من الصعب التكهّن بتعريف ماهية ما بات يعرف بـ “صفقة القرن”، أو شرح أبعادها، وتاليًا تحديد ملامحها وتفصيلاتها، والأطراف التي يفترض أن تنخرط فيها، والتوافقات التي قد تنجم عنها، إذ أن الحديث عن تلك الصفقة مازال في إطار الكلام السياسي العام، رغم كل الضجيج المتعلق باحتمال قبول أو عدم قبول هذه الجهة أو تلك، للصفقة المفترضة، التي جاء الكلام عنها عرضيًا في تصريحات للرئيس الأمريكي دونالد ترامب (مارس من العام 2017)، كان أعرب فيها عن اعتزامه إطلاق مبادرة لتسوية الصراع العربي-الإسرائيلي، رغم عن كل ما يعرف عن هذا الرئيس من تصريحات غريبة أو متضاربة أو متناقضة.
بيد أن الحديث عن احتمال تلك الصفقة كان تزايد مع مجيء جاريد كوشنير صهر الرئيس الأميركي وكبير مستشاريه، وجيسون غرينبلات مبعوث إدارة ترامب في عملية السلام، إلى المنطقة (أواخر يونيو الماضي)، حيث شملت زيارتهما اللقاء مع قادة كل من مصر والسعودية وقطر والأردن وإسرائيل، مع رفض الرئيس الفلسطيني محمود عباس استقبالهما، بسبب موقفه الرافض للصفقة، وكتعبير عن رفض واستنكار القيادة الفلسطينية لموقف إدارة ترامب بخصوص اعترافها بالقدس كعاصمة موحدة لإسرائيل.
طبيعة الصفقة
هكذا، ووفقًا للتسريبات الصحفية، التي واكبت الزيارة المذكورة، فإن الملامح العامة لتلك الصفقة، تشتمل على إقامة دولة فلسطينية منقوصة، أي في جزء من أراضي الضفة، وتكون ذات صلاحيات سيادية منقوصة، مع انسحاب، أو إعادة انتشار، إسرائيلي، من بعض قرى شرقي القدس المحتلة (شعفاط وجبل المكبر والعيساوية وأبو ديس)، تكون إحداها (أبو ديس) عاصمة للدولة الفلسطينية، مع إبقاء البلدة القديمة المحتلة والمسجد الأقصى، تحت سلطة الاحتلال، من دون المسّ بالمستوطنات، ما يعني تمرير الواقع المتعلّق باعتبار إسرائيل والولايات المتحدة القدس بمثابة عاصمة موحدة لإسرائيل.
أيضًا، فإن هذا المشروع ـ الصفقة، ينطوي على إخراج غزة من دائرة الصراع، بعقد هدنة طويلة الأمد، وقيام إسرائيل بتخفيف حصارها للقطاع، مع جهد دولي لإقامة ميناء، وتأمين الخدمات، وتوفير فرص للعمل، الأمر الذي يمكّن من تحسين عيش مليوني فلسطيني في تلك المنطقة، وهي الخطة التي بدأت تتضح خيوطها في النصف الثاني من شهر أغسطس (2018)، مع الجهود التي بذلتها مصر للتهدئة بين إسرائيل وحماس، والمصالحة بين فتح وحماس. وفي مقال مشترك لهما يعتبر المحللان الإسرائيليان أمير تيفون وعاموس هرئيل، بأن جيسون غرينبلات وجاريد كوشنير والسفير الأميركي في إسرائيل، ديفيد فريدمان، هم الثلاثي الذي يقف وراء تلك الصفقة، التي تحاول الإدارة الأمريكية تضمينها “مشاريع اقتصادية في شمال سيناء تخدم قطاع غزة في مجالات مثل الطاقة والزراعة والتجارة.” (“هآرتس”، 10/8/2018).
أيضًا، ومع الأبعاد الأمنية والسياسية والاقتصادية، ثمة بُعد إقليمي لتلك الصفقة. التسوية يتأسّس على فرضية مشاركة بلدين عربيين هما مصر والأردن فيها (رغم نفي مسؤولي البلدين لذلك وتأكيد دعمهما الموقف الفلسطيني)، كما يتأسس على توفير مبلغ قدره عشرة مليارات من الدولارات لدعم استنهاض الاقتصاد الفلسطيني، ودعم المشروعات الإقليمية التي يمكن أن تفيد اقتصادي مصر والأردن، ما يذكر بمشاريع السلام الاقتصادي، التي تحدث عنها نتنياهو في ولايته الأولى (1996-1999)، مثلاً، للتهرب من مسألة الانسحاب من أراض، والتملص من استحقاقات التسوية مع الفلسطينيين.
وفضلاً عن كل ما تقدم، فإن الصفقة المذكورة تقوم في جانب منها على دعم الولايات المتحدة الأمريكية للموقف العربي المتعلق بتحجيم النفوذ الإيراني في المشرق العربي، بعد أن بات هذا النفوذ يهدد الاستقرار في المنطقة، بخاصة مع تغوّل إيران في المشرق العربي، أي في سوريا والعراق ولبنان (إضافة إلى اليمن). وفي هذا الصدد يقول المحلل الإسرائيلي تسفي برئيل: “إذا كان المخطط لحل النزاع الإسرائيلي – الفلسطيني يعرف بـ “صفقة القرن” من قبل ترامب فإن مكانة إيران هي «الصفقة الإقليمية» الأهم.” («هآرتس» 14/7/2018). ولعل هذا يفسّر الإجراءات الأمريكية المتعلقة بطلب إعادة التفاوض على الملف النووي الإيراني، وفرضها عقوبات اقتصادية على إيران للضغط عليها، كما يفسر ذلك سعيها لإنهاء “الكرادور”، بين طهران ولبنان، مرورًا بالعراق وسوريا، عند الحدود العراقية-السورية، لوضع حد لنشاط ميليشياتها، وقطع إمداداتها للسلاح لها.
مبادرة قديمة – جديدة
من تفحّص العرض المطروح يمكن ملاحظة أن تلك الصفقة المفترضة تذكر بمشاريع أمريكية سابقة، ولاسيما مشروع “الشرق الأوسط الجديد”، الذي طرح في التسعينيات، إبان إدارة بل كلينتون، وكان شمعون بيريز نظّر له في كتاب، حمل نفس العنوان، خصصه لطرح فوائد هذا المشروع، الذي يتأسس برأيه على تبادل المنافع، بحيث يتضافر العقل الإسرائيلي مع المال الخليجي مع اليد العاملة المصرية. والمعنى أن هذا المشروع يقوم على فكرة دمج عملية السلام بعملية التنمية الاقتصادية، لتطبيع الوجود الإسرائيلي في المنطقة، مع ما يستلزمه ذلك من تخليق نوع من منافع متبادلة أو علاقات إقليمية بين إسرائيل والدول العربية، في مجالات البنى التحتية والتجارة والاقتصاد وطرق المرور والتعاون في مجالات المياه والطاقة والبيئة وحل مشكلة اللاجئين. ومعلوم أنه في تلك الفترة كان تم تخصيص المفاوضات المتعددة الطرف لبحث مواضيع التعاون الإقليمي مع إسرائيل (في مجالات الأمن، والتنمية الاقتصادية، والمياه والبيئة واللاجئين والقدس)، كما تم عقد مؤتمرات دولية سنوية، في أواسط التسعينيات، في كل من عمان والرباط والدوحة والقاهرة، لمناقشة تلك الملفات، إلا أن تلك الجهود فشلت بسبب تملص إسرائيل من التزاماتها في عملية التسوية، وإصرارها على عدم الربط بين الانسحاب والتطبيع، علمًا أنها كانت رفضت المبادرة العربية للسلام الصادرة عن مؤتمر قمة بيروت (2002).
لذا، ووفقًا لهذا المنظور فإن المبادرة الأمريكية القادمة، تحت مسمى “صفقة القرن”، أو أي اسم آخر، لا يبدو أنها تقدم شيئًا جديدًا لواقع الفلسطينيين، أو لحقوقهم، بقدر ما أنها ستكرّس الكيان الفلسطيني الناشئ في الضفة، بوضعه الراهن، أي أكثر من حكم ذاتي، وأقل من دولة، وتحت هيمنة إسرائيل، التي ستبقى مسيطرة على الحدود والمعابر والموارد، مع إتاحة الفرصة، أو خلق الظروف، لفصل قطاع غزة عن الضفة الغربية.
المعنى من ذلك أن المبادرة المزمع طرحها تضع الفلسطينيين أمام خيار الأمر الواقع، وتغلق الخيارات الأخرى، وضمن ذلك خيار إقامة دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، في الأراضي المحتلة (1967)، بل إنها ضمن ذلك تطيح حتى باتفاق أوسلو جملة وتفصيلاً، بعد أن تمت الإطاحة به عمليًا، منذ العام 2000، في مفاوضات كامب ديفيد 2، بحكم التملّصات الإسرائيلية، وسكوت أو تواطؤ الإدارات الأمريكية، التي لم تشتغل باعتبارها وسيطًا نزيهًا ومحايدًا وموثوقًا في عملية السلام الفلسطينية – الإسرائيلية، وإنما اشتغلت للتغطية على مواقف إسرائيل وتبريرها. وقد شهدنا أن الإدارات الأمريكية المتعاقبة ظلت تصدر مبادرة تلو الأخرى للالتفاف على حقوق الفلسطينيين، والتزامهم عملية التسوية، ومن هنا جاءت مفاوضات كامب ديفيد 2 (2000)، في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق بل كلينتون، وخطة “خريطة الطريق” (2002)، و”اتفاق أنا بوليس” (2007) في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق بوش الابن، وطبعًا فإن إدارة الرئيس أوباما وضعت الأمر خلف ظهرها تقريبا، باستثناء طلبها استئناف المفاوضات بين الطرفين، الفلسطيني والإسرائيلي (2011 و 2013-2014).
هكذا، وفي الوضع الراهن، فإن اعتزام إدارة ترامب طرح مبادرة جديدة، لا تقدم فيها أي شيء للفلسطينيين، زيادة على ما هم فيه، أي دولة في جزء من أراضي الضفة، في جزء من الحقوق السيادية، ولجزء من شعب فلسطين، يستنتج منه أن الولايات المتحدة تتنصّل من اتفاق أوسلو (1993)، بصورة واضحة، بإطاحتها مرة واحدة بمجمل القضايا التي تم النص على طرحها في ما يسمى مفاوضات الحل النهائي، التي تتضمن إيجاد حلول لقضايا: القدس واللاجئين والحدود والمستوطنات والترتيبات الأمنية. والقصد أنه في هذا الإطار بالضبط جاء اعتراف ترامب بالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل، وبتصفية وكالة أونروا للتحلل من المسؤولية الدولية عن قضية اللاجئين، وتشريع المستوطنات في الضفة، الأمر الذي يعني تغييب الحدود، وتكريس السيطرة الإسرائيلية في الضفة من كل النواحي، وتصفية القضية الفلسطينية نهائيًا.
الموقف الإسرائيلي
في الواقع فإن الصفقة العتيدة، المطروحة للتداول، حتى الآن، على شكل أفكار أو مقترحات، من دون الكشف عن تفاصيلها تمامًا، تتساوق مع رؤى إسرائيل لعلاقاتها مع الفلسطينيين، القائمة على إبقاء سيادتها على كامل أرض فلسطين التاريخية، وتكريس هيمنتها عليهم، وفرض ذاتها كدولة يهودية، وهو ما تجلّى في إقرار الكنيست الإسرائيلي (19/7/2018) “قانون أساس” جديد، يعتبر “إسرائيل الدولة القومية للشعب اليهودي”، والقصد يهود العالم، أي ليس فقط اليهود الإسرائيليين فيها، حيث يحق لهؤلاء وحدهم حق تقرير المصير في أرض إسرائيل، وأن القدس عاصمة موحدة لها، من دون أي اعتبار حتى للفلسطينيين، أهل الأرض الأصليين، من مواطني إسرائيل، أو للفلسطينيين في الأراضي المحتلة، ناهيك عن شطب حقوق اللاجئين الفلسطينيين.
بديهي أن إسرائيل تحاول الاستثمار في عديد من المعطيات السائدة في المنطقة لتمرير مثل تلك الصفقة، أولها، أنها تعتبر نفسها في بيئة دولية وإقليمية ومحلية (إسرائيلية وفلسطينية) مواتية أو مساعدة، سيما مع الخراب الدولتي والمجتمعي في المشرق العربي، سيما في العراق وسوريا، وصعود خطر إيران في المنطقة، ووجود إدارة أمريكية من نمط إدارة ترامب، والعلاقات المتميزة بين إسرائيل نتنياهو وروسيا بوتين، وحال الانقسام والضعف الفلسطينيين، ووجود قوى يمينية متحكمة بالسياسة في إسرائيل. وثانيها تولد نوع من شعور لدى إسرائيل بأنها أضحت بمثابة الدولة الأقوى في منطقة الشرق الأوسط، بلا أي منازع، ولا أي مهدد، وفوق ذلك فهي باتت بأمان أكثر من أي فترة في تاريخها، إذ لم يعد هناك جيوش، بمعنى الكلمة، في الدول المجاورة (باستثناء مصر التي تفصلها عنها شبه جزيرة سيناء)، في حين غابت الجبهة الشرقية تمامًا. وثالثها، اعتبار إسرائيل لذاتها بأنها أضحت تتمتّع اليوم بدعم أقوى من دول العالم، إذ إضافة إلى الولايات المتحدة فهي باتت تحظى بدعم روسيا، أيضًا، ويكفي أن نتنياهو زار روسيا، والتقى ببوتين، عشر مرات، منذ التدخل العسكري الروسي المباشر في سوريا (أواخر سبتمبر 2015)، وذلك إضافة إلى احتكارها السلاح النووي، وامتلاكها ترسانة حربية كبيرة ومتفوقة بالقياس لغيرها. ورابعها، أنها على الصعيد الإقليمي باتت في مركز قوة، فثمة إجماع على إخراج إيران من المنطقة (أقله من سوريا)، أو تحجيم نفوذها، بعد أن انتهى دورها، أو انتهى الاستثمار في دورها، أما تركيا فهي في وضع حرج في علاقاتها مع حلف الناتو، أي مع أوروبا والولايات المتحدة، في حين علاقاتها مع روسيا تبقى موضع تساؤل أو مازالت في موضع اختبار تبعًا للتطورات الدولية والإقليمية، أي أن إسرائيل تتصرف باعتقاد أنها أصبحت في مكانة متميزة إزاء مختلف الأطراف الدوليين والإقليميين في المنطقة.
الموقف الفلسطيني
منذ البداية رفضت القيادة الفلسطينية، وهي هنا قيادة المنظمة والسلطة وفتح، ما يسمى صفقة القرن جملة وتفصيلاً، بل وناصبتها العداء، وتعهدت إفشالها، وقد وصل الأمر بتحدي الإدارة الأمريكية، في التصريحات والمواقف والتحركات السياسية والدبلوماسية، وبخاصة في رفض الرئيس الفلسطيني التعاطي مع أي وفد أمريكي يأتي لهذا الغرض، وفي القيام بزيارة إلى عديد من الدول العربية، ولاسيما إلى مصر والسعودية لحثهما على عدم التعاطي مع تلك الصفقة.
على ذلك فإن سلوك القيادة الفلسطينية يثير التساؤلات عن الأوراق التي تمتلكها، أو التي تعتقد أنها تمتلكها حقًا، لمواجهة أو لتحدي المسعى الأمريكي، وتفويت استهدافه. وربما يجدر التذكير هنا أن الولايات المتحدة الأمريكية هي أحد أهم المصادر السياسية لتشريع وجود الكيان الفلسطيني، بغض النظر عن رأينا بذلك، كما أنها أحد أهم مصادر تمويل السلطة الفلسطينية، إذ بلغ مجموع ما حولته للسلطة في بعض السنوات حوالي نصف بليون دولار، وثمة تحويلات أخرى مهمة، منها ما يغذي موازنة وكالة غوث اللاجئين، ومنها ما يدعم موازنة أجهزة الأمن، والمنظمات غير الحكومية، مع تأكيدنا أن المكانة السياسية للولايات المتحدة هي أهم بالنسبة لوضع الفلسطينيين من التقديمات المادية.
المشكلة أن القيادة الفلسطينية تفعل ذلك وهي تواجه عدة أزمات، أو مخاطر، أو تحديات، يكمن أولاها، في جمود النظام السياسي الفلسطيني، بحيث أن أزمته باتت مرتبطة بشخصية الرئيس محمود عباس، بسنّه وصحّته، وبافتقاد هذا النظام لآليات التجديد، وللحراكات الداخلية، وللحياة المؤسسية والتشريعية والديمقراطية، وغياب إجماعات وطنية، إن بخصوص الكيان السياسي الجامع أو بخصوص الخيار الوطني. ثاني هذه التحديات يكمن في الاعتمادية في الموارد على الخارج، وحتى أن الحركة الوطنية الفلسطينية، بما فيها المنظمة والسلطة والفصائل، بنت أوضاعها وضخّمت أجهزتها، تبعًا لتدفّق تلك الموارد، ما جعلها رهينة لها، أي للدول المانحة، أرادت ذلك أم لم ترد. والحال فكيف للقيادة الفلسطينية أن تواجه صفقة القرن، والولايات المتحدة، بوضعها هذا؟ أو بعد أن أثقلت نفسها، بتلك التبعية، وبتلك الوظائف، علمًا أن الولايات المتحدة تقدم مساعدات تبلغ 10 بالمائة من موازنة السلطة (قدرها 4 بلايين دولار سنويًا)، ومثل ذلك تقدمه عن طريق وكالة الغوث (بمجموع قدره 800 بليون دولار)، في حين تأتي نصف الموازنة من اتفاقات “المقاصة” الضريبية مع إسرائيل، ما يجعلها في موقع قوة وضغط على الفلسطينيين؟ ثالث تلك التحديات والمخاطر ناجم عن حال الانقسام الفلسطيني، والخلاف بين فتح وحماس، وهو أمر بات له 12 عامًا، والذي لا يبدو أن له حلاً، في ظل تحول الحركتين إلى سلطة، في المنطقة التي تسيطر عليها، حيث حماس في غزة وفتح في الضفة. وفي الواقع فإن تخوف القيادة الفلسطينية من صفقة القرن يكمن أساسًا من خشيتها من إبقاء السلطة عند حدود الحكم الذاتي، هذا أولاً. وثانيًا، من إمكان تعزيز هذه الصفقة لإمكان تعزيز سلطة حماس في غزة، بل وتكريس انفصال قطاع غزة عن الضفة الغربية، وبالتالي تكريس واقع انقسام الكيان الفلسطيني.
الأهم من كل ما تقدم، أن هذا المشروع (الصفقة أو التسوية) يستمد قوة دفعه، أيضًا، من نشوء وقائع تكرس حال الفلسطينيين، أو تكرس إدراكاتهم لذاتهم، باعتبارهم كأنهم بمثابة شعوب عدّة، بأولويات وحاجات مختلفة ومتباينة، وهو ما تجلّى، مثلاً، في ضعف علاقات التعاضد، وضعف التضامن، مع الأهوال التي عانى فلسطينيو سوريا منها، وضمنها التشريد وتدمير بعض مخيماتهم، سيما اليرموك، عاصمة اللاجئين الفلسطينيين وعنوان حق العودة، وهو ما تعرض له قبلهم فلسطينيو العراق، وهو ما تكرر أيضًا في ضعف الإسناد لفلسطينيي غزة، الذين يعانون منذ 12 عامًا الحصار.
يستنتج من كل ذلك أن وضع القيادة الفلسطينية، في هذه المرحلة، بات في غاية الصعوبة والتعقيد، فهي أولاً، تعتمد في وجودها واستمرارها وشرعيتها السياسية، أي في وجود الكيان الفلسطيني، على الخارج، وبخاصة الولايات المتحدة وأوروبا. ثانيًا، هي تعتمد في مواردها على المساعدات المالية المتأتية من الدول المانحة، وضمنها المتأتية من الولايات المتحدة الأمريكية، ومن عمليات “المقاصة” مع إسرائيل (وهذه تشكل نصف موارد موازنة السلطة)، وهذان يغطيان ثلاثة أرباع موازنة السلطة البالغة أربعة بلايين دولار. ثالثًا، ثمة حال الانقسام الفلسطيني، بين سلطتي الضفة وغزة، وبين حركتي فتح وحماس، ما يضعف الفلسطينيين، ويحد من قدراتهم، ناهيك أنه ينمي مشاعر الإحباط عندهم. رابعًا، لا يوجد حاضنة عربية للموقف الفلسطيني بحكم اضطراب الأوضاع في المنطقة، والتدخلات الإيرانية، ولاسيما في المشرق العربي، وغياب نوع ما من إجماع عربي في مختلف الشؤون العربية، وضمنها الشأن الفلسطيني.
وماذا بعد؟
على أية حال فإن المبادرات الأمريكية، كما علمتنا التجربة، تطرح لفرضها وليس لنقاشها، لاسيما في الظروف العربية والدولية الراهنة، التي تبدو مواتية لتمرير ما يسمى “صفقة القرن”، مع ذلك فإن ما يجب إدراكه أننا لسنا إزاء “صفقة قرن” ، بقدر ما نحن إزاء “طبخة بحص” أخرى، لذا فعلى ما تفعله القيادة الفلسطينية، أو لا تفعله، في مواجهة هذا التحدي الكبير والجديد سيتوقف مآل القضية الفلسطينية، ومآلات كفاح شعب فلسطين، في كافة أماكن تواجده.
طبعًا، هذا لا يعني أن تمرير “صفقة القرن” سينهي القضية الفلسطينية، أو سيضع حدًا لكفاح شعب فلسطين، من أجل حقوقه العادلة والمشروعة، إذ أن التجارب أثبتت، طوال مئة عام، استحالة ذلك، وإنما هو يعني أن ما سيجري هو طي حقبة من الصراع ضد إسرائيل، بمفاهيمها وبناها وأشكال عملها، بانتظار حقبة جديدة برؤى وأدوات وبملامح جديدة.
والخلاصة فإن واقع الترتيبات الأمريكية والإسرائيلية في المنطقة هي التي تفرض تلك الصفقة أكثر من مجرد الحديث عنها بمبالغات وتوهمات، أو من دون ذلك.