2019العدد 179ملف ثقافي

مسرح منصور الرحباني

ينقسم التاريخ الموسيقي للمدرسة الموسيقية اللبنانية إلى مدرستين الأولى ما قبل 1950 وهي الموسيقى اللبنانية التقليدية من غناء شعبي إلى الموال وغناء الأشكال الغنائية الجبلية (ميجانا وعتابا) وقد برز في هذه المدرسة أسماء كبيرة مازالت محفورة في تاريخ الموسيقى اللبنانية وأذكر منها الملحن الكبير سامي الصيداوي وهو كما يدل اسمه من مدينة صيدا الجنوبية، والملحن البيروتي نقولا المنيَّ، والمخضرم الكبير فيلمون وهبي وغيرهم وتمتاز هذه المدرسة بكون أعضائها لم يدرسوا الموسيقى في المعاهد بل انطلقوا من موهبتهم الكبيرة (كعهد كل مدرسة موسيقية في بداياتها)، واستطاعوا من خلالها بناء أسس مدرسة كان لها بعد ذلك شأن عظيم في تاريخ الموسيقى العربية ككل.

المدرسة الحديثة للموسيقى اللبنانية ظهرت ثمارها بعد 1950 على يد موسيقيين شباب(زكي ناصيف، توفيق الباشا، حليم الرومي، الأخوين رحباني) درسوا كلهم العلوم الموسيقية وإن كانت باتجاهات مختلفة. فإذا كان حليم الرومي قد درسها في مصر في معهد الموسيقى العربية وتعمق في دراسة تاريخ هذه الموسيقى العربية التقليدية وبرع في تلحين القصائد والموشحات وغنائها بصوته الرائع الذي أعتبره من أعظم الأصوات العربية إلى جانب محمد عبدالوهاب ورياض السنباطي، فإن دراسة حليم الرومي لم تتعد الموسيقى العربية كما فعل غيره من زملائه، الذين درسوا الموسيقى على يد أساتذة أجانب أهمهم كان روبيار Robillard الفرنسي الذي علمهم علوم الهارمونيا والبوليفونيا والتوزيع. وبدأت ثمار هذه المدرسة المحترفة Professional  في برامج إذاعة الشرق الأدنى العربية التي استمرت لغاية سنة 1956 وتحولت بعد ذلك إلى إذاعة الـ BBC بعد استقالة الموظفين العرب ومقاطعتهم لها بسبب حرب إنجلترا على مصر (العدوان الثلاثي). وبرز من هذه الأعمال أغاني الأخوين رحباني التي كانت في البداية أغانٍ راقصة أجنبية مصرية مثل ماروشكا –ايايا ماريا – ما طريق حماك (تانجو Elcomenito (، قمر وردي النورLuna Rossa وغيرها، ثم الأغنيات الراقصة الملحنة مثل غيب غيب يا قمر – يا سميره يا سميره وغيرها.

وقد ساهم في نجاح هذه الأغنيات كما ساهم في رفع ونشر اسم الأخوين رحباني الصوت الذي غنى كل هذه الأغاني وجعلها على أثير كل المحطات الإذاعية العربية وعلى كل لسان: صوت العظيمة فيروز. فقد ساهم صوتها من دون أي شك في نشر اسم الأخوين الرحباني عربيا.

وبدأ هذا النجم الثلاثي(الأخوان وفيروز) يفرض نفسه على الساحة الموسيقية خاصة عندما ظهرت في أسلوبهم سكة جديدة وهي السكة العربية في التلحين والغناء وذلك في أغنية – مونولوج “عتاب”.

ومنذ بداية هذا الثلاثي كان الإشكال الكبير واللغز الأكبر هو: من يؤلف من الأخوين رحباني ومن يلحن، خاصة عندما بدأت في مسيرتهما مرحلة مهمة جدا شكل فيها تأليف الكلام جزءا كبيرا من العمل ككل، خاصة أنهما ومنذ ظهورهما لم يكن هناك ذكر لأحدهما منفردا. ولكن العارفين بالأمور كانوا ميالين إلى الاعتقاد أنه وبالرغم من أن الاثنين كانوا يكتبون الشعر لأغانيهما ويلحنونها، فإن كفة التلحين تميل أكثر إلى عاصي بينما تميل كفة تأليف الكلام إلى منصور وقد وضح هذا الترجيح عندما ظهرت دواوين شعر منصور المليئة بالفكر العميق والتأمل والجماليات الرحبانية. لكن الوضوح كان نهائيا بعد وفاة عاصي وظهور المسرحيات التي كانت بالطبع تحمل توقيع منصور الرحباني وحده والتي كانت أقواها برأسي مسرحية آخر أيام سقراط.

وقبل إلقاء نظرة سريعة على المسرحيات الرحبانية وجب ذكر أعمالهما الإذاعية الرائعة التي كانت المنطلق الكبير الدرامي لمسرحهما الكبير وأقصد هنا برامجهما المسرحية الإذاعية الرائعة بالاشتراك مع فلمون وهبي ونصري شمس الدين وهذه الأعمال الخالدة وإن كانت قليلة الذكر عند الكلام عن مسرح الأخوين رحباني عرفت باسم الإسكتشات: سبع (وقد عرف فلمون وهبي في هذه الإسكتشات بهذا الاسم) – برّاد الجمعية رابوق – روكز خطب – روكز تزوج وغيرهم . هذه الإسكتشات لم تظهر براعة الأخوين رحباني كمؤلفين وملحنين فقط بل أيضا كممثلين كبيرين لنلق نظرة سريعة على المسرحيات الرحبانية التي حملت اسم الأخوين معا. بدأ الأخوان رحباني عملهما المسرحي معا إلى جانب زكي ناصيف وتوفيق الباشا. وقد أطلقوا على أنفسهم لقب الخمسة الكبار وكان خامسهم حليم الرومي، تيمنا بالخمسة الكبار الروس الذين أسسوا المدرسة الموسيقية الروسية القومية الحديثة في الستينات من القرن التاسع عشر وهم: 1- بلاكيريف 2- ريمسكي-كورساكوف 3- أعظمهم موسورجسكي  الذي كان له الأثر الأكبر على المدرسة الموسيقية اللبنانية الحديثة، 4- بورودين 5- كويي الفرنسي الأصل.

كان هذا العمل الأول سنة 1957 على مسرح بعلبك في مهرجاناتها الشهيرة وكان اسم العمل “تقاليد وعادات” حسب مرجع الدكتور نبيل أبو مراد “الأخوان رحباني حياة ومسرح”([1]) و”أيام الحصاد” حسب مرجع هنري زغيب “الأخوين رحباني – طريق النحل”([2]). وتوالت المسرحيات ابتداء من 1959 كل سنة. فكانت سنة 1959 على مسرح بعلبك “عرس في الضيعة ” حسب نبيل أبو مراد و”محاكمة ” حسب هنري زغيب.

  • 1960    موسم العز. الوحيدة التي لم تشترك فيها فيروز بل كان أبطالها صباح ووديع الصافي.
  • 1961   البعلبكية – بعلبك ومعرض دمشق.
  • 1962   جسر القمر – بعلبك – معرض دمشق.
  • 1962   عودة العسكر – سينما كابيتول.
  • 1963   الليل والقنديل – كازينو لبنان.
  • 1964   بياع الخواتم   – الأرز، معرض دمشق.
  • 1965   دواليب الهوا   – بعلبك.
  • 1966   أيام فخر الدين   – بعلبك.
  • 1967   هالة والملك   – الأرز، بيكادللي.

وهي المسرحية الوحيدة التي حضرتها في لبنان وذلك بحكم دراستي في روسيا في تلك الفترة (1965-1977) وقد قدمت بعد نهاية المسرحية قصيدة محمد عبدالوهاب – جبران خليل جبران الرائعة سكن الليل.

  • 1968   الشخص – معرض دمشق وقدمت مرة ثانية التالية على مسرح البيكادللي – بيروت.
  • 1969   جبال الصوان  – بعلبك، معرض دمشق.
  • 1970   ناس من ورق  – معرض دمشق.
  • 1970   صح النوم  – البيكادللي، بيروت.
  • 1971   يعيش يعيش  – البيكادللي، دمشق.
  • 1971   ناطورة المفاتيح – بعلبك.
  • 1973   قصيدة حب  – بعلبك.
  • 1973   المحطة  – البكاديللي.
  • 1974   لولو- بيكاديللي، دمشق.
  • 1975   ميس الريم  – بيكاديللي، دمشق.
  • 1977   بيثرا  – عمان ،دمشق.
  • 1978   بيثرا  –  بيكاديللي، بيروت.
  • 1980   المؤامرة مستمرة  – كازينو لبنان.
  • 1981   الربيع السابع  – كازينو لبنان، قطر.

وتجدر الإشارة أن المسرحيتين الأخيرتين أُلَّفتا وقُدَّمتا بعد انفصال فيروز عن زوجها عاصي وانفصالها عن المؤسسة الرحبانية فنيا فاستعان الرحبانية بالمطربة الصاعدة رونزا لتسد مقام فيروز ما تطلب تغير شكل الكتابة الموسيقية ليتلاءم مع قدرات رونزا الصوتية البعيدة عن قدرات فيروز.

ويذكر كتاب هنري زغيب ثلاث مسرحيات تحولت إلى السينما وهي بياع الخواتم (1965) سفريرلك (1966) وبنت الحارس (1967) وتوقفت بعد وفاة عاصي صناعة الأوبريت الرحبانية سبع سنين ففي سنة  1988 ظهرت مسرحية صيف840 طبعا لمنصور لوحده. وطبعا مع وفاة عاصي هبطت وتيرة تأليف الأوبريتات الرحبانية وكأن صناعتها كانت ثقيلة على أكتاف منصور لوحده وهذا طبيعي جدا لأن مساهمة عاصي في هذه الأعمال لم تكن ثانوية بل قد تكون لها الأولوية.

هنا نأتي على ذكر أعمال منصور بعد وفاة أخيه (سنا وقامة) عاصي، وقد وردت في كتاب هنري زغيب.

  • 1988   صيف 840 – كازينو لبنان، البيكاديللي.
  • 1994   الوصية   – جورج الخامس.
  • 1998   آخر أيام سقراط  – كازينو لبنان.
  • 2000   القداس الماروني – (مار إلياس – انطلياس).
  • 2000   وقام في اليوم الثالث – (كازينو لبنان).
  • 2001   أبو الطيب المتنبي – (دبي).

وإذا استثنينا ” القداس الماروني” و” وقام في اليوم الثالث” التي يتضح من أسمائها أنها أعمال دينية يبقى  لنا مما ذكرنا أربعة أعمال مسرحية لم أر منها شخصيا إلاّ آخر أيام سقراط على مسرح دار الأوبرا المصرية وذلك لسبب استقراري في مصر منذ عام 1988 لغاية الآن لهذا السبب سوف أتناول هذه المسرحية بالذات في هذا المبحث. وقدمت المسرحية في رمضان من سنة 1999 .

لم يتسن لي حضور التدريبات على مسرحية ” آخر أيام سقراط” لمنصور الرحباني وأولاده الثلاثة مروان وغدي وأسامة, ولحضور التدريبات أهمية كبيرة كونها “المطبخ” الذي يُظهر كل تفاصيل العمل مهما صغرت، وكون حضور المسرحية لمرة واحدة لا يعطي إمكانية الوقوف على هذه التفاصيل التي بمجموعها تكوّن العمل. لكن الفرصة، بحكم عملي في دار الأوبرا، سنحت لي لمشاهدة هذا العمل الكبير ثلاث مرات استطعت من خلالها الوقوف على أدق تفاصيل هذه المسرحية الرائعة.

وبعد قراءة نص العمل بإمعان وسماع الكاسيت بهدوء وتأمل خرجت برأي أننا أمام عمل كبير بل من أكبر الأعمال المسرحية الموسيقية الرحبانية.

  1. النص المسرحي

النص مكتوب بمنتهى الذكاء والعمق والقدرة الدرامية. فالخط الدرامي واضح المعالم من البداية، وواضح أيضا التطور في هذا الخط الذي يصل بكل منطق في خلال ذرواته المرحلية إلى ذروته الكبرى المأسوية: موت سقراط. وتجدر الإشارة هنا إلى أن النص يحتوي على الكثير من أفكار سقراط وهذا دليل على جديته وعمقه وعلى ثقافة منصور الواسعة. ولابدّ من التنويه بكلام ” أنا رايح ألَّف كتاب” حيث يعرض منصور كل مفاهيم “جمهورية أفلاطون” ويغني الأغنية سقراط نفسه بشكل مبسَّط وواضح وبواسطة السهل الممتنع، وبالحوار بين كزنتيبي Xantippi  زوجة سقراط وتلميذته تيودورا ويعرض في هذا الحوار بجملة صغيرة جدا مفهوم الحب الأفلاطوني بشكل ساخر كوميدي: ” يعني من بعيد لبعيد”. واضح أيضا تداخل الحقب التاريخية واستعمال الأحداث التاريخية المسرحية لانتقاد عصرنا الحديث بطريقة الإسقاط في أكبر وأخطر مسائله الفكرية: الديموقراطية والحرية، وكلنا يعرف إلى ما آل إليه هذان المفهومان في فرنسا، البلد الذي شهد ولادتها الحديثة، وما حصل لأحد أهم فلاسفتها في القرن العشرين روجيه غارودي لمجرد أنه تجرّأ وأبدى مجرد شكه في عدد اليهود الذين راحوا ضحية المحارق النازية. المفاهيم السياسية تملأ هذا العمل الدرامي بشكل واضح وحارق كتركيز ضوء الشمس من خلال منظار مكبّر، وكلمعة الضوء القوي للحظة تعمي الأبصار ومن هذه المفاهيم قول سقراط لتلميذه “كريتياس” الذي نصّبته سبارطه حاكما لأثينا: “شروط الصلح: تهديم الأسوار، تسليم الباقي من الأسطول والأراضي، ومعاهدة معنا الحرب والسلم”. كم في هذا الكلام من المنطق الإسرائيلي لغاية الآن.

وللتخفيف من وطأة هذه المفاهيم الفلسفية والسياسية الثقيلة يستعين الكاتب بقفشات فكاهية راقية تأتي من آن لآخر لتنفجر معها القاعة بالضحك. من هذه القفشات مشهد زوجة سقراط وهي تشكو له من فلسفته: “بشرفك لو كنت فيلسوفة كنت بتقعد معي”؟ فيجيب سقراط: “ولا ساعة”. أو عندما يقول آنيتوس الحاكم لميليتوس الشاعر: “قلّلا شو عملت اليوم” (قل لها ماذا فعلت اليوم) فيرد الشاعر: “اليوم حبس خيّ مرتو (اليوم حبس أخ زوجته” ولما تستفسر تيودورا : ليه؟ يرد الشاعر: “لأنو مش قادر يحبسها إلا” (لأنه مش قادر يحبسها هي).

  • الديكور و الأزياء

نصل إلى ديكورات روجيه جلنح التي كانت بسيطة ومعبرة جدا عن الفترة التاريخية للدراما. وقد نُفذت تماما وبذوق عالٍ جدا كلَّ ملاحظات المؤلف فيما يتعلق بالديكورات ودورها في اللعبة الدرامية. غير أن هناك سؤالا فيما يختص بمجموعتي التماثيل المقطوعة الأيدي نحن نعرف أن هذه التماثيل وصلت إلينا بحالتها هذه بعد الزلازل والحروب التي دمرت بلاد الإغريق. أما على أيام سقراط فقد كانت طبعا سليمة. هل هذه غلطة تنفيذ ديكور أم أنه عمل مقصود لربط الفترة القديمة بتاريخنا المعاصر؟

نصل هنا إلى أحد أهم العناصر الموجودة في المسرحية: أزياء غابي أبي راشد. لقد استعمل المصمم جميع الألوان مع كل تدرجاتها في أزياء المجموعات فشكل بذلك لوحة رائعة متجانسة إلى أبعد حد فكانت من العناصر المبهرة في العمل، وكانت إلى جانب هذا أمينة لثياب العصر الإغريقي بما في ذلك كل التطريزات على أطرافها التي نجدها على الأواني الإغريقية في المتاحف وقد شكلت هذه الأمانة عنصرا هاما مساعدا للخط الدرامي وللعمل ككل، وتجسيدا حيا لزمن أثينا الغابر. وتجدر الإشارة هنا إلى الروعة في تصميم وتنفيذ الدروع والخوذات والتروس فقد لعبت دورا كبيرا في تقوية الحركة الدرامية على المسرح وفي الإبهار الانفعالي لدقة تصميمها وألوانها: فقد بدت حقيقة فعلا لا تقل عما نراه في الأفلام التاريخية الأمريكية العظيمة. فكانت من العناصر التي  ساعدت المشاهد على العبور في التاريخ لزمن سقراط.

  • التمثيل

ونبدأ بسقراط الفيلسوف الذي تقمصه ببراعة فائقة الممثل الكبير رفيق علي أحمد. فقد كنا لا نسمع نفسا واحدا في القاعة في أثناء إلقائه مونولوجاته. وقد ساعده مظهره الخارجي ( شعره الطويل ولحيته الكثيفة الطبيعية) على تقمص شخصية سقراط بنجاح كبير، لولا بعض المبالغة في النبرة الخطابية ولا ندري هل كانت هذه المبالغة مقصودة منه أم أنه أداها نزولا عند رغبة المؤلف. كانت تحركاته تملأ المسرح (وهو كبير جدا) وتشد الأنظار وتقطع الأنفاس. والدليل الأكبر على ذلك عاصفة التصفيق وقوفا التي كانت تستقبله في كل عرض عند ظهوره للتحية. وإذ كنا قد عرفنا براعة رفيق التمثيلية في مسرحياته للمثل الواحد (One Man Theater) للمخرج اللبناني البارع روجيه عسّاف خاصة مسرحية “الجرس” فقد كان في مسرحية سقراط اكتشافان هامّان : زياد سعيد الذي مثل دور كريتاس ببراعة في التعبير ملفتة للنظر لاقت استحسانا كبيرا، والممثلة الرائعة جمالا وحضورا وتمثيلا وغناءً ورقصا : كارول سماحة في دور تيودورا. فإذا كنا قد اكتشفناها ممثلة رائعة في مسرحية سعدالله ونوس “طقوس الإشارات والتحولات” للمخرجة البارعة نضال الأشقر والتي نالت بعد النجاح الكبير في بيروت نجاحا هائلا على المسرح القومي في القاهرة (شاهدت هذا العرض شخصيا) فقد اكتشفنا كارول في “آخر أيام سقراط” فنانة شاملة متكاملة.

كارول كانت البطلة الدرامية الحقيقية للعمل بدون أي شك. إلى جانب أن غناءها ورقصها التعبيرين كانا رائعين لم يقلاّ بشيء عن مستواها كممثلة ذات حضور درامي واضح.

لقد استعملت أنوثتها كعنصر داخل اللعبة الدرامية بشكل جعلها تقف بجدارة أمام رفيق علي أحمد بطل العمل. هي في العمل في أحسن أحوالها كممثلة وغنت كما لم تغنِ من قبل.

تجدر الإشارة إلى الممثل الهادي الصامت، صاحب الصوت الجميل جدا الذي عرفته وأنا ما زلت تلميذا في المدرسة وكان أستاذا لي :وليم حسواني، الذي لازم الأخوين رحباني منذ أول مسرحية لهما والذي تحول إلى ممثل محترف بالممارسة. ودوره في المسرحية (الحاكم الديموقراطي أنيثوس) هو أكبر دور مثله مع أنه كان يستحق أدوارا مهمة في المسرح الرحباني منذ زمن بعيد. لعله في هذه المسرحية كان البديل عن الراحل الفنان نصري شمس الدين في تركيبة المسرح الرحباني.

  • الرقص

للرقص في هذا العمل خطان: الدبكات والرقصات التعبيرية الدرامية فيما يخص الدبكات فإنها من تصميم سامي خوري. والواقع أن رقص الدبكة في لبنان إجمالا لم يأت بجديد منذ بديعة ومروان جرار ورقصاتهما البديعة في أوبريت حكاية لبنان (كازينو لبنان 1957) وأوبريت أرضنا إلى الأبد (بعلبك 1964) على دبكات زكي ناصف العظيمة التاريخية سهرنا سهرنا – ليلتنا – درب الغزلان – ابو الميجنا(من حكاية لبنان) ويا بلادنا مهما نسينا (من أرضنا إلى الأبد) ورقصات زكي ناصف وتوفيق الباشا التي وصلت إلى المستوى العالمي من ناحية التلحين والتوزيع. ولا ننسى هنا دبكة بالساحة تلاقينا للملحن اللبناني الكبير عفيف رضوان. الخطوات في دبكات “سقراط” هي نفسها تحركات الراقصين نفسها. ولكن تجدر الإشارة هنا إلى التوقيت الذكي والموفق للمؤلف في إدخال دبكتين لبنانيتين في هذا السياق الدرامي الإغريقي (دبكات الوفد الفينيقي) بطريقة جاءت لخدمة التطور الدرامي. الأولى عندما جاء الوفد الفينيقي لتهنئة الحاكم كريثياس الذي نصبته سبارطة عدوة أثينا، والثانية عندما جاء الوفد نفسه لتهنئة زعيم الديمقراطيين أنيثوس الذي نصّب نفسه بعد الانقلاب حاكما بدلا من كريتياس. ولم ينسَ المؤلف وفي تلميح سياسي شديد المرارة عندما جاء الوفد للمرة الثانية للتهنئة:

أنثوس : مش هنّي إجو هنوا كريتياس لما احتلتنا سبارطة؟ (أو ليسوا هم الذين جاؤوا وهنأوا عندما احتلتنا سبارطة)؟.

ميليتوس : هودي شغلِتن يهنّو (هذه الناس شغلهم أن يهنئوا).

أما ألحان الدبكات فكانت من نفس نوعية دبكات الأخوين رحباني نفسها التي عرفناها في جميع مسرحياتهما: ينقصها النفس اللحني الطويل والتلوين المقامي والبناء الموسيقي والدرامي والقوة التأثيرية الانفعالية العالية، هذه العناصر البنائية الهامة التي نجدها في كل دبكات زكي ناصف بشكل واضح وقوي جدا. ولا يجوز أن ننهي كلامنا عن الدبكات من دون أن ننوّه بالراقص أرثو مغدسيان الذي تميّز بشكل واضح بين جميع أقرانه بعنفوان حركاته وباستغلال شعره الطويل وحركة رأسه في لعبة التعبير الحركي للرقصة وذلك بهز رأسه وشعره بعنفوان في جميع الاتجاهات.

أما الخط الثاني للرقص (التعبيري) فكان عنصرا مهما في تقوية الخط الدرامي للعمل. وكان دخوله في الوقت المحدد دراميا يقوي الشحنات الانفعالية ويسترع وتيرة التطور الدرامي. لقد كانت تحركات المجاميع عنصرا دراميا مبهرا فعلا أبدعه مصمم الرقصات فيلبكس هاروثوبيان الذي جاء به مروان الرحباني من روسيا خصيصا. ومن أحلى هذه الرقصات تلك التي تلتقي بها حركات رقصة السير تاكي اليونانية مع عناصر الدبكة اللبنانية بتناغم وتجانس فني رائع وإن دلّ على شيء فعلى اتساع ثقافة المصمم الفنية ومعرفته برقصات الشعوب وقدرته الكبيرة على التركيب (Synthese) بين عناصر الرقصات المختلفة لشعوب مختلفة. ولابد من التنويه أخيرا بالراقصة الأولى المبدعة دانييل الرحباني وليونتها في تأدية أصعب الحركات والرقصات وكذلك بالمستوى الاحترافي العالي لجميع الراقصين ولياقتهم البدنية العالية التي تدل على جدية التدريبات والمدرب هاروثونيان.

  • الإخراج

أول ما يلفت النظر في إخراج هذه المسرحية أن كل التفاصيل الإخراجية المرتبطة بالتعبير الدرامي موجودة كتابةً في النص حتى حركات الرقص التعبيري ولون الملابس في المشاهد الدرامية ودخول الأبواق النحاسية في اللعبة الدرامية وحركة الشخصيات الرئيسية. ولكن وبالرغم من كل ذلك فقد استطاع مخرج العمل مروان الرحباني من خلال تنفيذ كل التفاصيل الإخراجية للمؤلف، استطاع أن يثبت نفسه مخرجا مبدعا وحساسا بواسطة جماليات تنفيذ هذه الملاحظات من خلال رؤيته الفنية الخاصة ومن خلال حركة المجاميع الرائعة على المسرح ووتيرة هذه الحركة والتفاوت بالوتيرة بين البطيء والسريع(Tempo) فقد كان الإخراج وكأنه خط موسيقي ثانٍ بألحانه وحركته وسرعاته المتفاوتة.

من أبدع ما استعمله مروان في الإخراج الضوء الأحمر والأزرق كخلفية للعبة خيال الظل الذي استعمله لإدخال عناصر الإخراج السينمائي على المسرحية كظهور عازف في الأبواق النحاسية. هذا المشهد ذكرنا بالأفلام التاريخية الهوليودية لسيبيل ب.دوميل التي عالجت حياة السيد المسيح (كوفاديس والرداءThe Robe). قد كان هذا الاستعمال من أهم اللحظات الذكية في الإخراج والتي وضحت التقريب بين شخصية سقراط وشخصية السيد المسيح التي عولجت في الأفلام الغربية والتي لاحظناها بوضوح في النص الدرامي.

ولعل أقوى لحظات الإخراج في هذه المسرحية المشهد الأخير الذي يشرب فيه سقراط كأس السم. لقد كنا مشدودين ننتظر كيف سيقع. وإذ بعصاه تسقط بينما هو يبقى واقفا متجمدا، ماسكا كأسه. وفي نفس لحظة صوت سقوط العصا يضيء كشاف فوق سقراط تماما ليجعل كل أطرافه مضيئة بينما يبقى جسمه في الأمام مظلما.

وتحيط به المجاميع برقصة تعبيرية درامية مذهلة ليختفي بينها بعد أن ترمي العباءات السود فتظهر بالعباءات البيض. وتنتهي المسرحية بظهور سقراط يرتفع حيا إلى فوق تلميحا إلى صعود السيد المسيح ولبقاء فكر سقراط حيا بعد موت جسده. بينما تركع الجموع ضارعة بيدها إلى فوق بحركة درامية معبرة قوية مواكبة صعود سقراط.

  • الموسيقى

نصل أخيرا إلى ما هو المفروض أن يكون أقوى عنصر في هذه الأوبريت الغنائية: إلى الموسيقى. الموسيقى في هذه المسرحية كالرقص خطان متوازيان: الخط الأول الغنائي وفيه كل الأغنيات والخط الثاني: الدرامي التعبيري الموجود في المقاطع الأوركسترالية. الخط الغنائي الذي لا يلعب أي دور درامي، جاء الأضعف في المسرحية بسبب وجود تكرار لكثير من الجمل الموسيقية سبق وسمعناها في أعمال الرحبانية المسرحية وغير المسرحية. من أهم هذه الجمل المكررة السلم الخماسي (من الدرجة السادسة من مقام العجم صعودا لدرجته الثالثة ثم ركوزه هبوطه على الدرجة الأولى درجة الارتكاز للمقام).

هذه الجملة وردت من دون أية مبالغة عشرات المرات في تراث الأخوين رحباني. وردت أول مرة في المقدمة الموسيقية للحوارية الغنائية “هلّك ومستهلّك” التي أداها وليم حسوان وسهام شماسي من أحدي أوائل الأوبريتات الرحبانية ثم سمعناها في “هلّي عالريح” وفي “برجك عيد” و”بييّي راح مع العسكر” وفي معزوفة عرق سوس وفي المقدمة الموسيقية لقصيدة يا عاثر الحاجبين ثم في جملة “الطفل في المغارة” من “زهرة المدائن” و في الكثير من الأغنيات الأخرى، وما ذكرنا للمثال فقط لا الحصر. في أغنية “يا سفينة” إعادة لأجواء “ع اسمك غنيت”. في أغنية “لو فييّ خبيك” من المشهد 26 من الفصل الأول نسمع تأثيرا واضحا جدا بأغنية “ذا ساوند اوف ميوزيك” في الفيلم الذي يحمل نفس الاسم وفي الأغنية – الدبكة “طلت علينا السني” نجد تكرارا من أغنية نصري شمس الدين “يا رايح عالطواحين” مع وقفة جميلة على درجة “السيكا” مع أنها مكررة أيضا. وفي أغنية “المعني الكلّي” وبالرغم من الوزن الإيقاعي المختلف فإن هذا الاختلاف لم يستطع أن يخفي تأثير الرحبانية كارل أورف “أو فورتونا” الشهير وهو مطلع كانتانا “كارمينا بورانا” خصوصا عند إعادة المطلع.

كما أننا نجد المعالجة الموسيقية الخاطئة لإيقاع الكلمة العربية التي تملأ تراث الأخوين الرحباني فتتحول كلمة “دهب” إلى “داهب” وكلمة “حصاد” إلى “حاصاد” في أغنية “أحمر لون الثورة دهب لون الحصاد” وكلمة “حقيقة” إلى “حا قيقة” في أغنية “يلا يا معلم” وغيرها وغيرها وقد لا تخلو أغنية من أغانيهما من المعالجة الخاطئة لإيقاع الكلمة العربية بالرغم من كونهما شاعرين غنائيين كبيرين إلى جانب كونهما موسيقيين عملاقين.

كما ورد عدة مرات تكرار في عبارات شعرية اشتهر بها الرحبانيان كعبارات: “رمح الصدي” و”جرح المدي” في أغنية “قالت الصبية” بعد رقصة البربر، وما ذكروني( كما في وخبيني ولا تنجبيني من “يا أنا يا أنا”) وردت في أغنية “وحياتك”.

أجمل أغنية في هذه المسرحية هي “وحياتك خلّك قلّي” وتبدأ بغناء مرسل (Recitativo) “غرّب الليل” وهي ملحنة بتقليد مقصود ورائع (Stylisation) الألحان اليونانية الشعبية وقد أدتها كارول بشكل رومانسي وتعبيري رائع. تبدأ الأغنية بتجانسات (اكوراث) على الهارب في مقام العجم مكتوبة بشكل متقن لملحن عارف بتقنيات الآلة معرفة جيدة أو قد تكون ارتجاليات عازف الهارب العارف لآلته. المقدمة متأرجحة بين العجم والنهاوند مشكلة بذلك قلقا وجدانيا ناعما. إلى أن يستقر الارتجال على مقام النهاوند لتبدأ كارول بغناء إلقائي(Recitativo)  رائع وهادئ أدته كارول باحترافية عالية ودفء وعمق انسيابيين فيهما الكثير من كبار المطربات. هذا المقطع الصغير يستحق بعمقه وجماله وأدائه أن يكون في مقطع مشابه في أية مسرحية غنائية عالمية. يبدأ بعد ذلك الإيقاع هادئا فيه شحنات وجدانية ليبدأ بعده المطلع جميلا جدا وهادئا ولكن عالي الانفعالية لينتهي بانحسار في لحن رائع متين البناء ليسلم الدفة إلى اللازمة الموسيقية الجارفة الانفعالية مع توزيع على الكمنجات على السلم الملون (Chromatic) في أنصاف الأصوات مضيفا شحنات انفعالية إضافية إلى هذا الجو الجميل الانفعالي ثم يأتي مقطعا على اللحن نفسه.

يبدأ المقطع على مقام النهاوند يأتي النصف الثاني على مقام العجم بشكل مفاجئ تصادمي يزيد من الشحنة الانفعالية للّحن، ثم يبدأ اللحن على العجم بالانحسار التدريجي ليسلم الدفة للمطلع الغنائي بنفس متانة البناء والروعة في اللحن التي رأيناها بعد المطلع في بداية الأغنية. كل ذلك في جو انفعالي وجداني عالٍ على مادة لحنية من أروع ما لحن الرحبانية إلى أن تأتي النهاية بتباطؤ مفاجئ وإيقاف للإيقاع مع تصعيد رائع لقوة الصوت لتنتهي الأغنية بضربات على الأوركسترا قوّية وعصبية ومقطعة على السرعة الأساسية لتنتهي الأغنية بانفعالية عالية جدا. إن هذه الأغنية تشرف أي ملحن يوناني أن يكون ملحنها.

النقطة الدرامية الوحيدة في هذا الخط الغنائي تأتي في مشهد تكريس كريتياس حاكما على أثينا وإعلان عدم إعدام الديمقراطيين وجيرانهم حيث جاء الغناء كنائسيا بيزنطيا صرفا ساعد كثيرا على إظهار البعد الدرامي للمشهدين.

ومن أقوى اللحظات الموسيقية (مع أنها من دون موسيقى ) استعمال اللحنين كورس البناث على طريقة المسرحيات الإغريقية القديمة في السرد الكلامي من دون لحن ولكنه جاء في شكل توزيع هارموني مقسما على ثلاث طبقات صوتية. وهذا منتج جديد في الدراما الموسيقية العربية. وقد أبدع منصور في توزيع الهزام في خمس أصوات في مقطع “فتّش تافتّش ع جمهورية” في أغنية “يا صبية شوي شوي” وهذا النوع الهارموني للهزام ورد أول ما ورد في أغنية زكي ناصف “اشتقنا كتير” وفي بعض أعمال توفيق الباشا.

خلاصة

وأخيرا مهما قيل عن مسرح الرحبانية سلبا أو إيجابا سيبقى لهذين القطبين العملاقين في تاريخ الموسيقى العربية المعاصرة إيمانهما الكبير والعملي بأهمية المسرح ليس فقط نظريا، وقد تكلما عن ذلك كثيرا، بل وعمليا أيضا باستمرارهما وإصرارهما على تقديم المسرح الغنائي كل عام من سنة 1957 لغاية 1984 معا ولغاية 2001 منصور وحده بعد رحيل عاصي أي على قرابة نصف قرن (بالضبط 44 عاما)، بجانب إسكتشاتهما الإذاعية هذه اللآلئ المسرحية الصغيرة الرائعة التي تتمنّى أن ترى النور ثانية لتنضم إلى أخواتها الكبيرة وتأتي أهمية ما نقول:

أولاً: أن مسرح الأخوين رحباني جاء في المنطقة الجغرافية الشرقية لمسقط رأس المسرح الغنائي العربي(مصر) ومكملا له في المشرق وبالتحديد في لبنان. المنطقة الشرقية التي تشكل منطقية التوازن المشرقية مقابل منطقة النقل من ناحية الغرب(مصر) في ما يخص بالثقافة عامة والموسيقى خاصة.

ثانيا: وبخلاف المسرح الغنائي المصري فإن تراث الأخوين الرحباني محفوظ بشكل كامل في تسجيلات سمعية وبصرية يسهّل علينا إعادة تقديمه كاملا على المسارح فيكون ذلك مع مسرحيات زياد رحباني جزءا كبيرا وفي منتهى الأهمية من عملية التكامل الحضاري العربي.


([1]) دار أمجاد للنشر والتوزيع- الطبعة الأولى- 1990

([2]) دار الإنتاج والطباعة : جوزيف د.الرعيدي للطباعة1/1/2001

اظهر المزيد

سليم سحاب

قائد اوركسترا وناقد وباحث ومؤرخ موسيقي - لبنان

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى