيث التقى فلاديمير بوتين بالرئيس إيمانويل ماكرون يوم 19 أغسطس الماضي عن “المصلحة في إعادة تأهيل دولةٍ تصرّح علنا إن هدفها تدمير النظام الدولي، وربط كل أوروبا بنظامها العسكري/ الأمني”.

تحاول فرنسا أن تحمل بصلابة ملف مواجهة الصلف الأميركي سياسيا واقتصاديا، وهذا يُحسب لها في المطلق، ولكن المراقب الدقيق يلحظ تغيراتٍ سلبيةً في طريقة إدارة السياسة الخارجية الفرنسية، والتي تميّزت، عقودا طويلة، بمواقف مستقلة ومتميّزة عن واشنطن، خصوصا في ملفاتٍ شائكة، كملف القضية الفلسطينية والقضايا الإقليمية الأخرى، كما في العلاقة مع بعض دول أميركا اللاتينية، فقد أشارت أحداث وتموضعات السنوات الأخيرة إلى تنامي التزام فرنسي بمسار الرغبات الأميركية، مهما أصابت هذه الأخيرة الضبابية والتقلبات، خصوصا مع وصول نيكولا ساركوزي إلى قصر الأليزيه عام 2007.

يمكن السؤال اليوم عن إمكانية تأثير الخلافات الأخيرة بين أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، على المستوى السياسي والاقتصادي، والتي تشير إلى خلل بنيوي في علاقات الحلفاء الغربيين، في العمل على دفع فرنسا أولاً، ومن ثم بقية دول الاتحاد الأوروبي التي تعاني من هذه العلاقة غير المتكافئة، إلى تعزيز استقلالية قراراتها المرتبطة بإدارة السياسة الدولية عن واشنطن؟ هل ستساعد تغريدات دونالد ترامب المتكررة والمسيئة على التشجيع باتجاه انبثاق سياسة خارجية جديدة في أوروبا، تُحيلنا إلى الاستقلالية المتميّزة التي تبنّاها الجنرال شارل ديغول في القرن الماضي وتخلى عنها من خلفه في قصر الأليزيه؟ هل سيشعر الأوروبيون، أو جُلّهم، بأنهم قادرون اقتصاديا وعسكريا على تبنّي سياسات تحافظ أساسا على مصالحهم السياسية والاقتصادية والدفاعية بعيدا عن الخضوع أو التجاوب مع تغريدات نشاز تصلهم تباعا من واشنطن وتهدف لإضفاء جو من اللا سياسة وتقترب بهم إلى عمليات إدارة المؤسسات العقارية إن لم نصل إلى حد التوصيف الأكثر تطرفا؟

اظهر المزيد

د. سلام الكواكبي

باحــث سوري في العلوم السياسية - فرنسا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى